بارك غيون هي... إرث سياسي ورئاسة معلقة

صداقة مؤذية تهدد بإنهاء الحياة السياسية لأول امرأة تترأس كوريا الجنوبية

بارك غيون هي... إرث سياسي ورئاسة معلقة
TT

بارك غيون هي... إرث سياسي ورئاسة معلقة

بارك غيون هي... إرث سياسي ورئاسة معلقة

تسارعت خلال الأسبوع إجراءات لإقالة رئيسة كوريا الجنوبية بارك غيون هي (64 سنة)، وذلك على الرغم من أن فريق محامي الرئيسة قد شدّدوا في تقرير رفعوه يوم الجمعة 16 ديسمبر (كانون الأول) الحالي إلى أعلى هيئة قضائية في البلاد، على أنه لا يوجد أي أساس قانوني لإقالتها. وتجدر الإشارة إلى أن الجمعية الوطنية (البرلمان) كانت قد صوتّت يوم 9 سبتمبر (أيلول) الماضي على إقالة بارك إثر اتهامها بفضيحة فساد كبرى أدت الضجة التي خلفتها إلى خروج ملايين الكوريين في مظاهرات حاشدة لتعطيل أعمال الحكومة. وفي أعقاب تصويت الجمعية الوطنية بتوجيه التهمة رسميًا إلى بارك، تولى هوانغ كيو آن، رئيس الحكومة، مقاليد الرئاسة مؤقتًا.
عندما يتداول الساسة والإعلاميون بكثرة كلمة «الديمقراطية»، وتطالب الدول الغربية العريقة في تقاليدها الديمقراطية دول العالم - ولا سيما في آسيا وأفريقيا - بانتهاج الديمقراطية، فإنها في معظم الأحيان تطالب بالسير على خطاها، واعتماد تجربتها.
غير أن الواقع الذي أخذ الغرب «الديمقراطي» يختبره، وخصوصا في أعقاب انتهاء «الحرب الباردة»، وسقوط «بديل» التحدي الشيوعي أو الاشتراكي، هو أنه لا توجد في السياسة الواقعية وصفات سحرية، ولا يمكن بالضرورة استنساخ التجارب، وتعميم التفاصيل، وتجاهل الخصوصيات في المجتمعات على امتداد العالم.
بكلام آخر، لا توجد آلية واحدة لمفهوم المجالس التشاورية أو التمثيلية تصدق بالتمام والكمال على مجتمعات مسيحية بيضاء في أوروبا - مثلاً - ذابت فيها المكونات العشائرية والعصبية والدينية، ومجتمعات في مناطق أفريقية حديثة الاستقلال ريفية أو رعوية الطابع، ما زالت الأواصر العائلية والعشائرية تحكم العلاقات الاقتصادية والاجتماعية، ومجتمعات آسيوية داخلت بنيتها التقليدية تجربة الحكم الشمولي، كحال بيئات الصين وكوريا الشمالية وفيتنام ولاوس. ومن ثم كان لا بد أن تتأثر «ثقافة الديمقراطية» في كل من هذه الأماكن بالتطورات التاريخية التي عاشتها وعايشتها.
في شرق آسيا أوضح نموذج على التعقيدات التي تتصل بتلاقي عدة ثقافات وتقاطعها أو تكاملها. ففي الصين ثمة ثلاثة نماذج في البرّ الصيني الشاسع (الصين الشعبية) حيث يشهد العالم اليوم أكبر عملية تفاعل ثقافي - اقتصادي - اجتماعي في العالم مع التحول التدريجي خلال أقل من مائة سنة من حالة زراعية ورعوية، إلى حالة شيوعية ثورية صارمة، والآن إلى حالة تنمية رأسمالية ناشطة. واليوم تمارس «الديمقراطية» في الصين بثلاثة أشكال: الأول في ظل حزب شيوعي قائد يتطور مع المقتضيات في الصين الشعبية، والثاني في ظل مفهوم ديمقراطي ليبرالي - محافظ - وقومي في تايوان (الصين الوطنية سابقًا)، والثالث في التجربة الاستثنائية لمستعمرة هونغ كونغ السابقة القائمة.
وفي اليابان، بعد الحرب العالمية الثانية، حصل «تزاوج» نادر ولافت بين مجتمع صناعي وعصري ومجتمع لم يتخل عن تقاليده الدينية والتراثية. ومن ثم، مع بدء التجربة الديمقراطية الجديدة في البلاد، سرعان ما حصل فرز بين القوى الليبرالية والمحافظة والاشتراكية. ومع ولادة الحزب الديمقراطي الحر من اندماج الحزبين الليبرالي والديمقراطي عام 1955، ومن ثم هيمنته على الحياة السياسية اليابانية لعقود، خرجت من داخل الحزب «أجنحة سياسية» صارت عمليًا أحزابًا وكتلاً لها زعاماتها المتوارثة داخل حزب السلطة القوي.

التجربة الكورية
غير أن الحالة الخاصة ذات الصلة، الآن، هي الحالة الكورية؛ فبعدما وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها انقسمت شبه الجزيرة بين شمال شيوعي دعمت وجوده الصين وحليفاتها الشيوعية، وجنوب رأسمالي قاتلت من أجله الولايات المتحدة ودول الغرب الكبرى عبر أروقة الأمم المتحدة.
كوريا، من ثم غدت دولتين، هما كوريا الجنوبية الرأسمالية الناهضة اقتصادية، وكوريا الشمالية الموغلة في تصلبها الشيوعي. ولكن في الحالتين لم تزدهر الديمقراطية التمثيلية تمامًا. فالشمال الشيوعي تحوّل إلى حكم عائلي وراثي وشبه عسكري خارج المنظومتين السوفياتية ثم الصينية، ولم يكن نظامًا شيوعيًا على النمط الأوروبي يتيح إمكانيات التغيير ولو من داخل الحزب. أما الجنوب الرأسمالي، فلم يظل طويلاً بمنأى عن الديكتاتورية العسكرية، التي استفادت إلى حد ما من مناخ الحرب الباردة. وكان الديكتاتور العسكري الأقوى، والأقوى بصمة في تاريخ كوريا الجنوبية، رجل عسكري لامع اسمه بارك تشونغ هي... والد الرئيسة بارك غيون هي.

بطاقة هوية
ولدت بارك غيون هي، رئيسة كوريا الجنوبية المقالة، يوم 2 فبراير (شباط) عام 1952 في مدينة دايغو بجنوب شرقي البلاد. وهي الابنة البكر لرجل كوريا القوي ورئيسها الثالث بارك تشونغ هي، الذي حكم البلاد بين عامي 1963 و1979 بعدما قاد انقلابًا في عام 1961، للرئيسة بارك شقيق وشقيقة.
الرئيسة - التي لم تتزوج - انتقلت مع عائلتها عام 1953 من دايغو إلى العاصمة سيول بحكم عمل الوالد العسكري. وفي سيول تلقت تعليمها الابتدائي والثانوي في مدرسة كاثوليكية تخرجت فيها عام 1970، وبعدها التحقت بجامعة سوغانغ بالعاصمة حيث تخرجت بدرجة بكالوريوس في الهندسة الإلكترونية عام 1974، ولاحقًا درست لبعض الوقت في جامعة غرونوبل الفرنسية، بيد أنها اضطرت للعودة إلى كوريا في أعقاب اغتيال أبيها - وكان إذ ذاك رئيسًا للجمهورية - في أكتوبر (تشرين الأول) عام 1979.
كذلك تحمل بارك رسائل دكتوراة فخرية من جامعة الصين الثقافية في تايوان، وجامعة سوغانغ ومعهد الدراسات العلمية والتقنية المتقدم في كوريا، وجامعة دريسدن التقنية في ألمانيا. وتتكلم بجانب اللغة الكورية اللغات الإنجليزية والفرنسية والصينية والإسبانية.

بداياتها مع السياسة
يمكن القول إن بارك غيون هي نشأت مع السياسة، ذلك أن أباها تولى السلطة الفعلية في البلاد قبل أن تبلغ العاشرة من العمر. وبعد ذلك، كانت «ابنة الرئيس» لمدة 16 سنة صقلت لها مفاهيمها وولاءاتها السياسية. ثم جاء اغتيال والدها ليسهم في تعميق تفاعلها مع عالم السلطة، بل قبل ذلك، عاشت الرئيسة الكورية تجربة مأساوية مؤثرة تمثلت في اغتيال أمها عام 1974 على يد مواطن كوري متعاطف مع كوريا الشمالية داخل مبنى المسرح الوطني الكوري في سيول يوم 15 أغسطس (آب) 1974. وبعد مقتل أمها صارت بارك «سيدة قصر الرئاسة» و«الذراع اليمنى» لأبيها الرئيس حتى اغتياله بعد أربع سنوات يوم 26 أكتوبر 1979 بيد رئيس جهاز استخباراته كيم جاي غيو. وبطبيعة الحال، طوال الفترة التي كانت فيها بصحبة أبيها كان معارضوه، في التيارات الليبرالية واليسارية، يعتبرونها شريكًا في سياسته الأمنية المحافظة الصارمة، بما في ذلك التوقيف العشوائي للمعارضين السياسيين، والتضييق على حرية التعبير والمعتقدات، وانتهاك كثير من حقوق الإنسان المألوفة في الديمقراطيات الغربية.
غير أن بارك، أجرت نوعًا من النقد الذاتي في المرحلة اللاحقة لنهاية حقبة الديكتاتورية العسكرية التي رسخها أبوها. وعام 2007 إبان انخراطها في العمل السياسي المدني والحزبي اعتذرت علنًا مبدية الأسف لخصومها السياسيين، ولا سيما للناشطين الذين اضطهدوا إبان فترة حكم أبيها على ما لحق بهم من ظلم.

النشاط الحزبي
الانخراط في العمل السياسي الحزبي وفّر لبارك «المدرسة السياسية» الثانية، بعد حياتها العائلية قبل أن تنتخب رئيسة، وتغدو أول امرأة تتولى رئاسة كوريا الجنوبية أو أي دولة في شمال شرقي آسيا.
لقد ترقت بارك في هذا المجال، تحديدًا في صفوف الحزب الوطني الكبير، الحزب المحافظ اليميني الأكبر في البلاد، وتولت في الفترة بين 2004 و2006 منصب رئيسة الحزب. وعادت لتولي رئاسة الحزب عامي 2011 و2012 وخلال هذه الفترة غيّر اسم الحزب إلى حزب «ساينوري» - أي «الحدود الجديدة» - وهو اليوم أكبر حزب في البرلمان الكوري، كما يسجل لها أنها قادت حزبها لعدد قياسي من الانتصارات الانتخابية. وداخل البرلمان - أو الجمعية الوطنية - انتخبت بارك وخدمت فيه أربع فترات متتالية بين عامي 1998 و2012 عندما انتخبت رئيسة للجمهورية.
وبعد انتخابها رئيسة اختارتها مجلة «فوربس» الأميركية المرموقة خلال العامين 2013 و2014 في المرتبة الـ11 من بين أقوى مائة امرأة في العالم وأكثرهن نفوذًا وتأثيرًا. بل، في عام 2014 وضعتها المجلة نفسها في المرتبة الـ46 من بين أكثر أقوى شخصيات العالم نفوذًا (رجالاً ونساءً).

رئيسة للجمهورية
بعد قيادة بارك حزبها لانتصار كبير في الانتخابات العامة عام 2012 ازدادت شعبيتها على المستوى الوطني وبات ينظر إليها بجدية على أنها زعيمة حقيقية تستطيع الذهاب إلى أبعد بالحزب والبلاد. وفي 19 ديسمبر (كانون الأول) 2012 فازت بمنصب الرئاسة حاصلة على نسبة 51.6 من المائة الأصوات. ويوم 25 فبراير تولت الزعيمة التي يصفها الكوريون بـ«الرئيسة الأكثر محافظة» السلطة.
وخلال السنوات الماضية منذ توليها المنصب أثبتت بارك، كما توقع محبوها وكارهوها، أنها سياسية صلبة ومحافظة، وأيضا مثيرة للجدل أحيانًا. وجاءت القضية التي أدت إلى اتهامها بالفساد والتحرك البرلماني لإقالتها في الأطر المألوفة لهشاشة خيوط الفصل بين المصالح السياسية والولاءات الشخصية والمحسوبيات عند القيادات التي تمارس الديمقراطية بوصفها نظاما سياسيا لكنها تظل أسيرة لحساباتها الخاصة.

آخر التطورات
القضية - الفضيحة تتصل بسيدة اسمها شوي سو سيل - التي هي صديقة شخصية للرئيسة بارك، باعتراف بارك، كانت قد أوقفت في بداية نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي وبدأت محاكمتها بتهمة الابتزاز واستغلال السلطة.
ولقد وجهت إلى شوي تهمة استغلال صداقتها مع الرئيسة لحمل الشركات الصناعية على دفع مبالغ تقارب الـ70 مليون دولار إلى شركات ومؤسسات أسستها وتملكها، إلى جانب شبهات حول تدخلها في شؤون الدولة. وبلغت الأمور حد تشكيل فريق من المحققين المستقلين يضم مدعين وشرطيين وقضاة ومحامين اختارهم محققو النيابة لتفتيش مقر الرئاسة لكشف غوامض الفضيحة، مع الإشارة إلى أن مكتب الرئاسة ذكر أن التفتيش يستند في اعتراضه على ملاحقة بارك إلى مادة في القانون الجزائي تحظر هذا النوع من العمليات في مكاتب رسمية تعتبر ذات أهمية عسكرية.
كذلك دفع فريق محامي بارك، عندما قدم خلال الأسبوع الماضي تقريره الواقع في 24 صفحة، بأن الاتهامات الموجهة إلى الرئيسة ليست مدعمة بأدلة، وبالتالي، ليس لها أساس قانوني. وكذلك بأنه لا يوجد أي دليل على أن الرئيسة انتهكت الدستور.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن الرئيسة بارك عرضت يوم 29 نوفمبر الاستقالة، ودعت الجمعية الوطنية لترتيب أمر نقل السلطة، إلا أن المعارضة رفضت معتبرة أن الرئيسة تحاول من خلال عرضها تجنب الإدانة. ومن ثم أقر النواب الإدانة بأصوات 234 نائبا، وعلقوا صلاحيات الرئيسة، وأسندوا الرئاسة مؤقتًا لرئيس الوزراء. ولكن في المقابل، ستحتفظ بارك بلقب الرئيسة إلى أن تبت المحكمة الدستورية بإلإقالة أو ترفضها. وهذه العملية يمكن أن تستغرق ستة أشهر.



خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)
TT

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار والطروحات «التخريبية» التي حملها برنامجه وباشر بتطبيقها منذ توليه المنصب في مثل هذه الأيام من العام الفائت. حالة لم يتح لها الوقت الكافي بعد كي تفجّر كل «مواهبها» ومفاجآتها التي لا يوفّر ميلي مناسبة ليتوعّد بها، خاصة بعد نيله «بركة» مثاله الأعلى، دونالد ترمب، الذي يستعد للعودة قريباً إلى البيت الأبيض.

في مقابلة أجرتها معه مجلة «الإيكونوميست» نهاية الشهر الماضي، قال ميلي إنه يشعر بازدراء لا نهاية له تجاه الدولة، مؤكداً أنه سيفعل كل ما بوسعه للقضاء على تدخل الدولة في شؤون المواطنين وتنظيم حياتهم «لأن ذلك يشكّل أسرع الطرق إلى الاشتراكية». لكن اللافت أن «الإيكونوميست»، الموصوفة برصانتها، تعتبر أن ما يقوم به هذا «المخرّب الأكبر» - كما يحلو له أن يطلق على نفسه – يجب أن يكون قدوة للولايات المتحدة وحكومتها الجديدة التي يبدو أنها مستعدة لتحذو حذو الرئيس الأرجنتيني وتكليف هذه المهمة إلى الملياردير إيلون ماسك.

تدلّ كل المؤشرات على أن الهدف الأساسي من وصول ميلي إلى الحكم، أواخر العام الفائت، هو «تدمير» الدولة من الداخل. ألغى 13 وزارة، وسرّح ما يزيد على ثلاثين ألفاً من الموظفين العموميين، وخفّض بنسب وصلت إلى 74% مخصصات الرواتب التقاعدية والتعليم والصحة والعلوم والثقافة والتنمية الاجتماعية. وعلى هذه الخلفية، سارعت أسواق المال للاحتفاء بالفائض المالي وتراجع التضخم الذي ليس سوى ثمرة واحدة من أكبر الجراحات المالية في التاريخ. لكن الوجه الآخر لهذه العملة البرّاقة كان انضمام 5 ملايين أرجنتيني إلى قافلة الفقراء الذين يعيش معظمهم على المعونة الغذائية في واحد من أغنى البلدان الزراعية والغذائية في العالم، وانكماشا اقتصاديا... من غير أن تتراجع شعبية ميلي الذي يفاخر بأنه الرئيس الأوسع شعبية على وجه الكرة الأرضية.

لا يكفّ ميلي عن مخاطبة مواطنيه عبر وسائط التواصل التي لعبت دوراً أساسياً في وصوله إلى الرئاسة، ويقول إن «القوى السماوية» التي تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى».

رئيسة الأرجنتين السابقة كريستينا كيرشنر (أ.ب)

لا يعترف الرئيس الأرجنتيني بالتغيّر المناخي، ولا بالمساواة بين الرجل والمرأة، أو بالعدالة الاجتماعية، وينكر الذاكرة التاريخية لأنظمة الاستبداد التي تعاقبت على بلاده، ويعتبر أن كل ذلك ليس سوى بدع يسارية يتوعّد بالقضاء عليها في «حرب ثقافية» يتبّلها بكل أنواع الشتائم التي توقد الحماسة في صفوف أنصاره وتزرع الحيرة في أوساط المعارضة المشتتة.

الأغرب في كل ذلك هو أن ميلي لا تؤيده سوى أقلية في مجلسي الشيوخ والنواب، فضلاً عن أن جميع حكّام الولايات الذين يتمتعون بصلاحيات واسعة، ليسوا من حزبه «الحرية تتقدم». كما أنه اضطر للإبقاء على العديد من كبار موظفي الحكومة اليسارية السابقة في مناصبهم لعدم وجود كوادر مؤهلة كافية في حزبه. لكن رغم هذا العجر الهائل، تمكّن ميلي من إقرار حزمة قوانين يعتبرها أساسية لمشروع تفكيك الدولة ورفع القيود عن العجلة الاقتصادية، من غير أن يتضّح بعد إذا كانت هذه السنة الأولى من ولايته مدخلاً لإحكام سيطرته على الدولة، أو هي تمهيد لهيمنة اليمين المتطرف على المشهد السياسي.

يعتمد ميلي على التأييد الشعبي الواسع الذي ما زال يلقاه، وعلى حاجة حكّام الولايات لموارد الدولة، وبشكل خاص على الحلف التشريعي الذي أقامه مع اليمين المعتدل ممثلاً بالحزب الذي يقوده رئيس الجمهورية الأسبق ماوريسيو ماكري. ومنذ نزوله المعترك السياسي، بعد أن كان ينشر أفكاره وطروحاته عبر البرامج التلفزيونية التي كان يقدمها، استمد شعبيته وقوته ضد ما يسميه «السلالة»، أي الطبقة السياسية التقليدية. أما الاتفاقات أو الائتلافات التي سعى إليها، فهي لم تكن سوى تكتيكية، ولم يفاوض على برنامجه مع الأحزاب أو القوى التي تحالف معها، بل بقي تحالفه الأساسي مع القاعدة الشعبية التي ما زالت تدعمه، والتي يرجّح أن تكون هي أيضاً نقطة ضعفه الرئيسية التي ستؤدي إلى سقوطه عندما تتوقف عن دعمه بعد أن تفقد الأمل الضئيل الذي ما زال يحدوها في أن تتحسن الأوضاع المعيشية.

وصفة ميلي تحقق نتائجها

يقول المقربون من ميلي إن سر استمرار شعبيته التي توقع كثيرون أنها إلى زوال سريع، هو أنه ينفّذ كل الوعود التي قطعها في حملته الانتخابية، فيما بدأ بعض منتقديه يعترفون بأن «وصفته» تحقق النتائج التي وعد بها.

وقد شهدت الأشهر الأخيرة انشقاق بعض رموز الحزب البيروني واصطفافهم إلى جانب ميلي، مثل العضو البارز في مجلس الشيوخ كارلوس باغوتو، وهو قريب من الرئيس الأسبق كارلوس منعم. وقال باغوتو: «إن ميلي هو الشخص الذي تحتاجه الأرجنتين للتخلص من الموجة الشعبوية الاشتراكية التي حكمتها طيلة العقدين المنصرمين... كنا في حال من التحلل الاجتماعي الذي بلغ مستويات يصعب تصورها. وبعد أن أصبحت الدولة تتدخل في جميع مسالك الحياة، عاجزة عن توفير الحد الأدنى من الخدمات الأساسية لشريحة واسعة من المواطنين، وبعد أن أخفقت جميع المحاولات لضبط التضخم الهائل، أدركت الطبقات المتواضعة أن الخلاص لا يمكن أن يأتي من غير تضحيات... وكان ميلي».

"يقول ميلي إن «القوى السماوية» تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى»."

خدمة مصالح رجال الأعمال

لكن قراءة المعارضة للمشهد الاجتماعي تختلف كلياً، إذ يرى وزير الداخلية السابق إدواردو دي بيدرو المقرّب من الرئيسة السابقة كريستينا كيرشنر، أن ميلي قضى على حقوق وخدمات أساسية، مثل الصحة والتعليم والحماية الاجتماعية، بينما خدم، في المقابل، مصالح رجال الأعمال والمراكز المالية. ويضيف: «إن قرارات مثل قطع الأدوية عن مرضى السرطان في المراحل الأخيرة، أو الكف عن توفير التغطية العلاجية للمتقاعدين، أو إقفال المطاعم الشعبية التي كانت تؤمن وجبات أساسية لحوالي 19% من السكان يعيشون على المعونة الغذائية، هي دليل ساطع على قسوة هذه الحكومة وعدم إحساسها».

يردّ ميلي على هذه الانتقادات بوصفها من أفعال الشيوعيين المناهضين للحرية، ويكرر أنه يقود «أفضل حكومة في التاريخ»، مقتنعاً بأنه مكلّف مهمة سماوية، ويقترح حرباً نضالية عالمية تحت راية «اليمين الدولي» من أجل القضاء نهائياً على اليسار، يجوز فيها استخدام كل الوسائل، بما في ذلك العنف. كما أكّد مؤخراً في أحد المهرجانات السياسية: «لست في وارد اللياقة أو الوفاق. لن أتراجع أبداً، وسأواصل السير نحو النار، لأن الهجوم هو أفضل وسيلة للدفاع. لسنا ملزمين بتبرير أفعالنا، وإذا فعلنا فسوف يعتبرون ذلك من باب الضعف. كلما تعرضنا لضربة من خصومنا، سنردّ الواحدة بثلاث».

تكيف وبراغماتية

الهجوم الدائم هو العلامة الفارقة في أسلوب الرئيس الأرجنتيني، لكن ميلي أظهر قدرة لافتة على التكيّف والبراغماتية التفاوضية كلّما وجد نفسه بحاجة إلى أصوات المعارضة، في مجلسي الشيوخ والنواب وبين حكام الولايات، خاصة عندما طرح «قانون الأساسات» الذي يتضمّن مئات المواد التي تعتبرها الحكومة ضرورية لتنفيذ برنامجها. يفعل ذلك وهو يدرك جيداً أن الأحزاب التقليدية فقدت شعبيتها، وهي في حال من الانهيار السريع الذي يمكن لحزبه أن يستفيد منه في الانتخابات العامة المرحلية في خريف العام المقبل ليقلب المعادلة البرلمانية الحالية التي تشكّل عائقاً كبيراً أمام مشروعه «التخريبي».

ستكون انتخابات العام المقبل حاسمة بالنسبة لميلي ليقلب المعادلة البرلمانية ويضمن الأغلبية التي تحرره من التفاوض مع المعارضة كلما أقدم على خطوة اشتراعية لتنفيذ برنامجه، خاصة أن التأييد الشعبي ليس مضموناً في المدى الطويل.

ويخشى معاونوه من أن جنوحه الشديد نحو التعصب والصدام العنيف مع خصومه السياسيين قد يبعده عن تحقيق هدفه الأساسي الذي كان وراء فوزه في الانتخابات الرئاسية، وهو معالجة الأزمة الاقتصادية المزمنة التي تتخبط فيها البلاد منذ عقود. وينصحه المقربون بعدم التمادي في «الحروب الثقافية» مع حلفائه الغربيين الذين حصرهم منذ اليوم الأول بالولايات المتحدة وإسرائيل والدول «الحرة»، وسمّى الاشتراكيين واليساريين خصومه إلى الأبد.

لكن رغم خطابه الناري والتهديدي الذي لا يخلو أبداً من الألفاظ البذيئة، والذي بدأ مستشاروه يواجهون صعوبة في تبريره بالقول إن هذا هو أسلوبه والناس تعرف ذلك، بدأ ميلي يعطي مؤشرات على أنه ليس غريباً كلياً عن البراغماتية والواقعية. وهو اعترف قبل أيام أنه تعلّم الكثير في السياسة خلال هذه السنة الأولى من ولايته. وقال إنه لم يعد لديه أعداء سياسيون في الأرجنتين، بل خصوم يريدون الخير للبلاد. وبعد أن كان صرّح مراراً خلال الحملة الانتخابية بأن الصين هي في معسكر الأعداء وبأنه لن يتعامل مع «القتلة»، قال مؤخراً: «إن الصين شريك رائع لا يطلب شيئاً سوى التبادل التجاري الهادئ» وإن الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، الذي كان وصفه غير مرة بأنه «يساري فاسد»، لن يصبح صديقه، لكن مسؤوليته الدستورية تقتضي منه التعامل معه.

الأرقام الاقتصادية في نهاية العام الأول من ولاية ميلي تظهر أن الشركات الكبرى في قطاع المحروقات، وكبار المستثمرين في أسواق المال والمصارف، هم الذين حققوا أرباحاً استثنائية خلال هذه السنة، وأن الجائزة الكبرى كانت من نصيب المتهربين من دفع الضرائب الذين استفادوا من خطة «التبييض» التي وضعها، بما يزيد على 20 مليار دولار، أي نصف القرض الذي حصلت عليه الأرجنتين منذ سنوات من صندوق النقد الدولي لوقف الانهيار الاقتصادي التام وما زالت حتى اليوم عاجزة عن سداده أو حتى عن جدولته. أما في الجهة المقابلة فكان المتقاعدون والموظفون العموميون وأصحاب المؤسسات الصغيرة والمتوسطة هم الأكثر تضرراً من النموذج الذي خفّض الإنفاق العام وألغى القيود على الواردات بهدف احتواء التضخم الجامح الذي يقضّ مضاجع ملايين الأسر منذ سنوات، فضلاً عن الفقراء (19% من السكان حسب الإحصاء الأخير) الذين حُرموا فجأة من المعونة الغذائية التي كانت تقدمها الدولة.

أرباح الشركات الكبرى في قطاع الطاقة بلغت أرقاماً قياسية هذا العام بفضل زيادة الإنتاج وتحرير الأسعار والتدابير الضريبية والجمركية والقانونية التي أعلنها ميلي الذي يريد لهذا القطاع أن يكون المحرك الأساسي لاقتصاد الأرجنتين في العقود الثلاثة المقبلة، انطلاقاً من منطقة «باتاغونيا» الشاسعة في أقصى الجنوب التي تختزن، بحسب تقديرات، ثاني أكبر احتياطي من الغاز ورابع احتياطي من النفط في العالم. وفي نهاية الشهر الماضي كانت أسعار أسهم شركة النفط الرسمية قد ارتفعت بنسبة 140% عن العام الفائت، فيما ارتفعت أسعار أسهم الشركات الخاصة 75%.

تمديد الإنفاق

في موازاة ذلك قرر ميلي تجميد الإنفاق على المشاريع العامة، بينما كان الاستهلاك يتراجع إلى أدنى مستوياته والصناعة الأرجنتينية تعاني على جبهات ثلاث: انخفاض المبيعات، وتدفق السلع المستوردة بأسعار تصعب منافستها، وتراجع الصادرات بسبب ارتفاع سعر البيزو مقابل الدولار الأميركي. إلى جانب ذلك، سحب ميلي جميع إجراءات الدعم التي كانت اتخذتها الحكومات السابقة لمساعدة الطبقات الفقيرة، ما أدّى إلى ارتفاع أسعار النقل العام بنسبة 1000% وفواتير الغاز والكهرباء والتأمين الطبي والتعليم الخاص بنسب تزيد على 500%. وكانت الأشهر الستة الأولى من ولاية ميلي هي الأكثر صعوبة، إذ تزامنت مع نسبة تضخم قاربت 30% شهرياً بحيث تجاوزت نسبة المصنفين فقراء بين السكان 53%.

ستكون الأشهر الأولى من العام الثاني لولاية ميلي، حاسمة في تقدير عدد من المراقبين، لأنها ستبيّن مدى صمود شعبيته أمام انهيار الخدمات الأساسية والمساعدات التي تعيش نسبة عالية من السكان عليها، فيما يصرّ هو على رهانه بأن الفشل الذريع الذي تتخبط فيه القوى السياسية الأرجنتينية منذ عقود سيكون الخزان الذي سيغرف منه لترسيخ شعبيته حتى نهاية الولاية.