الإرهاب واستهداف المناسبات الدينية

ظاهرة خطرة تتعمد إثارة ردة فعل مضادة

رجال البحث الجنائي وضباط شرطة في موقع حادث الدهس في العاصمة برلين الذي أوقع 12 قتيلا وعشرات الجرحى (أ.ف.ب)
رجال البحث الجنائي وضباط شرطة في موقع حادث الدهس في العاصمة برلين الذي أوقع 12 قتيلا وعشرات الجرحى (أ.ف.ب)
TT

الإرهاب واستهداف المناسبات الدينية

رجال البحث الجنائي وضباط شرطة في موقع حادث الدهس في العاصمة برلين الذي أوقع 12 قتيلا وعشرات الجرحى (أ.ف.ب)
رجال البحث الجنائي وضباط شرطة في موقع حادث الدهس في العاصمة برلين الذي أوقع 12 قتيلا وعشرات الجرحى (أ.ف.ب)

تنامي خطاب الكراهية وتجريم الآخر دفع المتطرفين لإلغاء إنسانيتهم واستهداف الأبرياء في مناسباتهم الدينية بعيدًا عن الشعور بأي ذنب. فهؤلاء - بنظر المتطرفين - يستحقون الموت، لكونهم لا يتبعون النهج الصحيح الذي ينتهجونه هم. ولقد تنامت في الآونة الأخيرة العمليات الانتحارية التي تركز على أماكن العبادة كالمساجد والكنائس من جهة، واختيار مناسبات دينية يسهل فيها استهداف تجمّعات كبيرة من جهة أخرى. وتتفاوت العمليات الإرهابية حسب الإمكانيات لدى التنظيم المتطرف ومدى قدرته على شنها، بين عمليات قد تقتل العشرات وهم يمارسون طقوسهم الدينية، وأخرى تصل إلى إبادة جماعية وسعي إلى «التطهير المذهبي» بشكل وحشي بالأخص في العراق وسوريا.
العمليات الإرهابية التي تكثفت في الآونة الأخيرة، بالأخص في عام 2015، تعبّر في ظاهرها عن تحقير للأقليات الدينية والمذهبية في الشرق الأوسط وحقد عليها، على اعتبار أن أبناءها «كفار» لا تصب نياتهم وأفعالهم في مصلحة المسلمين «الحقيقيين»، إلا أنها تحمل في باطنها تعمّد التسبب باحتقان شعبي وإثارة الغضب والطائفية وتأليب الأقليات، ومن ثم استغلال التوتر لغايات سياسية.
في الفترة الأخيرة استهدفت العمليات الإرهابية مناسبات دينية كعاشوراء وصلاة الجمعة وعيد الميلاد (لدى المسيحيين). وغالبيتها تعمدت استهداف أماكن عبادة كالمساجد والكنائس، وهي أماكن يفترض أن تكون آمنة، الواضح هنا رغبة الجناة في إثارة الذعر بجانب قتل أو إيذاء أكبر عدد ممكن من الضحايا. وما حدث في القاهرة أخيرًا في الهجوم الانتحاري الذي استهدف الكنيسة البطرسية في 12 ديسمبر (كانون الأول) الحالي يعد أبرز مثال للسعي المتعمد لاستفزاز الأقليات وترويعها وإثارة غضبها، وكما هو معروف، نجم عن هذه العملية - الجريمة مقتل 25 شخصًا. وبعدها أصدر تنظيم داعش الإرهابي المتطرف بيانًا استفزازيًا عبر «وسائل إعلامه» جاء فيه: «وليعلم كل كافر ومرتد في مصر وفي كل مكان أن حربنا على الشرك مستمرة، وأن دولة الخلافة ماضية بإذن الله تعالى، في إراقة دمائهم وشوي أبدانهم».
وبطبيعة الحال، تسارعت ردود الفعل وتصريحات المسؤولين ورجال الدين في مصر لمحاولة تهدئة الوضع والتعقيب على الحادثة، ومنها تصريح الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي: «إن هذا الإرهاب الغادر إنما يستهدف الوطن بأقباطه ومسلميه، وإن مصر لن تزداد كعادتها إلا قوة وتماسكًا أمام هذه الظروف». ويذكر أنه سبق لتنظيم داعش أن أقدم من قبل على استهداف المسيحيين في كثير من المناسبات، من أبرزها تفجير كنيسة في ريف محافظة الحسكة الغربي بسوريا التي يعود تاريخ بنائها إلى ثلاثينات القرن الماضي، وذلك في 5 أبريل (نيسان) 2015م، وتزامنت الحادثة مع عيد الفصح.
ولم تقتصر العمليات الإرهابية على المسيحيين، بل استهدفت الشيعة في مناسبات دينية مختلفة، بدءًا بصلاة الجمعة وانتهاء بعاشوراء في المملكة العربية السعودية، كان أبرزها تفجير مسجد القديح في محافظة القطيف بتاريخ مايو (أيار) 2015م أثناء صلاة الجمعة، الذي استخدم فيه انتحاري حزامًا ناسفًا تسبب بمقتل 19 شخصًا. وكذلك تفجير الدالوة في محافظة الأحساء الذي استهدف حسينية في عاشوراء عام 2014م، وشهد مقتل 8 أشخاص، وبرر «داعش» - الذي تبنى الجريمتين - فعلتيه باعتباره المصلين في المسجد من «الرافضة» الذين يرميهم التنظيم بـ«الردّة». وفي الكويت، مع أن حادثة تفجير مسجد الإمام الصادق في الكويت - خلال يونيو (حزيران) 2015م إبان صلاة الجمعة - وصفت في حينها كحالة فردية، فلقد وصفها رئيس الوزراء الكويتي الشيخ جابر المبارك بـ«هجوم يستهدف الوحدة الوطنية» للبلاد.
وحقًا، امتد استهداف الأقليات الدينية ليصل إلى دول كثيرة أخرى خارج العالم العربي، أبرزها بنغلاديش وباكستان وأفغانستان، على أيدي تنظيمات متطرفة تشكل فروعًا لتنظيم داعش، أو تنظيمات أعلنت ولاءها وانتماءها له، كجماعة «بوكو حرام» التي عززت استهدافها للمسيحيين والشيعة من خلال عمليات إرهابية، أبرزها هجوم استهدف موكبًا شيعيًا في ولاية كانو بشمال نيجيريا تسبب بمقتل 22 شخصًا في نوفمبر (تشرين الثاني) 2015م.
في حين يشكل فيه طموح التنظيمات الإرهابية التي ترتكب جرائمها باسم الدين الحنيف - وهو منها براء - في المجتمعات المستقرة قتل العشرات من الأشخاص في مناسبات دينية، تفاقم الأمر في البلدان الأقل أمنًا، كالعراق وسوريا، ليتجاوز مناسبات معينة واصلاً إلى حد الإبادة.
هذه التنظيمات الإرهابية - بشقيها السني والشيعي - لعبت دورًا محوريًا في الترهيب وإثارة الفتن بين الطوائف الدينية المختلفة، الأمر الذي حدا إلى تنامي ظواهر متوحشة غير إنسانية. وكان مسلسل استهداف مرافق ومساجد عائدة للشيعة في العراق، قد بدأ بتعرض سامراء عام 2006م لتفجيرات استهدفت مراقد، وتفاقم الوضع بعد ذلك وازداد شراسة، في الاتجاهين. وفي تصريح لوزير الخارجية الأميركي جون كيري في 17 مارس (آذار) 2016م، قال كيري إن «(داعش) يرتكب إبادة بحق المسيحيين والإيزيديين والشيعة في المناطق التي يسيطر عليها في سوريا والعراق». وفي تصريحه تصنيف لما يقترفه تنظيم داعش على اعتبار أنه في خانة الإبادة. وتابع الوزير الأميركي: «الحقيقة هي أن (داعش) يقتل المسيحيين لأنهم مسيحيون، والإيزيديين لأنهم إيزيديون، والشيعة لأنهم شيعة». وحقًا، ليس من الصعب رؤية تنظيم داعش وتعمده محاربة الديانات والمذاهب الأخرى مما يصب في تأجيج الطائفية. ويبرز هذا التوجه عبر التسجيلات الصوتية والتصاريح التي تنشرها الجهات الإعلامية للتنظيم المتطرف. كدعوة زعيم التنظيم أبو بكر البغدادي أتباعه إلى قتال الشيعة، وإعرابه عن ثقته في تسجيلات كثيرة أخرى بانتصار أتباعه على الشيعة و«الصليبيين الغربيين» وحتى الدول السنّية التي يصفها بـ«المرتدة».
ويقابل توحش «داعش»، في الجهة المقابلة توحش الميليشيات الشيعية التابعة لإيران والمنضوية تحت لواء «الحشد الشعبي»، وارتكابها مجازر طائفية وهدم مساجد ومرافق تعود لأهل السنّة. وكانت هذه الميليشيات قد كثفت من عملياتها الطائفية العدوانية في محافظة ديالى بالعراق. الأمر الذي أوجد مؤشرات لعمليات تغيير ديموغرافية - بل قل «تطهيرًا مذهبيًا» - في ديالى التي يشكل السنة 60 في المائة من سكانها عبر إبادة وحشية مرعبة.
على صعيد آخر، ظهر جليًا خلال السنوات الماضية وجود خلاف حول مهاجمة الشيعة وتجريمهم بدءًا من عام 2004م، وذلك حين طرح أبو مصعب الزرقاوي، أحد قياديي «القاعدة» الأكثر حدة في عدائه للشيعة، استراتيجيات حملت استهدافًا واضحًا للشيعة. وعبر عن بعض طروحاته في هذا الشأن برسالة بعثها لقيادة «القاعدة» في أفغانستان شدد فيها على أهمية ضرب الشيعة «مرارًا وتكرارًا وبشكل عشوائي، وذلك لإثارة الفتنة الطائفية الأهلية التي من شأنها أن توحّد أهل السنة في العراق وفي أماكن أخرى». الأمر الذي خالفه فيه قيادي بارز آخر هو أبو محمد المقدسي، الذي اعتبر أن العمليات الانتحارية المكثفة ضد الشيعة ستؤدي لقتل مسلمين مدنيين. كذلك حض نائب زعيم «القاعدة» أيمن الظواهري على عدم قتل الشيعة وتجريمهم.
وفي رسالة نشرت عام 2013م، أورد الظواهري توجيهات لـ«المجاهدين» ركز فيها على أهمية «جلب المصالح ودرء المفاسد في هذه المرحلة»، وشدد على أهمية عدم مقاتلة الفرق التي أسماها بـ«المنحرفة»، ويشمل ذلك ما وصفهم بـ«الروافض والإسماعيلية والقاديانية والصوفية المنحرفة»، وذلك «ما لم تقاتل أهل السنة». وتابع الظواهري أن الرد يجب أن يقتصر على الجهات المقاتلة منها «مع بيان أننا ندافع عن أنفسنا، وتجنب ضرب غير مقاتليهم وأهاليهم في مساكنهم، وأماكن عباداتهم ومواسمهم وتجمعاتهم الدينية، مع الاستمرار في كشف باطلهم وانحرافهم العقائدي والسلوكي».
ومن جهة أخرى، دعا الظواهري إلى عدم التعرض للمسيحيين في البلاد الإسلامية، كما أمر تابعيه بالامتناع عن قتل الأهالي غير المحاربين، حتى لو كانوا أهالي من يقاتل «القاعدة»، والامتناع عن إيذاء المسلمين بتفجير أو خطف أو إتلاف مال أو ممتلكات. بالإضافة إلى الامتناع عن استهداف «الأعداء» في المساجد والأسواق والتجمعات التي يختلطون فيها بالمسلمين.
هذه التوجيهات تنم بوضوح - إلى حد ما - عن استخدام «القاعدة» نهجًا أكثر ليونة في الآونة الأخيرة. ويأتي في هذا السياق ربما نفي فرع التنظيم في اليمن ضلوعًا في تفجير 20 مارس 2015م الذي استهدف مسجدين للحوثيين في العاصمة صنعاء، مما تسبب في مقتل 140 شخصًا. فيومذاك قال في بيان: «ننفي علاقتنا بالتفجيرات التي استهدفت مساجد الحوثيين، ونؤكد التزامنا بتوجيهات الدكتور أيمن الظواهري بعد التفجير داخل المساجد والأسواق والأماكن المختلطة حفاظًا على دماء الأبرياء وتغليبًا للمصلحة العامة». وفي المقابل، نسب تنظيم داعش الحدث لنفسه، مما يؤكد النهج شديد التطرف للتنظيمات الأخيرة وقلة اكتراثها بأرواح الأبرياء في أماكن العبادة.
وحاليًا، في أوروبا وغيرها، يستمر تهديد التنظيمات الإرهابية للمناسبات الدينية، الذي استهدف خلال السنوات الثلاث الأخيرة احتفالات المسيحيين بالميلاد (الكريسماس) ورأس السنة، ويسعى قادة التنظيمات المتطرفة إلى تحريض شبان مسلمين مضللين ومغرر بهم على العنف.
وفي مايو 2015م، دعا أبو بكر البغدادي، فعلاً، المسلمين القاطنين في بلدان «غير إسلامية» إلى «حمل السلاح حيث يوجدون، أو الهجرة إلى مناطق نفوذ التنظيم في سوريا والعراق». وقال زعيم «داعش» في كلمة صوتية: «إن من ظن منكم أن بمقدوره أن يسالم اليهود والنصارى والكفار ويسالمونه فيتعايش معهم ويتعايشوا معه وهو على دينه وتوحيده فقد كذب قول ربه»، واستشهد بالآية القرآنية: «ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم».
كذلك أصدر «داعش» «تعليمات» جديدة لمقاتليه في أوروبا باستهداف غير المسلمين في الاحتفالات الدينية، والتشجيع على ارتكاب هجمات فردية بما هو أشبه بعمليات إجرامية لا إرهابية، وانتهاء بتهديدات كبيرة. ومن ثم بادرت الجهات الأمنية والرسمية في الولايات المتحدة ودول أوروبا وغيرها إلى التحذير من احتمال حدوث هجمات إرهابية، كان أبرزها تحذير وزارة الخارجية الأميركية رعاياها من هجمات إرهابية تشن في مختلف أنحاء أوروبا قبيل فترة رأس السنة الميلادية، وأن عليهم توخي الحذر في احتفالات الأعياد والمناسبات الأخرى وأماكن الاحتشاد كالأسواق. وأيضًا تحذير مكتب الشرطة الأوروبية (يوروبول) من أن التنظيمات الإرهابية، كتنظيم داعش، قد تلجأ إلى تقنيات تم استخدامها في سوريا والعراق ولم تطبقها في السابق في أوروبا كتفخيخ سيارات بالمتفجرات.
هذا يعني أن الإرهاب المقترف باسم الدين سيتخذ منحى جديدًا في السعي نحو إثارة الرعب وزعزعة الأمن بأسلوب المفاجأة، سواء كان ذلك عبر طعن فردي مباغت أو إطلاق نار أو تلغيم سيارات أو اجتياح الناس بشاحنات - كما حدث في نيس (فرنسا) وبرلين (ألمانيا) ويتفاوت استهداف الأشخاص بين أفراد وجماعات.
وسيصبح اقتراب الأعياد والاحتفالات الدينية بمثابة فرصة لإلحاق الأذى بكثير من الأبرياء الذين قرر قادة التطرّف تكفيرهم وشيطنتهم، وتولت الأدوات التي تنفذ العمليات الإرهابية تصفيتهم والتخلص منهم.



تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟