الإرهاب واستهداف المناسبات الدينية

ظاهرة خطرة تتعمد إثارة ردة فعل مضادة

رجال البحث الجنائي وضباط شرطة في موقع حادث الدهس في العاصمة برلين الذي أوقع 12 قتيلا وعشرات الجرحى (أ.ف.ب)
رجال البحث الجنائي وضباط شرطة في موقع حادث الدهس في العاصمة برلين الذي أوقع 12 قتيلا وعشرات الجرحى (أ.ف.ب)
TT

الإرهاب واستهداف المناسبات الدينية

رجال البحث الجنائي وضباط شرطة في موقع حادث الدهس في العاصمة برلين الذي أوقع 12 قتيلا وعشرات الجرحى (أ.ف.ب)
رجال البحث الجنائي وضباط شرطة في موقع حادث الدهس في العاصمة برلين الذي أوقع 12 قتيلا وعشرات الجرحى (أ.ف.ب)

تنامي خطاب الكراهية وتجريم الآخر دفع المتطرفين لإلغاء إنسانيتهم واستهداف الأبرياء في مناسباتهم الدينية بعيدًا عن الشعور بأي ذنب. فهؤلاء - بنظر المتطرفين - يستحقون الموت، لكونهم لا يتبعون النهج الصحيح الذي ينتهجونه هم. ولقد تنامت في الآونة الأخيرة العمليات الانتحارية التي تركز على أماكن العبادة كالمساجد والكنائس من جهة، واختيار مناسبات دينية يسهل فيها استهداف تجمّعات كبيرة من جهة أخرى. وتتفاوت العمليات الإرهابية حسب الإمكانيات لدى التنظيم المتطرف ومدى قدرته على شنها، بين عمليات قد تقتل العشرات وهم يمارسون طقوسهم الدينية، وأخرى تصل إلى إبادة جماعية وسعي إلى «التطهير المذهبي» بشكل وحشي بالأخص في العراق وسوريا.
العمليات الإرهابية التي تكثفت في الآونة الأخيرة، بالأخص في عام 2015، تعبّر في ظاهرها عن تحقير للأقليات الدينية والمذهبية في الشرق الأوسط وحقد عليها، على اعتبار أن أبناءها «كفار» لا تصب نياتهم وأفعالهم في مصلحة المسلمين «الحقيقيين»، إلا أنها تحمل في باطنها تعمّد التسبب باحتقان شعبي وإثارة الغضب والطائفية وتأليب الأقليات، ومن ثم استغلال التوتر لغايات سياسية.
في الفترة الأخيرة استهدفت العمليات الإرهابية مناسبات دينية كعاشوراء وصلاة الجمعة وعيد الميلاد (لدى المسيحيين). وغالبيتها تعمدت استهداف أماكن عبادة كالمساجد والكنائس، وهي أماكن يفترض أن تكون آمنة، الواضح هنا رغبة الجناة في إثارة الذعر بجانب قتل أو إيذاء أكبر عدد ممكن من الضحايا. وما حدث في القاهرة أخيرًا في الهجوم الانتحاري الذي استهدف الكنيسة البطرسية في 12 ديسمبر (كانون الأول) الحالي يعد أبرز مثال للسعي المتعمد لاستفزاز الأقليات وترويعها وإثارة غضبها، وكما هو معروف، نجم عن هذه العملية - الجريمة مقتل 25 شخصًا. وبعدها أصدر تنظيم داعش الإرهابي المتطرف بيانًا استفزازيًا عبر «وسائل إعلامه» جاء فيه: «وليعلم كل كافر ومرتد في مصر وفي كل مكان أن حربنا على الشرك مستمرة، وأن دولة الخلافة ماضية بإذن الله تعالى، في إراقة دمائهم وشوي أبدانهم».
وبطبيعة الحال، تسارعت ردود الفعل وتصريحات المسؤولين ورجال الدين في مصر لمحاولة تهدئة الوضع والتعقيب على الحادثة، ومنها تصريح الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي: «إن هذا الإرهاب الغادر إنما يستهدف الوطن بأقباطه ومسلميه، وإن مصر لن تزداد كعادتها إلا قوة وتماسكًا أمام هذه الظروف». ويذكر أنه سبق لتنظيم داعش أن أقدم من قبل على استهداف المسيحيين في كثير من المناسبات، من أبرزها تفجير كنيسة في ريف محافظة الحسكة الغربي بسوريا التي يعود تاريخ بنائها إلى ثلاثينات القرن الماضي، وذلك في 5 أبريل (نيسان) 2015م، وتزامنت الحادثة مع عيد الفصح.
ولم تقتصر العمليات الإرهابية على المسيحيين، بل استهدفت الشيعة في مناسبات دينية مختلفة، بدءًا بصلاة الجمعة وانتهاء بعاشوراء في المملكة العربية السعودية، كان أبرزها تفجير مسجد القديح في محافظة القطيف بتاريخ مايو (أيار) 2015م أثناء صلاة الجمعة، الذي استخدم فيه انتحاري حزامًا ناسفًا تسبب بمقتل 19 شخصًا. وكذلك تفجير الدالوة في محافظة الأحساء الذي استهدف حسينية في عاشوراء عام 2014م، وشهد مقتل 8 أشخاص، وبرر «داعش» - الذي تبنى الجريمتين - فعلتيه باعتباره المصلين في المسجد من «الرافضة» الذين يرميهم التنظيم بـ«الردّة». وفي الكويت، مع أن حادثة تفجير مسجد الإمام الصادق في الكويت - خلال يونيو (حزيران) 2015م إبان صلاة الجمعة - وصفت في حينها كحالة فردية، فلقد وصفها رئيس الوزراء الكويتي الشيخ جابر المبارك بـ«هجوم يستهدف الوحدة الوطنية» للبلاد.
وحقًا، امتد استهداف الأقليات الدينية ليصل إلى دول كثيرة أخرى خارج العالم العربي، أبرزها بنغلاديش وباكستان وأفغانستان، على أيدي تنظيمات متطرفة تشكل فروعًا لتنظيم داعش، أو تنظيمات أعلنت ولاءها وانتماءها له، كجماعة «بوكو حرام» التي عززت استهدافها للمسيحيين والشيعة من خلال عمليات إرهابية، أبرزها هجوم استهدف موكبًا شيعيًا في ولاية كانو بشمال نيجيريا تسبب بمقتل 22 شخصًا في نوفمبر (تشرين الثاني) 2015م.
في حين يشكل فيه طموح التنظيمات الإرهابية التي ترتكب جرائمها باسم الدين الحنيف - وهو منها براء - في المجتمعات المستقرة قتل العشرات من الأشخاص في مناسبات دينية، تفاقم الأمر في البلدان الأقل أمنًا، كالعراق وسوريا، ليتجاوز مناسبات معينة واصلاً إلى حد الإبادة.
هذه التنظيمات الإرهابية - بشقيها السني والشيعي - لعبت دورًا محوريًا في الترهيب وإثارة الفتن بين الطوائف الدينية المختلفة، الأمر الذي حدا إلى تنامي ظواهر متوحشة غير إنسانية. وكان مسلسل استهداف مرافق ومساجد عائدة للشيعة في العراق، قد بدأ بتعرض سامراء عام 2006م لتفجيرات استهدفت مراقد، وتفاقم الوضع بعد ذلك وازداد شراسة، في الاتجاهين. وفي تصريح لوزير الخارجية الأميركي جون كيري في 17 مارس (آذار) 2016م، قال كيري إن «(داعش) يرتكب إبادة بحق المسيحيين والإيزيديين والشيعة في المناطق التي يسيطر عليها في سوريا والعراق». وفي تصريحه تصنيف لما يقترفه تنظيم داعش على اعتبار أنه في خانة الإبادة. وتابع الوزير الأميركي: «الحقيقة هي أن (داعش) يقتل المسيحيين لأنهم مسيحيون، والإيزيديين لأنهم إيزيديون، والشيعة لأنهم شيعة». وحقًا، ليس من الصعب رؤية تنظيم داعش وتعمده محاربة الديانات والمذاهب الأخرى مما يصب في تأجيج الطائفية. ويبرز هذا التوجه عبر التسجيلات الصوتية والتصاريح التي تنشرها الجهات الإعلامية للتنظيم المتطرف. كدعوة زعيم التنظيم أبو بكر البغدادي أتباعه إلى قتال الشيعة، وإعرابه عن ثقته في تسجيلات كثيرة أخرى بانتصار أتباعه على الشيعة و«الصليبيين الغربيين» وحتى الدول السنّية التي يصفها بـ«المرتدة».
ويقابل توحش «داعش»، في الجهة المقابلة توحش الميليشيات الشيعية التابعة لإيران والمنضوية تحت لواء «الحشد الشعبي»، وارتكابها مجازر طائفية وهدم مساجد ومرافق تعود لأهل السنّة. وكانت هذه الميليشيات قد كثفت من عملياتها الطائفية العدوانية في محافظة ديالى بالعراق. الأمر الذي أوجد مؤشرات لعمليات تغيير ديموغرافية - بل قل «تطهيرًا مذهبيًا» - في ديالى التي يشكل السنة 60 في المائة من سكانها عبر إبادة وحشية مرعبة.
على صعيد آخر، ظهر جليًا خلال السنوات الماضية وجود خلاف حول مهاجمة الشيعة وتجريمهم بدءًا من عام 2004م، وذلك حين طرح أبو مصعب الزرقاوي، أحد قياديي «القاعدة» الأكثر حدة في عدائه للشيعة، استراتيجيات حملت استهدافًا واضحًا للشيعة. وعبر عن بعض طروحاته في هذا الشأن برسالة بعثها لقيادة «القاعدة» في أفغانستان شدد فيها على أهمية ضرب الشيعة «مرارًا وتكرارًا وبشكل عشوائي، وذلك لإثارة الفتنة الطائفية الأهلية التي من شأنها أن توحّد أهل السنة في العراق وفي أماكن أخرى». الأمر الذي خالفه فيه قيادي بارز آخر هو أبو محمد المقدسي، الذي اعتبر أن العمليات الانتحارية المكثفة ضد الشيعة ستؤدي لقتل مسلمين مدنيين. كذلك حض نائب زعيم «القاعدة» أيمن الظواهري على عدم قتل الشيعة وتجريمهم.
وفي رسالة نشرت عام 2013م، أورد الظواهري توجيهات لـ«المجاهدين» ركز فيها على أهمية «جلب المصالح ودرء المفاسد في هذه المرحلة»، وشدد على أهمية عدم مقاتلة الفرق التي أسماها بـ«المنحرفة»، ويشمل ذلك ما وصفهم بـ«الروافض والإسماعيلية والقاديانية والصوفية المنحرفة»، وذلك «ما لم تقاتل أهل السنة». وتابع الظواهري أن الرد يجب أن يقتصر على الجهات المقاتلة منها «مع بيان أننا ندافع عن أنفسنا، وتجنب ضرب غير مقاتليهم وأهاليهم في مساكنهم، وأماكن عباداتهم ومواسمهم وتجمعاتهم الدينية، مع الاستمرار في كشف باطلهم وانحرافهم العقائدي والسلوكي».
ومن جهة أخرى، دعا الظواهري إلى عدم التعرض للمسيحيين في البلاد الإسلامية، كما أمر تابعيه بالامتناع عن قتل الأهالي غير المحاربين، حتى لو كانوا أهالي من يقاتل «القاعدة»، والامتناع عن إيذاء المسلمين بتفجير أو خطف أو إتلاف مال أو ممتلكات. بالإضافة إلى الامتناع عن استهداف «الأعداء» في المساجد والأسواق والتجمعات التي يختلطون فيها بالمسلمين.
هذه التوجيهات تنم بوضوح - إلى حد ما - عن استخدام «القاعدة» نهجًا أكثر ليونة في الآونة الأخيرة. ويأتي في هذا السياق ربما نفي فرع التنظيم في اليمن ضلوعًا في تفجير 20 مارس 2015م الذي استهدف مسجدين للحوثيين في العاصمة صنعاء، مما تسبب في مقتل 140 شخصًا. فيومذاك قال في بيان: «ننفي علاقتنا بالتفجيرات التي استهدفت مساجد الحوثيين، ونؤكد التزامنا بتوجيهات الدكتور أيمن الظواهري بعد التفجير داخل المساجد والأسواق والأماكن المختلطة حفاظًا على دماء الأبرياء وتغليبًا للمصلحة العامة». وفي المقابل، نسب تنظيم داعش الحدث لنفسه، مما يؤكد النهج شديد التطرف للتنظيمات الأخيرة وقلة اكتراثها بأرواح الأبرياء في أماكن العبادة.
وحاليًا، في أوروبا وغيرها، يستمر تهديد التنظيمات الإرهابية للمناسبات الدينية، الذي استهدف خلال السنوات الثلاث الأخيرة احتفالات المسيحيين بالميلاد (الكريسماس) ورأس السنة، ويسعى قادة التنظيمات المتطرفة إلى تحريض شبان مسلمين مضللين ومغرر بهم على العنف.
وفي مايو 2015م، دعا أبو بكر البغدادي، فعلاً، المسلمين القاطنين في بلدان «غير إسلامية» إلى «حمل السلاح حيث يوجدون، أو الهجرة إلى مناطق نفوذ التنظيم في سوريا والعراق». وقال زعيم «داعش» في كلمة صوتية: «إن من ظن منكم أن بمقدوره أن يسالم اليهود والنصارى والكفار ويسالمونه فيتعايش معهم ويتعايشوا معه وهو على دينه وتوحيده فقد كذب قول ربه»، واستشهد بالآية القرآنية: «ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم».
كذلك أصدر «داعش» «تعليمات» جديدة لمقاتليه في أوروبا باستهداف غير المسلمين في الاحتفالات الدينية، والتشجيع على ارتكاب هجمات فردية بما هو أشبه بعمليات إجرامية لا إرهابية، وانتهاء بتهديدات كبيرة. ومن ثم بادرت الجهات الأمنية والرسمية في الولايات المتحدة ودول أوروبا وغيرها إلى التحذير من احتمال حدوث هجمات إرهابية، كان أبرزها تحذير وزارة الخارجية الأميركية رعاياها من هجمات إرهابية تشن في مختلف أنحاء أوروبا قبيل فترة رأس السنة الميلادية، وأن عليهم توخي الحذر في احتفالات الأعياد والمناسبات الأخرى وأماكن الاحتشاد كالأسواق. وأيضًا تحذير مكتب الشرطة الأوروبية (يوروبول) من أن التنظيمات الإرهابية، كتنظيم داعش، قد تلجأ إلى تقنيات تم استخدامها في سوريا والعراق ولم تطبقها في السابق في أوروبا كتفخيخ سيارات بالمتفجرات.
هذا يعني أن الإرهاب المقترف باسم الدين سيتخذ منحى جديدًا في السعي نحو إثارة الرعب وزعزعة الأمن بأسلوب المفاجأة، سواء كان ذلك عبر طعن فردي مباغت أو إطلاق نار أو تلغيم سيارات أو اجتياح الناس بشاحنات - كما حدث في نيس (فرنسا) وبرلين (ألمانيا) ويتفاوت استهداف الأشخاص بين أفراد وجماعات.
وسيصبح اقتراب الأعياد والاحتفالات الدينية بمثابة فرصة لإلحاق الأذى بكثير من الأبرياء الذين قرر قادة التطرّف تكفيرهم وشيطنتهم، وتولت الأدوات التي تنفذ العمليات الإرهابية تصفيتهم والتخلص منهم.



فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.