الخرطوم تسهر على إيقاعات الموسيقى الشعبية الإثيوبية

وفد شعبي وفني من «التقراي» يزور البلاد تحت اسم «شكرًا للسودان»

فرقة التقراي - مغنية تقراوية
فرقة التقراي - مغنية تقراوية
TT

الخرطوم تسهر على إيقاعات الموسيقى الشعبية الإثيوبية

فرقة التقراي - مغنية تقراوية
فرقة التقراي - مغنية تقراوية

عاشت منطقة العمارات الثرية وسط العاصمة السودانية الخرطوم أجواء احتفالية إثيوبية سودانية حميمة، شارك فيها مغنون وموسيقيون ودبلوماسيون وعشاق وحسان من البلدين بالنادي الإثيوبي، ضمن برنامج «شكرًا للسودان» الذي نظمه شعب «التقراي».
وترنمت المدينة، بل ورقصت، أمس، على إيقاعات موسيقى قومية التقراي، الذين وصل وفد كبير منهم للخرطوم وبرفقته فرقة موسيقية إثيوبية، لتغني للناس في السودان، ضمن برنامج دبلوماسي شعبي يتنقل بين الخرطوم ومدن أخرى، وعلى رأسها القضارف شرق البلاد.
وقال السفير الإثيوبي بالخرطوم عبادي زمو في كلمته للحفل إن المناسبة تحاول إرسال «رسالة شكر وتقدير» للشعب السوداني، على ما قدمه للشعب الإثيوبي بصفة عامة، وشعب تقراي بصفة خاصة من دعم ومساندة لا محدودة بدأت من زمن «الكفاح المسلح»، واستمرت حتى اللحظة، وأضاف: «يهدف الاحتفال إلى تعزيز الصداقة بين الشعبين الشقيقين».
وقدم السفير فوق العادة سردًا للدعم الذي قدمته الخرطوم لجبهة تحرير تقراي في الحروب التي خاضتها ضد نظام منقستو هيلا مريام طيلة 17 عامًا، وأضاف: «رغم كل التعاون والدعم الذي يستحق الشكر، إلا أن هناك ما يفوق ذلك، وهو عبارة عن ذكريات تعيش في تاريخ الشعبين، وتبقى إلى الأبد، وهي الدعم والمساعدة والمساندة اللذان كانا يقدمان لشعبنا من خلال جمعية تقديم الدعم لشعب التقراي».
وما إن أنهى السفير كلمته التي حوت سردًا مفصلاً للدعم السوداني لجبهة تحرير التقراي التي قادت الصراع المسلح ضد حكم الديكتاتور منقستو هيلا مريام، وساندها السودان، صدحت الموسيقى الإثيوبية بإيقاعاتها الدافئة والحنونة والراقصة، واختلط السودانيون وأبناء الجالية الإثيوبية في رقص صاخب لا تكاد تميز فيه جنسيات الراقصين.
وقال ممثل جمعية الصداقة السودانية الإثيوبية أم بلي العجب في كلمته بالحفل إن «السودان وإثيوبيا شعب واحد في وطنين، يجمعهما التاريخ المشترك منذ مملكة (أكسوم)»، وأضاف: «ليس النيل وحده ما يربط بيننا، بل أنهر الرهد والدندر وعطبرة وستيت، شرايين حياة تربط بين أهل البلدين بالحياة والخضرة والماء والحسن».
وأوضح العجب أن «دعم شعب السودان لإثيوبيا لا يستلزم الشكر، لأنه واجب الأخ تجاه أخيه متى ما احتاج إليه، وهو دعم متبادل»، وأضاف: «ما يجري من تواصل بين شعبي البلدين له أكثر من جزر يغذيه، والكهرباء التي نستمتع بها الآن في الخرطوم يأتي جزء منها من إثيوبيا»، وذلك في إشارة للربط الكهربائي بين شبكتي البلدين.
ودعمت حكومة الخرطوم الجبهة الثورية الديمقراطية الشعبية الإثيوبية الحاكمة في إثيوبيا، التي تعد جبهة تحرير التقراي واحدة من أهم مكوناتها، ضد حكم الديكتاتور منقستو هيلا مريام حتى سقوطه 1991، الذي كان يساند المعارضة السودانية وتمرد جنوب السودان. ثم توترت العلاقات بين الحكومتين إثر محاولة اغتيال الرئيس المصري حسنى مبارك في أديس أبابا، التي اتهمت بها الحكومة السودانية. بيد أن العلاقات عادت حميمة بين البلدين، وأعلنت الخرطوم وقوفها مع بناء سد النهضة الإثيوبي، بل وأعلن وزير الخارجية الإثيوبي في زيارته، الأسبوع الماضي، للخرطوم، أن السودان قدم دعمًا سخيًا لحكومة أديس أبابا أثناء احتجاجات الأورومو والأمهرا الأخيرة.
ورقص المحتفلون من الجالية الإثيوبية والسودانيون على إيقاعات المناسبة التي تحمل اسم «شكرًا للسودان»، وتمايلوا طربًا مع مطربي التقراي الفنانين الإثيوبيين هالوف أليمو، أبيبي أريا، وراحيل غيتاشو، ثم شدت المطربة الشعبية السودانية ندى القلعة بأغنيات إثيوبية وسودانية بالإيقاعات التقراوية مشاركة في الاحتفال، وللقلعة جمهور كبير في إثيوبيا.
وتلقى الموسيقى الإثيوبية ولعًا واحتفاءً لافتين بين السودانيين، وكثيرًا ما تقيم فرق موسيقية إثيوبية حفلات غنائية في الخرطوم خصوصًا في أعياد الميلاد ورأس السنة، مثلما يحتفي الإثيوبيون بالغناء السودان، بل ويغني مطربون إثيوبيون أغنيات لكبار الفنانين السودانيين أمثال الراحل محمد وردي ويقدمونها ترحيبا بالسودانيين في مراقص أديس أبابا، على إيقاع «الزار» الإثيوبي المشترك بين البلدين، أو بإيقاعات تقليدية إثيوبية أخرى.
وتعد أغنية «سابا سابينا» للفنان الإريتري إيسقدِوم ولد ميشيل واحدة من الأغاني التي تغلغلت في الوجدان المشترك للشعبين، وأيقونة غنائية في الأعراس السودانية، ومثلها أغنية الفنان وردي «ما تخجلي» في أديس أبابا، ودرج كبار الفنانين في البلدين على تبادل الزيارات الفنية.



ميشال رميح: أغنية «عم يوجعني بلدي» ترجمت فيها أحاسيسي الحقيقية

يعد رميح الأغنية الوطنية وجهة ضرورية للفنان (ميشال رميح)
يعد رميح الأغنية الوطنية وجهة ضرورية للفنان (ميشال رميح)
TT

ميشال رميح: أغنية «عم يوجعني بلدي» ترجمت فيها أحاسيسي الحقيقية

يعد رميح الأغنية الوطنية وجهة ضرورية للفنان (ميشال رميح)
يعد رميح الأغنية الوطنية وجهة ضرورية للفنان (ميشال رميح)

قبل أسابيع قليلة، شارك المغني ميشال رميح في المهرجان الفني اللبناني في ولاية أريزونا في أميركا. تردد رميح قبل الموافقة على هذه المشاركة. وجد نفسه محرجاً في الغناء على مسرح عالمي فيما لبنان كان يتألّم، ولكنه حزم أمره وقرر المضي بالأمر كونه سيمثّل وجه لبنان المضيء. كما أن جزءاً من ريع الحفل يعود إلى مساعدة النازحين. ويعلّق لـ«الشرق الأوسط»: «كانت الحفلة الأولى لي التي أقيمها خلال هذه الحرب. وترددي جاء على خلفية مشاعري بالحزن على وطني».

خلال الحرب أصدر ميشال رميح أغنيته الوطنية «عم يوجعني بلدي». وقدّمها بصورة بسيطة مع عزف على البيانو، فلامست قلوب سامعيها بدفء كلماتها ولحنها النابع من حبّ الوطن. فهو كما ذكر لـ«الشرق الأوسط» كتبها ولحنها وسجّلها وصوّرها في ظرف يوم واحد. ويروي قصة ولادتها: «كنا نتناول طعام الغداء مع عائلتي وأهلي، ولم أتنبه لانفصالي التام عن الواقع. شردت في ألم لبنان ومعاناة شعبه. كنت أشعر بالتعب من الحرب كما كثيرين غيري في بلادي. والأسوأ هو أننا نتفرّج ولا قدرة لنا على فعل شيء».

ألّف رميح أغنيته "عم يوجعني بلدي" ولحّنها بلحظات قليلة (ميشال رميح)

وجعه هذا حضّه على الإمساك بقلمه، فكتب أحاسيسه في تلك اللحظة. «كل ما كتبته كان حقيقياً، وينبع من صميم قلبي. عشت هذا الوجع بحذافيره فخرجت الكلمات تحمل الحزن والأمل معاً».

يقول إنه لا يحب التخلّي عن مشاعر التفاؤل، ولذلك آثر تمرير ومضات رجاء تلونها. وجعه الحقيقي الذي كان يعيشه لم يمنعه من التحلي بالصبر والأمل. ويوضح لـ«الشرق الأوسط»: «في النهاية سنقوم من جديد؛ كوننا شعباً صلباً لا تشّلنا الأزمات. والفنان صاحب الأحاسيس المرهفة لا يمكنه أن يفرّق بين وجهة سياسية وأخرى، ولا بين طائفة وأخرى ينتمي إليها هذا الشخص أو ذاك. فما أعرفه جيداً هو أننا جميعنا لبنانيون، ولذلك علينا التوحّد ومساعدة بعضنا البعض. رؤية أبناء بلدي يهجرون منازلهم وقراهم المدمّرة، لامستني عن قرب، فولدت أغنيتي (عم يوجعني بلدي)؛ لأني بالفعل عشت ألماً حقيقياً مع نفسي».

حفرت في ذاكرة ميشال رميح مشاهد عدة مؤثّرة عن لبنان المهجّر والمدمّر، كما يقول. «لن أنسى ذلك المسنّ الذي بكى خسارته لزوجته وبيته معاً. اليوم لا يجد مكاناً يؤويه، كما يفتقد شريكة حياته. وكذلك تعاطفت مع الأطفال والأولاد الذين لا ذنب لهم بحروب الكبار. فهؤلاء جميعاً أعتبرهم أهلي وإخوتي وأبنائي. كان لا بد أن تخرج مني كلمات أغنية، أصف فيها حالتي الحقيقية».

ميشال ابن زحلة، يقيم اليوم في أميركا. يقول: «هاجرت إلى هناك منذ زمن طويل. وفي كل مرة أعود بها إلى لبنان أشعر بعدم قدرتي على مغادرته. ولكن بسبب أطفالي اضطررت للسفر. وعندما أغادر مطار بيروت تمتلكني مشاعر الأسى والحزن. لم أرغب في ترك بلدي وهو يمرّ في محنة صعبة جداً. ولكن الظروف مرات تدفعنا للقيام بعكس رغباتنا، وهو ما حصل معي أخيراً».

يقول بأنه لا يحب التخلّي عن مشاعر التفاؤل (ميشال رميح)

صوّر ميشال أغنيته، وسجلها في الاستوديو، في الوقت نفسه. لم يرغب في أن تكون مصطنعة بمشهديتها بل أن تمثّل واقعاً يعيشه. «الأغنية ليست تجارية، كتبت كلماتها على قصاصة ورق صغيرة. وأنا أتوجّه إلى استوديو التسجيل قمت بتلحينها».

سبق وتعاون رميح في عدة أغنيات مع مجموعة شعراء وملحنين، ومن بينهم هيثم زيات وسليم عساف. ولكن في أغنية «عم يوجعني بلدي» ترك العنان لأحاسيسه، فلحّن وكتب وغنّى من هذا المنطلق. صديقه ريكاردو عازار تسلّم مهمة عزف اللحن على آلة البيانو. «لم أشأ أن ترافقها آلات وإيقاعات كثيرة لأنها أغنية دافئة ووطنية».

يعدّ رميح الأغنية الوطنية وجهة يجب أن يتحوّل إليها كل فنان تتملّكه أحاسيس حقيقية تجاه وطنه. ويستطرد: «هكذا أنا مغنٍ أستطيع أن أقاوم عندما بلدي يشهد مرحلة صعبة. لا أستطيع أن ألتزم الصمت تجاه ما يجري من اعتداءات على أرضه. ولأن كلمات الأغنية تنبع من رحم الواقع والمشاعر، لاقت انتشاراً كبيراً».

حتى أثناء مرور لبنان بأزمات سابقة لم يوفّر ميشال رميح الفرصة ليغني له. «أثناء ثورة أكتوبر (تشرين الأول) وانفجار المرفأ غنيّت لبنان بأسلوبي وعلى طريقتي. وتركت مساحة مضيئة بأمل في الغد تبرز في أعمالي. غنيت (شعب لبنان) يومها من ألحان هيثم زيات».

تركت مساحة مضيئة بأمل في الغد تبرز في أعمالي (ميشال رميح)

ينقل ميشال رميح حقيقة أحاسيس كل لبناني اضطر إلى هجرة وطنه. «قد يعتقد البعض أن من يعيش خارج لبنان وهو في أزمة، يتمتع بالراحة. هذا أمر خاطئ تماماً. فقد عصرني الألم وأنا أغادر وطني، وكلما حلّقت الطائرة وصغرت صورة لبنان من الأعلى، شعرت بحزن أكبر. جميع أبناء لبنان ممن أعرفهم هنا في أميركا يحزّ في قلبهم ابتعادهم عن وطنهم المجروح. ولكنهم جميعهم يأملون مثلي بالعودة القريبة إليه. وهو ما يزيد من صبرهم، لا سيما وأن أعمالهم وعائلاتهم تعيش في أميركا».

أغانٍ وطنية عديدة لفتت ميشال رميح أخيراً: «أرفع القبعة لكل فنان يغني لبنان المتألم. استمعت إلى أغانٍ عدة بينها لجوزف عطية (صلّوا لبيروت)، ولماجد موصللي (بيروت ست الدنيا)، وأخرى لهشام الحاج بعنوان (بيروت ما بتموت)، وكذلك واحدة أداها الوليد الحلاني (بعين السما محروس يا لبنان)». ويعلّق لـ«الشرق الأوسط»: «أعتبر هذه الأغاني بمثابة غذاء الروح لوطني لبنان. لا شك أن ما أعنيه يأتي مجازياً؛ لأن لا شيء يعوّض خسارات بلدي. ولكن من ناحيتي أجد صوتي وأغنيتي هما سلاحي الذي أدافع فيه عن بلدي».

عندما غادر رميح لبنان منذ نحو الشهر كان في زيارته الثانية له بعد غياب. فحب الوطن زرعه في قلبه، ونما بداخله لا شعورياً. «لن أستسلم أبداً، وسأثابر على زيارة لبنان باستمرار، على أمل الإقامة فيه نهائياً وقريباً. فوالداي علّماني حب الوطن، وكانا دائماً يرويان لي أجمل الذكريات عنه. وأتمنى أن أشهد مثل هذه الذكريات كي أرويها بدوري لأولادي».