«حزب الله النيجيري» ميليشيا مسلحة تواجه الفشل

رغم جهود إيران وتخطيطها الاستراتيجي

عناصر من حزب الله النيجيري ترفع أعلاما مؤيدة لحزب الله («الشرق الاوسط})
عناصر من حزب الله النيجيري ترفع أعلاما مؤيدة لحزب الله («الشرق الاوسط})
TT

«حزب الله النيجيري» ميليشيا مسلحة تواجه الفشل

عناصر من حزب الله النيجيري ترفع أعلاما مؤيدة لحزب الله («الشرق الاوسط})
عناصر من حزب الله النيجيري ترفع أعلاما مؤيدة لحزب الله («الشرق الاوسط})

عاد التوتر من جديد لمدينة كادونا إحدى ولايات شمال نيجيريا التي تعيش بها الأقلية الشيعية. ويأتي هذا الصدام الأخير الذي شهدته الأيام القليلة الماضية بين «الحركة الإسلامية في نيجيريا» وقوات الجيش، في مسار تاريخي من توترات لا تخلو من استعمال للسلاح بين أنصار الشيخ الشيعي إبراهيم الزكزاكي والسلطات النيجيرية.
كما يأتي هذا الحدث في سياق رأي المحكمة العليا النيجيرية الأخير في سبتمبر (أيلول) 2016، الخاص بمحاكمة زعيم التنظيم والتهم الموجهة إليه، خصوصا تلك المتعلقة بالمشاركة والتحريض على الاضطرابات والمواجهات المسلحة الواقعة بشمال نيجيريا عام 2015.
يبدو أن العنف المتبادل أصبح مسلكا راسخا للعلاقة بين الدولة وما يطلق عليه إيرانيًا اسم «حزب الله النيجيري»، خصوصا بعد التحول الجوهري الذي أحدثه الزكزاكي في حركته منذ 2011، حين ظهرت بوادر حقيقية لتشكل جناح عسكري شيعي تحت غطاء دعوي طائفي ومذهبي موالٍ لإيران داخل نيجيريا، ودخل التنظيم في سلسلة من التدريبات، وفتح ورشات سرية لصناعة السلاح الخفيف.
في مثل هذه الأيام من السنة الماضية، ديسمبر (كانون الأول) 2015، ظهرت على السطح في نيجيريا من جديد توترات ووقع اشتباك بين الجيش والتنظيم الشيعي المعروف بـ«الحركة الإسلامية النيجيرية»، على أثر منع أعضاء الجماعة موكب قائد الجيش من المرور، مما أدى لاشتباكات مسلحة بين الطرفين. وهو ما أعاد للأذهان تلك المواجهة التي حصلت بين الجيش وأنصار الزكزاكي عام 2014، وقتل فيها ثلاثة أفراد في محيط مدينة زاريا، بشمال البلاد.
وظلَّت السلطات النيجيرية منذ بداية الثمانينات من القرن العشرين، تتعامل مع هذا المكون الديني بترك الحرية الكاملة له للتحرك والنشاط الدعوي والاجتماعي والتجاري. غير أن اكتشاف وكالة الاستخبارات والجيش عام 2013 مستودع أسلحة هربها «حزب الله» اللبناني إلى شمال نيجيريا في مركز حركة إبراهيم يعقوب الزكزاكي غير من طبيعة تعامل الولاية، وكذلك السلطة المركزية مع «حزب الله النيجيري». خصوصًا أنه تبين أن المجموعة التي سهلت وخزنت السلاح تضم شيعة لبنانيين يمارسون التجارة، ويرتبط بهم بعض أتباع الشيخ الشيعي.
ولكن حتى قبل هذه العملية سبق للسلطات النيجيرية أن كشفت فوق أراضيها، خلال أكتوبر (تشرين الأول) من عام 2010م عملية نقل أسلحة من إيران في طريقها إلى غامبيا. وردًا على هذا السلوك الإيراني بادرت نيجيريا وغامبيا إلى قطع علاقاتهما الدبلوماسية مع إيران وطرد دبلوماسييها. وفي هذا السياق كشفت تقارير دولية أن نشاط طهران في مجال تهريب السلاح ازداد منذ عام 2006 وأنه يركز أساسا على المنظمات والميليشيات، فمن بين 14 حالة كشف فيها عن وجود أسلحة إيرانية بين عامي 2006 و2012، نجد فقط 4 حالات تخص الحكومات، وعشر حالات للحركات والميليشيات المسلحة ومن بينها، تنظيم إبراهيم الزكزاكي.
ويبدو أن العلاقة بين التنظيم الشيعي النيجيري وإيران لم تعد علاقة ولاء وارتباط بولاية الفقيه والمذهب الجعفري فحسب، بل باتت تتعدى الجانب العقدي المعنوي، لترتبط بالرؤية الإيرانية الجديدة القائمة على الدخول إلى مناطق الصراع الدولي عبر وكلاء - أو عملاء - ترتبط مصالحهم الوجودية بالسياسة الخارجية وبالمصالح الاستراتيجية الإيرانية. ولهذا فطهران تعول كثيرا على «حزب الله النيجيري»، وعلى المنظمات الشيعية المماثلة الأخرى، لبناء نفوذ سياسي وعسكري وديني يخدم مصالحها في منطقة غرب القارة الأفريقية. وبالنسبة لنيجيريا بالذات، ضمان مصالحها في دولة مهمة لسوق الطاقة العالمية ومنافسة لإيران في هذا المجال، كما يضمن لها ذلك مصالحها الاقتصادية والتجارية التي دعمتها سلطات طهران باتفاقيات ثنائية متعددة ومتنوعة.
من جهة أخرى، تسعى إيران وراء تثبيت التشيع المسلح بنيجيريا إلى بناء شبكة مسلحة بالقارة السمراء تسهل الأنشطة غير القانونية عبر البحر مع أميركا اللاتينية، وفي وقت نفسه تضمن حواضن اجتماعية في دولة لها وزن قاري وإقليمي كبير، مع تعدد للعرقيات والمذاهب، ما يسهل التدخل الخارجي السريع في النسيج المجتمعي. ومن ثم، يجعل الأقلية الشيعية النيجيرية جزءا من خزانها البشري في الصراعات الأفريقية والحروب الكثيرة التي تخوضها طهران راهنًا في سوريا والعراق واليمن وأفغانستان، وهو ما تسميها طهران «حروب الدفاع عن أهل البيت وعتباتهم المقدسة».
وفي هذا الإطار يمكن فهم الطريقة الدبلوماسية الرسمية التي تعاملت بها السلطات الإيرانية عام 2015 مع الزكزاكي (الأب الروحي لشيعة نيجيريا)، إذ كرمته الحكومة في حفل رسمي حضره كبار الشخصيات بالذكرى الـ36 للثورة الإيرانية، كما حظي بلقاءات مع شخصيات سياسية وعسكرية ودينية.
ويذكر أن الزكزاكي قام بأول زيارة لإيران عام 1980، للاحتفال بالثورة، وعندما رجع قام بتنظيم أول مظاهرة في مدينة زاريا لدعم الثورة. ولكن مع تكرار ممارسة التنظيم الشيعي للعنف تعرض قائده للسجن عدة مرات، كما تبين حسب تقارير رسمية أن هذا التنظيم كان وراء اغتيال بعض علماء السنّة بشمال نيجيريا، خصوصًا في كانو وسوكوتو. كما وجهت أصابع الاتهام للجماعة بالتدريب وتهريب السلاح، غير أنها ترفض هذه الاتهامات.
وفي هذا السياق، أدت المواجهة المسلحة بين تنظيم الزكزاكي والجيش النيجيري عام 2015 إلى مقتل العشرات، من بينهم قيادات الصف الأول من تنظيم «الحركة الإسلامية النيجيرية». وهذا المفصل اعتُبر أقوى ضربة قوية وجهت للتنظيم منذ تأسيسه بداية ثمانينات القرن العشرين. من جانب آخر، عملت السلطات المحلية على حل التنظيم واعتبرته تنظيمًا غير قانوني، ومهدّدًا للسلم الاجتماعي، إذ أصدرت حكومة ولاية كادونا بيانًا أعلنت فيه «الحركة الإسلامية في نيجيريا» (IMN)، تنظيمًا غير قانوني، وبُرِّر القرار بارتباطه بحفظ الأمن والسلم في الولاية.
وأوضح أن ذلك يتماشى مع الحقوق والواجبات في القانون النيجيري ودستورها خصوصًا المادة 45، التي أشار البيان إلى أنه «بشكل قاطع للمحافظ الصلاحيات لاتخاذ مثل هذه التدابير والإجراءات التي يراها ضرورية لتعزيز وحماية: السلامة العامة، والنظام العام، والآداب العامة أو الصحة العامة، أو الحقوق والحريات لجميع الأشخاص في ولاية كادونا».
ومن جهتها، اعتبرت اللجنة القضائية المكلفة التحقيق بأحداث مدينة زاريا أن «الحركة الإسلامية النيجيرية» غير مسجلة بشكل قانوني لدى السلطة بالولاية، وأن «لديها جناحا عسكريا وأن أعضاءها لا يعترفون أو يحترمون قوانين الدولة والسلطات المشكلة قانونيا لتحمّل مسؤولية تأمين وإدارة الدولة».
ولذلك يمكن اعتبار المواجهات الأخيرة بين الأمن النيجيري والحركة بمناسبة عاشوراء محاولة جديدة من التنظيم لفرض وجوده على الساحتين الاجتماعية والإعلامية، غير أن الجيش قام خلال المواجهات بإحراق «المركز الإسلامي» المسمى حسينية «بقيّة الله»، في مدينة زاريا. كذلك اعتقل الأمن الشيخ آدم أحمد، مسؤول مركز الجماعة في مدينة جوس المجاورة.
ولكن ما زالت الحركة الشيعية تنظم مظاهرات منددة بالحكومة المحلية والمركزية وتدعو إلى الثورة عليهما وإقامة «دولة إسلامية في شمال البلاد» تأسيًا بالنموذج الإيراني. كما أنها تصدر جريدة «الميزان» اليومية بلغة الهوسا - وهي اللغة المحلية وأوسع لغات نيجيريا انتشارًا - منذ نحو عقدين، وتشرف عليها شخصيات شيعية مشهورة بشمال نيجيريا، وتعتبر هذه الصحيفة الدرع الإعلامي لنشر الآيديولوجية الشيعية وسط شعب الهوسا، وربطه بإيران عبر ما تنقله الجريدة من أخبار إيرانية. أما جريدة «المجاهد» فهي موجَّهة أساسًا للنخبة، والطلاب بالجامعات.
وجدير بالذكر أن شخصيات إيرانية دينية وسياسية هذه الأيام قادت الدعوة في وسائل الإعلام لإطلاق سراح إبراهيم يعقوب الزكزاكي، الأب الروحي للتنظيم «حزب الله النيجيري»، دفاعًا عن حليف استطاع خلق حاضنة اجتماعية في بلد مهم استراتيجيا لإيران. ذلك أن نيجيريا التي يقرب عدد سكانها من 200 مليون نسمة، وتضم 3 ملايين شيعي فقط، اعتبرتها إيران تجربة عملية لخلق فصيل ميليشياوي شيعي مسلح، وعملت طهران على رعاية هذه التجربة، لنشرها في غرب أفريقيا. لكن مسار التاريخ عكس اتجاه سفينة إيران بالمنطقة، وشكل عام 2015 نكسة كبيرة لـ«حزب الله النيجيري»، وللتشيع الإيراني المسلح في أفريقيا.
ويبدو فعلاً أن ما لم تكسبه طهران بسلاح الشيعة الأفارقة قد لا تكسبه بالدعاية الإعلامية، واللعب على وتر المظلومية للشيعة في نيجيريا.
* أستاذ علوم سياسية
- جامعة محمد الخامس



فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.