التطرّف والتراث... والمؤسسة الدينية

منهج وانفصال... أم معرفة واتصال؟!

أسامة بن لادن وأيمن الظواهري زعيم «القاعدة» لم يكونا من الأزاهرة ولا من خريجي مدارسه رغم أن مدرسة دينية كالأزهر ليست صوتًا واحدًا (غيتي)
أسامة بن لادن وأيمن الظواهري زعيم «القاعدة» لم يكونا من الأزاهرة ولا من خريجي مدارسه رغم أن مدرسة دينية كالأزهر ليست صوتًا واحدًا (غيتي)
TT

التطرّف والتراث... والمؤسسة الدينية

أسامة بن لادن وأيمن الظواهري زعيم «القاعدة» لم يكونا من الأزاهرة ولا من خريجي مدارسه رغم أن مدرسة دينية كالأزهر ليست صوتًا واحدًا (غيتي)
أسامة بن لادن وأيمن الظواهري زعيم «القاعدة» لم يكونا من الأزاهرة ولا من خريجي مدارسه رغم أن مدرسة دينية كالأزهر ليست صوتًا واحدًا (غيتي)

بتوضيح أكثر، فإن الحسم بأن جريرة الإرهاب تقع على المؤسسة الدينية، سلفية كانت أم أزهرية، وقوع في خطأ فادح. أو الحكم بأنها مسؤولية النص خطأ فادح قد يقترب منه تحميل قراءاته في التراث وبعض أحكام فقهائه الماضين كذلك (التي تؤخذ أحيانا من كتاب تعليمي أو كتاب تجميعي أو فتاوى شاردة دون اعتناء بالنسق الكامل لمن أفتاها ومدرسته) خطأ أكبر. وهو يحول قضية تجفيف روافد الإرهاب لمعركة مع التراث منفصلة عن الاشتباك بنص الإرهاب نفسه. وهو ما يفتح المجال أمام محاور أربعة، تتمثل في في اتساع المؤسسة الدينية وقطع التطرف معها، والتراث المفتوح والنسبة المنغلقة، إلى جانب الاهتمام بالأخبار لا الأفكار، وأخيرا، انتقائية ومحدودية التراث عند الإرهاب.
كثيرون من منظّري ما يسميه البعض «الجهاد» المصري والمعولم لم يكونوا أزاهرة ولم يكونوا خريجي مدارسه. فعبد السلام فرج مهندس، والظواهري وعبد القادر بن عبد العزيز طبيبان، والزرقاوي لم يزُر مصر أو يعرفها ويعرف أزهرها وتراثه. وهذا مع أننا لا ننكر أن ثمة في الأزهر مَن مالوا للتعصّب والتطرّف واحتكار الحق والحقيقة منذ الشيخ المالكي محمد عليش (المتوفى عام 1882) أبرز مناهضي الشيخ محمد عبده (توفي عام 1905) - الأزهري أيضًا - وجمال الدين الأفغاني (توفي عام 1897)، مرورًا بالشيخ محمد شاكر (والد الشيخين المحقّقين والناقدين أبي فهر وأبي الِأشبال أحمد ومحمود محمد شاكر) وهو أبرز من واجه كلاً من علي عبد الرازق وكتابه «الإسلام وأصول الحكم» وطه حسين وكتابه «في الشعر الجاهلي» وغيرهم في عشرينات القرن الماضي، وصولا إلى بعض المعاصرين.
والحقيقة أن الأزهر لم يكن يضم هؤلاء فقط، بل اتسع أيضًا لكثير من أضدادهم ومَن ساندوا هؤلاء في كل اتجاه، ومَن مارسوا التجديد والترجمة والتطور كذلك. إن مدرسة دينية كالأزهر ليست صوتًا واحدًا، وكذلك المدرسة السلفية أو الزيتونية ليست صوتًا واحدًا، بل كان الكثير من المجدّدين ودعاة الإصلاح وحقوق المرأة والدعوة للتقدم أبناء هذه المدرسة كذلك. بل الغالب في كليهما ليس الغلو والتشدد قولاً واحدًا، وإن كان ثمة رأي وافق المتشددين في سياق معين، فيوجد ما يخالفه في منظومتها وربما في تراث الشخص نفسه.
ويظهر أن الحسم بمسؤولية قبلية في التاريخ لتطرّف معاصر يفصله عن سياقاته، ويعطيه شرعية وأصالة لا تشبهه. فضلاً عن أن نظامه المعرفي ليس إلا منهجًا عشوائيًا (اللامنهج) في انتقائيته وعشوائيته وذرائعيته في قراءة التراث والتاريخ معًا.
وإن عوَرًا عميقًا في كثير من عمل منظمات وأفراد في مجال مكافحة التطرف العنيف أنها تقف عند منتجاته وعملياته وأخباره دون أفكاره الراهنة، خصوصا في تجليها الأخير الأصولي الراديكالي والداعشي. وهي اعتبرته اتصالا بالتراث رغم أنه قطيعة معه بممارسته تأويلاً انتقائيا لتحقيق هدف يعتقده في الراهن فقط. بل يرى كل ما يقوم به ويقدمه نظرا وعملا «تجديدًا دينيًا»، ومن هنا لا غرابة لديه حين يصف «أبو جندل الأزدي» - أي فارس آل شويل، الذي أعدم في (2 يناير/ كانون الثاني 2015) - «شيخه» أسامة بن لادن في كتيب له بأنه «مجدّد الزمان وقاهر الأميركان» يحمل العنوان نفسه.
وإذا قبلنا أن المشكلة مشكلة منهج لا مشكلة قراءة، يمكننا تفسير جسارة وجرأة الأستاذ أبو الأعلى المودودي في «المصطلحات الأربعة» وحسمه بأنه يعيد فهم الدين من جديد! وأن كثيرا من القرون الأولى لم تستطع أو تنل فهما صحيحا لأركان معرفية أربعة في تصور الدين، وهي مفاهيم «الإله والدين والرب والعبادة»، وهو ما انتقده عليه الكثيرون فيما بعد. واعتبره أبو الحسن الندوي «تفسيرًا سياسيًا للإسلام» يطوعه مفاهيمه ومفرداته لغاية سياسية، وذكر الندوي في مقدمته أن المودودي قبل منه ذلك فيما بعد واطلع عليه، وطلب منه مواصلته على سائر مؤلفاته.
لذا نرى المشكلة مع ظاهرة التطرف العنيف والأصولية المنسوبة للإسلام سنية وشيعية، مشكلة منهج وليست مشكلة معرفة أو انتساب أو تأثير وتأثر يتحمل النص أو مدرسة ما جريرته. مع الظاهرة الأصولية والمتطرفة المنسوبة للإسلام، سنيا وشيعيا، ليست مشكلة إسناداته ومرتكزاته النصية والتراثية التي يستند إليها بالأساس، لكنها مشكلة المنهج والذرائعية وإرادة الآيديولوجيا لا إرادة المعرفة في فهم النص نفسه، مما يجعلها تمارس تطويعا للنص قبل أن تمارس قراءة أو اكتشافا له.
إن ثمة انتقاء واقتطافًا اختزاليًا النظام المعرفي لأفكار الإرهاب والتطرّف الديني العنيف المنسوب للإسلام. ويبدو أن البحث في معضلة الإرهاب بهدف مكافحته وعلاقته بالتراث الإسلامي أو منظومات المدارس الإسلامية بحث غير مجد، لأنها منفصل عن هذا التراث في تأويله الذي تبلور خاصًا مؤسسًا على أدبيات الإسلام السياسي القطبي وعلى الفتاوى مؤسسا منظومته وأدبياته الخاصة فيما بعد، بعدا وقطعا مع هذه المنظومات الأولى وصداما عليها ومعها. وسنعرض في ما يلي ملامح من إهمال الإرهاب لجوانب عريضة من التراث مثل مبحث الأدب والفقه السياسي الإسلامي الذي يفترض أن يكون أقرب لاهتماماتها، ولم تدخل عليه إلا برغبة وإرادة الأدلجة، أو القوة والتطويع توظيفًا لا الاكتشاف أو الاستلهام استئناسا.
مفردة «الحاكمية» التي صكها سيد قطب، تعريبا لما كتبه المودودي واتفاقًا معه، ليست أصيلة في النص والتراث الإسلامي ولم ترد قبلهما لفظا أو دلالة قبلهما عند أحد من علماء السلف عمومًا.
لكنها، استحالت وصارت مع الحركات الراديكالية الإسلامية المعاصرة كأنها ثابت لا مناص عنه، وأصل لا انفلات منه. واعتبرها منظر راديكالي معاصر «أخص خصائص عقيدة الألوهية ذاتها»، وهو (رغم نسبته للسلف) حشر في مجمل وتفاصيل اعتقاده ما ليس منه، ذرائعية تخدم واقعيته وهدفه المعاصر والآني في حرب وصراع الأنظمة «العدو القريب» أو العالم وقواه المتحالفة معه (العدو البعيد).
ولا يهتم المتطرفون في أدب الخلافة والإمامة المعاصر بتاريخ المفاهيم، بل يهتمون بتوظيفها وإسقاطها على الواقع المعاصر مرة واحدة، سواء في ذلك في مفهوم الخلافة نفسه، أو مفاهيم أخرى كمفهوم «الدار» و«الخروج» وما شابه. وهذا رغم أن الأخير نفسه أجمع علماء المسلمين السنّة على رفضه بعد فترة من الوقت، منذ القرن الأول، ولم يكن هدفا ولا غاية عندهم. بل وقدموا عليه مفهوم «درء الفتنة» بعد تألمهم من أحداث الفتن ومأساة الحسين ومأساة القراء وقبلوا بحكم التغلب لهذا السبب، نائين بالدين عن صدامه بالسلطة إلا أمرا بمعروف ونهيا عن المنكر لا عنفيًا. وهكذا كان إلحاح ابن خلدون على العصبية أو ابن تيمية على الشوكة كشرط لانعقاد أي إمامة، قبل غيرها من الصفات التي يرددها التطرف المعاصر والقديم.
كذلك، فإن تأملاً بسيطًا في تاريخ التأثير الفارسي في الأدب الإسلامي، مع نهايات الحكم الأموي - ولقد أعجب الكثير من حكامه بعهد أردشير بالخصوص - سيلحظ صداه الباطني في أدب الخلافة والإمامة على السواء. فالكلمة المشهورة لأردشير بن بابك أن «الدين أس الملك» هي من صنعت كثيرا متوالياتها الأخرى في تراث الخلافة بل مفهومها نفسه، فتم تصوير الحكم الإسلامي أو الخلافة والخليفة كحفظ للدين ومحفوظ به، وتم تعريف الخلافة عند مختلف الفرق ومؤرخيهم كـ«حراسة للدين وسياسة للدنيا كذلك». وهنا تمت بلورة التاريخ دينا، وآثرت فتنة البشر على وحدة الدين، وتفرّق الناس إلا عن كلمة التوحيد التي تجمعهم، كما ضبط الأشعري تصنيفه في «مقالات الإسلاميين».
وحتى لا ينتقد ناقد بأن الكتابات الإسلامية السياسية، إلى القرن الرابع والخامس الهجري، في إشارة لما بدأ على يد أمثال أبو الحسن الماوردي (450 هجرية) الذي مأسس لتصوراتها في عهد الخليفة القادر بالله عام 422 هجرية، وتبعه في ذلك معاصراه إمام الحرمين أبو المعالي الجويني (المتوفى 478 هجرية)، الذي تميز في طرحه عنه، والقاضي أبو يعلى الحنبلي (458 هجرية) الذي نقل عن الماوردي الكثير في كتابه، ولم يشر إليه، رغم تعاصرهما. لكنه نقد غير صحيح، فالاهتمام بما يسمى «السياسة وتصورات الدولة وأحكامها» مبكر يعود للقرن الثاني الهجري في مسائل جزئية كـ«الخراج» لأبي يوسف (توفي 182 هجرية) إلى كتاب «الأم» للشافعي (توفي 204 هجرية).
ولكن خلاف الإمامة وتصور الخلافة وتدييين الحكم وتسييسه، مع أجواء الفتنة وتأثير عهد أردشير والتأثيرات الفكرية الأخرى، إذ ولد معها مبكرا ولم تكن شرعية تتولد إلا من تصورات الدين وأحكامه، وصارت كل فكرة تصوغ اعتقادها وفق لخلافها في مسألة الإمامة والحكم نفسها.
ويبدو النظام المعرفي للتطرّف المعاصر، بأشكاله العنفية خصوصًا، منفصلاً عن كل هذه الآداب، مكتفيا بالانتقاء منها أحيانا أو التوظيف الآيديولوجي فقط. وأحيانا اختزالها ظنًا ورهانًا فقط على أن الآخرين سيصدقون أن مقولتهم أصيلة أو شرعية، كما كان في تدليسهم فتوى لابن تيمية نسبوا فيها له جواز التحريق، مع أن ابن تيمية قال في آخر نصه إنه يرفض ولا يفضل ذلك، حتى لو انتقامًا ممن صنع مثله بأسير مسلم. ولقد كشفنا هذا التدليس في مقال بـ«الشرق الأوسط» سابقًا بعد بيانهم بأيام.



فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.