الإرهاب واستهداف المناسبات الدينية

ظاهرة خطرة تتعمد إثارة ردة فعل مضادة

رجال البحث الجنائي وضباط شرطة في موقع حادث الدهس في العاصمة برلين الذي أوقع 12 قتيلا وعشرات الجرحى (أ.ف.ب)
رجال البحث الجنائي وضباط شرطة في موقع حادث الدهس في العاصمة برلين الذي أوقع 12 قتيلا وعشرات الجرحى (أ.ف.ب)
TT

الإرهاب واستهداف المناسبات الدينية

رجال البحث الجنائي وضباط شرطة في موقع حادث الدهس في العاصمة برلين الذي أوقع 12 قتيلا وعشرات الجرحى (أ.ف.ب)
رجال البحث الجنائي وضباط شرطة في موقع حادث الدهس في العاصمة برلين الذي أوقع 12 قتيلا وعشرات الجرحى (أ.ف.ب)

تنامي خطاب الكراهية وتجريم الآخر دفع المتطرفين لإلغاء إنسانيتهم واستهداف الأبرياء في مناسباتهم الدينية بعيدًا عن الشعور بأي ذنب. فهؤلاء - بنظر المتطرفين - يستحقون الموت، لكونهم لا يتبعون النهج الصحيح الذي ينتهجونه هم. ولقد تنامت في الآونة الأخيرة العمليات الانتحارية التي تركز على أماكن العبادة كالمساجد والكنائس من جهة، واختيار مناسبات دينية يسهل فيها استهداف تجمّعات كبيرة من جهة أخرى. وتتفاوت العمليات الإرهابية حسب الإمكانيات لدى التنظيم المتطرف ومدى قدرته على شنها، بين عمليات قد تقتل العشرات وهم يمارسون طقوسهم الدينية، وأخرى تصل إلى إبادة جماعية وسعي إلى «التطهير المذهبي» بشكل وحشي بالأخص في العراق وسوريا.
العمليات الإرهابية التي تكثفت في الآونة الأخيرة، بالأخص في عام 2015، تعبّر في ظاهرها عن تحقير للأقليات الدينية والمذهبية في الشرق الأوسط وحقد عليها، على اعتبار أن أبناءها «كفار» لا تصب نياتهم وأفعالهم في مصلحة المسلمين «الحقيقيين»، إلا أنها تحمل في باطنها تعمّد التسبب باحتقان شعبي وإثارة الغضب والطائفية وتأليب الأقليات، ومن ثم استغلال التوتر لغايات سياسية.
في الفترة الأخيرة استهدفت العمليات الإرهابية مناسبات دينية كعاشوراء وصلاة الجمعة وعيد الميلاد (لدى المسيحيين). وغالبيتها تعمدت استهداف أماكن عبادة كالمساجد والكنائس، وهي أماكن يفترض أن تكون آمنة، الواضح هنا رغبة الجناة في إثارة الذعر بجانب قتل أو إيذاء أكبر عدد ممكن من الضحايا. وما حدث في القاهرة أخيرًا في الهجوم الانتحاري الذي استهدف الكنيسة البطرسية في 12 ديسمبر (كانون الأول) الحالي يعد أبرز مثال للسعي المتعمد لاستفزاز الأقليات وترويعها وإثارة غضبها، وكما هو معروف، نجم عن هذه العملية - الجريمة مقتل 25 شخصًا. وبعدها أصدر تنظيم داعش الإرهابي المتطرف بيانًا استفزازيًا عبر «وسائل إعلامه» جاء فيه: «وليعلم كل كافر ومرتد في مصر وفي كل مكان أن حربنا على الشرك مستمرة، وأن دولة الخلافة ماضية بإذن الله تعالى، في إراقة دمائهم وشوي أبدانهم».
وبطبيعة الحال، تسارعت ردود الفعل وتصريحات المسؤولين ورجال الدين في مصر لمحاولة تهدئة الوضع والتعقيب على الحادثة، ومنها تصريح الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي: «إن هذا الإرهاب الغادر إنما يستهدف الوطن بأقباطه ومسلميه، وإن مصر لن تزداد كعادتها إلا قوة وتماسكًا أمام هذه الظروف». ويذكر أنه سبق لتنظيم داعش أن أقدم من قبل على استهداف المسيحيين في كثير من المناسبات، من أبرزها تفجير كنيسة في ريف محافظة الحسكة الغربي بسوريا التي يعود تاريخ بنائها إلى ثلاثينات القرن الماضي، وذلك في 5 أبريل (نيسان) 2015م، وتزامنت الحادثة مع عيد الفصح.
ولم تقتصر العمليات الإرهابية على المسيحيين، بل استهدفت الشيعة في مناسبات دينية مختلفة، بدءًا بصلاة الجمعة وانتهاء بعاشوراء في المملكة العربية السعودية، كان أبرزها تفجير مسجد القديح في محافظة القطيف بتاريخ مايو (أيار) 2015م أثناء صلاة الجمعة، الذي استخدم فيه انتحاري حزامًا ناسفًا تسبب بمقتل 19 شخصًا. وكذلك تفجير الدالوة في محافظة الأحساء الذي استهدف حسينية في عاشوراء عام 2014م، وشهد مقتل 8 أشخاص، وبرر «داعش» - الذي تبنى الجريمتين - فعلتيه باعتباره المصلين في المسجد من «الرافضة» الذين يرميهم التنظيم بـ«الردّة». وفي الكويت، مع أن حادثة تفجير مسجد الإمام الصادق في الكويت - خلال يونيو (حزيران) 2015م إبان صلاة الجمعة - وصفت في حينها كحالة فردية، فلقد وصفها رئيس الوزراء الكويتي الشيخ جابر المبارك بـ«هجوم يستهدف الوحدة الوطنية» للبلاد.
وحقًا، امتد استهداف الأقليات الدينية ليصل إلى دول كثيرة أخرى خارج العالم العربي، أبرزها بنغلاديش وباكستان وأفغانستان، على أيدي تنظيمات متطرفة تشكل فروعًا لتنظيم داعش، أو تنظيمات أعلنت ولاءها وانتماءها له، كجماعة «بوكو حرام» التي عززت استهدافها للمسيحيين والشيعة من خلال عمليات إرهابية، أبرزها هجوم استهدف موكبًا شيعيًا في ولاية كانو بشمال نيجيريا تسبب بمقتل 22 شخصًا في نوفمبر (تشرين الثاني) 2015م.
في حين يشكل فيه طموح التنظيمات الإرهابية التي ترتكب جرائمها باسم الدين الحنيف - وهو منها براء - في المجتمعات المستقرة قتل العشرات من الأشخاص في مناسبات دينية، تفاقم الأمر في البلدان الأقل أمنًا، كالعراق وسوريا، ليتجاوز مناسبات معينة واصلاً إلى حد الإبادة.
هذه التنظيمات الإرهابية - بشقيها السني والشيعي - لعبت دورًا محوريًا في الترهيب وإثارة الفتن بين الطوائف الدينية المختلفة، الأمر الذي حدا إلى تنامي ظواهر متوحشة غير إنسانية. وكان مسلسل استهداف مرافق ومساجد عائدة للشيعة في العراق، قد بدأ بتعرض سامراء عام 2006م لتفجيرات استهدفت مراقد، وتفاقم الوضع بعد ذلك وازداد شراسة، في الاتجاهين. وفي تصريح لوزير الخارجية الأميركي جون كيري في 17 مارس (آذار) 2016م، قال كيري إن «(داعش) يرتكب إبادة بحق المسيحيين والإيزيديين والشيعة في المناطق التي يسيطر عليها في سوريا والعراق». وفي تصريحه تصنيف لما يقترفه تنظيم داعش على اعتبار أنه في خانة الإبادة. وتابع الوزير الأميركي: «الحقيقة هي أن (داعش) يقتل المسيحيين لأنهم مسيحيون، والإيزيديين لأنهم إيزيديون، والشيعة لأنهم شيعة». وحقًا، ليس من الصعب رؤية تنظيم داعش وتعمده محاربة الديانات والمذاهب الأخرى مما يصب في تأجيج الطائفية. ويبرز هذا التوجه عبر التسجيلات الصوتية والتصاريح التي تنشرها الجهات الإعلامية للتنظيم المتطرف. كدعوة زعيم التنظيم أبو بكر البغدادي أتباعه إلى قتال الشيعة، وإعرابه عن ثقته في تسجيلات كثيرة أخرى بانتصار أتباعه على الشيعة و«الصليبيين الغربيين» وحتى الدول السنّية التي يصفها بـ«المرتدة».
ويقابل توحش «داعش»، في الجهة المقابلة توحش الميليشيات الشيعية التابعة لإيران والمنضوية تحت لواء «الحشد الشعبي»، وارتكابها مجازر طائفية وهدم مساجد ومرافق تعود لأهل السنّة. وكانت هذه الميليشيات قد كثفت من عملياتها الطائفية العدوانية في محافظة ديالى بالعراق. الأمر الذي أوجد مؤشرات لعمليات تغيير ديموغرافية - بل قل «تطهيرًا مذهبيًا» - في ديالى التي يشكل السنة 60 في المائة من سكانها عبر إبادة وحشية مرعبة.
على صعيد آخر، ظهر جليًا خلال السنوات الماضية وجود خلاف حول مهاجمة الشيعة وتجريمهم بدءًا من عام 2004م، وذلك حين طرح أبو مصعب الزرقاوي، أحد قياديي «القاعدة» الأكثر حدة في عدائه للشيعة، استراتيجيات حملت استهدافًا واضحًا للشيعة. وعبر عن بعض طروحاته في هذا الشأن برسالة بعثها لقيادة «القاعدة» في أفغانستان شدد فيها على أهمية ضرب الشيعة «مرارًا وتكرارًا وبشكل عشوائي، وذلك لإثارة الفتنة الطائفية الأهلية التي من شأنها أن توحّد أهل السنة في العراق وفي أماكن أخرى». الأمر الذي خالفه فيه قيادي بارز آخر هو أبو محمد المقدسي، الذي اعتبر أن العمليات الانتحارية المكثفة ضد الشيعة ستؤدي لقتل مسلمين مدنيين. كذلك حض نائب زعيم «القاعدة» أيمن الظواهري على عدم قتل الشيعة وتجريمهم.
وفي رسالة نشرت عام 2013م، أورد الظواهري توجيهات لـ«المجاهدين» ركز فيها على أهمية «جلب المصالح ودرء المفاسد في هذه المرحلة»، وشدد على أهمية عدم مقاتلة الفرق التي أسماها بـ«المنحرفة»، ويشمل ذلك ما وصفهم بـ«الروافض والإسماعيلية والقاديانية والصوفية المنحرفة»، وذلك «ما لم تقاتل أهل السنة». وتابع الظواهري أن الرد يجب أن يقتصر على الجهات المقاتلة منها «مع بيان أننا ندافع عن أنفسنا، وتجنب ضرب غير مقاتليهم وأهاليهم في مساكنهم، وأماكن عباداتهم ومواسمهم وتجمعاتهم الدينية، مع الاستمرار في كشف باطلهم وانحرافهم العقائدي والسلوكي».
ومن جهة أخرى، دعا الظواهري إلى عدم التعرض للمسيحيين في البلاد الإسلامية، كما أمر تابعيه بالامتناع عن قتل الأهالي غير المحاربين، حتى لو كانوا أهالي من يقاتل «القاعدة»، والامتناع عن إيذاء المسلمين بتفجير أو خطف أو إتلاف مال أو ممتلكات. بالإضافة إلى الامتناع عن استهداف «الأعداء» في المساجد والأسواق والتجمعات التي يختلطون فيها بالمسلمين.
هذه التوجيهات تنم بوضوح - إلى حد ما - عن استخدام «القاعدة» نهجًا أكثر ليونة في الآونة الأخيرة. ويأتي في هذا السياق ربما نفي فرع التنظيم في اليمن ضلوعًا في تفجير 20 مارس 2015م الذي استهدف مسجدين للحوثيين في العاصمة صنعاء، مما تسبب في مقتل 140 شخصًا. فيومذاك قال في بيان: «ننفي علاقتنا بالتفجيرات التي استهدفت مساجد الحوثيين، ونؤكد التزامنا بتوجيهات الدكتور أيمن الظواهري بعد التفجير داخل المساجد والأسواق والأماكن المختلطة حفاظًا على دماء الأبرياء وتغليبًا للمصلحة العامة». وفي المقابل، نسب تنظيم داعش الحدث لنفسه، مما يؤكد النهج شديد التطرف للتنظيمات الأخيرة وقلة اكتراثها بأرواح الأبرياء في أماكن العبادة.
وحاليًا، في أوروبا وغيرها، يستمر تهديد التنظيمات الإرهابية للمناسبات الدينية، الذي استهدف خلال السنوات الثلاث الأخيرة احتفالات المسيحيين بالميلاد (الكريسماس) ورأس السنة، ويسعى قادة التنظيمات المتطرفة إلى تحريض شبان مسلمين مضللين ومغرر بهم على العنف.
وفي مايو 2015م، دعا أبو بكر البغدادي، فعلاً، المسلمين القاطنين في بلدان «غير إسلامية» إلى «حمل السلاح حيث يوجدون، أو الهجرة إلى مناطق نفوذ التنظيم في سوريا والعراق». وقال زعيم «داعش» في كلمة صوتية: «إن من ظن منكم أن بمقدوره أن يسالم اليهود والنصارى والكفار ويسالمونه فيتعايش معهم ويتعايشوا معه وهو على دينه وتوحيده فقد كذب قول ربه»، واستشهد بالآية القرآنية: «ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم».
كذلك أصدر «داعش» «تعليمات» جديدة لمقاتليه في أوروبا باستهداف غير المسلمين في الاحتفالات الدينية، والتشجيع على ارتكاب هجمات فردية بما هو أشبه بعمليات إجرامية لا إرهابية، وانتهاء بتهديدات كبيرة. ومن ثم بادرت الجهات الأمنية والرسمية في الولايات المتحدة ودول أوروبا وغيرها إلى التحذير من احتمال حدوث هجمات إرهابية، كان أبرزها تحذير وزارة الخارجية الأميركية رعاياها من هجمات إرهابية تشن في مختلف أنحاء أوروبا قبيل فترة رأس السنة الميلادية، وأن عليهم توخي الحذر في احتفالات الأعياد والمناسبات الأخرى وأماكن الاحتشاد كالأسواق. وأيضًا تحذير مكتب الشرطة الأوروبية (يوروبول) من أن التنظيمات الإرهابية، كتنظيم داعش، قد تلجأ إلى تقنيات تم استخدامها في سوريا والعراق ولم تطبقها في السابق في أوروبا كتفخيخ سيارات بالمتفجرات.
هذا يعني أن الإرهاب المقترف باسم الدين سيتخذ منحى جديدًا في السعي نحو إثارة الرعب وزعزعة الأمن بأسلوب المفاجأة، سواء كان ذلك عبر طعن فردي مباغت أو إطلاق نار أو تلغيم سيارات أو اجتياح الناس بشاحنات - كما حدث في نيس (فرنسا) وبرلين (ألمانيا) ويتفاوت استهداف الأشخاص بين أفراد وجماعات.
وسيصبح اقتراب الأعياد والاحتفالات الدينية بمثابة فرصة لإلحاق الأذى بكثير من الأبرياء الذين قرر قادة التطرّف تكفيرهم وشيطنتهم، وتولت الأدوات التي تنفذ العمليات الإرهابية تصفيتهم والتخلص منهم.



تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
TT

تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)

من يقود تنظيم داعش الإرهابي الآن؟ وما سر عدم ظهور إبراهيم الهاشمي القرشي، زعيم «داعش» الجديد، حتى اللحظة؟ ولماذا تعمد التنظيم إخفاء هوية «القرشي» منذ تنصيبه قبل شهرين؟ وهل هناك تغير في شكل التنظيم خلال الفترة المقبلة، عبر استراتيجية إخفاء هوية قادته، خوفاً عليهم من الرصد الأمني بعد مقتل أبو بكر البغدادي؟ تساؤلات كثيرة تشغل الخبراء والمختصين، بعدما خيم الغموض على شخصية زعيم «داعش» الجديد طوال الفترة الماضية. خبراء في الحركات الأصولية أكدوا لـ«الشرق الأوسط» أن «التنظيم يعاني الآن من غياب المركزية في صناعة القرار».
ويرجح خبراء التنظيمات المتطرفة أن «يكون (داعش) قد قرر إخفاء هوية (القرشي) تماماً، في محاولة لحمايته، وأن إعلان (القرشي) زعيماً من قبل كان شكلاً من أشكال التمويه فقط، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم». كما شكك الخبراء في «وجود شخصية (القرشي) من الأساس».
وأعلن «داعش»، في تسجيل صوتي بثه موقع «الفرقان»، الذراع الإعلامية للتنظيم، في نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تنصيب «القرشي» خلفاً للبغدادي الذي قتل في أعقاب غارة أميركية، وتعيين أبو حمزة القرشي متحدثاً باسم التنظيم، خلفاً لأبو الحسن المهاجر الذي قتل مع البغدادي. وكان الرئيس الأميركي دونالد ترمب قد أعلن «مقتل البغدادي في عملية عسكرية أميركية شمال غربي سوريا».
ورغم أن مراقبين أكدوا أن «(القرشي) هو القاضي الأول في التنظيم، وكان يرأس اللجنة الشرعية»، فإن مصادر أميركية ذكرت في وقت سابق أن «(القرشي) عُرف بلقب الحاج عبد الله، وعُرف أيضاً باسم محمد سعيد عبد الرحمن المولى، وكان أحد قادة تنظيم القاعدة في العراق، وقاتل ضد الأميركيين». لكن عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر «شكك في وجود (القرشي) من الأساس»، قائلاً: إن «(القرشي) شخصية غير حقيقية، وهناك أكثر من إدارة تدير (داعش) الآن».
وأكد أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أنه «بطبيعة الحال، لا يمكن أن نحدد من يقود (داعش) الآن، حتى هذا الإعلان (أي تنصيب القرشي) قد يكون شكلاً من أشكال التمويه، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم»، مضيفاً: «نحن أمام عدد من الاحتمالات: الاحتمال الأول هو أن تكون شخصية (القرشي) حقيقية لكن يتم إخفاءها، وعدم ظهوره إلى الآن هو من أجل تأمين حياته، وعدم مطاردته من قبل أجهزة الدول. والاحتمال الثاني أننا أمام شخصية (وهمية)، والتنظيم لا يزال منقسماً حول فكرة اختيار خليفة للبغدادي. أما الاحتمال الثالث فأننا أمام صراع حقيقي داخل التنظيم حول خلافة (البغدادي)».
وتحدث المراقبون عن سبب آخر لإخفاء «داعش» هوية «القرشي»، وهو «الخوف من الانشقاقات التي تضرب التنظيم من قبل مقتل البغدادي، بسبب الهزائم التي مُني بها في سوريا والعراق، خاصة أن نهج إخفاء المعلومات والتفاصيل التي تتعلق بقادة (داعش) استخدمه التنظيم من قبل، حين تم تعيين أبو حمزة المهاجر وزيراً للحرب (على حد تعبير التنظيم) في عهد البغدادي، وتم الكشف عن اسمه في وقت لاحق».
وكان البغدادي قد استغل فرصة الاضطرابات التي حدثت في سوريا، وأسس فرعاً لتنظيمه هناك، كما استغل بعض الأحداث السياسية في العراق، وقدم نفسه وتنظيمه على أنهم المدافعون عن الإسلام (على حد زعمه)، فاكتسب في البداية بيئة حاضنة ساعدته على احتلال المزيد من الأراضي العراقية التي أسس عليها «دولته المزعومة». وفي عام 2014، أعلن البغدادي نفسه «خليفة مزعوماً» من على منبر مسجد النوري الكبير، في مدينة الموصل، ثم اختفى بعدها لمدة 5 سنوات، ولم يظهر إلا في أبريل (نيسان) الماضي، في مقطع فيديو مصور مدته 18 دقيقة، ليعلن «انتهاء السيطرة المكانية لـ(دولته المزعومة)، وسقوط آخر معاقلها في الباغوز السورية». وقال المراقبون إنه «رغم أن ظهور البغدادي كان قليلاً في السنوات الأخيرة قبل مقتله، فإن أخباره كانت دائمة الانتشار، كما عمد مع بداية الإعلان عن (دولته المزعومة) إلى الظهور المتكرر، وهو ما لم يفعله (القرشي)».
وأكد عبد المنعم أن «هوية (القرشي) كانت لا بد أن تختفي تماماً لحمايته»، مدللاً على ذلك بأنه «في ثمانينات القرن الماضي، كانت التنظيمات الإرهابية تعلن عن أكثر من اسم للقيادة، حتى تحميه من التتبع الأمني»، موضحاً: «يبدو أن هوية (القرشي) الحقيقة بالنسبة لعناصر التنظيم ليست بالأهمية ذاتها، لأن ما يهمهم هو وجود الزعيم على هرم التنظيم، ضمن إطار وإرث ديني... وهذا أهم بكثير للعناصر من الإعلان عن هوية الرجل (أي القرشي)»، مدللاً على ذلك بأنه «في الأيام التي أعقبت إعلان تعيين (القرشي)، تساءلت مجموعة صغيرة من عناصر التنظيم على موقع التواصل (تليغرام) عن هوية الزعيم الجديد. وبعد أيام من تساؤلاتهم، وعندما طلب منهم مبايعة (القرشي)، قلت التساؤلات. ولهذا، من الواضح أن هوية الرجل بدت غير مهمة لهم، بل المهم هو أنه زعيم (داعش)، ويحتاج إلى دعمهم».
وحث أبو حمزة القرشي، متحدث «داعش» الجديد، أتباعه في رسالته الصوتية الأخيرة على «الالتزام بما أصدره البغدادي في رسالته في سبتمبر (أيلول) الماضي، التي طالب فيها بتحرير أنصار التنظيم من السجون، وتجنيد أتباع جدد لاستكمال المهمة، وتأكيد مواصلة التنظيم تمدده في الشرق الأوسط وخارجه».
ومن جهته، أضاف عبد المنعم أن «التنظيم دشن قبل أيام كتيبة أطلق عليها (الثأر للبغدادي والمهاجر)، بهدف الانتقام لمقتل البغدادي والمهاجر، كما جرى سجن عدد من قيادات التنظيم، مُرجح أنها تورطت في تسريب معلومات بطريقة غير مباشرة لعناصر في تنظيم (حراس الدين)»، موضحاً أن «المركز الإعلامي للتنظيم يعاني حالياً من عدم وجود اتصال مع باقي المراكز التابعة للتنظيم، ويعاني من حالة ارتباك شديدة».
وهدد المتحدث باسم التنظيم الجديد الولايات المتحدة، قائلاً: «لا تفرحوا بمقتل الشيخ البغدادي». وقال عبد المنعم: «يبدو أن (داعش) قرر عدم التعامل بالشكل التقليدي في التسجيلات والظهور المباشر لـ(القرشي)، مثلما كان يحدث مع البغدادي»، لافتاً إلى أن «عمليات (داعش) منذ تولي (القرشي) لم تشهد أي حراك، على عكس شهري أبريل وسبتمبر الماضيين، اللذين شهدا حراكاً، عقب بث تسجيلين: واحد مصور والآخر صوتي للبغدادي».
وكان أبو بكر البغدادي قد ذكر في سبتمبر (أيلول) الماضي أن «تنظيمه لا يزال موجوداً، رغم توسعه في البداية، ومن ثم الانكماش»، وأن ذلك يعد (اختباراً من الله)»، على حد زعمه.
وقال عمرو عبد المنعم إن «قنوات (داعش) واصلت بث أخبارها كالمعتاد، وأبرز ما نقلته هذه القنوات أخيراً إصدار مرئي جديد على شاكلة (صليل الصوارم)، بعنوان (لن يضروكم إلا أذى)، مدته 11 دقيقة، وفيه متحدث رئيسي مُقنع يتوعد بالثأر من عملية (التراب الأسود) التي أطلقتها القوات العراقية ضد (داعش) في سبتمبر (أيلول) الماضي. وفي نهاية الإصدار، ظهر مقاتلون ملثمون يبايعون الخليفة الجديد».
وبايع فرع «داعش» في الصومال «القرشي» في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، حيث نشر فرع التنظيم صوراً على موقع التواصل الاجتماعي «إنستغرام» لنحو 12 عنصراً يقفون بين الأشجار، وعليها تعليق يقول: «إنهم يعلنون مبايعة (القرشي)». كما بايع «ولاية سيناء»، الموالي لـ«داعش» في مصر، «القرشي»، ونشر في إصدار مرئي صوراً لمجموعة قال إنهم من العناصر التي بايعت «القرشي». ويشار إلى أنه ما زالت بعض أفرع تنظيم داعش حول العالم لم تعلن مبايعتها لـ«القرشي» حتى الآن، وفي مقدمتها «ولاية خراسان» في أفغانستان، و«ولاية غرب أفريقيا» (بوكو حرام سابقاً) في نيجيريا.
وحول وجود تغير في استراتيجية «داعش» في الفترة المقبلة، بالاعتماد على إخفاء شخصيات قادته، أكد الخبير الأصولي أحمد بان أن «هذه المرحلة ليست مرحلة الإمساك بالأرض من جديد، والسيطرة عليها، أو ما يسمى (الخلافة)، لكن مرحلة ترميم مجموعات التنظيم، وإعادة التموضع في ساحات جديدة، ومحاولة كسب ولاءات جماعات أخرى، قبل أن نصل إلى عنوان جديد، ربما يعكس ظهور تنظيم جديد، قد يكون أخطر من تنظيم (داعش). لكن في كل الأحوال، هيكلية (داعش) تغيرت، من مرحلة الدولة (المزعومة) إلى مرحلة (حروب النكاية) إلى مرحلة إعادة التنظيم والتموضع؛ وكل مرحلة تطرح الشكل المناسب لها. وفي هذه المرحلة (أي الآن)، أتصور أن التنظيم قد تشظى إلى مجموعات صغيرة، وأن هناك محاولة لكسب ولاء مجموعات جديدة في دول متعددة».
أما عمرو عبد المنعم، فقد لفت إلى أن «(داعش) فقد مركزية صناعة القرار الآن، وهناك عملية (انشطار) في المرحلة المقبلة للتنظيم، ولن يكرر التنظيم فكرة القيادة المركزية من جديد، لذلك لم يظهر (القرشي) على الإطلاق حتى الآن، لو كان له وجود حقيقي، وهذا على عكس ما كان يظهر به البغدادي، ويحث العناصر دائماً على الثبات والصبر»، محذراً في الوقت ذاته من «خطوة (حرب العصابات) التي قد يشنها التنظيم، وقتال الشوارع واستنزاف القوى الكبرى، وهي الاستراتيجية القديمة نفسها للتنظيم، مع زيادة العنصر (الانفرادي) الذي يعرف بـ(الذئاب المنفردة)».
وقال المراقبون إن «التنظيم تحول منذ سقوط بلدة الباغوز في مارس (آذار) الماضي، ونهاية (الخلافة المزعومة) بعد عدة سنوات من إرسائها، نحو اعتماد (نهج العصابات). وقاد البغدادي (داعش) بعد استيلائه على مناطق شاسعة في العراق وسوريا، قبل أن يتهاوى التنظيم خلال الأشهر الماضية نتيجة خسائره، وفرار عدد كبير من عناصره».