الحياة والحب والحرية في قصائد الشاعر الأردني حيدر محمود

جانب من الاحتفالية بحيدر محمود
جانب من الاحتفالية بحيدر محمود
TT

الحياة والحب والحرية في قصائد الشاعر الأردني حيدر محمود

جانب من الاحتفالية بحيدر محمود
جانب من الاحتفالية بحيدر محمود

ناقش أكاديميون ومبدعون وكتاب وإعلاميون في منتدى مؤسسة عبد الحميد شومان أخيرًا مسيرة الشاعر حيدر محمود، وجماليات قصائده وتقنياتها في احتفالية تكريمية حملت عنوان «حيدر محمود شاعرًا وإنسانًا».
واستهلت الاحتفالية الرئيسة التنفيذية لمؤسسة عبد الحميد شومان فالنتينا قسيسية بحديث عن مسيرة محمود الأدبية، التي «أنارت الحياة الثقافية الأردنية والعربية بكثير من القصائد العذبة الجميلة». وتناول وزير الثقافة الأسبق الدكتور صلاح جرّار حضور المتنبي في شعر حيدر محمود، مشيرًا إلى تأثر الشاعر بالمتنبي مثلما تأثر بالشعراء الصعاليك وبقصائد عرار.
وقدم الدكتور زياد الزعبي ورقة نقدية بعنوان «حيدر محمود في دراسات النقاد»، قال فيها: «منذ نصف قرن وحيدر محمود يكتب الشعر ويغنيه، ويودع فيه حالاته الذاتية المتأرجحة بين الصعلكة والتمرد، بين الرضا والغضب، يودعه تعبيره عن الوطن وجراحه وأفراحه، وعن رؤاه في الحياة والحب والحرية... إلا أنه كشاعر متميز لحقه حيف على مستوى الدراسات النقدية الجادة، وهو ظلم بيِّن لحق بالشاعر حيدر محمود جراء مواقفه السياسية وهو ثمن كبير غير مبرر على الإطلاق لا سياسيًا ولا أدبيًا».
وعرض الناقد محمد سلام جميعان في قراءة بعنوان (تمرُّد الذات في شعر حيدر محمود) ثلاثة عناصر مركزية يمكنُ عدُّها مفاتيح التمرُّد في تجربة حيدر الشعرية، هي: الحرية، والعدالة الاجتماعية، والحزن. واعتبر الدكتور محمد المجالي في مشاركته التي حملت عنوان «النقد الذاتي في شعر حيدر محمود» أن النقد الذاتي عند حيدر محمود لم يكن عبثيًا مقطوع الصلة عن ظروفه، بل كان قائمًا على رؤية فنية وتصور ذهني واضح ومعاناة أكيدة، إذ كان الوطن هو المحرك الرئيسي لكل قصائده، وعليه فقد جاء صوته قويًا عاليًا ومؤثرًا».
وتناول الشاعر الدكتور راشد عيسى الأنا الصوفية في شعر حيدر محمود حيث «يتنوع الاتجاه الصوفي في الشعر بحسب المنزع الوجداني عند الشاعر فثمة نزوع ديني خالص في تماس مع الإيمان وثمة نزوع نحو الحب الإلهي وثالث نحو الحب البشري ورابع نحو السؤال الوجودي والقلق وسادس ينزع إلى تأملات شجنية محضة مثل طائر يحلّق في غيمة».
أما الإعلامي جرير مرقة فتطرق إلى دور الإعلام في حياة الشاعر حيدر محمود وهو المذيع الذي واكب الأحداث الكبرى وصوته المميز في نشرات الأخبار الرئيسية الأمر الذي جعله حاضرا في بيوت الأردنيين».
وقدمت الدكتورة صبحية علقم قراءة نقدية حول عمان في شعر حيدر محمود، قالت فيها» إن محمود مسكون بهاجس المكان الذي يعبر من خلاله عن عمق تجربته الشعورية، إذ يحمله كثيرا من انفعالاته، وجزءًا كبيرًا من ذاته وعمان واحدة من تلك الأمكنة التي شكلت في قصائد محمود رمزًا للحياة العربية المعاصرة واختزلت طبيعة المرحلة». وقدم الشاعر اللبناني هنري زغيب شهادة في الشاعر محمود أوضح فيها تلك الخصائص الإنسانية في الشاعر.
وتناول الدكتور نايف العجلوني «شعرية البساطة» في قصائد حيدر محمود مقابل شعرية الغموض، مبينًا أن حيدر محمود اختار منذ البداية شعرية البساطة والوضوح، إذ كانت هي الأقرب في الغالب إلى اتجاهه الشعري المكرّس للانخراط مع الواقع الاجتماعي السياسي الملحّ.
بدورها عرضت الشاعرة زُلَيْخَة أبوريشة في الاحتفالية التي شارك فيها وزير الثقافة الأسبق جريس سماوي والكاتب أحمد طملية محطات في حياة الشاعر شهدت فيها ذلك التنوع الخصب في مسيرته الشعرية وعمله الإعلامي وهي التي تعرّفت عليه كشاعر وإذاعي نابه صاحب صوت رخيم وحضور لافت. واعتبر الدكتور عماد الضمور في ورقته النقدية المسماة (حيدر محمود شاعر الوطن وقصيدته الخالدة) أن حيدر محمود أحد الشعراء البارزين في الحركة الشعريّة الأردنيّة المعاصرة، بكلّ ما تحمل من غنى وتنوّع وجداني، وخصب فكري في المضامين والرؤى التي تتشكّل وفق تجربة شعريّة ذات أبعاد فكريّة ومعرفيّة واضحة، تتداخل فيها الوطنية بالقومية.



مجتمع الشعراء في مهرجان الشارقة للشعر العربي

مجتمع الشعراء في مهرجان الشارقة للشعر العربي
TT

مجتمع الشعراء في مهرجان الشارقة للشعر العربي

مجتمع الشعراء في مهرجان الشارقة للشعر العربي

لا نكاد نجد على طول الخريطة العربية اليوم مهرجاناً للشعر العربي الفصيح يجمع هذا العدد الهائل سنوياً من الشعراء إلا في الشارقة. إنه مهرجان يتجاوز بالتأكيد صفة الحدث الثقافي التقليدي الذي يستضيف شعراء بارزين من العالم العربي ويقيم لهم أمسيات أنيقة مؤثثةً بجمهور تفاعلي يضمن التواصل الضروري بين المبدع والمتلقي. وهكذا، نجد في هذا المهرجان سمات عديدة تميزه عن طابع الموسمية الذي يهيمن عادةً على الفعل الثقافي في كثير من فعالياتنا العربية، ونخص بالذكر تلك التي تُعنى بالثقافة والفن، لا سيما الشعر. جملة ما يمكن أن يخلص إليه من تابع أو حضر فعاليات هذا المهرجان هو أنه سعى ونجح إلى حد كبير في صنع مجتمع شعري متكامل الأركان يتعايش فيه المبدعون - وإن بصفة مؤقتة - لفترات غير قصيرة يتصل فيها النهار بالليل، فمن ندوات صباحية إلى أمسيات باذخة للشعر إلى سمر ليلي موسيقي في نُزل الشعراء يستمر حتى ساعات متأخرة من الليل على أنغام الطرب العربي الأصيل من أقطار ومدارس غنائية شتى. ثم يتواصل اللقاء بعدها في بهو الفندق في جلسات متفرقة هنا وهناك حتى ليُخيل للمتابع أن المكان تحول إلى حي سكني يقطنه شعب من الشعراء لا يتحدثون سوى في الشعر وعنه. وبالتوازي مع ذلك، يتناوب الشعراء الضيوف طيلة أيام المهرجان على مكاتب القنوات الفضائية والصحف والإذاعات لتسجيل عدد من اللقاءات الإعلامية التي تصب كلها في أنهار الجدل الشعري والحوار الإبداعي الذي يناقش القصيدة، والقصيدة فقط.

لا أعرف مهرجانات عربية كثيرة للشعر يرفع منظموها في مدنهم لافتات إعلانية كبيرة تروج للحدث الشعري وتعلق صوره في الشوارع والممرات. هناك في الشارقة نجد في كل الشوارع المحاذية لقصر الثقافة الذي يتوسط بفخامته المدينة صوراً للمهرجان تروج لأماسيه الرئيسية. وعند كل مساء نرقب توافد عائلات بأكملها على القصر باحثين عن موائد الشعر ومنصتين لما يقوله الشعراء، مصطحبين مسنّيهم وأطفالهم في مشهد عائلي يحتضن الثقافة كما لم نعتد أن نراه اليوم وسط عالم تسوده آلة النيو ليبرالية الاقتصادية التي همّشت الفنون الجميلة لمصلحة قيم الاستهلاك. وبالانسجام مع النشاط المسائي في قصر الثقافة، وفي الشارقة نفسها خلال أيام المهرجان الشعري، ما إن تمر على ساحل «شاطئ المجاز» الساحر، والذي يعبر اسمه عن توجه المدينة الثقافي، حتى ترى بالعين المجردة شعراء يمشون على الأقدام محتفين بنسائم الشتاء العليل في الشارقة، ومنهمكين في خوض حواراتهم الثقافية حول هذا الكائن الفني الهلامي الذي لا يمنحك بعضه حتى تمنحه كلك وأكثر.

إن مجتمعاً عربياً من الشعراء يمكن القول إنه قد تحقق بالفعل على أرض الشارقة، ولو لأسبوع واحد. جغرافياً حضوره كانت الشارقة وبالضبط بين النُّزل الفندقي والمسرح والمقاهي، حيث يتجمع الشعراء من مختلف الأقطار العربية، ويتحدثون ويتسامرون وقد يتشاجرون أيضاً حول هذا الموقف الشعري أو ذاك. يتحدثون بصوت مرتفع ويصرخ بعضهم، وبعضهم الآخر يكتفي بالصمت متابعاً ما يقوله الأكثر سناً وتجربة. إنهم يسائلون الحداثة الشعرية عن منجزها، فهناك منهم من ينتصر لضرورة الموقف الحداثي أيّاً كان شكل النص، وهناك من لا يزال راديكالياً في موقفه من حيث ضرورة التركيز على قدسية الشكل الذي يُعبر من وجه نظره عن صلابة عمود الشعر وأصالة بنيته. أحاديث تطول وتتوسع إلى تقييم حالة المشهد الثقافي العربي من حيث مساحة حضور الشعر ومصداقية الجوائز والتواصل المفقود أو الموجود على مضض بين الأجيال الشعرية في عالم عربي أثمن ما يغيب عنه هو التواصل. ولعل هذا التواصل يعد من سمات مهرجان الشارقة أيضاً وفضائله، فإذا كان اليوم الأول الافتتاحي للمهرجان يعمد دائماً إلى تكريم تجربة شعرية فردية أو أكثر تنتمي غالباً إلى جيل رائد، فإن الافتتاح أيضاً يتضمن التنويه بعدد من المواهب الشابة التي توَّجَتها قصائدها المنشورة في «مجلة القوافي». هذه الأخيرة تقدم نفسها مجلةً خالصةً للشعر العربي الفصيح، فهي لا تنشر غيره ولا تكتب عن شيء آخر سواه، تتواتر أعدادها شهرياً حتى تتوج ختامها السنوي باختيار بضعة قصائد منشورة على طول السنة كي يُحتفى بها في المهرجان الرئيسي في مستهل السنة الموالية. تتطور حالة التواصل داخل مجتمع الشعراء حتى تصبح أمتن من الصلة العائلية، فتجدهم يتفقدون بعضهم في البهو والغرف مع كل موعد انطلاق للمسرح، يتفقدون بعضهم في مقاعد الباصات ثم يبدأون بالغناء طول مسافة السير، ويشربون قهوة الوصول أمام المسرح منتظرين بدء الأمسية. هكذا إذن تتواصل الحساسيات والحركات والأجيال الشعرية المختلفة بيُسر وسلاسة دون قطائع نظرية أو أخرى نفسية واجتماعية، وهكذا يتوحد الشعر بقرائه ومبدعيه.

إن ما يميز هذا المهرجان ليس صنعه مجتمعاً شعرياً مفترضاً فقط، بل هو أنه بات يحفز كل الشعراء الذين باعدتهم المسافات الجغرافية وفرقتهم سبل العيش على تقديم أنفسهم مع أوراق اعتمادهم الشعري لهذ المهرجان من بوابة القصيدة، والقصيدة فقط، دون وسطاء ودون محسوبيات. ذلك أن من حق أي شاعر أن يحضر مشاركاً في هذا المهرجان، ما دام قادراً على تقديم قصيدته للنشر، وهي وحدها من ستؤهله للمشاركة ضيفاً مُقدّراً، ومن ثم الانضمام إلى أسرة الشعر التي تتعاظم بأفرادها وبأجوائها لتكون مجتمعاً فسيحاً يمد أطرافه من الخليج إلى المحيط.

مجتمع الشعراء الذي تحدثنا عنه ملياً في هذه المقالة يشكل جزءاً من مشروع بدأ بالفعل منذ سنوات ويتعلق بمبادرة «بيوت الشعر» التي أصبحت تتنامى أعدادها في أكثر من قُطر عربي غير الشارقة. حدث ذلك لأول مرة منذ حوالي عشر سنوات حين أطلق حاكم الشارقة الشيخ سلطان القاسمي مبادرة تهدف إلى إحداث ألف بيت للشعر في العالم العربي يكون نشيطاً طول السنة ويرعى المواهب الشعرية على غرار تجربة «بيت الشعر» في الشارقة. تطور الأمر وتم افتتاح عدد كبير من بيوت الشعر في الأردن ومصر والسودان والمغرب وموريتانيا وتونس. هذا المشروع أسس حالة جديدة في المشهد الثقافي يمكن أن نسميها «اللجوء الشعري» للشعراء داخل بلدانهم إلى مؤسسة «بيت الشعر» التي تعزل نفسها عن ضجيج الحياة الاعتيادية، وتقيم وطناً شعرياً موازياً يحتفي فيه الشعراء بقصائدهم، ويعانقون بعضهم بعد الإنصات والإنشاد والكتابة. إنه وطن الشعراء الذي يتشكل ومجتمع يضم كل أفراد عائلاته الشعرية التي تكبر كل يوم. وفي الحقيقة، لقد أسهم نشاط هذه البيوت داخل كل بلد في خلق حالة الانتماء لوطن القصيدة التي لا يعترف بالحدود الفاصلة ولا ينغلق فيه الفرد الشاعر على انتمائه القطري أو الثقافي أو حتى العرقي والطائفي. كيف يمكن لأي منا أن يتجاوز فرحته بجمالية هذا الإنجاز الذي جعل الشعر مفتاحاً للوحدة العربية في أبهى تجلياتها الفنية والإنسانية!

إن زبدة ما نود قوله عن مهرجان الشارقة للشعر العربي، هو أننا اليوم وفي بلدان عربية كثيرة باتت محجاً للمبدعين بحاجة لدعم فكرة المجتمع الشعري والإبداعي، وليس فقط لفعاليات ثقافية تنشط وتخمد بصفة روتينية بين موسم وآخر. وإذا كانت بشائر هذا التصور الجديد للقاء الشعري قد أصبحت تنضج بوضوح في مراكز ثقافية عربية كبرى كالسعودية والإمارات، فإن الحاجة اليوم باتت ملحة لتعميم وتكريس النموذج على امتداد الخريطة العربية كلها. فمجتمع الشعراء كما هو معلوم يخدم مسيرة السلام وينحاز بالضرورة لقيم الحضارة في مفهومها الكوني، إنه مجتمع مسالم ينتصر للجمال ويناهض الكراهية والتطرف والانغلاق. وعلى هذا الأساس ينبغي أن يتجسد حضوره عربياً، كما تجسد بالفعل في مهرجان الشارقة.

* شاعر من المغرب