تونس تعيش تداعيات اغتيال الزواري

انكشاف أمني ودعوات تغيير في ذكرى «ثورة البوعزيزي»

تونس تعيش تداعيات اغتيال الزواري
TT

تونس تعيش تداعيات اغتيال الزواري

تونس تعيش تداعيات اغتيال الزواري

فجّرت جريمة اغتيال مهندس تونسي نسبتها الأحزاب والنقابات والمنظمات الحقوقية إلى جهاز «الموساد» الإسرائيلي و«مخابرات أجنبية» تحركات شعبية واسعة في تونس لمحاسبة الحكومة داخل البرلمان ووسائل الإعلام عن «الإخفاق السياسي والأمني» وسط مؤشرات لإعادة تشكيل المشهد السياسي والحزبي الوطني في البلاد. ولقد تبنّت حركات تحرر وطني فلسطينية كثيرة مهندس الطيران المخترع محمد الزواري ووصفته بـ«شهيد الموساد»، كاشفة أنه سبق له أن صنع طائرات من دون طيار (درون) للفصائل الفلسطينية وعمل معها طوال 10 سنوات. في حين تراوحت مواقف الرسميين والمعارضين بين التحفظ والمساندة، وسط تخوّف المراقبين من أن تؤدي التظاهرات الجديدة والمحاسبة العلنية للسلطات في البرلمان ووسائل الإعلام إلى «ثورة ثانية» تتزامن مع ذكرى إسقاط حكم زين العابدين بن علي في يناير (كانون الثاني) 2011.
إلى أين يسير المشهد السياسي الوطني في تونس؟ ففي حين لوّحت أطراف سياسية ونقابية كثيرة بتنظيم مظاهرة «ضخمة غير مسبوقة»، مساء اليوم (السبت)، في مدينة صفاقس، ثاني كبرى المدن التونسية، وموطن المهندس محمد الزواري، تكشف الشعارات التي ترفع منذ أيام في وسائل الإعلام ومسيرات الاحتجاج على اغتياله عن أبعاد أخرى؛ إذ يحرص بعض المنخرطين على توظيف التحركات الاجتماعية والسياسية للضغط على السلطات وتبديل المشهد السياسي، مع دعوة البعض الآخر إلى «ثورة ثانية تؤدي إلى تغيير شامل».

اغتيال «وحّد التونسيين»
ولقد شاءت الأقدار أن تسجَّل جريمة الاغتيال الاستفزازية للمهندس الطيار محمد الزواري، أمام بيته، في مرحلة تعيش معها غالبية مدن تونس اضطرابات اجتماعية وأجواء سياسية مشحونة داخل السلطة والحزب الحاكم الذي يتزعمه الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي. كذلك شاءت الأقدار أن تتزامن التحركات الاحتجاجية على جريمة الاغتيال مع مظاهرات سياسية اجتماعية تُنظَّم في طول البلاد وعرضها إحياء لـ«ثورة محمد البوعزيزي» في 17 ديسمبر (كانون الأول) 2010 وانتفاضة «المهمّشين» التي تسبّبت بإسقاط حكم الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي في يناير 2011، ثم بمسلسل «الثورات العربية».
ولئن تميّز المشهد السياسي والحزبي التونسي بالتشرذم والانقسامات، خصوصًا في صفوف الأحزاب الليبرالية واليسارية، فلقد كشفت ردود الفعل على اغتيال الزواري أن «فلسطين وحّدت صنّاع القرار في تونس بمختلف ألوانهم»، كما أورد الوزير السابق للتربية والتعليم والكاتب سالم الأبيض، وهو من التيار القومي العروبي.

ضغوط وتحوّلات
وبعيدًا عن فُسيفساء المظاهرات الاجتماعية و«المهرجانات الخطابية» و«الشعارات العاطفية العابرة» التي فجرتها حادثة الاغتيال والتحركات الشعبية الواسعة للتنديد بالاغتيال وبـ«اختراق المخابرات الأجنبية» سيادة تونس، لوحظ تطور موقف الرسميين منها من التجاهل واللامبالاة مرورًا بالمسايرة ووصولاً إلى الرضوخ لضغوط وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي والمسيرات. وبعدما وصف وزير الداخلية الهادي المجدوب في مؤتمر صحافي محمد الزواري بـ«القتيل» و«الهالك»، أصبح رئيس الحكومة يوسف الشاهد وكبار المسؤولين في الدولة والأحزاب يصفونه بـ«الشهيد» و«العالم المخترع»، ويعلنون عن الاستعداد لأن ترفع الحكومة التونسية شكاوى دولية ضد المخابرات «الأجنبية» المتهمة بانتهاك حرمة التراب التونسي والسيادة الوطنية، وفق الناطق الرسمي باسم الحزب الجمهوري عصام الشابي، الذي قاد عدة مظاهرات في العاصمة تونس.
وفي الوقت نفسه، اعتبر البرلماني زهير مغزاوي، الأمين العام لحزب الشعب القومي، خلال تجمع شعبي بالقرب من وزارة الداخلية التونسية أن «الرأي العام الشعبي في تونس سيتابع ضغوطاته على السلطات للبرهنة على وفاء شعب تونس لثوابته الوطنية وللمبادئ التي جعلته منذ الثلاثينات والأربعينات في القرن الماضي يرسل متطوعين لـ(الجهاد في فلسطين)». وتطوّرت مساءلة الحكومة عن «تقصيرها» الأمني والدبلوماسي والإعلامي في التعامل مع «اختراق المخابرات الإسرائيلية والأجنبية» للبلاد بعد سقوط حكم بن علي إلى محاسبة علنية لسياستها الخارجية والأمنية ومطالبات متفرقة بإقالة عدد من الوزراء، بينهم وزير الخارجية خميّس الجهيناوي، الذي كان أول سفير لتونس في تل أبيب عام 1995 في أعقاب «اتفاق مقاربة الدولة».
في المقابل، ما زال «منطق الدولة» يحكم مواقف المسؤولين الأُوَل في السلطة وفي قيادات الأحزاب الكبرى، وعلى رأسها حزب «نداء تونس» الحاكم، حيث حرص الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي على التعامل بحذر مع المستجدات ميدانيًا وسياسيًا، ورجّح «أجندة» رجل الدولة على أجندات السياسيين. وعند ترؤسه اجتماع المجلس الأعلى للجيوش اكتفى قائد السبسي بتصريح قصير أكد فيه على واجب حماية حدود البلاد وأمنها. كذلك تمسك الرئيس التونسي بالحذر رغم النداءات التي وجّهها له سياسيون مستقلون وقياديون في الأحزاب الحاكمة والمعارضة لـ«تدويل» جريمة الاغتيال بصفته وزير خارجية تونس في أكتوبر (تشرين الأول) 1985 عندما قصفت طائرات حربية إسرائيلية مقر القيادة الفلسطينية في تونس.
وكان قائد السبسي ترأس يومذاك فريق الدبلوماسيين الذين كلفهم الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة برفع شكوى ضد إسرائيل مع التهديد بقطع العلاقات مع واشنطن في صورة استخدامها حق النقض «الفيتو». وبالفعل، اكتفت الولايات المتحدة وقتها بالاحتفاظ بصوتها رغم إدانة القرار لإسرائيل ومطالبتها بتقديم تعويضات لتونس عن الخسائر التي لحقت بها.

منطقان متغايران
وفي الوقت الذي يتسابق فيه قياديون من أحزاب كثيرة، بينها حزب «حركة النهضة» الإسلامي، لتوظيف الاحتجاجات والمظاهرات من أجل تحسين مواقعهم وتحسين شعبية أحزابهم في البلاد، فاجأ عدد من القادة البارزين في «النهضة» المراقبين بـ«واقعيتهم المبالغ فيها»، حسب بعض النقابيين التونسيين، حيث أدلى الوزير عماد الحمامي، الناطق الرسمي باسم «النهضة» بتصريحات فاجأت كثيرين وأثارت جدلاً وردود فعل متباينة داخل كوادر حزبه وخارجها، وأيضًا تسببت بتوجيه انتقادات لاذعة له لحركته. ذلك أن الحمامي تساءل عن مبررات «التسرّع» في اتهام إسرائيل والحكومة التونسية «قبل استكمال التحقيقات والتحريات».
وفي السياق ذاته، حافظ زعيم «النهضة» راشد الغنوشي على صمته، خصوصًا أن التحرّكات والاحتجاجات تزامنت مع وجوده في العاصمة البلجيكية (والأوروبية) بروكسل، حيث ترأس مؤتمرًا لمئات من كوادر حركته في المهجر. وبدا الغنوشي، بوضوح، في مظهر الزعيم السياسي المشارك في الحكم الذي لا يريد أن يتورط في مواقف سياسية حماسية «قبل استكمال نتائج التحقيق الأمني والقضائي».
وداخل البرلمان، انتقد رئيس كتلة «النهضة» الوزير السابق نور الدين البحيري جريمة اغتيال المهندس الزواري، بيد أنه دعا السياسيين والنشطاء إلى التوقف عن «المزايدات» والجدل حول خصال الفقيد وعيوبه، وما إذا كان «شهيدًا» أم لا. واعتبر أن صفة «الشهادة تكريم من الله يعطيها الله لمن يشاء ولا ينبغي أن تكون موضوع مزايدات سياسية».
في هذا المناخ الذي يعتبر فيه كثيرون من المراقبين أن «النهضة» بات المستفيد الأكبر شعبيًا من الاحتجاجات الاجتماعية ومن المظاهرات المعادية للحكومة بحجة «إخفاقاتها الأمنية»، بدت رئاسة «النهضة» حذرة جدًا في مسايرة «انفعالات» الشباب المهمّش الذي يلوّح بـ«ثورة ثانية» قد تطيح بالحزب الحاكم (نداء تونس) الحالي الذي يتزعمه قائد السبسي. لكن النتيجة ستكون في الوقت نفسه الإطاحة بشركائه السبعة في الحكومة وبينهم وزراء «النهضة»، وعلى رأسهم وزير الصناعة والتجارة الأمين العام الجديد للحزب.
وراهنًا، تبدو قيادات الطبقة السياسية في موقع لا تحسد عليه بين ضغوط مزدوجة شعبية من جهة وسياسية دولية من جهة ثانية. وعلى الرغم من تحسن الأوضاع الأمنية في تونس خلال العام المنقضي، تسبب الإعلان عن الجذور التونسية للشاب المشتبه فيه بقتل أو جرح عشرات الألمان في العاصمة الألمانية برلين في إحراج ساسة تونس التي باتت بعض التقارير تصنّفها في المراتب الأولى دوليًا على صعيد «تصدير الإرهابيين». وجاء هذا التطور بعد أشهر قليلة من هجوم مماثل بشاحنة نفذه شاب تونسي آخر في مدينة نيس الفرنسية، ومع تأكيد مصادر دولية مختلفة أن نسبة كبيرة من الإرهابيين والمقاتلين المتطرفين في العراق وسوريا والعالم خلال العقدين الماضيين من المغاربيين، بينهم شبان من تونس، مثل قتلة الزعيم الأفغاني المعتدل أحمد شاه مسعود عام 2001، والمتورّط الرئيسي في تفجير قطار مدريد بإسبانيا عام 2004.

الموقف من «الإخوان»
في هذه الأثناء، تابع بعض السياسيين اليساريين ضغوطهم وتصريحاتهم التي تضغط على «نداء تونس» حزب الرئيس قائد السبسي وعلى «النهضة» بزعامة الثنائي راشد الغنوشي وعبد الفتاح مورو كي لا يتورط حزباهم كثيرًا في مسايرة مسيرات الغضب من اغتيال محمد الزواري، وتطالب الحزبين الكبيرين بإعلانهما التبرؤ القاطع والصريح من «الجماعات الإرهابية» و«التنظيمات التكفيرية» وأيضًا من حركة «الإخوان المسلمين».
وفي المرحلة التي تعاقبت فيه زيارات الغنوشي وعدد من المقربين منه إلى العواصم الغربية كباريس وبروكسل وروما وبرلين، وكذلك إلى الدول الخليجية حرصًا على تطبيع علاقات حركته معها، تبدو «الورقة الدولية»، وفق مراقبين، بصدد عرقلة الجهود التي يبذلها متشددو «النهضة» للاستفادة من جريمة الاغتيال. وللعلم، كان المهندس القتيل من بين نشطاء «الاتجاه الإسلامي» في الحركة الطلابية قبل مغادرته تونس وانضمامه إلى الفصائل الفلسطينية في مطلع عقد التسعينات من القرن الماضي.
وفي أعقاب المواقف التي صدرت عن زعيم «النهضة»، وانتقد فيها الدور الإيراني في اليمن وسوريا وهجوم الحوثيين بصاروخ على منطقة مكة المكرمة، يبدو الغنوشي في المقابل حريصا على التعامل بـ«حذر شديد» مع دعاة التصعيد السياسي ضد العواصم الغربية المتحالفة مع إسرائيل، ومع المبشّرين بشن «ثورة ثانية» يكون الإسلاميون طرفا فيها هذه المرة.

ورقة النقابات
لكن بين أكبر التحديات التي تواجه الرئيس قائد السبسي وحكومة يوسف الشاهد وقيادات الأحزاب المشاركة فيها، بزعامة «نداء تونس» و«النهضة»، توسّع نطاق الاحتجاجات لتشمل قيادات نقابات العمال والصحافيين والمحامين والمهندسين والمجتمع المدني، ويتداخل فيها الاجتماعي والسياسي والأمني، إذ دخلت قيادات الاتحاد العام التونسي للشغل على الخط وأصدرت مواقف وصفت بـ«الراديكالية» من حيث نقدها للسلطات وسياساتها الاجتماعية والأمنية. كذلك تبنّت قضية المهندس الزواري ووصفته بـ«الشهيد»، وانخرطت مع القوى التي وظّفت التعاطف الشعبي معه ومع عائلته لمحاولة تغيير ميزان القوى السياسي، وذلك عشية تنظيم المؤتمر الوطني لاتحاد النقابات بنهاية الشهر المقبل وللمطالبة بإقالة عدد من السياسيين بينهم وزير التربية والتعليم.
أيضًا نزل اتحاد المهندسين - الذي يمثل 70 ألف مهندس تونسي - إلى المعركة السياسية وميادين الاحتجاجات الشعبية في العاصمة والجهات الداخلية لأول مرة تحت يافطة التضامن مع «المهندس الشهيد». وسار في المنحى نفسه اتحاد نقابات الفلاحين والصيادين الذي يضم مئات الآلاف من الأعضاء. وتجدر الإشارة إلى أن قيادات نقابات المهندسين والفلاحين تنتمي إلى التيارات الإسلامية والقومية، بينما ينتمي معظم قادة النقابات العمالية إلى الأحزاب اليسارية، بما يوشك أن يزيد مرحلة خلط أوراق تونس خلال مرحلة تتفاقم فيها الخلافات داخل حزب الرئيس قائد السبسي وتزيد في إضعافه. ولئن كانت النقابات قد لعبت دورا حاسما في الإطاحة بحكم بن علي قبل 6 سنوات، فإن نزولها إلى الشارع مجددًا، رافعةً شعارات اجتماعية وسياسية ووطنية وقومية، يمكن أن يعمق الخلل في المشهد السياسي لصالحها على حساب الحكومة والزعامات التاريخية للأحزاب المشاركة فيها.

المرزوقي تحت الأضواء
في هذا المناخ تسارعت مؤشرات إعادة ترتيب الأوراق والأولويات واللاعبين في المشهد السياسي الوطني. إذ نجحت جلسات الاستماع العلنية التي نظمتها «هيئة الحقيقة والكرامة» وبثتها القنوات التلفزيونية التونسية لضحايا القمع خلال السنوات الـ60 الماضية في إرباك رموز النظام السابق الذين باتوا متهمين بالتورط في أشكال بشعة من اضطهاد معارضيهم من كل الألوان السياسية وتعذيبهم. وبحكم انتماء غالبية نشطاء حزب الرئيسين الأسبقين الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي لحزب قائد السبسي فقد ضعف موقفهم شعبيًا في مرحلة تعدّدت فيها الانتقادات الموجهة إليهم وإلى أدائهم الحكومي. ومن ثم، بدأ رموز «الثورة» يعودون بقوة، وعادت وسائل الإعلام الحكومة مجددًا لفتح شاشاتها للرئيس السابق المنصف المرزوقي وأنصاره، الذين إما يتابعون جلسات الاستماع العلنية أو يزورون بيت المهندس الزواري في صفاقس، ويدلون بتصريحات نارية تتضمن دعوات لإقالة كبار المسؤولين في الحكومة ومحاسبة المتورطين في الثغرات الأمنية.
وفي هذه الأثناء، تتعرض الحكومة لانتقادات لاذعة أخرى بعد «تسلل» مراسلين حربيين تابعين للقناة العاشرة الإسرائيلية إلى تونس، ونجاحهم في إجراء تحقيقات تلفزيونية من أمام مقر وزارة الداخلية في قلب العاصمة تونس، ثم في بيت المهندس الزواري. واعتبر الوزير السابق والقيادي بحزب «التيار الديمقراطي» محمد عبو وجود مراسل القناة الإسرائيلية على الأراضي التونسية «إهانة للدولة التونسية». ومن ثم، طالب عبو وزارة الداخلية والحكومة بإصدار توضيح مقنع عن ملابسات دخول «الجاسوس العسكري باسم صحافي له هويات أوروبية مختلفة» إلى تونس، دون انتباه أجهزة الدولة. كذلك اعتبرت البرلمانية المعارضة سامية عبو أن الحكومة التونسية «فقدت مصداقيتها تمامًا» داعيةً مع برلمانيين وسياسيين آخرين إلى إقالتها.
وفي المقابل، وجه نوري اللجمي رئيس الهيئة العليا المستقلة للإعلام السمعي البصري وناجي البغوري رئيس نقابة الصحافيين اتهامات خطيرة للسلطات، التي سبق أن حذراها من اختراق «الموساد» ومخابرات أجنبية لتونس تحت يافطات «إعلاميين» يحملون أكثر من جواز سفر.

حرب خلافة
أخيرًا، بينما تتراوح الأوضاع السياسية والأمنية في تونس مجددًا بين التحكم والانفلات الاجتماعي والإعلامي والسياسي، يفتح بعض المراقبين مجددًا ملف «حرب الخلافة»، أي مرحلة ما بعد الانتخابات الرئاسية المقبلة. ويذكر أن تونس شهدت خلال العقود الماضية حوادث متعاقبة ضربت إسرائيل فيها أهدافا فلسطينية، بينها قصف مقاتلات حربية إسرائيلية قيادة منظمة التحرير الفلسطينية في حمام الشط خلال أكتوبر 1985، ثم اغتيال زمرة «كوماندوس إسرائيلية» زعيم «الانتفاضة الأولى» خليل الوزير (أبو جهاد) في أبريل (نيسان) 1988، ثم زعماء حركة «فتح» وجناحها الأمني فتح أبو إياد وأبو محمد وهايل عبد الحميد في يناير 1991.
لكن الجديد في التطورات الحالية تزايد دور قوى المجتمع المدني ونشطاء مواقع الإعلام الاجتماعي في تونس، وعلى رأسهم قيادة الاتحاد العام التونسي للشغل ونقابات المهندسين والفلاحين والصحافيين التونسيين، إذ انخرطت هذه الأطراف في مسلسل من التحركات الرامية لإضعاف الدولة، وفتحت بالمناسبة ملفات سياسية أمنية تتداخل فيها الاعتبارات المحلية مع الاعتبارات الدولية، من بينها ملف «السيادة الوطنية»، بينما يقرّ رسميون سابقون في الحكومة، مثل وزير الأمن الوطني سابقًا الأزهر العكرمي بأن «تونس مخترَقة بمئات من ممثلي المخابرات الأجنبية والإسرائيلية» وأصبحت مهددة بسيناريوهات كثيرة من التدخلات الأجنبية.
فهل تكون «الأزمة الجديدة» القَطرة التي تفيض الكأس، وسط توالي انكشاف «الثغرات» وتزايد الأوضاع الأمنية والسياسية تعقيدًا وغموضًا في محيط تونس الجيواستراتيجي ودول جوارها، خصوصًا في ليبيا والجزائر ومالي؟



يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
TT

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني فرض الأحكام العرفية، وتعليق الحكم المدني، وإرساله قوة عسكرية مدعومة بالهيلوكوبترات إلى البرلمان. ثم اضطراره للتراجع عن قراره في وجه معارضة عارمة. بيد أن تراجع الرئيس خلال ساعات قليلة من هذه المغامرة لم يزد المعارضة إلا إصراراً على إطاحته، في أزمة سياسية غير مسبوقة منذ التحوّل الديمقراطي في البلاد عام 1980 بعد فترة من الحكم التسلطي. ولقد تطوّرت الأوضاع خلال الأيام والساعات الأخيرة من الاحتجاجات في الشوارع إلى تصويت برلماني على عزل يون. وبعدما أقر البرلمان عزل الرئيس ردّ الأخير بتأكيد عزمه على المقاومة والبقاء... في أزمة مفتوحة لا تخلو من خطورة على تجربة البلاد الديمقراطية الطريّة العود.

دبلوماسي مخضرم خدم في كوريا الجنوبية قال، قبل بضعة أيام، معلقاً على الأزمة المتصاعدة: «إذا تم تمرير اقتراح العزل، يمكن وقف (الرئيس) يون (سوك - يول) عن مباشرة مهام منصبه لمدة تصل إلى 180 يوماً، بينما تنظر المحكمة الدستورية في القضية. وفي هذا (السيناريو)، يتولى رئيس الوزراء هان دوك سو منصب الرئيس المؤقت، وتُجرى انتخابات جديدة في غضون 60 يوماً».

وبالفعل، دعا هان دونغ - هون، زعيم حزب «قوة الشعب»، الحاكم، إلى تعليق سريع لسلطات الرئيس مستنداً - كما قال - إلى توافر «أدلة موثوقة» على أن يون سعى إلى اعتقال القادة السياسيين بعد إعلانه الأحكام العرفية الذي لم يدُم طويلاً. ومما أورده هان - الذي كان في وقت سابق معارضاً للمساعي الرامية إلى عزل يون - إن «الحقائق الناشئة حديثاً قلبت الموازين ضد يون، بالتالي، ومن أجل حماية كوريا الجنوبية وشعبنا، أعتقد أنه من الضروري منع الرئيس يون من ممارسة سلطاته رئيساً للجمهورية على الفور». وتابع زعيم الحزب الحاكم أن الرئيس لم يعترف بأن إعلانه فرض الأحكام العرفية إجراء غير قانوني وخاطئ، وكان ثمة «خطر كبير» من إمكانية اتخاذ قرار متطرف مماثل مرة أخرى إذا ظل في منصبه.

بالتوازي، ذكرت تقارير إعلامية كورية أن يون يخضع حالياً للتحقيق بتهمة الخيانة إلى جانب وزير الدفاع المستقيل كيم يونغ - هيون، (الذي ذُكر أنه حاول الانتحار)، ورئيس أركان الجيش الجنرال بارك آن - سو، ووزير الداخلية لي سانغ - مين. وحقاً، تمثل الدعوة التي وجهها هان، وهو وزير العدل وأحد أبرز منافسي يون في حزب «قوة الشعب»، تحولاً حاسماً في استجابة الحزب الحاكم للأزمة.

خلفية الأزمة

تولى يون سوك - يول منصبه كرجل دولة جديد على السلطة، واعداً بنهج عصري مختلف في حكم البلاد. إلا أنه في منتصف فترة ولايته الرئاسية الوحيدة التي تمتد لخمس سنوات، شهد حكمه احتكاكات شبه دائمة مع البرلمان الذي تسيطر عليه المعارضة، وتهديدات «بالإبادة» من كوريا الشمالية، ناهيك من سلسلة من الفضائح التي اتهم وعائلته بالتورّط فيها.

وعندما حاول يون في خطابه التلفزيوني تبرير فرض الأحكام العرفية، قال: «أنا أعلن حالة الطوارئ من أجل حماية النظام الدستوري القائم على الحرية، وللقضاء على الجماعات المشينة المناصرة لنظام كوريا الشمالية، التي تسرق الحرية والسعادة من شعبنا»، في إشارة واضحة إلى الحزب الديمقراطي المعارض، مع أنه لم يقدم أي دليل على ادعائه.

إلا أن محللين سياسيين رأوا في الأيام الأخيرة أن الرئيس خطّط على الأرجح لإصدار مرسوم «الأحكام العرفية الخرقاء» أملاً بحرف انتباه الرأي العام بعيداً عن الفضائح المختلفة والإخفاق في معالجة العديد من القضايا المحلية. ولذا اعتبروا أن عليه ألا يطيل أمد حكمه الفاقد الشعبية، بل يبادر من تلقاء نفسه إلى الاستقالة من دون انتظار إجراءات العزل، ومن ثم، السماح للبلاد بانتخاب رئيس جديد.

بطاقة هوية

ولد يون سوك - يول، البالغ من العمر 64 سنة، عام 1960 في العاصمة سيول لعائلة من الأكاديميين اللامعين. إذ كان أبوه يون كي - جونغ أستاذاً للاقتصاد في جامعة يونساي، وأمه تشوي سيونغ - جا محاضرة في جامعة إيوها للنساء قبل زواجها. وحصل يون على شهادته الثانوية عام 1979، وكان يريد في الأصل أن يدرس الاقتصاد ليغدو أستاذاً، كأبيه، ولكن بناءً على نصيحة الأخير درس الحقوق، وحصل على شهادتي الإجازة ثم الماجستير في الحقوق من جامعة سيول الوطنية - التي هي إحدى «جامعات النخبة الثلاث» في كوريا مع جامعتي يونساي وكوريا - وأصبح مدّعياً عاماً بارزاً قاد حملة ناجحة لمكافحة الفساد لمدة 27 سنة.

ووفق وسائل الإعلام الكورية، كانت إحدى محطات حياته عندما كان طالب حقوق عندما لعب دور القاضي في محاكمة صورية للديكتاتور (آنذاك) تشون دو - هوان، الذي نفذ انقلاباً عسكرياً وحُكم عليه بالسجن مدى الحياة. وفي أعقاب ذلك، اضطر يون إلى الفرار إلى الريف مع تمديد جيش تشون الأحكام العرفية ونشر القوات والمدرّعات في الجامعة.

بعدها، عاد يون إلى العاصمة، وصار في نهاية المطاف مدعياً عاماً، وواصل ترقيه الوظيفي ما يقرب من ثلاثة عقود، بانياً صورة له بأنه حازم وصارم لا يتسامح ولا يقدّم تنازلات.

مسيرته القانونية... ثم الرئاسة

قبل تولي يون سوك - يول رئاسة الجمهورية، كان رئيس مكتب الادعاء العام في المنطقة المركزية في سيول، وأتاح له ذلك محاكمة أسلافه من الرؤساء. إذ لعب دوراً فعالاً في إدانة الرئيسة السابقة بارك غيون - هاي التي أُدينت بسوء استخدام السلطة، وعُزلت وأودعت السجن عام 2016. كذلك، وجه الاتهام إلى مون جاي - إن، أحد كبار مساعدي خليفة الرئيسة بارك، في قضية احتيال ورشوة.

أما على الصعيد السياسي، فقد انخرط يون في السياسة الحزبية قبل سنة واحدة فقط من فوزه بالرئاسة، وذلك عندما كان حزب «قوة الشعب» المحافظ - وكان حزب المعارضة يومذاك - معجباً بما رأوه منه كمدّعٍ عام حاكم كبار الشخصيات، وأقنع يون، من ثم، ليصبح مرشح الحزب لمنصب رئاسة الجمهورية.

وفي الانتخابات الرئاسية عام 2022 تغلّب يون على منافسه الليبرالي لي جاي - ميونغ، مرشح الحزب الديمقراطي، بفارق ضئيل بلغ 0.76 في المائة... وهو أدنى فارق على الإطلاق في تاريخ الانتخابات في البلاد.

الواقع أن الحملة الانتخابية لعام 2022 كانت واحدةً من الحملات الانتخابية القاسية في تاريخ البلاد الحديث. إذ شبّه يون غريمه لي بـ«هتلر» و«موسوليني». ووصف حلفاء لي الديمقراطيون، يون، بأنه «وحش» و«ديكتاتور»، وسخروا من جراحة التجميل المزعومة لزوجته.

إضافة إلى ذلك، شنّ يون حملته الانتخابية بناء على إلغاء القيود المالية والموقف المناهض للمرأة. لكنه عندما وصل إلى السلطة، ألغى وزارة المساواة بين الجنسين والأسرة، قائلاً إنها «مجرد مقولة قديمة بأن النساء يُعاملن بشكل غير متساوٍ والرجال يُعاملون بشكل أفضل». وللعلم، تعد الفجوة في الأجور بين الجنسين في كوريا الجنوبية الأسوأ حالياً في أي بلد عضو في «منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية».

أيضاً، أدى استخدام يون «الفيتو» تكراراً إلى ركود في العمل الحكومي، بينما أدت تهم الفساد الموجهة إلى زوجته لتفاقم السخط العام ضد حكومته.

تراجع شعبيته

بالتالي، تحت ضغط الفضائح والخلافات، انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أجرته مؤسسة «غالوب كوريا» أن شعبيته انخفضت إلى 19 في المائة فقط. وتعد «كارثة» الأحكام العرفية الحلقة الأخيرة في سلسلة من الممارسات التي حددت رئاسة يون وأخطائها.

إذ ألقي باللوم على إدارة يون في التضخم الغذائي، وتباطؤ الاقتصاد، والتضييق المتزايد على حرية التعبير. وفي أواخر 2022، بعدما أسفر تدافع حشود في احتفال «الهالوين» (البربارة) في سيول عن سقوط 159 قتيلاً، تعرضت طريقة تعامل الحكومة مع المأساة لانتقادات واسعة.

زوجته في قلب مشاكله!

من جهة ثانية، كانت كيم كيون - هي، زوجة الرئيس منذ عام 2012، سبباً آخر للسخط والانتقادات في وسائل الإعلام الكورية الجنوبية. فقد اتهمت «السيدة الأولى» بالتهرب الضريبي، والحصول على عمولات لاستضافة معارض فنية عن طريق عملها. كذلك واجهت اتهامات بالانتحال الأدبي في أطروحتها لنيل درجة الدكتوراه وغيرها من الأعمال الأكاديمية.

لكن أكبر فضيحة على الإطلاق تورّطت فيها كيم، كانت قبولها عام 2023 هدية هي حقيبة يد بقيمة 1800 جنيه إسترليني سراً من قسيس، الأمر الذي أدى إلى مزاعم بالتصرف غير اللائق وإثارة الغضب العام، لكون الثمن تجاوز الحد الأقصى لما يمكن أن يقبله الساسة في كوريا الجنوبية وشركاؤهم قانونياً لهدية. لكن الرئيس يون ومؤيديه رفضوا هذه المزاعم وعدوها جزءاً من حملة تشويه سياسية.

أيضاً أثيرت تساؤلات حول العديد من القطع الثمينة من المجوهرات التي تملكها «السيدة الأولى»، والتي لم يعلَن عنها كجزء من الأصول الرئاسية الخاصة. وبالمناسبة، عندما فُتح التحقيق في الأمر قبل ست سنوات، كان زوجها رئيس النيابة العامة. أما عن حماته، تشوي يون - سون، فإنها أمضت بالفعل حكماً بالسجن لمدة سنة إثر إدانتها بتزوير وثائق مالية في صفقة عقارية.

يُضاف إلى كل ما سبق، تعرّض الرئيس يون لانتقادات تتعلق باستخدام «الفيتو» الرئاسي في قضايا منها رفض مشروع قانون يمهد الطريق لتحقيق خاص في التلاعب المزعوم بالأسهم من قبل زوجته كيم كيون - هي لصالح شركة «دويتشه موتورز». وأيضاً استخدام «الفيتو» ضد مشروع قانون يفوّض مستشاراً خاصاً بالتحقيق في مزاعم بأن مسؤولين عسكريين ومكتب الرئاسة قد تدخلوا في تحقيق داخلي يتعلق بوفاة جندي بمشاة البحرية الكورية عام 2023.

وهكذا، بعد سنتين ونصف السنة من أداء يون اليمين الدستورية عام 2022، وعلى أثر انتخابات رئاسية مثيرة للانقسام الشديد، انقلبت الأمور ضد الرئيس. وفي خضم ارتباك الأحداث السياسية وتزايد المخاوف الدولية يرزح اقتصاد كوريا الجنوبية تحت ضغوط مقلقة.

أمام هذا المشهد الغامض، تعيش «الحالة الديمقراطية» في كوريا الجنوبية أحد أهم التحديات التي تهددها منذ ظهورها في أواخر القرن العشرين.