ترك عام 2016 خلفه أحداثًا جمة قبل أن ينطوي ليغادر «سودانًا» لن يكون سودان عام 2017 على أي حال، ونسي أن يسد فراغ رحيل «عرّاب الإسلاميين» السودانيين حسن الترابي، وتركه لحوارييه بلا هاد، وخلّف اتفاقية خريطة الطريق للسلام التي وقعتها الحكومة والمعارضة وهي لا تزال تسوق الناس إلى المتاهة ذاتها.
يُعد استفتاء سكان إقليم دارفور وتصويتهم للولايات القائمة واحدًا من محتويات العام المغادر التي نسيها الناس والعالم، يضاف إليها في الوقت ذاته مخرجات الحوار الوطني الداخلي، التي أفضت إلى تعديلات دستورية مثيرة للجدل. وفاته أن يخبئ في حقيبة سفرة ليأخذها معه، الأزمة الاقتصادية الخانقة، وما تمخض عنها من إجراءات اقتصادية قاسية، التي أفضت بدورها إلى دخول شرائح مهمة من المواطنين في عصيان مدني، لم يفلح في إسقاط النظام، لكنه أثار قلقه، وربما يدفعه لإعادة النظر في كثير من مسلماته. لكن الحدث الأبرز أن العام المنصرم ترك للاحقه توصية بحكومة جديدة على رأسها رئيس وزراء بلا أسنان.
توقعات وتطورات
ورفعت خواتيم عام 2016 سقف توقعات السودانيين وأحلامهم، لا سيما بعد الإعلان عن تكوين حكومة جديدة، ربما تصلح الخراب الذي لحق بهم وبلادهم في العام المغادر والأعوام التي سبقته، بإجازة البرلمان يوم 28 ديسمبر (كانون الأول) تعديلات دستورية تضمنت استحداث منصب رئيس وزراء وتغيير اسم الحكومة، وزيادة عدد النواب في البرلمان بالتعيين، لإشراك قوى الحوار الوطني في الحكومة، المتوقع إعلانها بحدود العاشر من شهر يناير (كانون الثاني) المقبل.
وعلى الرغم من أن قوى الحوار الوطني الداخلي رفعت سقف التوقعات بحدوث تغيير جذري في الحكم، فإن المعارضة والحركات المسلحة لا ترى في تكوين الحكومة الجديدة إلا توزيعًا للوظائف، وتمكينًا للرئيس عمر البشير وزيادة لصلاحياته.
وكان الرئيس البشير قد تسلم في العاشر من أكتوبر (تشرين الأول)، ما سميت «الوثيقة الوطنية» وتوصيات مؤتمر الحوار الوطني. وأعلن بناء عليها تمديد وقف إطلاق النار في جميع مواقع القتال بجنوب كردفان والنيل الأزرق ودارفور من جانب حكومته حتى نهاية العام الحالي، وتضمنت التأسيس الدستوري والسياسي والمجتمعي، لإحداث توافق سوداني يترتب عليه إقامة دولة عادلة وراشدة ونظامًا سياسيا فاعلاً. إلا أن قوى المعارضة الرئيسة، وعلى رأسها حزب الأمة بقيادة الصادق المهدي والحركات المسلحة والأحزاب اليسارية لم تشارك في هذا الحوار، بل رأت فيه مجرد حوار داخلي بين النظام وحلفائه، وحولهم مجموعة كومبارس من الأحزاب الصغيرة أو المصنوعة.
هذا، ويعد رحيل المفكر والسياسي الإسلامي حسن الترابي عن عمر يناهز 84 سنة من أهم أحداث العام المنصرم. فالرجل أعلن قبل أيام من وفاته رغبته في معالجة أزمات البلاد كافة عبر أطروحة فكرية غامضة أطلق عليها «النظام الخالف»، وبعد أن انخرط هو وحزبه بكليته في الحوار الوطني الذي دعا إليه الرئيس البشير، لكن المنية لحقته قبل أن يرى أمنيته في إعادة إصلاح النظام الذي أتى به في انقلاب يونيو (حزيران) 1989، وخرج منه مغاضبًا في عرف بمفاصلة الرابع من رمضان 1999. رحل الترابي وترك حوارييه على طرفي الحكم في حيرة كبيرة، بعد أن أثار شهيتهم في التوحد مرة أخرى وفي تصحيح مسيرة الحكم التي كان يرى أنها انحرفت.
وفي شهر مارس (آذار) نفسه، وقعت الحكومة السودانية والوساطة الأفريقية على وثيقة خريطة طريق للوصول لحل سلمي في البلاد، إلا أن قوى المعارضة المدنية والمسلحة المنضوية تحت تحالف «قوى نداء السودان»، لم توقعها إلا في أغسطس (آب)، إثر ضغوط أفريقية وغربية عنيفة. لكن الطرفين لم يفلحا بإنزال ما مهراه بتوقيعيهما إلى أرض الواقع، ما اضطر الوساطة إلى تعليق المفاوضات التي دخلت طريقًا مسدودًا، بسبب اختلافات على إيصال الإغاثة للمناطق التي يسيطر عليها المتمردون. ويقود كل من المبعوث الخاص للرئيس الأميركي دونالد بوث والوسيط الأفريقي ثابو مبيكي هذه الأيام جهودًا حثيثة، ويمارسان ضغوطًا عنيفة على الطرفين للعودة لمائدة التفاوض مجددًا.
وفي الثالث والعشرين من أبريل (نيسان) أعلنت مفوضية الاستفتاء الإداري في إقليم دارفور عن تصويت سكان الإقليم على خيار بقاء الولايات الخمس القائمة بأكثر من 97 في المائة ضد خيار عودة الإقليم الواحد. وهو الاستفتاء الذي أجرى إنفاذا لبنود وثيقة الدوحة للسلام بين الحكومة وحركة التحرير والعدالة في 2011، في محاولة لإنهاء الصراع الذي اندلع في الإقليم بين الحكومة ومتمردين ضدها عام 2003، ورغم الاستفتاء وخفوت صوت المعارك في الإقليم، فلا يزال الاستقرار بعيد المنال في الإقليم الذي تجددت فيه الاتهامات الدولية للخرطوم بارتكاب جرائم جديدة في منطقة جبل مرة، واستخدام أسلحة محرمة دوليًا هناك.
إجراءات اقتصادية قاسية
من ناحية ثانية، فاجأ وزير المالية بدر محمود ليلة الخميس 3 نوفمبر (تشرين الثاني) السودانيين باتخاذ إجراءات اقتصادية قاسية تضمنت زيادات كبيرة في أسعار الدواء والكهرباء، فضلا عن تحرير أسعار المحروقات، ورفع سعر صرف الجنيه السوداني مقابل الدولار الأميركي من 6.7 إلى 15.8 جنيه للدولار الواحد. ورغم أن الوزير زعم أن الحزمة ستساعد في إحداث استقرار اقتصادي وتحقيق معدلات نمو أكبر، فإنها أدت فعلاً إلى ارتفاع كبير في أسعار السلع والخدمات، الأمر الذي أثار غضبًا شعبيًا عريضًا، ودفع النشطاء في مواقع التواصل الاجتماعي على الإنترنت ومعارضين لتنظيم «عصيان مدني» لثلاثة أيام بدأ 27 نوفمبر واستمر ثلاثة أيام.
وفي أول أيام الاعتصام كادت شوارع الخرطوم تخلو من السيارات والمارة، مع العلم أن زخم الاعتصام تراجع في اليومين التاليين، ثم نظمت ذات القوى عصيانا ليوم واحد في 19 ديسمبر (كانون الأول)، لكن الاستجابة له لم تكن مثل سابقه. وقللت الحكومة من العصيان، بل اعتبرته فاشلاً بنسب كبيرة. لكن المعارضة اعتبرته خطوة ناجحة في طريق عملها لحشد التأييد الشعبي من أجل إسقاط نظام حكم الرئيس عمر البشير.
والآن يطل عام جديد بينما السودانيون يسيرون في «فسطاطين» متوازيين، أحدهما متفائل بما يمكن أن تقود إليه تركة العام المنصرم بالنسبة للوصول إلى حلول سلمية لسيل الأزمات الذي دمر البلاد، في حين ظل الآخر في محطة التشاؤم القديمة بأن الحكومة المزمع تكوينها لن تزيد طين الأوضاع في البلاد إلا بلّة.