من التاريخ: مذبحتان سياسيتان في العصر العثماني

السلطان محمود الثاني
السلطان محمود الثاني
TT

من التاريخ: مذبحتان سياسيتان في العصر العثماني

السلطان محمود الثاني
السلطان محمود الثاني

على الرغم من أن التاريخ لم يسجل كثيرًا من الحالات التي قام فيها الملك أو السلطان بالتخلص من أعدائه عبر مذبحة جماعية، فإن القرن التاسع عشر شهد مذبحتين فاصلتين في التاريخ الإسلامي: الأولى في عهد والي مصر محمد علي باشا، والثانية في عهد السلطان العثماني محمود الثاني؛ الفارق الزمني بينهما 15 سنة بالتمام. وقد أسفرت المذبحتان بشكل مباشر عن انفراد الرجلين بالحكم في بلادهما، بلا منافس.
غير أن الحصيلة النهائية كانت مختلفة تمامًا بالنسبة للرجلين، ذلك أن الأول استغلها لصالح بناء مصر الحديثة، في حين فشل مشروع الثاني في تطوير الدولة العثمانية، ولكن الأغرب من ذلك أن محمد علي ومحمود الثاني تصادما سياسيًا وعسكريًا، وانتهت المواجهة بينهما بموت السلطان العثماني وهزيمة محمد علي في دائرة تاريخية قلما تحدث في التاريخ الحديث. ومن ثم، استخدم الرجلان الوسيلة ذاتها للتخلص من منافسيهما، لكنهما خسرا في نهاية المطاف.
واقع الأمر أن الأحوال في مصر كانت مضطربة للغاية بعد فشل الحملة الفرنسية على مصر والشام، وهروب نابليون بونابرت تاركًا البلاد في حالة من الفوضى العارمة. وانتهت هذه الحالة بصورة أو بأخرى بتولي أحد رجال اللواء الألباني الذي كان ضمن الجيش العثماني المكلف بطرد الفرنسيين، والذي أصبح اسمه فيما بعد مرتبطًا بالنهضة الحديثة لمصر، وهو محمد علي باشا آمر مصر. ومع أن دهاء الرجل السياسي مكنه من استمالة الشعب المصري لصالح تثبيته في الحكم، ولو مؤقتًا، فإن القوة الرئيسية التي كانت مسيطرة على مقاليد البلاد هي للمماليك. وهؤلاء، رغم هزيمتهم على أيدي القوات العثمانية، ظلوا الحكام الفعليين لمصر، بسطوتهم وتنظيماتهم العسكرية. ومن ناحية أخرى، مع أنهم حكموا مصر بالوكالة لصالح الدولة العثمانية، ظل المماليك شوكة في ظهرها. إلا أن التكلفة السياسية والعسكرية للتخلص منهم كانت باهظة على العثمانيين، مما اضطرهم للتعايش معهم.
ولكن مع انفراد محمد على بحكم مصر عام 1805، وبعد هزيمة الحملة البريطانية بقيادة الجنرال ألكسندر ماكنزي فريزر، أدرك محمد علي أنه لن يصفو له الحكم إلا بالتخلص من هذا «الطابور الخامس» الذي كانت له اتصالاته الخارجية وقوته العسكرية النسبية. ومن ثم، قرر هذا «الثعلب السياسي» استخدام الحيلة للتخلص من هذا العدو، فأبدى تعاطفًا معهم على مدار فترة حكمه. وذات يوم، دعاهم إلى احتفال كبير بمناسبة إحدى الحملات العسكرية الخارجية عام 1811، في القلعة، وجمعهم في بهوها، وقدم لهم الضيافة المناسبة، وبقيت قيادات المماليك تستمتع بالاحتفال العظيم دون أن تعلم بأمر الفخ الذي نصب لها. وفي ساعة محددة، أخلى رجال الوالي ساحة القلعة تدريجيًا، وبدأت أشهر مذبحة سياسية في تاريخ مصر، فتدفق الرصاص يحصد المماليك بلا رحمة.
وتقول بعض المصادر التاريخية إن محمد علي نفسه ارتعد إثر حصاد الموت الذي كان دائرًا، لكنه لم يكن لينسى ما فعله به المماليك، ومحاولتهم قتله والتخلص منه، وما أذاقوه لمصر من فساد وقسوة عارمة منذ أن انتهت خلافتهم في البلاد في عام 1517. وعلى الرغم من ارتجاف محمد علي وهو يرى المنظر، فإن تصميمه على التخلص من هذا «الطابور الخامس» لم يتأثر. وانتهت المذبحة في زمن قصير، وتناثرت الجثث والهام في ساحة القلعة، ولم يفلت من المماليك إلا واحدًا، وهو إبراهيم بك الذي تناثرت حوله الروايات والأساطير. وهكذا، تحقق التخلص التام من المماليك، ولم يعد لهم في مصر أي قوة تذكر بعد ذلك اليوم، ودانت مصر في عام 1811 للحكم المطلق لمحمد علي. وعلى جثث المماليك، بدأ الرجل ينظّم مصر بشكل مختلف، إلى أن صنع منها الدولة الحديثة التي هزّت أركان النظام السياسي الدولي في النصف الأول من القرن التاسع عشر، بجيش قوي وتنظيم داخلي محكم وقاعدة صناعية عسكرية كفلت للبلاد قدرًا كبيرًا من الاعتماد الذاتي.
على العدوة الأخرى من البحر المتوسط، في إسطنبول (الآستانة)، كان السلطان محمود الثاني الذي تولى السلطنة في 1808 يتابع مذبحة القلعة في مصر بقدر من القلق والانبهار، فبهذه الخطوة أصبح محمد علي الحاكم الفعلي لمصر، ولن يكون هناك أي «طابور خامس» يمكن للدولة العثمانية الاعتماد عليه للتخلص من هذا الوالي، ولكن عينيه كانتا تتمحوران على هذه الحيلة الذكية التي كفلت لواليه على مصر التخلص من أعدائه المنظمين. فإذا كان المماليك في مصر يعيثون في الأرض فسادًا، فإن مشكلته كانت أكبر وأعمق، إذ تحولت فيالق الإنكشارية إلى «دولة داخل الدولة» العثمانية. وتحولت هذه القوة العسكرية التي كانت تبث الخوف والذعر في قلوب أعداء الدولة العثمانية إلى أداة فساد ودمار داخلي في الجسد العثماني. وحقًا، كان الإنكشارية كثيري التمرد والتدخل في الشؤون الداخلية للبلاد، كما كانوا يعزلون السلاطين في مناسبات، أو يحاصرونهم حتى يغيروا القيادات السياسية، مستبيحين البلاد والأسواق بلا أية مراعاة للسلطة السياسية أو الحرمة الدينية للمواطنين. وبالمختصر، لم يعد من الممكن أن تتطور الدولة العثمانية وجيوشها ما استمرت هذه الفئة المنحرفة داخل المشهد السياسي. ومن ثم، كانت هناك ضرورة للتخلص منها تمامًا، ولكن كيفية إتمام هذه المهمة كانت تحتاج إلى فكر جديد استقاه السلطان من واليه على مصر، من خلال مذبحة جرى تدبيرها على نسق ما بات يعرف بـ«مذبحة القلعة» نفسه.
لقد بدأ السلطان محمود تحركه من خلال الإعلان عن تنظيم فيالق عسكرية جديدة، وبدأ بالفعل في تشكيل بعضها، وهو ما أثار حفيظة الإنكشارية في الآستانة. وصدق حدس السلطان مع تنظيم الإنكشارية عصيانهم المعهود؛ إنهم لم يدركوا هذه المرة أن السلطان كان قد أعد العدة للرد السريع. وبالفعل، بمجرد تحرك قوات الإنكشارية من ثكناتها، وتوجّهها نحو مضمار سباق الخيل الكبير للتجمع قبل التوجه إلى سراي السلطان، فوجئت بقوات السلطان تفتح عليها النيران في الشوارع الكبرى والأزقة، وهو ما اضطر القوات إلى التفرّق والتوجه نحو ثكناتها للتمركز، تمهيدًا لرد الاعتداء عليها. غير أن قوات السلطان لم تسع إلى محاولة اختراق الدفاعات الإنكشارية، بل أطلقت عليهم المدفعية الثقيلة، وقضت على كل مقاومتهم، ودمرت ثكناتهم. وأسفرت هذه المذبحة عن مقتل أربعة آلاف إنكشاري، إضافة إلى آلاف الآخرين خارج الثكنات. وبعد ذلك، أصدر السلطان التعليمات، فقضت قواته في سائر أنحاء الدولة العثمانية القضاء المبرم على الإنكشارية، سواء بالقتل أو النفي أو السجن، وبهذه الخطوة استطاع السلطان أن يتخلص من أكبر خطر واجه الدولة منذ نشأتها، إضافة إلى الطائفة البكتاشية التي كانت تساند هذه الفيالق. ولقد فتح هذا التطور المجال أمام بناء جيش عثماني قوي وعصري على أساس التجنيد الإجباري، متبعًا خطى مصر السريعة في تأسيس أول جيش وطني في المنطقة.
وعلى الرغم من أن السلطان محمود الثاني استطاع أن يقضى على الإنكشارية، ويسعى لبدء حركة الإصلاح السياسي والاقتصادي في الدولة العثمانية، فإن التحديات الخارجية كانت أقوى منه. إذ سرعان ما سعى لاسترداد سوريا من أيدي محمد علي باشا، وهو ما أدخله في حرب مع جيشها في عام 1839، مما أسفر عن هزيمة ساحقة للعثمانيين في نزيب. وفي العام نفسه، فقدت الدولة العثمانية جيشها الجديد، واستسلم أسطولها طوعًا لمصر، ومات السلطان محمود الثاني متأثرًا بفشله.
وأيًا كان التقييم الحقيقي لدور العناصر التي تمثل «الدويلة داخل الدولة»، كحال المماليك في مصر والإنكشارية في الدولة العثمانية، فإن طريقة التخلص منهم كانت واحدة. ولكن في دولة فتية متجانسة مثل مصر، استطاع الوالي أن يبني دولة قوية حديثة، بينما فشل السلطان محمود في إنهاض الدولة العثمانية العتيقة القليلة التجانس.



بوتسوانا... «ماسة أفريقيا» الباحثة عن استعادة بريقها

بوتسوانا... «ماسة أفريقيا» الباحثة عن استعادة بريقها
TT

بوتسوانا... «ماسة أفريقيا» الباحثة عن استعادة بريقها

بوتسوانا... «ماسة أفريقيا» الباحثة عن استعادة بريقها

خطفت بوتسوانا (بتشوانالاند سابقاً) أنظار العالم منذ أشهر باكتشاف ثاني أكبر ماسة في العالم، بيد أن أنظار المراقبين تخاطفت الإعجاب مبكراً بتلك الدولة الأفريقية الحبيسة، بفضل نموذجها الديمقراطي النادر في قارتها، وأدائها الاقتصادي الصاعد.

قد يكون هذا الإعجاب سجل خفوتاً في مؤشراته، خصوصاً مع موجة ركود وبطالة اجتاحت البلاد منذ سنوات قليلة، إلا أنه يبحث عن استعادة البريق مع رئيس جديد منتخب ديمقراطياً.

على عكس الكثير من دول «القارة السمراء»، لم تودّع بوتسوانا حقبة الاستعمار عام 1966 بمتوالية ديكتاتوريات وانقلابات عسكرية، بل اختارت صندوق الاقتراع ليفرز برلماناً تختار أغلبيته الرئيس. وأظهر أربعة من زعماء بوتسوانا التزاماً نادراً بالتنحي عن السلطة بمجرد استكمال مدّد ولايتهم المنصوص عليها دستورياً، بدءاً من كيتوميلي ماسيري، الذي خلف «السير» سيريتسي خاما عند وفاته في منصبه بصفته أول رئيس لبوتسوانا. وهذا التقليد الذي يصفه «مركز أفريقيا للدراسات الاستراتيجية» بأنه «مثير للإعجاب»، جنت بوتسوانا ثماره أخيراً بانتقال سلمي للسلطة إلى الحقوقي والمحامي اليساري المعارض دوما بوكو.

انتصار بوكو جاء بعد معركة شرسة مع الرئيس السابق موكغويتسي ماسيسي ومن خلفه الحزب الديمقراطي... الذي حكم البلاد لمدة قاربت ستة عقود.

ويبدو أن تجربة تأسيس الحزب الديمقراطي من زعماء قبائل ونُخَب أوروبية كانت العلامة الأهم في رسم المسار الديمقراطي لبوتسوانا، عبر ما يعرف بـ«الإدماج الناعم» لهؤلاء الزعماء القبليين في بنية الدولة. لكن المفارقة كانت «الدور الإيجابي للاستعمار في هذا الشأن»، وفق كلام كايلو موليفي مُستشار الديمقراطية في مكتب رئيس بوتسوانا السابق للإذاعة السويسرية. وتكمن كلمة السر هنا في «كغوتلا»، فبحسب موليفي، اختار البريطانيون الحُكم غير المُباشر، عبر تَرك السلطة للقادة القبليين لتسيير شؤون شعبهم، من دون التدخل بهياكل الحكم التقليدية القائمة.

نظام «كغوتلا» يقوم على «مجلس اجتماعي»، ويحق بموجبه لكل فرد التعبير عن نفسه، بينما يناط إلى زعيم القبيلة مسؤولية التوصل إلى القرارات المُجتمعية بتوافق الآراء. ووفق هذا التقدير، قاد التحالف البلاد إلى استقرار سياسي، مع أنه تعيش في بوتسوانا 4 قبائل أكبرها «التسوانا» - التي تشكل 80 في المائة من السكان وهي التي أعطت البلاد اسمها -، بجانب «الكالانغا» و«الباسار» و«الهرو».

وإلى جانب البنية الديمقراطية ودور القبيلة، كان للنشأة الحديثة للجيش البوتسواني في حضن الديمقراطية دور مؤثر في قطع الطريق أمام شهوة السلطة ورغباتها الانقلابية، بفضل تأسيسه في عام 1977 وإفلاته من صراعات مع الجيران في جنوب أفريقيا وزيمبابوي وناميبيا.

على الصعيد الاقتصادي، كان الاستعمار البريطاني سخياً – على نحو غير مقصود – مع بوتسوانا في تجربة الحكم، إلا أنه تركها 1966 سابع أفقر دولة بناتج محلي ضئيل وبنية تحتية متهالكة، أو قل شبه معدومة في بعض القطاعات.

مع هذا، انعكس التأسيس الديمقراطي، وفق محللين، على تجربة رئيسها الأول «السير» سيريتسي خاما؛ إذ مضى عكس اتجاه الرياح الأفريقية، منتهجاً نظام «رأسمالية الدولة»، واقتصاد السوق، إلى جانب حرب شنَّها ضد الفساد الإداري.

على صعيد موازٍ، أنعشت التجربة البوتسوانية تصدير اللحوم، كما عزّز اكتشاف احتياطيات مهمة من المعادن - لا سيما النحاس والماس - الاقتصاد البوتسواني؛ إذ تحتضن بلدة أورابا أكبر منجم للماس في العالم.

ثم إنه، خلال العقدين الأخيرين، جنت بوتسوانا - التي تغطي صحرء كالاهاري 70 في المائة من أرضها - ثمار سياسات اقتصادية واعدة؛ إذ قفز متوسط الدخل السنوي للمواطن البوتسواني إلى 16 ألف دولار أميركي مقابل 20 دولاراً، بإجمالي ناتج محلي بلغ 19.3 مليار دولار، وفق أرقام البنك الدولي. كذلك حازت مراكز متقدمة في محاربة الفساد بشهادة «منظمة الشفافية العالمية». ومع أن الرئيس البوتسواني المنتخب تسلم مهام منصبه هذا الأسبوع في ظل مستويات بطالة مرتفعة، وانكماش النشاط الاقتصادي المدفوع بانخفاض الطلب الخارجي على الماس، إلا أن رهان المتابعين يبقى قائماً على استعادة الماسة البوتسوانية بريقها.