أعياد نهاية السنة بأجواء استثنائية في طرابلس اللبنانية

أعياد نهاية السنة، هذه المرة، في طرابلس لها نكهة أخرى. المدينة التي اتهمت بالإرهاب وحامت حولها الشبهات، وهجرها بعض من أهلها هربًا من حروب عبثية دامت أكثر من 20 جولة، على مدى ست سنوات، خلعت عنها رداء التجهم والخوف، واكتست بحلة الاحتفالات البهيجة. يكاد يكون «المشهد سرياليًا» يقول أحد الطرابلسيين وهو يتجول في «معرض رشيد كرامي الدولي»، الذي تحول بصالته الرئيسية الداخلية الكبرى وساحاته إلى قرية ميلادية، هي الأكبر من نوعها في لبنان. ويعلق أحمد الياسر وهو يتجول في المكان مع زوجته وطفليه، بالقول إن «كل الكلام عن التطرف في طرابلس يدحضه هذا المشهد البديع الذي يجمع سكان المدينة بمختلف أطيافهم وانتماءاتهم في مكان واحد».
قبل سنتين فقط توقفت المعارك الشرسة بين جبل محسن وباب التبانة في الضاحية الشمالية لطرابلس، يومها قيل الكثير عن مزاج المدينة المتطرف، وميول سكانها.
الإقبال الكثيف على احتفالات نهاية السنة التي تنظمها جمعية «أكيد فينا سوا» برئاسة فيولات الصفدي، زوجة النائب والوزير السابق محمد الصفدي، تحت عنوان «طرابلس مدينة الأعياد» تقطع الشك باليقين.
سوق الأكل التي تجوب لبنان، تحتل حيزًا من المساحة الخارجية أمام صالة المعرض الضخمة، حيث يقدم طباخوها الذين يقاربون الأربعين، في أكشاكهم، مختلف أصناف الطعام من المنقوشة على الصاج إلى ديك الحبش المشوي على الحطب. طاولات وكراسي للجلوس، واستراحة الزوار. كل شيء تم التفكير به بما في ذلك النار التي أوقدت وتوزعت في أرجاء المكان للتدفئة، خاصة وأن البرد بلغ ذروته بالتزامن مع هذه الاحتفالات البهيجة.
أحد البائعين في سوق الأكل، يقول إنه آت من الأشرفية، وأن ما يراه في طرابلس مؤثر للغاية، ولم يكن يتوقعه على الإطلاق. ويشرح هذا الشاب وهو يقف في كشكه الخاص: «نحن كمشاركين في سوق الأكل، نجوب لبنان من جنوبه إلى شماله. لا أعتقد أن أيًا من المناطق اللبنانية لها قرية ميلادية بهذا الحجم، حماسة الناس هنا تؤكد أنهم يريدون شيئًا واحدًا هو المرح».
زينة وأضواء وموسيقى، وشجرة كبيرة للميلاد وألعاب للأطفال، الذين بمقدورهم أن يقضوا نهارهم، مستمتعين إضافة إلى معروضات من الملابس إلى الإكسسوارات التي جاء بها مصمموها والمنتجات اليدوية. دخلت زينة طرابلس في منافسة مع زينة جبيل التي انتخبت شجرتها الأولى في العالم منذ سنتين. في التصويت على أجمل زينة للأعياد في لبنان تجريها محطة «إل بي سي» على موقعها الإلكتروني لا تزال طرابلس الأولى، متقدمة على جبيل ومغدوشة وزحلة والقبيات، حتى كتابة هذه الكلمات.
الشجرة في طرابلس ثلاثية الأبعاد ويصل طولها إلى 25 مترًا، أضيئت وسط احتفالية كبيرة في الخامس عشر من شهر ديسمبر (كانون الأول) الحالي، وإنشاد من كورالي «الفيحاء» و«رفقة»، وذلك إيذانًا بانطلاق الأنشطة المستمرة حتى 22 من الشهر الحالي، وسط مطالبات بتمديد الفترة.
لكل عمر متعه في هذا المكان الذي صار ملتقى للطرابلسيين كل ليلة. ومنذ السادس عشر من الشهر الحالي، تحيي طرابلس كل ليلة حفلاً غنائيًا أو موسيقيًا. ففي اليوم الأول قدم عازف البيانو المعروف غي مانوكيان حفلاً عزف خلاله ألحانًا لبنانية وأرمينية، وفي اليوم التالي كان الموعد مع التينور الإيطالي الشهير أليساندرو سافينا، الذي احتفى بوجوده في هذه المدينة التي يزورها للمرة الأولى، وهو يغني لها بينما كانت الشاشة الخلفية للمسرح تنقل أجواء العيد خارج الصالة بأفراحها ومباهجها. ويوم 18 كان دور حفل الفنان ملحم زين لمحبي الغناء العربي، وفي اليوم الذي يليه قضت لين الحايك، الطفلة التي فازت ببرنامج «ذا فويس كيدس» يومًا كاملاً مع ألفي طفل يتيم جاءوا يمضون نهارًا بين الألعاب ومشاهدة العروض.
العنوان الرئيسي للاحتفالات هو «التعايش»، في المدينة التي تضم مسيحيين ومسلمين من أكثر من مذهب، والتجاوب كان كبيرًا وحماسيًا. ولكرة القدم في هذه الأعياد حصة، حيث تحولت مدينة الأعياد إلى ملعب لكرة القدم لاستضافة لاعب الكرة العالمي روبرتو كارلوس الذي تبارى مع أطفال لبنانيين متفوقين في اللعبة.
وفي اليومين الأخيرين كان هناك حفلان أحدهما للفنان جورج نعمة مقدمًا مختارات من أغنيات رحبانية، في ما يختتم جوزف عطية الحفلات الغنائية لهذا الموسم، الذي يؤمل الطرابلسيون النفس، لأن يكون فاتحة لمواسم أخرى مقبلة، نظرًا للإقبال الكثيف، لا سيما من قبل الشباب والأطفال.
سعى كل عارض ومشارك وفنان، لأن يقدم ما لديه لإسعاد الوافدين الكثر إلى «معرض رشيد كرامي الدولي». من كل لبنان جاء الزوار يريدون اكتشاف ما يجري، سواء عائلات، إعلاميين، وأقنية تلفزيونية غربية أرادت تصوير الحدث. فقبل سنتين فقط كان مراسلو هذه الأقنية هنا لنقل مشاهد المعارك الدامية التي تحصد عشرات الضحايا ولا بصيص أمل لإنهائها. اليوم مهمتهم مختلفة تمامًا، طرابلس مدينة للأعياد والعيش المشترك والمحبة، هذا ما ردده الفنانون، وهذا أيضًا ما قاله الزوار الذين رأوا في الظاهرة تأكيدًا على أن المدينة تريد شيئًا، وما كان يفرض عليها بالقوة واستطاعت أن تقاومه بإرادة الحياة هو شيء آخر.