بارك غيون هي... إرث سياسي ورئاسة معلقة

صداقة مؤذية تهدد بإنهاء الحياة السياسية لأول امرأة تترأس كوريا الجنوبية

بارك غيون هي... إرث سياسي ورئاسة معلقة
TT

بارك غيون هي... إرث سياسي ورئاسة معلقة

بارك غيون هي... إرث سياسي ورئاسة معلقة

تسارعت خلال الأسبوع إجراءات لإقالة رئيسة كوريا الجنوبية بارك غيون هي (64 سنة)، وذلك على الرغم من أن فريق محامي الرئيسة قد شدّدوا في تقرير رفعوه يوم الجمعة 16 ديسمبر (كانون الأول) الحالي إلى أعلى هيئة قضائية في البلاد، على أنه لا يوجد أي أساس قانوني لإقالتها. وتجدر الإشارة إلى أن الجمعية الوطنية (البرلمان) كانت قد صوتّت يوم 9 سبتمبر (أيلول) الماضي على إقالة بارك إثر اتهامها بفضيحة فساد كبرى أدت الضجة التي خلفتها إلى خروج ملايين الكوريين في مظاهرات حاشدة لتعطيل أعمال الحكومة. وفي أعقاب تصويت الجمعية الوطنية بتوجيه التهمة رسميًا إلى بارك، تولى هوانغ كيو آن، رئيس الحكومة، مقاليد الرئاسة مؤقتًا.
عندما يتداول الساسة والإعلاميون بكثرة كلمة «الديمقراطية»، وتطالب الدول الغربية العريقة في تقاليدها الديمقراطية دول العالم - ولا سيما في آسيا وأفريقيا - بانتهاج الديمقراطية، فإنها في معظم الأحيان تطالب بالسير على خطاها، واعتماد تجربتها.
غير أن الواقع الذي أخذ الغرب «الديمقراطي» يختبره، وخصوصا في أعقاب انتهاء «الحرب الباردة»، وسقوط «بديل» التحدي الشيوعي أو الاشتراكي، هو أنه لا توجد في السياسة الواقعية وصفات سحرية، ولا يمكن بالضرورة استنساخ التجارب، وتعميم التفاصيل، وتجاهل الخصوصيات في المجتمعات على امتداد العالم.
بكلام آخر، لا توجد آلية واحدة لمفهوم المجالس التشاورية أو التمثيلية تصدق بالتمام والكمال على مجتمعات مسيحية بيضاء في أوروبا - مثلاً - ذابت فيها المكونات العشائرية والعصبية والدينية، ومجتمعات في مناطق أفريقية حديثة الاستقلال ريفية أو رعوية الطابع، ما زالت الأواصر العائلية والعشائرية تحكم العلاقات الاقتصادية والاجتماعية، ومجتمعات آسيوية داخلت بنيتها التقليدية تجربة الحكم الشمولي، كحال بيئات الصين وكوريا الشمالية وفيتنام ولاوس. ومن ثم كان لا بد أن تتأثر «ثقافة الديمقراطية» في كل من هذه الأماكن بالتطورات التاريخية التي عاشتها وعايشتها.
في شرق آسيا أوضح نموذج على التعقيدات التي تتصل بتلاقي عدة ثقافات وتقاطعها أو تكاملها. ففي الصين ثمة ثلاثة نماذج في البرّ الصيني الشاسع (الصين الشعبية) حيث يشهد العالم اليوم أكبر عملية تفاعل ثقافي - اقتصادي - اجتماعي في العالم مع التحول التدريجي خلال أقل من مائة سنة من حالة زراعية ورعوية، إلى حالة شيوعية ثورية صارمة، والآن إلى حالة تنمية رأسمالية ناشطة. واليوم تمارس «الديمقراطية» في الصين بثلاثة أشكال: الأول في ظل حزب شيوعي قائد يتطور مع المقتضيات في الصين الشعبية، والثاني في ظل مفهوم ديمقراطي ليبرالي - محافظ - وقومي في تايوان (الصين الوطنية سابقًا)، والثالث في التجربة الاستثنائية لمستعمرة هونغ كونغ السابقة القائمة.
وفي اليابان، بعد الحرب العالمية الثانية، حصل «تزاوج» نادر ولافت بين مجتمع صناعي وعصري ومجتمع لم يتخل عن تقاليده الدينية والتراثية. ومن ثم، مع بدء التجربة الديمقراطية الجديدة في البلاد، سرعان ما حصل فرز بين القوى الليبرالية والمحافظة والاشتراكية. ومع ولادة الحزب الديمقراطي الحر من اندماج الحزبين الليبرالي والديمقراطي عام 1955، ومن ثم هيمنته على الحياة السياسية اليابانية لعقود، خرجت من داخل الحزب «أجنحة سياسية» صارت عمليًا أحزابًا وكتلاً لها زعاماتها المتوارثة داخل حزب السلطة القوي.

التجربة الكورية
غير أن الحالة الخاصة ذات الصلة، الآن، هي الحالة الكورية؛ فبعدما وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها انقسمت شبه الجزيرة بين شمال شيوعي دعمت وجوده الصين وحليفاتها الشيوعية، وجنوب رأسمالي قاتلت من أجله الولايات المتحدة ودول الغرب الكبرى عبر أروقة الأمم المتحدة.
كوريا، من ثم غدت دولتين، هما كوريا الجنوبية الرأسمالية الناهضة اقتصادية، وكوريا الشمالية الموغلة في تصلبها الشيوعي. ولكن في الحالتين لم تزدهر الديمقراطية التمثيلية تمامًا. فالشمال الشيوعي تحوّل إلى حكم عائلي وراثي وشبه عسكري خارج المنظومتين السوفياتية ثم الصينية، ولم يكن نظامًا شيوعيًا على النمط الأوروبي يتيح إمكانيات التغيير ولو من داخل الحزب. أما الجنوب الرأسمالي، فلم يظل طويلاً بمنأى عن الديكتاتورية العسكرية، التي استفادت إلى حد ما من مناخ الحرب الباردة. وكان الديكتاتور العسكري الأقوى، والأقوى بصمة في تاريخ كوريا الجنوبية، رجل عسكري لامع اسمه بارك تشونغ هي... والد الرئيسة بارك غيون هي.

بطاقة هوية
ولدت بارك غيون هي، رئيسة كوريا الجنوبية المقالة، يوم 2 فبراير (شباط) عام 1952 في مدينة دايغو بجنوب شرقي البلاد. وهي الابنة البكر لرجل كوريا القوي ورئيسها الثالث بارك تشونغ هي، الذي حكم البلاد بين عامي 1963 و1979 بعدما قاد انقلابًا في عام 1961، للرئيسة بارك شقيق وشقيقة.
الرئيسة - التي لم تتزوج - انتقلت مع عائلتها عام 1953 من دايغو إلى العاصمة سيول بحكم عمل الوالد العسكري. وفي سيول تلقت تعليمها الابتدائي والثانوي في مدرسة كاثوليكية تخرجت فيها عام 1970، وبعدها التحقت بجامعة سوغانغ بالعاصمة حيث تخرجت بدرجة بكالوريوس في الهندسة الإلكترونية عام 1974، ولاحقًا درست لبعض الوقت في جامعة غرونوبل الفرنسية، بيد أنها اضطرت للعودة إلى كوريا في أعقاب اغتيال أبيها - وكان إذ ذاك رئيسًا للجمهورية - في أكتوبر (تشرين الأول) عام 1979.
كذلك تحمل بارك رسائل دكتوراة فخرية من جامعة الصين الثقافية في تايوان، وجامعة سوغانغ ومعهد الدراسات العلمية والتقنية المتقدم في كوريا، وجامعة دريسدن التقنية في ألمانيا. وتتكلم بجانب اللغة الكورية اللغات الإنجليزية والفرنسية والصينية والإسبانية.

بداياتها مع السياسة
يمكن القول إن بارك غيون هي نشأت مع السياسة، ذلك أن أباها تولى السلطة الفعلية في البلاد قبل أن تبلغ العاشرة من العمر. وبعد ذلك، كانت «ابنة الرئيس» لمدة 16 سنة صقلت لها مفاهيمها وولاءاتها السياسية. ثم جاء اغتيال والدها ليسهم في تعميق تفاعلها مع عالم السلطة، بل قبل ذلك، عاشت الرئيسة الكورية تجربة مأساوية مؤثرة تمثلت في اغتيال أمها عام 1974 على يد مواطن كوري متعاطف مع كوريا الشمالية داخل مبنى المسرح الوطني الكوري في سيول يوم 15 أغسطس (آب) 1974. وبعد مقتل أمها صارت بارك «سيدة قصر الرئاسة» و«الذراع اليمنى» لأبيها الرئيس حتى اغتياله بعد أربع سنوات يوم 26 أكتوبر 1979 بيد رئيس جهاز استخباراته كيم جاي غيو. وبطبيعة الحال، طوال الفترة التي كانت فيها بصحبة أبيها كان معارضوه، في التيارات الليبرالية واليسارية، يعتبرونها شريكًا في سياسته الأمنية المحافظة الصارمة، بما في ذلك التوقيف العشوائي للمعارضين السياسيين، والتضييق على حرية التعبير والمعتقدات، وانتهاك كثير من حقوق الإنسان المألوفة في الديمقراطيات الغربية.
غير أن بارك، أجرت نوعًا من النقد الذاتي في المرحلة اللاحقة لنهاية حقبة الديكتاتورية العسكرية التي رسخها أبوها. وعام 2007 إبان انخراطها في العمل السياسي المدني والحزبي اعتذرت علنًا مبدية الأسف لخصومها السياسيين، ولا سيما للناشطين الذين اضطهدوا إبان فترة حكم أبيها على ما لحق بهم من ظلم.

النشاط الحزبي
الانخراط في العمل السياسي الحزبي وفّر لبارك «المدرسة السياسية» الثانية، بعد حياتها العائلية قبل أن تنتخب رئيسة، وتغدو أول امرأة تتولى رئاسة كوريا الجنوبية أو أي دولة في شمال شرقي آسيا.
لقد ترقت بارك في هذا المجال، تحديدًا في صفوف الحزب الوطني الكبير، الحزب المحافظ اليميني الأكبر في البلاد، وتولت في الفترة بين 2004 و2006 منصب رئيسة الحزب. وعادت لتولي رئاسة الحزب عامي 2011 و2012 وخلال هذه الفترة غيّر اسم الحزب إلى حزب «ساينوري» - أي «الحدود الجديدة» - وهو اليوم أكبر حزب في البرلمان الكوري، كما يسجل لها أنها قادت حزبها لعدد قياسي من الانتصارات الانتخابية. وداخل البرلمان - أو الجمعية الوطنية - انتخبت بارك وخدمت فيه أربع فترات متتالية بين عامي 1998 و2012 عندما انتخبت رئيسة للجمهورية.
وبعد انتخابها رئيسة اختارتها مجلة «فوربس» الأميركية المرموقة خلال العامين 2013 و2014 في المرتبة الـ11 من بين أقوى مائة امرأة في العالم وأكثرهن نفوذًا وتأثيرًا. بل، في عام 2014 وضعتها المجلة نفسها في المرتبة الـ46 من بين أكثر أقوى شخصيات العالم نفوذًا (رجالاً ونساءً).

رئيسة للجمهورية
بعد قيادة بارك حزبها لانتصار كبير في الانتخابات العامة عام 2012 ازدادت شعبيتها على المستوى الوطني وبات ينظر إليها بجدية على أنها زعيمة حقيقية تستطيع الذهاب إلى أبعد بالحزب والبلاد. وفي 19 ديسمبر (كانون الأول) 2012 فازت بمنصب الرئاسة حاصلة على نسبة 51.6 من المائة الأصوات. ويوم 25 فبراير تولت الزعيمة التي يصفها الكوريون بـ«الرئيسة الأكثر محافظة» السلطة.
وخلال السنوات الماضية منذ توليها المنصب أثبتت بارك، كما توقع محبوها وكارهوها، أنها سياسية صلبة ومحافظة، وأيضا مثيرة للجدل أحيانًا. وجاءت القضية التي أدت إلى اتهامها بالفساد والتحرك البرلماني لإقالتها في الأطر المألوفة لهشاشة خيوط الفصل بين المصالح السياسية والولاءات الشخصية والمحسوبيات عند القيادات التي تمارس الديمقراطية بوصفها نظاما سياسيا لكنها تظل أسيرة لحساباتها الخاصة.

آخر التطورات
القضية - الفضيحة تتصل بسيدة اسمها شوي سو سيل - التي هي صديقة شخصية للرئيسة بارك، باعتراف بارك، كانت قد أوقفت في بداية نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي وبدأت محاكمتها بتهمة الابتزاز واستغلال السلطة.
ولقد وجهت إلى شوي تهمة استغلال صداقتها مع الرئيسة لحمل الشركات الصناعية على دفع مبالغ تقارب الـ70 مليون دولار إلى شركات ومؤسسات أسستها وتملكها، إلى جانب شبهات حول تدخلها في شؤون الدولة. وبلغت الأمور حد تشكيل فريق من المحققين المستقلين يضم مدعين وشرطيين وقضاة ومحامين اختارهم محققو النيابة لتفتيش مقر الرئاسة لكشف غوامض الفضيحة، مع الإشارة إلى أن مكتب الرئاسة ذكر أن التفتيش يستند في اعتراضه على ملاحقة بارك إلى مادة في القانون الجزائي تحظر هذا النوع من العمليات في مكاتب رسمية تعتبر ذات أهمية عسكرية.
كذلك دفع فريق محامي بارك، عندما قدم خلال الأسبوع الماضي تقريره الواقع في 24 صفحة، بأن الاتهامات الموجهة إلى الرئيسة ليست مدعمة بأدلة، وبالتالي، ليس لها أساس قانوني. وكذلك بأنه لا يوجد أي دليل على أن الرئيسة انتهكت الدستور.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن الرئيسة بارك عرضت يوم 29 نوفمبر الاستقالة، ودعت الجمعية الوطنية لترتيب أمر نقل السلطة، إلا أن المعارضة رفضت معتبرة أن الرئيسة تحاول من خلال عرضها تجنب الإدانة. ومن ثم أقر النواب الإدانة بأصوات 234 نائبا، وعلقوا صلاحيات الرئيسة، وأسندوا الرئاسة مؤقتًا لرئيس الوزراء. ولكن في المقابل، ستحتفظ بارك بلقب الرئيسة إلى أن تبت المحكمة الدستورية بإلإقالة أو ترفضها. وهذه العملية يمكن أن تستغرق ستة أشهر.



الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
TT

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت تحظى بأولوية قصوى، خصوصاً بعد التهديدات الإسرائيلية بتوجيه ضربات عسكرية ضد الفصائل المسلحة العراقية التي استهدفتها بأكثر من 200 هجمة صاروخية خلال الأشهر الماضية. وأظهر رئيس الوزراء محمد شيّاع السوداني، موقفاً داعماً للحكومة السورية في ظروفها الحالية منذ اليوم الأول للهجوم الذي شنَّته الفصائل السورية المسلحة وتمكّنت من السيطرة على محافظة حلب ومدن أخرى، إذ أجرى اتصالاً بالرئيس السوري بشار الأسد وكذلك الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، وأكد دعمه لدمشق.

أعلن رئيس الحكومة العراقي محمد شيّاع السوداني، يوم الثلاثاء الماضي، موقفاً أكثر وضوحاً بالنسبة لدعم نظام دمشق، وذلك خلال اتصال - مماثل لاتصاليه مع القيادتين السورية والإيرانية - أجراه مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان.

ومما قاله السوداني إن «العراق لن يقف متفرجاً على التداعيات الخطيرة الحاصلة في سوريا، خصوصاً عمليات التطهير العرقي للمكوّنات والمذاهب هناك»، طبقاً لبيان حكومي.

كذلك شدّد الزعيم العراقي على أنه سبق لبلاده أن «تضرّرت من الإرهاب ونتائج سيطرة التنظيمات المتطرّفة على مناطق في سوريا، ولن يُسمَح بتكرار ذلك»، مؤكداً «أهمية احترام وحدة سوريا وسيادتها، وأن العراق سيبذل كل الجهود من أجل الحفاظ على أمنه وأمن سوريا».

محمد شياع السوداني (آ ف ب)

السوداني كان قد انهمك بسلسلة اتصالات خلال الأيام القليلة الماضية مع عدد من قادة الدول، بخصوص الوضع في سوريا؛ من «أجل دعم الاستقرار في المنطقة، وعدم حصول أي تداعيات فيها، خصوصاً مع ما تشهده من حرب إجرامية صهيونية مستمرة منذ أكثر من عام» بحسب بيان حكومي.

وأظهرت قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية موقفاً مماثلاً وداعماً لحكومة السوداني في مواقفها حيال سوريا، لكنها أعربت خلال اجتماع، الثلاثاء الماضي أيضاً، عن قلقها جراء الأوضاع في سوريا بعد «احتلال الإرهابيين مناطق مهمة» طبقاً لبيان صدر عن الاجتماع. وعدّت «أمن سوريا امتداداً للأمن القومي العراقي للجوار الجغرافي بين البلدين، والامتدادات المختلفة لذلك الجوار».

الحدود المشتركة مؤمّنة

للعلم، مع الشرارة الأولى لاندلاع الأزمة السورية، اتخذت السلطات العراقية على المستوى الأمني إجراءات عديدة «لتأمين» حدودها الممتدة لأكثر من 600 كيلومتر مع سوريا. وصدرت بيانات كثيرة حول جاهزية القوات العراقية وقدرتها على التصدّي لأي محاولة توغّل داخل الأراضي العراقية من قبل الفصائل المسلحة من الجانب السوري، مثلما حدث صيف عام 2014، حين تمكَّنت تلك الجماعات من كسر الحدود المشتركة والسيطرة على مساحات واسعة من العراق.

اللواء يحيى رسول، الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة العراقية، أوضح (الثلاثاء) أبرز الإجراءات المُتَّخذة لتحصين الحدود مع سوريا. وقال في تصريحات صحافية إن «الحدود مؤمَنة ومُحكمة بشكل كبير من تحكيمات وتحصينات، وهناك وجود لقوات الحدود على خط الصفر الذي يربطنا مع الجارة سوريا مدعومة بالأسلحة الساندة والجهد الفني، المتمثل بالكاميرات الحرارية وأبراج المراقبة المحصّنة». وأضاف رسول: «لا خوف على الحدود العراقية، فهي مؤمّنة ومحكمة ومحصّنة، وأبطالنا منتشرون على طولها»، مشيراً إلى أنه «تم تعزيز الحدود بقطاعات من الألوية المدرعة وهي موجودة أيضاً عند الحدود».

أيضاً، وصل وفد أمني برئاسة الفريق أول قوات خاصة الركن عبد الأمير رشيد يارالله، رئيس أركان الجيش، يوم الأربعاء، إلى الشريط الحدودي العراقي - السوري. وذكر بيان عسكري أن «هدف الزيارة جاء لمتابعة انتشار القطعات الأمنية وانفتاح خطوط الصد».

غموض في الموقف

إلا أنه حتى مع المواقف الحكومية الداعمة لدمشق في أزمتها الراهنة، يبدو جلياً «الالتباس» بالنسبة لكثرة من المراقبين، وبالأخص لجهة شكل ذلك الدعم وطبيعته، وما إذا كانت السلطات الحكومية العراقية ستنخرط بقوة لمساعدة نظام الأسد عسكرياً، أم أنها ستبقى عند منطقة الدعم السياسي والدبلوماسي، تاركة أمر الانخراط والمساعدة الميدانية للفصائل المسلحة.

وهنا يلاحظ إياد العنبر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد، وجود «التباس واضح حيال الموقف من الحدث السوري، وهذا الالتباس نختبره منذ سنوات، وليس هناك تمييز واضح بين العراق الرسمي وغير الرسمي». وتابع العنبر لـ«الشرق الأوسط» أن «مستويات تفعيل المساهمة العراقية في الحرب غير واضحة، وإذا ما قررت الحكومة البقاء على المستوى الدبلوماسي بالنسبة لقضة دعم سوريا، أم أن هناك مشاركة عسكرية».

غير أن إحسان الشمري، أستاذ الدراسات الاستراتيجية والدولية في جامعة بغداد، يعتقد بأن «العراق الرسمي عبَر عتبة التردّد، وبات منخرطاً في الأزمة السورية». وفي لقاء مع «الشرق الأوسط» بنى الشمري فرضيته على مجمل المواقف الرسمية التي صدرت عن رئيس الوزراء، والناطق الرسمي، وزعماء «الإطار التنسيقي»، وشرح قائلاً إن «هذه المواقف بمجملها كسرت مبدأ الحياد وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى الذي يتمسّك به العراق، إلى جانب كونها انخراطاً رسمياً عراقياً بالأزمة السورية».

نتنياهو غير مضمون

ولكن، بعيداً عن الانشغال الراهن بالأزمة السورية، ما زالت التهديدات الإسرائيلية بين أهم القضايا التي تشغل الرأي العام ببعدَيه السياسي والشعبي. وحتى مع الترحيب العراقي بقرار وقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حزب الله»، ما زالت مخاوف البلاد من ضربة إسرائيلية محتملة قائمةً.

ولقد قال الناطق باسم الحكومة باسم العوادي، الأربعاء قبل الماضي، في تصريحات صحافية، إنه «مع عملية وقف إطلاق النار في لبنان، نحن أنهينا الجزء الأسهل، فالمعركة انتهت والحرب لم تنتهِ، فالأصعب أنك ستدخل بالمخططات غير المعلومة. ونحن (العراق) واقعون في المنطقة الحرام، لكن السياسة العقلانية المتوازنة استطاعت أن تجنبنا الضرر».

وأجاب، من ثم، عن طبيعة الرد العراقي إذا ما هاجمت إسرائيل أراضيه، بالقول: «إلى حد أيام قليلة كانت تأتي نتائج جيدة من المعادلات التي اشتغل عليها رئيس الوزراء، لكن رغم ذلك فلا أحد يضمن ما الذي يدور في بال حكومة نتنياهو، وما هو القادم مع الإدارة الأميركية الجديدة، وكيف سيتصرف نتنياهو».

وتابع العوادي، أن «الإسرائيليين عملوا على تفكيك الساحات، وتوجيه ضربات إلى اليمن وسوريا، لكن الطرف العراقي هو الوحيد الذي لم يستطيعوا الوصول إليه بفضل المعادلة... وقد يكونون وضعونا للحظات الأخيرة أو الأيام الأخيرة بنوع ما، وهذا وارد جداً، وتتعامل الحكومة العراقية مع ذلك».

شبح هجوم إسرائيلي

وحقاً، لا يزال شبح هجوم إسرائيلي واسع يخيم على بغداد، إذ تناقلت أوساط حزبية تحذيرات جدية من شنِّ ضربات جوية على العراق. وفي وقت سابق، قال مصدر مقرّب من قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، لـ«الشرق الأوسط»، إنَّ «مخاوف الأحزاب الشيعية من جدية التهديد دفعتها إلى مطالبة رئيس الحكومة للقيام بما يلزم لمنع الهجمات». وأكَّد المصدر أنَّ «فصائل عراقية مسلّحة لجأت أخيراً إلى التحرك في أجواء من التكتم والسرية، وقد جرى بشكل مؤكد إبدال معظم المواقع العسكرية التابعة لها».

وفي سياق متصل، تتحدَّث مصادر صحافية عمَّا وصفتها بـ«التقديرات الحكومية» التي تشير إلى إمكانية تعرّض البلاد لـ«300 هجوم إسرائيلي». وفي مطلع الأسبوع الماضي، شدَّدت وزارة الخارجية العراقية، في رسالة إلى مجلس الأمن، على أهمية «تدخل المجتمع الدولي لوقف هذه السلوكيات العدوانية لإسرائيل».

كما أنَّه حيال التهديدات الجدية والخشية الحقيقية من عمل عسكري إسرائيل ضد البلاد، اهتدت بعض الشخصيات والأجواء المقرّبة من الحكومة والفصائل إلى «رمي الكرة» في الملعب الأميركي، مستندين بذلك إلى اتفاقية «الإطار الاستراتيجي» المُوقَّعة منذ عام 2011، بين بغداد وواشنطن، وهو العام الذي خرجت فيه القوات الأميركية من العراق.

التهديدات الإسرائيلية من أهم القضايا التي تشغل الرأي العام العراقي

هادي العامري (رووداو)

العامري يلوم واشنطن

أيضاً، وجد هادي العامري، زعيم منظمة «بدر»، بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، الفرصة ليحمّل واشنطن مسؤولية حماية الأجواء العراقية، بعدما شنَّت إسرائيل هجوماً عسكرياً ضد إيران، مستخدمةً الأجواء العراقية في هجماتها. ويومذاك، حمّل العامري الجانب الأميركي «المسؤولية الكاملة» على انتهاك إسرائيل سيادة الأجواء العراقية في طريقها لضرب إيران. وقال، إن «الجانب الأميركي أثبت مجدّداً إصراره على الهيمنة على الأجواء العراقية، وعمله بالضد من مصالح العراق وشعبه وسيادته، بل سعيه لخدمة الكيان الصهيوني وإمداده بكل ما يحتاج إليه لممارسة أساليبه العدوانية، وتهديده للسلام والاستقرار في المنطقة».

وأضاف العامري: «لهذا باتت الحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى لإنهاء الوجود العسكري الأميركي في العراق بأشكاله كافة». وللعلم، فإن منظمة «بدر» - التي يقودها العامري - وردت ضمن لائحة المنظمات التي اتهمتها إسرائيل بشنِّ هجمات ضدها خلال الشكوى التي قدمتها إلى مجلس الأمن في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

وبناءً على تصريحات العامري السالفة، وتصريحات أخرى لشخصيات مقرّبة من الفصائل المسلحة وقوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، تبلورت خلال الأسبوع الأخير، قناعة داخل أوساط هذه القوى مفادها، بأن واشنطن «ملزمة وبشكل مباشر بحماية الأجواء العراقية» من أي هجوم محتمل من إسرائيل أو غيرها، أخذاً في الاعتبار الاتفاقية الاستراتيجية الموقعة و«سيطرتها على الأجواء العراقية».

وبالتوازي، سبق أن حمّل فادي الشمري، المستشار السياسي لرئيس الوزراء، الولايات المتحدة، أيضاً وفقاً لـ«اتفاقية الإطار الاستراتيجي والاتفاقية الأمنية»، مسؤولية «الردع، والرد على أي هجمات خارجية تمسّ الأمن الداخلي العراقي».

الرد الأميركي قاطع

في المقابل، تخلي واشنطن مسؤوليتها حيال هذا الأمر. ورداً على المزاعم العراقية المتعلقة بـ«الحماية الأميركية»، قالت ألينا رومانوسكي، السفيرة الأميركية في بغداد، صراحةً إن بلادها غير معنية بذلك. وأردفت رومانوسكي، خلال مقابلة تلفزيونية سابقة، أن التحالف الدولي دُعي إلى العراق لـ«محاربة (داعش) قبل 10 سنوات، وقد حققنا إنجازات على مستوى هزيمة هذا التنظيم، لكنه ما زال يمثل بعض التهديد، ودعوة الحكومة العراقية لنا تتعلق بهذا الجانب حصراً. أما اتفاقية الإطار الاستراتيجي فتلزمنا ببناء القدرات العسكرية العراقية، لكنها لا تتطرق لمسألة حماية الأجواء والدفاع بالنيابة». ونفت السفيرة أن تكون بلادها قد «فرضت سيطرتها على سماء العراق».

والاثنين قبل الماضي، قالت رومانوسكي، خلال لقاء «طاولة مستديرة» لعدد من وسائل الإعلام: «أود أن أكون واضحة جداً، ومنذ البداية، بأن الإسرائيليين وجّهوا تحذيرات ردع للميليشيات المدعومة إيرانياً والموجودة هنا في العراق، التي تعتدي على إسرائيل». وأضافت: «هذه الميليشيات هي التي بدأت الاعتداء على إسرائيل. ولأكون واضحة جداً في هذه النقطة، فإن الإسرائيليين حذّروا حكومة العراق بأن يوقف هذه الميليشيات عن اعتداءاتها المتكررة والمستمرة على إسرائيل... إن رسالتنا إلى حكومة العراق هي أن تسيطر على هذه الميليشيات المنفلتة، والتي لا تعتد بأوامر الحكومة وأوامر القائد العام للقوات المسلحة رئيس الوزراء. إن إسرائيل دولة لها سيادتها، وهي سترد على أي اعتداء من أي مكان ضدها».

جدعون ساعر (آ ف ب)

 

حقائق

قلق عراقي جدّي من التهديدات الإسرائيلية مع مطالبة واشنطن بالتدخّل

خلال الأسبوع قبل الماضي، بعث وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر رسالةً إلى مجلس الأمن تكلّم فيها عمّا أسماه بـ«حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، وحمّل فيها الحكومة العراقية المسؤولية عن الهجمات التي تشنها الفصائل العراقية عليها، داعياً مجلس الأمن للتحرك والتأكد من أن الحكومة العراقية تفي بالتزاماتها. ساعر اتّهم بالتحديد «عصائب أهل الحق» و«كتائب حزب الله» و«ألوية بدر» وحركة «النُّجباء» و«أنصار الله الأوفياء» و«كتائب سيد الشهداء»، بمهاجمة إسرائيل، ومعظم هذه الفصائل مشاركة في الحكومة العراقية الحالية ولها نفوذ كبير داخلها. هنا، تجدر الإشارة إلى أنه سبق لرئاسة الوزراء العراقية توجيه وزارة الخارجية لمتابعة ملف التهديدات الإسرائيلية في المحافل الأممية والدولية وأمام هيئات منظمة الأمم المتحدة، واتخاذ كل الخطوات اللازمة، وفق مبادئ القانون الدولي، لحفظ حقوق العراق وردع تهديدات إسرائيل العدوانية. كذلك طالبت رئاسة الوزراء بـ«دعوة جامعة الدول العربية إلى اتخاذ موقف حازم وموحّد ضد تهديدات سلطات الكيان المحتل، يتضمن إجراءات عملية تستند إلى وحدة المصير والدفاع المشترك». وهذا بجانب «مطالبة مجلس الأمن الدولي بالنظر في الشكاوى المقدمة من جمهورية العراق ضد سلطات الكيان المحتل، واتخاذ إجراءات رادعة تكفل تحقيق الاستقرار والسِّلم الإقليمي والدولي»، وباتخاذ الولايات المتحدة مع العراق، من خلال الحوارات الأمنية والعسكرية ضمن إطار القسم الثالث من «اتفاقية الإطار الاستراتيجي»، خطوات فعالة «لردع سلطات الكيان المحتل» مع دعوة «التحالف الدولي والدول الأعضاء فيه إلى كبح هذه التهديدات والحدّ من اتساع رقعة الحرب».