حنا آرنيت... بحث دائب عن الحقيقة

40 عامًا على رحيل صاحبة «أصل الشمولية»

لقطة من فيلم «حنا آرينت» الذي يتناول سيرتها
لقطة من فيلم «حنا آرينت» الذي يتناول سيرتها
TT

حنا آرنيت... بحث دائب عن الحقيقة

لقطة من فيلم «حنا آرينت» الذي يتناول سيرتها
لقطة من فيلم «حنا آرينت» الذي يتناول سيرتها

تقع كلية «بارد» الصغيرة العريقة على نهر هدسون، شمال نيويورك، في منتصف المسافة بين نيويورك وأولباني (عاصمة ولاية نيويورك)، وتربطها علاقة تاريخية مع جامعة كولومبيا (في نيويورك)، وهي تعتبر كلية ليبرالية. وأخيرا، ظهر اسمها في الأخبار بسبب مظاهرات وندوات طلابية تأييدًا للسود، والمكسيكيين، والمسلمين.
في هذه الكلية، مركز تقدمي مشهور: «مركز حنا آرينت للسياسات والإنسانيات»، الألمانية اليهودية التي انتقدت إسرائيل حتى قبل تأسيسها وتربط الجامعة، بسببها، علاقة أكاديمية مع جامعة القدس الفلسطينية.
يوجد في هذا المركز أكثر من خمسة آلاف كتاب من مكتبتها، وأثاث من غرفتها التي كانت تسكن فيها. ويوجد، على مسافة قريبة من الكلية، قبرها.
ولدت آرينت في عائلة يهودية ألمانية عام 1906. وكتبت، في كتب ذكرياتها، عن علاقتها المتأرجحة مع يهوديتها:
المرحلة الأولى: في روضة الأطفال، «اندمجت، مثل يهود آخرين هناك، في المجتمع الألماني»، وفي المرحلة الثانية، في جامعة ماربيرغ، «تأكدت لي حقيقة أنهم (الألمان) يعاملون اليهود معاملة مختلفة، رغم أن اليهود يريدون الاندماج فيهم»، وفي المرحلة الثالثة، تأرجحت علاقتها مع اليهود أنفسهم. صارت عشيقة أستاذها اليهودي، هايدبيغر. وعندما تنكر لها (كان متزوجًا)، انتقدت إخلاصه ليهوديته. خصوصًا بسبب تعاونه المزعوم مع «الغستابو» (استخبارات هتلر). وعندما تزوجت طالبا يهوديا زميلا لها، قالت إنه «يهودي مخلص»، لكن، عندما طلقها، وتزوج امرأة أخرى، قالت إن يهوديته «لم تكن قوية»، خصوصًا أنه غيَّر اسمه اليهودي.
كتبت، ربما لهذه الأسباب، أطروحة شهادة الدكتوراه عن «فلسفة الحب عند القديس أوغستين» (أبو الفلسفة المسيحية). وأثار ذلك استغراب بعض الفلاسفة.
ثم هربت إلى فرنسا بسبب زيادة اضطهاد واعتقال وحرق اليهود في ألمانيا. وهناك تزوجت يهوديا شيوعيا. وعندما غزت قوات هتلر فرنسا، هربا إلى أميركا. وفي عام 1950، نالا الجنسية الأميركية.
في عام 1959، صارت حنا آرينت أول امرأة تحاضر في جامعة برنستون (ولاية نيوجيرسي). وفيما بعد، حاضرت في جامعات أخرى، قبل أن تستقر في هذه الجامعة. كانت، في ذلك الوقت، متحمسة لتأسيس دولة إسرائيل. واشتركت في حملات لمساعدة اليهود على الانتقال إلى فلسطين.
لكن، في عام 1961، ذهبت إلى إسرائيل، وكتبت عن محاكمة الجنرال الألماني النازي أدولف ايخمان (كان «مهندس الهولوكوست»، وهرب، بعد سقوط النازية، إلى الأرجنتين. ثم عثرت عليه الاستخبارات الإسرائيلية، ونقلته إلى إسرائيل، حيث حوكم بالإعدام، وأُعدم).
كانت محاكمة ايخمان نقطة تحول في نظرة آرينت لإسرائيل. وكتبت عن ذلك في كتابها «ايخمان في القدس». لقد انتقدت، أولاً، في هذا الكتاب سيطرة اليهود الأوروبيين على اليهود الشرقيين داخل إسرائيل، وأدانت، ثانيًا، اضطهاد اليهود، بكل أنواعهم، للفلسطينيين. واقترحت «دولة فيدرالية، علمانية، ديمقراطية، تعددية لليهود والفلسطينيين».
طبعا، عارض كثير من اليهود هذه الآراء. في العام الماضي، حين أقيمت في مركز آرينت في كلية بارد ندوة عن آرينت والفلسطينيين، كتب دانيال كاتكين، وهو مؤلف كتاب عنها، في مجلة «تيكون»، اليهودية التقدمية: «منذ قرابة نصف قرن، انتقد كثير من اليهود آراء آرينت. لكن، نشاهد اليوم أن هذه الآراء تجد ترحيبا كبيرا، ليس فقط حول العالم، وأيضًا، وسط اليهود أنفسهم».
وأضاف: «يجب أن يكون هذا درسًا لنا».
من ناحية أخرى، ناهضت آرينت الشيوعية والنازية كلتيهما. كتبت عنهما في كتابها «أصل الشمولية» أن «الاثنين نوعان متشددان من الشمولية، بسبب تركيزهما على القضاء على أعدائهما. وأن حرق النازيين لليهود كان جزءًا من عداء لكل ما هو غير نازي». اختلفت في هذا مع زوجها اليهودي الشيوعي، لكنها كانت تفصل بين الحياة الخاصة والحياة العامة. وكانت ترى أن الحياة الخاصة (الزواج، والعائلة، والأطفال، والمنزل) تكبل الإنسان، وتمنعه من تحقيق الحرية الكاملة، مفضلة الفردية التي «تقود إلى الإبداع، والاختراعات، والاكتشافات». أما في كتابها «رجال في عصور مظلمة»، فقد فصلت بين النفس والعلم. ومن رأيها أن الاختراعات والإبداعات خدمت الحضارات. لكنها «أبعدت النفس البشرية عن حقيقتها». وتسببت، بالإضافة إلى الحداثة، في «أزمة فكرية كبيرة»، لأنها «وفرت حريات دون حدود. وعقدت الحياة».
لكن فلاسفة وعلماء اجتماع انتقدوها بسبب تركيزها على التفسير الأوروبي للحضارة، واتهموها بإنكار المبادئ الأميركية عن الحرية والعدل و«تفضيلها البيض على السود، وحديثها عن (الأفارقة المتوحشين)»، واعتقادها أن «التفرقة العنصرية جزء من الحرية، إذ يجب أن يكون الإنسان حرا في أن يفعل ما يريد، مهما كان رأي الآخرين فيما يفعل».
وقبل عامين، هنا، في نقاش عن آرينت في مركز «آرينت»، انتقدها عدد من الفلاسفة الأميركيين. وكتب واحد منهم، لورنس فوغيل، عميد كلية الفلسفة في جامعة «نيو سكول» في نيويورك (كانت آرينت أستاذة فيها)، قائلا إنها «انحازت إلى جانب النسبية (مانحة إياها مقاييس بشرية عن الخطأ والصواب)، وإنها ظلت تبحث عن الحقيقة، وهي تتجاهلها. وكذلك أخذ عليها ميلها نحو الفيلسوف اليوناني القديم سقراط، وليس نحو طالبه أفلاطون. (قدم أفلاطون تفسيرًا روحيًا للحياة، بينما ركز أستاذه سقراط على البحث عن المعرفة العلمية)».
وقال فوغيل إنه من المفارقات أن سنت أوغستين (أبو الفلسفة المسيحية) تأثر كثيرًا بفكر أفلاطون، الذي لم يكن طبعًا مسيحيًا.
ومن المفارقات أن آرينت كتبت رسالة الدكتوراه عن سنت أوغسطين نفسه (عن تفسير «الحب» عنده).
ومن جانب آخر، يشيد الكثيرون بآرينت لأنها، بشكل خاص، لم تخلط بين يهوديتها وآرائها، ومحاولتها ربط اليهودية بالمسيحية (بهدف تقليل عداء المسيحيين).
في عام 1976، توفيت آرينت، وكان عمرها 70 عامًا. بعد وفاتها، كشف موقع «وثائق إف بي آي»، أن مكتب التحقيقات الفيدرالي كان يتجسس عليها. وصنفها بأنها «خطر على الأمن الأميركي، وأنها قد تكون (شيوعية بالسر)»، ووصفها بأنها «يهودية، قصيرة القامة، تحلق رأسها مثل الرجال، وتتكلم مثلهم. لكنها ذكية جدًا».
أما فوغيل فوغيل، فقال: «إنها جمعت بين الذكاء اليهودي والخوف اليهودي».



قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية

قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية
TT

قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية

قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية

كانت الأراضي الفلسطينية طوال آلاف السنين مقراً وممراً للعديد من الحضارات العريقة التي تركت وراءها آلاف المواقع الأثريّة ذات الأهميّة الفائقة، ليس في تاريخ المنطقة فحسب، بل ومُجمل التجربة البشرية. وقد أصبحت المواقع بمحض القوة بعد قيام الدولة العبرية عام 1948 خاضعة لسلطة دائرة الآثار الإسرائيلية، التي لا تدخر وسعاً في السعي لتلفيق تاريخ عبراني لهذه البلاد، وإخفاء ما من شأنه أن يتعارض مع سرديات الحركة الاستعماريّة الصهيونيّة عنها.

على أن أراضي الضفة الغربيّة التي احتُلَتْ عام 1967 وتحتوى على ما لا يَقِلُّ عن 6 آلاف موقع أثَري ظلّت قانونياً خارج اختصاص دائرة الآثار الإسرائيلية، بينما تمّ بعد اتفاق أوسلو بين الدولة العبريّة ومنظمة التحرير الفلسطينية في 1995 تقاسم المنطقة لناحية اللقى والحفريات بشكل عشوائيّ بين السلطة الفلسطينية ووحدة الآثار في الإدارة المدنية الإسرائيلية، وفق تقسيمات الأراضي الثلاث المعتمدة للحكم والأمن (أ- سلطة فلسطينية، باء: سيطرة مدنية فلسطينية وسيطرة أمنية مشتركة مع الجانب الإسرائيلي، ج: سيطرة إسرائيلية تامة).

ويبدو أن غلبة التيار اليميني المتطرّف على السلطة في الدّولة العبريّة تدفع الآن باتجاه تعديل قانون الآثار الإسرائيلي لعام 1978 وقانون سلطة الآثار لعام 1989 بغرض تمديد صلاحية سلطة الآثار لتشمل مجمل الأراضي الفلسطينية المحتلّة عام 1967، بينما سيكون، حال إقراره، انتهاكاً سافراً للقانون الدّولي الذي يحظر على سلطات الاحتلال القيام بأنشطة تتعلق بالآثار ما لم تتعلق بشكل مباشر باحتياجات السكان المحليين (في هذه الحالة السكان الفلسطينيين).

ولحظت مصادر في الأرض الفلسطينية المحتلّة بأن الأوضاع الأمنيّة في الضفة الغربيّة تدهورت بشكل ملحوظ منذ بدء الحرب على غزة في أكتوبر (تشرين الأول) من العام 2023، وكثّفت السلطات الإسرائيليّة من توسعها الاستيطاني بشكل غير مسبوق منذ ثلاثة عقود، ورفعت من وتيرة هجماتها على بؤر المقاومة، وأطلقت يد المستوطنين اليهود كي يعيثوا فساداً في القرى والبلدات العربيّة تسبب بهجرة آلاف الفلسطينيين من بيوتهم، مما يشير إلى تكامل الجهد العسكري والاستيطاني مع التعديلات القانونية المزمعة لتحضير الأرضية المناسبة لتنفيذ النيات المبيتة بتهويد مجمل أراضي فلسطين التاريخيّة.

ويأتي مشروع القانون الذي قدمه عضو الكنيست عن حزب الليكود اليميني أميت هاليفي، في أعقاب حملة استمرت خمس سنوات من قبل رؤساء المجالس الإقليمية للمستوطنين ومنظمات مثل «حراس الخلود» المتخصصة في الحفاظ على ما يزعم بأنه تراث يهودي من انتهاكات مزعومة على أيدي العرب الفلسطينيين. وتردد الحملة أكاذيب مفادها أن ثمة مواقع في الضفة الغربية لها أهمية أساسية بالنسبة إلى ما أسمته «التراث اليهودي»، وخلقت انطباعاً بوجود «حالة طوارئ أثرية» تستدعي تدخل الدّولة لمنع الفلسطينيين من «نهب وتدمير آثار المواقع اليهودية ومحاولاتهم المتعمدة لإنكار الجذور اليهودية في الأرض» – على حد تعبيرهم.

وكانت اللجنة التشريعية الحكوميّة قد وافقت على التعديل المقترح لقانون الآثار، وأرسلته للكنيست الإسرائيلي (البرلمان) لمراجعته من قبل لجنة التعليم والثقافة والرياضة التي عقدت اجتماعها في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، وذلك تحضيراً لعرضه بالقراءة الأولى و«التصويت» في الكنيست بكامل هيئته خلال وقت قريب.

وبينما اكتفت السلطة الفلسطينية والدول العربيّة بالصمت في مواجهة هذه الاندفاعة لتعديل القانون، حذرّت جهات إسرائيلية عدة من خطورة تسييس علم الآثار في سياق الصراع الصهيوني الفلسطيني، واعتبرت منظمة «إيميك شافيه» غير الحكومية على لسان رئيسها التنفيذي ألون عراد أن «تطبيق قانون إسرائيلي على أراضي الضفة الغربية المحتلة يرقى إلى مستوى الضم الرسمي»، وحذَّر في حديث صحافيّ من «عواقب، ومزيد من العزل لمجتمع علماء الآثار الإسرائيليين في حالة فرض عقوبات دوليّة عليهم بسبب تعديل القانون»، كما أكدت جمعيّة الآثار الإسرائيليّة أنها تعارض مشروع القانون «لأن غايته ليست النهوض بعلم الآثار، بل لتعزيز أجندة سياسية، وقد يتسبب ذلك في ضرر كبير لممارسة علم الآثار في إسرائيل بسبب التجاوز على القانون الدولي المتعلق بالأنشطة الأثرية في الضفة الغربية»، ولا سيّما قرار محكمة العدل الدولية في التاسع عشر من يوليو (تموز) الماضي، الذي جدَّد التأكيد على أن وجود إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة برمته غير قانوني، وطالب الدّولة العبريّة بـ«إزالة مستوطناتها في الضفة الغربية والقدس الشرقية في أقرب وقت ممكن»، وألزمت سلطة الاحتلال بتقديم تعويضات كاملة للفلسطينيين بما في ذلك إعادة «جميع الممتلكات الثقافية والأصول المأخوذة من الفلسطينيين ومؤسساتهم».

وتشير الخبرة التاريخيّة مع سلطة الآثار الإسرائيلية إلى أن الحكومة تقوم لدى إعلان السلطة منطقة ما موقعاً تاريخيّاً بفرض حماية عسكريّة عليها، مما قد يتطلّب إخلاء السكان أو فرض قيود على تحركاتهم وإقامة بنية تحتية أمنية لدعم الحفريات، وتمنع تالياً الفلسطينيين أصحاب الأرض من تطويرها لأي استخدام آخر، الأمر الذي يعني في النهاية منع التنمية عنها، وتهجير سكانها وتهويدها لمصلحة الكيان العبريّ، لا سيّما وأن الضفة الغربيّة تحديداً تضم آلاف المواقع المسجلة، مما يجعل كل تلك الأراضي بمثابة موقع أثري ضخم مستهدف.

وتبرر الحكومة الإسرائيلية الحاليّة دعمها مشروع القانون للجهات الأُممية عبر تبني ادعاءات منظمات ومجالس مستوطني الضفة الغربيّة بأن الفلسطينيين يضرون بالمواقع ويفتقرون إلى الوسائل التقنية والكوادر اللازمة للحفاظ عليها، هذا في وقت قامت به قوات الجيش الإسرائيلي بتدمير مئات المواقع الأثريّة في قطاع غزة الفلسطيني المحتل عبر استهدافها مباشرة، مما يعني فقدانها إلى الأبد.

لن يمكن بالطبع للفلسطينيين وحدهم التصدي لهذا التغوّل على الآثار في فلسطين، مما يفرض على وزارات الثقافة ودوائر الآثار والجامعات في العالم العربيّ وكل الجهات الأممية المعنية بالحفاظ على التراث الإنساني ضرورة التدخل وفرض الضغوط للحيلولة دون تعديل الوضع القانوني للأراضي المحتلة بأي شكل، ومنع تهويد تراث هذا البلد المغرِق في عراقته.