أيام في جيبوتي (2 - 3) : جيبوتي تسعى إلى دبي «اقتصاديًا» وشرم الشيخ «سياحيًا»

فتحت الباب لدخول استثمارات بمليارات الدولارات

ميناء جيبوتي البحري يغص بمئات الآلاف من الحاويات التي تنتظر النقل إلى وسط أفريقيا («الشرق الأوسط»)
ميناء جيبوتي البحري يغص بمئات الآلاف من الحاويات التي تنتظر النقل إلى وسط أفريقيا («الشرق الأوسط»)
TT

أيام في جيبوتي (2 - 3) : جيبوتي تسعى إلى دبي «اقتصاديًا» وشرم الشيخ «سياحيًا»

ميناء جيبوتي البحري يغص بمئات الآلاف من الحاويات التي تنتظر النقل إلى وسط أفريقيا («الشرق الأوسط»)
ميناء جيبوتي البحري يغص بمئات الآلاف من الحاويات التي تنتظر النقل إلى وسط أفريقيا («الشرق الأوسط»)

«ما نقوم به في جيبوتي، في الحقيقة، يهدف إلى تحويل بلدنا، خلال السنوات المقبلة، إلى شرم الشيخ سياحيا، ودبي اقتصاديا». هكذا يقول وزير السياحة المكلف أيضا بوزارة التجارة في جيبوتي، علي داود عبدو.
يطل مكتب عبدو على الشارع الرئيسي في قلب العاصمة، ومن هنا إلى مكتب وزير الإعلام والاتصالات، عبدي يوسف سجيه، عبر عدة شوارع، تبدو حركة السيارات والناس أكبر مما كانت عليه في الماضي؛ فقد فتحت عدة بنوك وشركات أجنبية أبوابها، ومن المتوقع أن تستقطب البلاد مزيدا من الاستثمارات. يقول الوزير سجيه، وهو يشير بيده إلى الجهة الأخرى: «سوف تبدأ شركة هندية في إقامة مركز ضخم للاتصالات والإنتاج الدرامي».
ولا يخلو بهو فندق من فنادق جيبوتي من جلسة لمجموعة من المستثمرين الطامحين سواء كانوا من أبناء جيبوتي أو من جنسيات أخرى جاءوا إلى هنا لاغتنام الفرص الجديدة.
رأسمال البلاد الكبير كما يقول المسؤولون، هو الأمن والهدوء وسط محيط تكثر فيه النزاعات. ويوضح أحمد محمد، السوداني الجنسية، الذي يدير شركة «شرق أفريقيا للمواشي والتجارة العامة»، انطلاقا من جيبوتي، أن «جيبوتي ستكون سنغافورة أفريقيا خلال المرحلة المقبلة. نعمل على هذا الأمل. والفرص كثيرة».
تنقسم جيبوتي إلى ثلاث شرائح رئيسية؛ الفقراء والطبقة الوسطى والأثرياء. وكل شريحة تضم وافدين من جنسيات مختلفة؛ من إثيوبيا، والصومال، واليمن، والسودان، وغيرها. خليط من اللغات والثقافات التي تمكنت من التعايش سويا طيلة عشرات السنين. في الأسواق الشعبية مثل سوق الدبداب، الذي يقع فيه مسجد الشيخ حمودي أقدم مساجد جيبوتي، تبث موجات الراديو الأخبار والأغاني باللغات الصومالية والعفرية والفرنسية والعربية. وكلٌ يضع مؤشر الراديو على لغته.
ووسط هذا اللغط ينادي الباعة على الملابس الجديدة القادمة من الخليج ومصر وعلى أنواع الهواتف المستوردة من الصين وعلى أجولة التوابل والقات الواردة من إثيوبيا. ومن بين هؤلاء الباعة الفقراء شبان، مثل خالد، ممن جرى تسجيل أسمائهم ضمن ألفي عامل سوف يتم ضمهم للعمل في ميناء دورالي البحري بعد الانتهاء من توسيعه. وخالد (27 عاما) تزوج مبكرا مثل غالبية الطبقة الفقيرة في جيبوتي ولديه ستة أطفال.
وفي الفنادق المتوسطة والكبيرة حيث يقيم الأجانب، تغص المقاهي والكافيتريات الملحقة بها، برجال الطبقة الوسطى من جيبوتي ومن البلاد المجاورة. هؤلاء يحاولون تطوير أعمالهم في الموانئ وفي الحظائر الجمركية لمواكبة النمو الاقتصادي، الذي وصل إلى 6 في المائة، مع العمل على فتح مسارات مع الدول الأخرى سواء في الداخل الأفريقي أو في منطقة الشرق الأوسط والخليج، مثل السوداني، مدير شركة «شرق أفريقيا للمواشي والتجارة العامة»، قائلا إنه يسعى لفتح أسواق جديدة لتصدير المواشي في المنطقة.
أما الطبقة الثرية التي تسهم بشكل كبير في ضخ العملات الأجنبية في البلاد، فتتكون من مستثمرين كبار يعكفون على بناء مراكز تجارية وترفيهية مجمعة، ويطمحون في اقتناص فرص جديدة في الموانئ التي يجري بناؤها على سواحل جيبوتي وفي اثنين من المطارات الدولية الجاري تأسيسها. من بين هؤلاء صينيون وهنود وأوروبيون.
ويقيم معظمهم في فنادق الخمس نجوم باهظة التكلفة مقارنة بنظيراتها في دول أخرى؛ إذ يبلغ سعر الغرفة في مثل هذه الفنادق نحو 220 دولارا لليلة. ويقول علي أحمد تبيع، مدير ورئيس شركة «لافياثان»، ومقرها المنطقة الحرة: «نعمل على تقديم الخدمات للشركات الأخرى التي تسعى لفتح مشروعات في إثيوبيا ودول قريبة انطلاقا من جيبوتي».
لك الخيار في شرب فنجان قهوة في المقاهي التي يديرها وافدون سنغاليون وإثيوبيون ويمنيون، والمبنية بالبوص والقماش على الشاطئ بسعر لا يزيد على خمسين فرنكا، أي نحو ربع دولار، أو الانتقال إلى الشارع الآخر، مثل شارع بلاتوه دي سربون، حيث يبلغ سعر فنجان القهوة خمسة آلاف فرنك. ويؤدي هذا الشارع إلى منطقة السفارات الغربية ومقار المنظمات الدولية والفنادق الفخمة المطلة على الضفة المقابلة من البحر، التي يقيم فيها رجال الأعمال الكبار.
ويقول الوزير علي داود عبدو: «توجد مشروعات كثيرة تريد الدولة أن تستثمر فيها ضمن رؤية جيبوتي لعام 2035، ومنها ما يرتكز على قطاع السياحة بشكل أساسي، وبخاصة أن السياحة شهدت نموا متزايدا بداية من عام 2000؛ حيث بلغ عدد السياح 72385 سائحا في السنة، مشيرا إلى أن هناك مشروعات سياحية كثيرة في الطريق، في منطقة بحيرة لاك عسل، وقابة بيه، وفوريدي بيه، وغيرها من المناطق الواعدة».
ويضيف قائلا: «كما تعرفون جيبوتي تقع في منطقة استراتيجية... ومقارنة ببعض دول الإقليم المضطربة فإن رأسمال جيبوتي هو الأمن والاستقرار، والحكومة لديها مشروع لاستثمار هذا الأمن لجذب الاستثمارات سواء كانت غربية أو خليجية أو من أي دولة عربية أخرى».
وينتظر أن تشهد محافظة «أُبخ» مشروعات ضخمة، وبخاصة في مجال السياحة وإصلاح السفن، مع إقامة مطار لنقل السياح ورجال الأعمال مباشرة إلى المحافظة دون الحاجة للمرور بالعاصمة. وتقع «أبخ» على البحر في مواجهة باب المندب، وتوجد بالقرب منها سبع جزر تصلح للغوص.
ويؤكد الوزير أن رؤية بلاده أن تتحول إلى «دبي صغيرة في مجال الاستثمارات» و«شرم الشيخ أو إندونيسيا في مجال السياحة»، مشيرا إلى أن جيبوتي تقع على ثاني أهم طرق التجارة العالمية، والحكومة أدركت هذه النقطة، ولهذا سوف تفتتح قريبا كثيرا من الموانئ البحرية مثل ميناء تاجورة وميناء عسل. و«هناك أكثر من سبعة موانئ بالإضافة إلى ميناء جيبوتي، وكل هذه الموانئ سوف تخدم مجموعة دول الإيغاد والكوميسا، إضافة إلى التجارة الدولية».
ولم يعد المطار الحالي قادرا على استيعاب التطورات الاقتصادية والتنموية في البلاد. وسيؤدي افتتاح مطارين جديدين إلى نقلة مختلفة في مسار التطور في جيبوتي، كما يؤكد المسؤولون هنا.
وتقوم بتشييد المطارين شركة صينية. ويقع المطار الأول، واسمه مطار «حسن غوليد»، وهو اسم أول رئيس لجيبوتي، على بعد نحو 25 كيلومترا جنوب غربي العاصمة، وسيتم افتتاحه خلال عام 2018 وتبلغ مساحته نحو 50 كيلومترا مربعا، وسيكون في إمكانه استيعاب نحو 1.5 مليون مسافر سنويا، وسيستقبل الطائرات الكبيرة من نوع إيه 380.
بينما يجري بناء المطار الثاني في محافظة «أُبخ» (شمال العاصمة بنحو 300 كيلومتر)، تحت اسم مطار «أحمد ديني أحمد»، وهو رئيس سابق لكل من الجمعية الوطنية (البرلمان) ومجلس الوزراء، بطاقة استيعابية لنحو 350 ألف مسافر سنويا، على أن يتضاعف العدد بحلول عام 2021 إلى أكثر من 700 ألف مسافر.
قبل نحو سبع سنوات كان يوجد في جيبوتي بنكان فقط، أما اليوم فأصبح فيها ما لا يقل عن 12 بنكا ما بين محلي وأفريقي ودولي، من بينها بنوك صينية وماليزية ويمنية. ويوضح الوزير، علي داود عبدو، أن «العملة الجيبوتية (الفرنك) مستقرة أمام الدولار ولم تتغير قيمتها منذ عام 1977؛ ولهذا يوجد جذب للاستثمارات الأجنبية والعربية، واستقرار العملة المحلية يشجع المستثمر ويعطيه أمل، بينما تعويم العملة يمكن أن يخيف المستثمر أو يجعله مترددا».
ويقول الوزير: «بشكل عام يعد مناخ الاستثمار في جيبوتي جيدا، وقوانين الاستثمار مشجعة وهناك إعفاءات ضريبية تعطى للمستثمر العربي دون غيره؛ ولهذا نريد أن نجذب المستثمرين العرب الذين يريدون الاستثمار في بلد عربي وبخاصة من الخليج».
ومن بين المشروعات التي يجري العمل عليها في الوقت الراهن، قطاع السكك الحديدية والاتصالات والنقل الجوي؛ حيث تعتزم البلاد بناء مطار دولي جديد بسعة أكبر من المطار الحالي، وكذلك إقامة مطار دولي آخر في محافظة أبخ شمالا.
من جانبه، يقول وزير الإعلام والاتصالات إن بلاده تسعى منذ عدة سنوات لجعل الإعلام والاتصالات تواكب التطور الجاري في جيبوتي، مشيرا إلى وجود مساع من أجل فتح المجال لتأسيس صحف محلية، خصوصا بالأقاليم، مع تطوير الإعلام المرئي والمسموع أيضا.
ويكشف الوزير النقاب عن أنه جرى مؤخرا فتح المجال لعدة شركات محلية ودولية لهذا الغرض. ويقول: «ستقوم شركة هندية بإقامة مركز عبارة عن (مبنى ذكي كبير) لإنتاج الأفلام والأعمال الدرامية إضافة لخدمات الاتصالات المتطورة».
وأصبحت تمر من جيبوتي ثمانية كوابل بحرية عالمية، وتتجه إلى العمق الأفريقي ثم إلى أوروبا عبر مصر والأردن والشرق الأوسط والمحيط الهندي وصولا إلى آسيا أيضا. ويضيف الوزير عبدي يوسف سجيه: «آخر كابل ألياف ضوئية حديث سيمر من جيبوتي وتم إطلاقه مؤخرا ويصل إلى كينيا وتنزانيا والصومال وغيرها في أفريقيا وهذا يخدم الاتصالات والإنترنت... نحن بمثابة الحلقة لأفريقيا والمنطقة».
وتحاول الدولة أن تزيد من مساحة اللغة العربية في وسائل الإعلام، ويتحدث جانب كبير من الطبقة العليا في البلاد بالفرنسية لأسباب تتعلق بالتعليم في حقبة الاحتلال الفرنسي للبلاد، بينما تنتشر على المستوى الشعبي وعلى نطاق واسع اللغات المحلية، الصومالية والعفرية، إلى جانب اللغة العربية التي يتحدث بها أكثر من 30 في المائة من عدد السكان، الذي يقل قليلا عن مليون نسمة.
وتعود أصول الوزير الجيبوتي، سجيه، إلى القبيلة الصومالية، وكان جده شاعرا مشهورا في جيبوتي. وبالإضافة إلى اللغة الصومالية، يتحدث الوزير الفرنسية والإنجليزية، وتعلم اللغة العربية على فترات قصيرة، ويضيف قائلا إن «كل الناس في جيبوتي يفهمون اللغة العربية، لكنهم نادرا ما يتكلمون بها».
وتمتلك جيبوتي حدودا قارية وبحرية، وتبلغ حدودها الشمالية مع إريتريا نحو 520 كيلومترا، وتحدها من الغرب والجنوب إثيوبيا، ومن الجنوب أيضا الصومال، وتمتد شواطئها إلى نحو 370 كيلومترا، من رأس دويرة شمالا، إلى قرية لوعدا جنوبا، وتقدر مساحتها بـ23 ألف كيلومتر مربع، وفي الجنوب الشرقي تقع محافظة «علي - صبيح»، وفي الوسط محافظة «عرتا»، وفي الجنوب الغربي محافظتا «دخل» و«تاجورة»، بينما تقع محافظة أبخ في الشمال الغربي؛ وكل محافظة يقطنها من 30 ألفا إلى 40 ألف نسمة، أما باقي السكان فهم من البدو الرحل الذين يسكنون البوادي، ويرتكز باقي السكان، أي نحو 400 ألف نسمة، في العاصمة.
وبالتزامن مع برامج للرعاية الاجتماعية موجهة إلى الطبقات الدنيا أطلقتها الحكومة تحت رعاية رئيس الدولة إسماعيل عمر غيلة، يولي الرئيس غيلة أيضا اهتماما ملحوظا بالفاعلين في القطاع الخاص الجيبوتي، سواء كانوا من القطاع المحلي أو الأجنبي، بهدف الاستفادة من التعاون بين الجانبين في تطوير مجال التجارة والمشروعات الصغيرة والمتوسطة والحرف اليدوية والسياحة، بما يعود بالنفع على القطاع المحلي الجيبوتي.
وفي هذا الصدد، جرى كذلك إطلاق آلية مؤسسية مختصة بالتشاور بين القطاع العام والخاص، وتحظى باهتمام أعضاء من الحكومة والبرلمان وممثلين من المنظمات الدولية والبعثات الدبلوماسية، وذلك من أجل البحث عن حلول للعقبات التي تعرقل النمو في البلاد، والعمل على تسهيل تنفيذ المقترحات المبتكرة لصالح الشركات المحلية. وفي المقهى الملحق بفندق مينليك، وهو اسم يعود لملك أفريقي قوي من الزمن الماضي، بدأ عدد من رجال الأعمال المحليين والأجانب يتوافد لشرب قهوة الصباح وبحث المشروعات الجديدة. ويقول عيسى موسى وهو رجل أعمال جيبوتي، استحوذ على جانب من المشروعات الجديدة لتطوير المساكن الشعبية في العاصمة، وفقا للخطة التي وضعها رئيس الدولة، إن الاستثمار في بناء المساكن وتطوير البنية التحتية أصبح مثيرا لشهية كثير من المستثمرين العرب. ومن جانبه يضيف تبيع، مدير ورئيس شركة لافياثان، مستبشرا: «حصلنا مؤخرا على عقود بتسلم مئات الحاويات في الميناء لنقلها إلى إثيوبيا».
ويشترك مع مدير شركة «شرق أفريقيا للمواشي والتجارة العامة»، السوداني الجنسية، رجال أعمال مصريون ويمنيون وسودانيون. وتبدو الحركة الدائبة في جيبوتي أكبر من إمكانات الموانئ البحرية والمطارات؛ ولهذا ترحب الدولة ورجال الأعمال بكل من يأتي للعمل هنا، ومن أبرز هؤلاء الصينيون الذين يقومون بتوسيع عدد من الموانئ وشق الطرق وخطوط السكك الحديدية.
وارتفعت كمية الواردات التي تصل إلى ميناء جيبوتي بنسبة تصل إلى 300 في المائة خلال السنوات العشر الأخيرة. ويصل إلى جيبوتي سنويا نحو 3 ملايين حاوية، معظمها خاص بدول تقع في وسط أفريقيا.
ويقول أحد رجال الأعمال: «أحيانا تنتظر السفينة لمدة عشرين يوما من أجل دخول الميناء لتفريغ شحنتها... ولهذا دخل الصينيون لبناء موانئ جديدة لاستيعاب احتياجات 300 مليون نسمة في المنطقة».



إيران في ربع قرن... صراع «الثورة» والدولة

امرأة إيرانية تمشي أمام لوحة جدارية على حائط السفارة الأميركية السابقة في طهران (أ.ف.ب)
امرأة إيرانية تمشي أمام لوحة جدارية على حائط السفارة الأميركية السابقة في طهران (أ.ف.ب)
TT

إيران في ربع قرن... صراع «الثورة» والدولة

امرأة إيرانية تمشي أمام لوحة جدارية على حائط السفارة الأميركية السابقة في طهران (أ.ف.ب)
امرأة إيرانية تمشي أمام لوحة جدارية على حائط السفارة الأميركية السابقة في طهران (أ.ف.ب)

عاشت إيران على مدى 25 عاماً صراعاً داخلياً مريراً بين البعد الآيديولوجي «الثوري» والنظرة الاستراتيجية الساعية لحماية الدولة ومصالحها في عالم متغير.

ورغم الآمال بتحولات جذرية، اصطدمت محاولات الإصلاح بمقاومة مراكز القوى التقليدية، مما حال دون حسم التناقض بين مبادئ «الثورة» ومتطلبات المصالح القومية بشكل جذري، أو تحقيق توافق مستدام بين هذين النهجين المتعارضين.

منذ عام 2000، شهدت إيران تداول السلطة بين خمسة رؤساء للجمهورية بصلاحيات محدودة، وتعاقب خمسة برلمانات تأثرت بالتيارين الرئيسيين «الإصلاحي» و«المحافظ»، في ظل جدل مستمر حول طبيعة الحكم، اتجاهاته، وأولوياته.

ومع دخول إيران منتصف العقد الرابع من عمر ثورة 1979، لا تزال صلاحيات الجهازين المنتخبين، التشريعي (البرلمان) والتنفيذي (الحكومة)، خاضعة بالكامل لهيمنة مراكز صنع القرار، على رأسها مؤسسة المرشد علي خامنئي الذي يتمتع بصلاحيات شبه مطلقة تجعله فوق جميع مؤسسات الدولة.

في المقابل، توسع دور المؤسسات العسكرية والسياسية مثل «الحرس الثوري» و«مجلس صيانة الدستور» اللذين يحملان على عاتقهما حماية المبادئ الآيديولوجية لنظام الحكم، المستند إلى دستور يقوم على مبدأ «ولاية الفقيه» الركيزة الثابتة في موازين القوى الداخلية. هذه المؤسسات تشكل أدوات أساسية في الحفاظ على هوية «الجمهورية الإسلامية» وتعزيز نهجها المعادي للغرب.

بعد نحو 45 عاماً من «الثورة الإسلامية» في إيران لم يحسم التناقض بين مبادئها والمصالح القومية (غيتي)

خاتمي وتحول الصراع

تزامنت بداية الألفية الجديدة في إيران مع مرحلة حاسمة من عهد الرئيس الإصلاحي محمد خاتمي، تحديداً الفترة الأخيرة من رئاسته (1997 - 2005). اتسمت هذه المرحلة بتصاعد المواجهة بين الإصلاحيين والمحافظين، إذ عمل التيار المحافظ على عرقلة الشعارات الإصلاحية التي رفعها خاتمي، خصوصاً في مجالي الحريات المدنية وحرية التعبير.

ولعبت المؤسسات غير المنتخبة التي تخضع لإشراف مباشر من المرشد علي خامنئي، مثل «مجلس صيانة الدستور» والقضاء، دوراً حاسماً في تعطيل الإجراءات الإصلاحية، مما جعل الإصلاحيين يواجهون تحديات متزايدة في تحقيق أجندتهم السياسية والاجتماعية.

شهدت فترة خاتمي تحولاً بارزاً في الصراع بين أنصار الآيديولوجية الثورية ودعاة المصالح الاستراتيجية. عدَّ خاتمي أن الإصلاحات ضرورة استراتيجية لضمان استمرارية نظام الحكم وتكيّفه مع المتغيرات الداخلية والخارجية، بينما رأى منتقدوه في طروحاته تدخلاً خطيراً يهدد أسس نظام «ولاية الفقيه».

عملت طهران على تحسين علاقاتها مع الغرب وتعزيز الهوية الوطنية من خلال مبادرات مثل «حوار الحضارات»، إلا أن هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001 والغزو الأميركي للعراق عام 2003 شكّلا ضربة لهذا التوجه. ومع سقوط نظام صدام حسين، وجدت إيران فرصة لتوسيع نفوذها الآيديولوجي في العراق عبر دعم جماعات مرتبطة بها كانت قد نشأت وتشكّلت داخل أراضيها.

ساهم الملف النووي في تقويض مبادرة «حوار الحضارات» لخاتمي، وزيّف محاولات بناء الثقة مع الغرب، مما زاد من عزلة إيران والتوترات الإقليمية والدولية.

لعب «الحرس الثوري» دوراً أساسياً في البرنامج النووي وحروب المنطقة (موقع خامنئي)

«الحرس» والدور الإقليمي

كما لعب «الحرس الثوري» دوراً أساسياً في قضايا البرنامج النووي، والتطورات الداخلية، وحروب أفغانستان والعراق في نهاية عهد خاتمي.

في أفغانستان، دعم «الحرس الثوري»، الولايات المتحدة، في إطاحة حركة «طالبان». أما في العراق، فقد قاد «فيلق القدس» جماعات عراقية مسلحة لتعزيز النفوذ الإيراني الذي استمر لسنوات. كما توسعت أنشطة الفيلق بقيادة الجنرال قاسم سليماني في لبنان، مما أسهم في إنشاء شبكة عمل موازية للدبلوماسية الإيرانية في السياسة الإقليمية.

تعزيز الحضور العسكري الأميركي في المنطقة دفع إيران إلى الشعور بالتهديد، مما أدى إلى توسيع برامجها الأمنية والاستراتيجية، على رأسها البرنامج النووي وتطوير الصواريخ الباليستية.

وفي عام 2002، أثار اكتشاف منشآت نووية سرية شكوك المجتمع الدولي حول نيّات البرنامج الإيراني، بما في ذلك احتمال إنتاج أسلحة نووية. ومع تصاعد التوترات، تحولت أولويات الغرب مع طهران إلى لجم أنشطتها النووية.

كما هدد المسؤولون الأميركيون، خصوصاً خلال فترة حكم جورج بوش، مراراً باستخدام الخيار العسكري إذا استمرت إيران في أنشطتها النووية.

شهدت فترة خاتمي تحولاً بارزاً في الصراع بين أنصار الآيديولوجية الثورية ودعاة المصالح الاستراتيجية

«النووي» ملفاً للجدل الداخلي

مُذّاك، أثار الملف النووي جدلاً داخلياً في إيران حول الأولويات الوطنية، إذ سعى الإصلاحيون للحفاظ على العلاقات الدولية وتقليل التوتر، بينما دفع المحافظون نحو التشبث بالمبادئ الآيديولوجية.

في 2003، أعلنت طهران وقف تخصيب اليورانيوم «طواعية» كجزء من اتفاق «سعد آباد» مع الترويكا الأوروبية، مع تعهد بعدم إحالة الملف إلى مجلس الأمن، وإقامة علاقات اقتصادية مع أوروبا. في العام نفسه، بدأت إيران الترويج لفتوى المرشد علي خامنئي التي تحرم إنتاج السلاح النووي أو تخزينه أو استخدامه، مما أصبح أساس الموقف الإيراني الدولي حول البرنامج النووي.

لكن الولايات المتحدة المتشككة في نيّات طهران، عدّت الاتفاق غير كافٍ، واتهمت إيران بتوسيع برنامجها النووي، ما دفعها لفرض عقوبات اقتصادية على البنوك الإيرانية وقطاع الطاقة.

ولاحقاً أحالت ملف إيران إلى مجلس الأمن في خطوة لاقت مساندة دولية. حدث ذلك في بداية عهد الرئيس محمود أحمدي نجاد، مما دفع إيران لتبني سياسة هجومية تجاه القوى الغربية.

لم تعلن إيران رسمياً امتلاكها برنامجاً لتطوير السلاح النووي. ونشرت الاستخبارات الأميركية في 2007 تقريراً يفيد بأن إيران أوقفت برنامجاً لتطوير السلاح النووي في 2003، وساهم التقرير في تعديل الموقف الأميركي.

خلال ثماني سنوات من رئاسة محمود أحمدي نجاد، تصاعد التوتر مع الغرب بسبب البرنامج النووي الإيراني الذي ارتفع تخصيب اليورانيوم فيه إلى 20 في المائة. وأصر أحمدي نجاد على حق إيران في استخدام التكنولوجيا النووية سلمياً. رداً على ذلك، فرضت عقوبات مشددة على إيران استهدفت برنامجها النووي، ومبيعات النفط، والاقتصاد، ووُضعت تحت الفصل السابع.

عززت إيران نفوذها في الشرق الأوسط فازداد التوتر مع قوى إقليمية (أ.ب)

إيران وفرصة «الربيع»

على صعيد العلاقات الخارجية، سعت إيران لتعزيز علاقاتها مع الدول العربية والأفريقية وأميركا اللاتينية، ودعمت جماعات مسلحة مثل «حزب الله» و«حماس».

مع اندلاع ثورات «الربيع العربي»، سعت إيران لتعزيز نفوذها في الشرق الأوسط، خصوصاً في العراق وسوريا ولبنان واليمن، مما زاد التوترات مع القوى الإقليمية والدول العربية. وكان دعم نظام بشار الأسد في سوريا من أولويات حكومة أحمدي نجاد، قبل تسليم السلطة لحسن روحاني.

داخلياً، شهدت إيران أزمة كبيرة بعد فوز أحمدي نجاد في انتخابات 2009، ما أدى إلى احتجاجات «الحركة الخضراء» إثر رفض نتائج الانتخابات التي جرت بين أحمدي نجاد والمرشحين الإصلاحيين مير حسين موسوي ومهدي كروبي.

بعد انتهاء فترة رئاسة أحمدي نجاد، سعت إيران إلى تهدئة التوترات مع الغرب، ودخلت في مفاوضات نووية بهدف إدارة هذه التوترات مع القوى الكبرى. استمرت المفاوضات لعامين، وأسفرت عن اتفاق نووي في 2015 (خطة العمل الشاملة المشتركة) الذي أدى إلى تجميد العقوبات الأممية المفروضة على إيران وفرض قيود على برنامجها النووي.

لعب المرشد الإيراني دوراً محورياً في المفاوضات، إذ مهّد لذلك بمفاوضات سرية خرجت للعلن بإعلان «المرونة البطولية». ووضع خامنئي خطوطاً حمراء تتضمن الحفاظ على حق إيران في تخصيب اليورانيوم، ورفع العقوبات الاقتصادية، ورفض دخول المفتشين الدوليين إلى المنشآت العسكرية.

دعم خامنئي بحذر فريق الرئيس حسن روحاني في المفاوضات النووية، رغم الضغوط من التيارات المحافظة، من دون أن يتحمل المسؤولية المباشرة عن النتائج. كانت المفاوضات توازناً بين الآيديولوجيا والمصالح الاستراتيجية، إذ سعت إيران للحفاظ على شعاراتها «الثورية»، وفي الوقت نفسه التعامل مع المتغيرات الدولية، ومواجهة التحديات الاقتصادية والأمنية، وتمويل أنشطتها الإقليمية، وضمان استمرارها لاعباً رئيسياً في الشرق الأوسط.

استمر «الحرس الثوري» الإيراني في تعزيز نفوذ إيران في المنطقة، لا سيما في سوريا والعراق، وتوسعت أنشطته في دعم الجماعات التي تدعمها إيران وتعزيز وجودها العسكري هناك. كما وسّع أنشطته الصاروخية. وفي الوقت نفسه، هدد المرشد الإيراني بطرد القوات الأميركية من المنطقة. هذه الأنشطة أثارت قلق الإدارة الأميركية، ما دفع الرئيس دونالد ترمب إلى الانسحاب من الاتفاق النووي.

خامنئي خلال لقائه قدامى المحاربين في أثناء الحرب العراقية - الإيرانية (إ.ب.أ)

«الصبر» لمواجهة «الضغوط»

وفي مواجهة «الضغوط القصوى» التي مارستها إدارة ترمب، بما في ذلك منع إيران من مبيعات النفط، تمسكت طهران أكثر بسياسات «السير على حافة الهاوية» و«الصبر الاستراتيجي». كما شهدت المياه الإقليمية توترات بسبب احتجاز ناقلات نفط من قبل «الحرس الثوري» بعدما هددت طهران بعرقلة خطوط النفط. وقرر ترمب تصنيف «الحرس الثوري» على قائمة الإرهاب.

جاء مقتل قاسم سليماني بأمر من ترمب في لحظة مفصلية من تفاقم التوترات بين الولايات المتحدة وإيران، مما قرب البلدين من حافة الانزلاق إلى حرب مباشرة.

في تسجيل مسرب عام 2021، دعا وزير الخارجية الإيراني الأسبق، محمد جواد ظريف، إلى تحقيق توازن بين السياسة الخارجية و«الميدان»، مشيراً إلى تأثير «فيلق القدس» الذراع الخارجية لـ«الحرس الثوري». وكشف عن انقسام داخلي بين التيار الآيديولوجي والبراغماتي، إذ سعى الأخير لتحقيق مصالح مثل رفع العقوبات. دافع ظريف عن قناعته بأن العمل الدبلوماسي يعتمد على الواقع الميداني، والعكس صحيح، إذ يمكن للدبلوماسية أن تمنح «شرعية دولية» للإنجازات الميدانية.

مع مجيء الرئيس الأميركي جو بايدن، استخدم المرشد الإيراني نفوذه لدعم «الحرس الثوري»، وأبدى مرونة محدودة لإدارة التوترات عبر المفاوضات النووية. حاول بايدن العودة للاتفاق النووي مع طهران، لكن الإجراءات النووية غير المسبوقة التي اتخذها الجانب الإيراني وتولي حكومة محافظة بقيادة الرئيس الراحل إبراهيم رئيسي، ودخول روسيا في حرب مع أوكرانيا، عرقلت المسار الدبلوماسي إلى حد كبير.

قاسم سليماني (تسنيم)

رئيسي و«الحكومة الثورية»

مع تولي رئيسي، تمسكت طهران بالإبقاء على المسار الدبلوماسي لطاولة المفاوضات مع الغرب، من دون أن تعبر المفاوضات خط النهاية.

فسرت مرحلة رئيسي في البداية بأنها امتثال لمقاربة طرحها المرشد الإيراني بشأن تولي «حكومة ثورية» في بداية العقد الرابع من نظام الحكم، وتوحيد توجهات أركان الدولة، وحصرها بيد المحافظين، بعدما واصل هيمنته على البرلمان.

حملت حكومة إبراهيم رئيسي نقاط تشابه كبيرة مع حكومة محمود أحمدي نجاد؛ فمن جهة عادت طهران لمساعي التقارب مع القوى الإقليمية، ومن جهة أخرى راهنت على الالتفاف على العقوبات وإبطال مفعولها. وسرعت خطواتها النووية، اعتماداً على قانون أقره البرلمان في نهاية 2020، بدعم كبير من المرشد.

شهد عام 2024 تطورات غير متوقعة في إيران، إذ أدى تحطم مروحية الرئيس إبراهيم رئيسي إلى انتخابات رئاسية مبكرة فاز فيها النائب مسعود بزشيكان. تعهد الرئيس المدعوم من الإصلاحيين بمواصلة سياسة «التوجه نحو الشرق» وتعزيز العلاقات مع الصين وروسيا، إضافة إلى السعي لرفع العقوبات عبر العودة للمفاوضات النووية.

إقليمياً، تحولت طهران من «حرب الظل» مع إسرائيل إلى ضربات مباشرة، بينما تعرضت لانتكاسات استراتيجية مهمة، أبرزها سقوط نظام بشار الأسد وتراجع دور «حزب الله» و«حماس». ومن شأن هذه التطورات أن تضعف دور «الحرس الثوري» الإقليمي، لكنها قد تنذر بانتقاله لمحاولة تعويض ذلك في مناطق أخرى، بما في ذلك الداخل الإيراني.

بزشكيان ومصالحة داخلية

تأتي رئاسة بزشكيان التي ينظر إليها على أنها محاولة للمصالحة الداخلية في إيران، في فترة حساسة مع ترقب الإيرانيين لملف خلافة المرشد. من غير المتوقع أن تحدث تغييرات جذرية في العلاقات مع الغرب، ويُحتمل أن يحصل بزشكيان على صلاحيات محدودة في المفاوضات النووية.

شدد بزشكيان بعد فوز ترمب بالانتخابات الرئاسية على ضرورة إدارة العلاقة والمواجهة مع الولايات المتحدة من قبل الإيرانيين أنفسهم. قال بزشكيان إن نهج حكومته سيكون في إطار استراتيجية نظام الحكم وتوجهاته الشاملة.

من المرجح أن يحصل بزشكيان على دعم خامنئي والتيار «الثوري» للتوصل إلى تسوية تهدف إلى تخفيف الضغوط على إيران. ومع ذلك، فإن هذا السيناريو لا يعني بالضرورة الابتعاد عن حافة الهاوية، بل يعكس توجهاً لتوسيع هامش المناورة في مواجهة التوترات مع الغرب. ومن المتوقع أن تستمر إيران في هذا النهج على المدى القريب، على الأقل حتى تتضح ملامح هوية المرشد الإيراني الثالث.