التطرّف والتراث... والمؤسسة الدينية

منهج وانفصال... أم معرفة واتصال؟!

أسامة بن لادن وأيمن الظواهري زعيم «القاعدة» لم يكونا من الأزاهرة ولا من خريجي مدارسه رغم أن مدرسة دينية كالأزهر ليست صوتًا واحدًا (غيتي)
أسامة بن لادن وأيمن الظواهري زعيم «القاعدة» لم يكونا من الأزاهرة ولا من خريجي مدارسه رغم أن مدرسة دينية كالأزهر ليست صوتًا واحدًا (غيتي)
TT

التطرّف والتراث... والمؤسسة الدينية

أسامة بن لادن وأيمن الظواهري زعيم «القاعدة» لم يكونا من الأزاهرة ولا من خريجي مدارسه رغم أن مدرسة دينية كالأزهر ليست صوتًا واحدًا (غيتي)
أسامة بن لادن وأيمن الظواهري زعيم «القاعدة» لم يكونا من الأزاهرة ولا من خريجي مدارسه رغم أن مدرسة دينية كالأزهر ليست صوتًا واحدًا (غيتي)

بتوضيح أكثر، فإن الحسم بأن جريرة الإرهاب تقع على المؤسسة الدينية، سلفية كانت أم أزهرية، وقوع في خطأ فادح. أو الحكم بأنها مسؤولية النص خطأ فادح قد يقترب منه تحميل قراءاته في التراث وبعض أحكام فقهائه الماضين كذلك (التي تؤخذ أحيانا من كتاب تعليمي أو كتاب تجميعي أو فتاوى شاردة دون اعتناء بالنسق الكامل لمن أفتاها ومدرسته) خطأ أكبر. وهو يحول قضية تجفيف روافد الإرهاب لمعركة مع التراث منفصلة عن الاشتباك بنص الإرهاب نفسه. وهو ما يفتح المجال أمام محاور أربعة، تتمثل في في اتساع المؤسسة الدينية وقطع التطرف معها، والتراث المفتوح والنسبة المنغلقة، إلى جانب الاهتمام بالأخبار لا الأفكار، وأخيرا، انتقائية ومحدودية التراث عند الإرهاب.
كثيرون من منظّري ما يسميه البعض «الجهاد» المصري والمعولم لم يكونوا أزاهرة ولم يكونوا خريجي مدارسه. فعبد السلام فرج مهندس، والظواهري وعبد القادر بن عبد العزيز طبيبان، والزرقاوي لم يزُر مصر أو يعرفها ويعرف أزهرها وتراثه. وهذا مع أننا لا ننكر أن ثمة في الأزهر مَن مالوا للتعصّب والتطرّف واحتكار الحق والحقيقة منذ الشيخ المالكي محمد عليش (المتوفى عام 1882) أبرز مناهضي الشيخ محمد عبده (توفي عام 1905) - الأزهري أيضًا - وجمال الدين الأفغاني (توفي عام 1897)، مرورًا بالشيخ محمد شاكر (والد الشيخين المحقّقين والناقدين أبي فهر وأبي الِأشبال أحمد ومحمود محمد شاكر) وهو أبرز من واجه كلاً من علي عبد الرازق وكتابه «الإسلام وأصول الحكم» وطه حسين وكتابه «في الشعر الجاهلي» وغيرهم في عشرينات القرن الماضي، وصولا إلى بعض المعاصرين.
والحقيقة أن الأزهر لم يكن يضم هؤلاء فقط، بل اتسع أيضًا لكثير من أضدادهم ومَن ساندوا هؤلاء في كل اتجاه، ومَن مارسوا التجديد والترجمة والتطور كذلك. إن مدرسة دينية كالأزهر ليست صوتًا واحدًا، وكذلك المدرسة السلفية أو الزيتونية ليست صوتًا واحدًا، بل كان الكثير من المجدّدين ودعاة الإصلاح وحقوق المرأة والدعوة للتقدم أبناء هذه المدرسة كذلك. بل الغالب في كليهما ليس الغلو والتشدد قولاً واحدًا، وإن كان ثمة رأي وافق المتشددين في سياق معين، فيوجد ما يخالفه في منظومتها وربما في تراث الشخص نفسه.
ويظهر أن الحسم بمسؤولية قبلية في التاريخ لتطرّف معاصر يفصله عن سياقاته، ويعطيه شرعية وأصالة لا تشبهه. فضلاً عن أن نظامه المعرفي ليس إلا منهجًا عشوائيًا (اللامنهج) في انتقائيته وعشوائيته وذرائعيته في قراءة التراث والتاريخ معًا.
وإن عوَرًا عميقًا في كثير من عمل منظمات وأفراد في مجال مكافحة التطرف العنيف أنها تقف عند منتجاته وعملياته وأخباره دون أفكاره الراهنة، خصوصا في تجليها الأخير الأصولي الراديكالي والداعشي. وهي اعتبرته اتصالا بالتراث رغم أنه قطيعة معه بممارسته تأويلاً انتقائيا لتحقيق هدف يعتقده في الراهن فقط. بل يرى كل ما يقوم به ويقدمه نظرا وعملا «تجديدًا دينيًا»، ومن هنا لا غرابة لديه حين يصف «أبو جندل الأزدي» - أي فارس آل شويل، الذي أعدم في (2 يناير/ كانون الثاني 2015) - «شيخه» أسامة بن لادن في كتيب له بأنه «مجدّد الزمان وقاهر الأميركان» يحمل العنوان نفسه.
وإذا قبلنا أن المشكلة مشكلة منهج لا مشكلة قراءة، يمكننا تفسير جسارة وجرأة الأستاذ أبو الأعلى المودودي في «المصطلحات الأربعة» وحسمه بأنه يعيد فهم الدين من جديد! وأن كثيرا من القرون الأولى لم تستطع أو تنل فهما صحيحا لأركان معرفية أربعة في تصور الدين، وهي مفاهيم «الإله والدين والرب والعبادة»، وهو ما انتقده عليه الكثيرون فيما بعد. واعتبره أبو الحسن الندوي «تفسيرًا سياسيًا للإسلام» يطوعه مفاهيمه ومفرداته لغاية سياسية، وذكر الندوي في مقدمته أن المودودي قبل منه ذلك فيما بعد واطلع عليه، وطلب منه مواصلته على سائر مؤلفاته.
لذا نرى المشكلة مع ظاهرة التطرف العنيف والأصولية المنسوبة للإسلام سنية وشيعية، مشكلة منهج وليست مشكلة معرفة أو انتساب أو تأثير وتأثر يتحمل النص أو مدرسة ما جريرته. مع الظاهرة الأصولية والمتطرفة المنسوبة للإسلام، سنيا وشيعيا، ليست مشكلة إسناداته ومرتكزاته النصية والتراثية التي يستند إليها بالأساس، لكنها مشكلة المنهج والذرائعية وإرادة الآيديولوجيا لا إرادة المعرفة في فهم النص نفسه، مما يجعلها تمارس تطويعا للنص قبل أن تمارس قراءة أو اكتشافا له.
إن ثمة انتقاء واقتطافًا اختزاليًا النظام المعرفي لأفكار الإرهاب والتطرّف الديني العنيف المنسوب للإسلام. ويبدو أن البحث في معضلة الإرهاب بهدف مكافحته وعلاقته بالتراث الإسلامي أو منظومات المدارس الإسلامية بحث غير مجد، لأنها منفصل عن هذا التراث في تأويله الذي تبلور خاصًا مؤسسًا على أدبيات الإسلام السياسي القطبي وعلى الفتاوى مؤسسا منظومته وأدبياته الخاصة فيما بعد، بعدا وقطعا مع هذه المنظومات الأولى وصداما عليها ومعها. وسنعرض في ما يلي ملامح من إهمال الإرهاب لجوانب عريضة من التراث مثل مبحث الأدب والفقه السياسي الإسلامي الذي يفترض أن يكون أقرب لاهتماماتها، ولم تدخل عليه إلا برغبة وإرادة الأدلجة، أو القوة والتطويع توظيفًا لا الاكتشاف أو الاستلهام استئناسا.
مفردة «الحاكمية» التي صكها سيد قطب، تعريبا لما كتبه المودودي واتفاقًا معه، ليست أصيلة في النص والتراث الإسلامي ولم ترد قبلهما لفظا أو دلالة قبلهما عند أحد من علماء السلف عمومًا.
لكنها، استحالت وصارت مع الحركات الراديكالية الإسلامية المعاصرة كأنها ثابت لا مناص عنه، وأصل لا انفلات منه. واعتبرها منظر راديكالي معاصر «أخص خصائص عقيدة الألوهية ذاتها»، وهو (رغم نسبته للسلف) حشر في مجمل وتفاصيل اعتقاده ما ليس منه، ذرائعية تخدم واقعيته وهدفه المعاصر والآني في حرب وصراع الأنظمة «العدو القريب» أو العالم وقواه المتحالفة معه (العدو البعيد).
ولا يهتم المتطرفون في أدب الخلافة والإمامة المعاصر بتاريخ المفاهيم، بل يهتمون بتوظيفها وإسقاطها على الواقع المعاصر مرة واحدة، سواء في ذلك في مفهوم الخلافة نفسه، أو مفاهيم أخرى كمفهوم «الدار» و«الخروج» وما شابه. وهذا رغم أن الأخير نفسه أجمع علماء المسلمين السنّة على رفضه بعد فترة من الوقت، منذ القرن الأول، ولم يكن هدفا ولا غاية عندهم. بل وقدموا عليه مفهوم «درء الفتنة» بعد تألمهم من أحداث الفتن ومأساة الحسين ومأساة القراء وقبلوا بحكم التغلب لهذا السبب، نائين بالدين عن صدامه بالسلطة إلا أمرا بمعروف ونهيا عن المنكر لا عنفيًا. وهكذا كان إلحاح ابن خلدون على العصبية أو ابن تيمية على الشوكة كشرط لانعقاد أي إمامة، قبل غيرها من الصفات التي يرددها التطرف المعاصر والقديم.
كذلك، فإن تأملاً بسيطًا في تاريخ التأثير الفارسي في الأدب الإسلامي، مع نهايات الحكم الأموي - ولقد أعجب الكثير من حكامه بعهد أردشير بالخصوص - سيلحظ صداه الباطني في أدب الخلافة والإمامة على السواء. فالكلمة المشهورة لأردشير بن بابك أن «الدين أس الملك» هي من صنعت كثيرا متوالياتها الأخرى في تراث الخلافة بل مفهومها نفسه، فتم تصوير الحكم الإسلامي أو الخلافة والخليفة كحفظ للدين ومحفوظ به، وتم تعريف الخلافة عند مختلف الفرق ومؤرخيهم كـ«حراسة للدين وسياسة للدنيا كذلك». وهنا تمت بلورة التاريخ دينا، وآثرت فتنة البشر على وحدة الدين، وتفرّق الناس إلا عن كلمة التوحيد التي تجمعهم، كما ضبط الأشعري تصنيفه في «مقالات الإسلاميين».
وحتى لا ينتقد ناقد بأن الكتابات الإسلامية السياسية، إلى القرن الرابع والخامس الهجري، في إشارة لما بدأ على يد أمثال أبو الحسن الماوردي (450 هجرية) الذي مأسس لتصوراتها في عهد الخليفة القادر بالله عام 422 هجرية، وتبعه في ذلك معاصراه إمام الحرمين أبو المعالي الجويني (المتوفى 478 هجرية)، الذي تميز في طرحه عنه، والقاضي أبو يعلى الحنبلي (458 هجرية) الذي نقل عن الماوردي الكثير في كتابه، ولم يشر إليه، رغم تعاصرهما. لكنه نقد غير صحيح، فالاهتمام بما يسمى «السياسة وتصورات الدولة وأحكامها» مبكر يعود للقرن الثاني الهجري في مسائل جزئية كـ«الخراج» لأبي يوسف (توفي 182 هجرية) إلى كتاب «الأم» للشافعي (توفي 204 هجرية).
ولكن خلاف الإمامة وتصور الخلافة وتدييين الحكم وتسييسه، مع أجواء الفتنة وتأثير عهد أردشير والتأثيرات الفكرية الأخرى، إذ ولد معها مبكرا ولم تكن شرعية تتولد إلا من تصورات الدين وأحكامه، وصارت كل فكرة تصوغ اعتقادها وفق لخلافها في مسألة الإمامة والحكم نفسها.
ويبدو النظام المعرفي للتطرّف المعاصر، بأشكاله العنفية خصوصًا، منفصلاً عن كل هذه الآداب، مكتفيا بالانتقاء منها أحيانا أو التوظيف الآيديولوجي فقط. وأحيانا اختزالها ظنًا ورهانًا فقط على أن الآخرين سيصدقون أن مقولتهم أصيلة أو شرعية، كما كان في تدليسهم فتوى لابن تيمية نسبوا فيها له جواز التحريق، مع أن ابن تيمية قال في آخر نصه إنه يرفض ولا يفضل ذلك، حتى لو انتقامًا ممن صنع مثله بأسير مسلم. ولقد كشفنا هذا التدليس في مقال بـ«الشرق الأوسط» سابقًا بعد بيانهم بأيام.



تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
TT

تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)

من يقود تنظيم داعش الإرهابي الآن؟ وما سر عدم ظهور إبراهيم الهاشمي القرشي، زعيم «داعش» الجديد، حتى اللحظة؟ ولماذا تعمد التنظيم إخفاء هوية «القرشي» منذ تنصيبه قبل شهرين؟ وهل هناك تغير في شكل التنظيم خلال الفترة المقبلة، عبر استراتيجية إخفاء هوية قادته، خوفاً عليهم من الرصد الأمني بعد مقتل أبو بكر البغدادي؟ تساؤلات كثيرة تشغل الخبراء والمختصين، بعدما خيم الغموض على شخصية زعيم «داعش» الجديد طوال الفترة الماضية. خبراء في الحركات الأصولية أكدوا لـ«الشرق الأوسط» أن «التنظيم يعاني الآن من غياب المركزية في صناعة القرار».
ويرجح خبراء التنظيمات المتطرفة أن «يكون (داعش) قد قرر إخفاء هوية (القرشي) تماماً، في محاولة لحمايته، وأن إعلان (القرشي) زعيماً من قبل كان شكلاً من أشكال التمويه فقط، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم». كما شكك الخبراء في «وجود شخصية (القرشي) من الأساس».
وأعلن «داعش»، في تسجيل صوتي بثه موقع «الفرقان»، الذراع الإعلامية للتنظيم، في نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تنصيب «القرشي» خلفاً للبغدادي الذي قتل في أعقاب غارة أميركية، وتعيين أبو حمزة القرشي متحدثاً باسم التنظيم، خلفاً لأبو الحسن المهاجر الذي قتل مع البغدادي. وكان الرئيس الأميركي دونالد ترمب قد أعلن «مقتل البغدادي في عملية عسكرية أميركية شمال غربي سوريا».
ورغم أن مراقبين أكدوا أن «(القرشي) هو القاضي الأول في التنظيم، وكان يرأس اللجنة الشرعية»، فإن مصادر أميركية ذكرت في وقت سابق أن «(القرشي) عُرف بلقب الحاج عبد الله، وعُرف أيضاً باسم محمد سعيد عبد الرحمن المولى، وكان أحد قادة تنظيم القاعدة في العراق، وقاتل ضد الأميركيين». لكن عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر «شكك في وجود (القرشي) من الأساس»، قائلاً: إن «(القرشي) شخصية غير حقيقية، وهناك أكثر من إدارة تدير (داعش) الآن».
وأكد أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أنه «بطبيعة الحال، لا يمكن أن نحدد من يقود (داعش) الآن، حتى هذا الإعلان (أي تنصيب القرشي) قد يكون شكلاً من أشكال التمويه، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم»، مضيفاً: «نحن أمام عدد من الاحتمالات: الاحتمال الأول هو أن تكون شخصية (القرشي) حقيقية لكن يتم إخفاءها، وعدم ظهوره إلى الآن هو من أجل تأمين حياته، وعدم مطاردته من قبل أجهزة الدول. والاحتمال الثاني أننا أمام شخصية (وهمية)، والتنظيم لا يزال منقسماً حول فكرة اختيار خليفة للبغدادي. أما الاحتمال الثالث فأننا أمام صراع حقيقي داخل التنظيم حول خلافة (البغدادي)».
وتحدث المراقبون عن سبب آخر لإخفاء «داعش» هوية «القرشي»، وهو «الخوف من الانشقاقات التي تضرب التنظيم من قبل مقتل البغدادي، بسبب الهزائم التي مُني بها في سوريا والعراق، خاصة أن نهج إخفاء المعلومات والتفاصيل التي تتعلق بقادة (داعش) استخدمه التنظيم من قبل، حين تم تعيين أبو حمزة المهاجر وزيراً للحرب (على حد تعبير التنظيم) في عهد البغدادي، وتم الكشف عن اسمه في وقت لاحق».
وكان البغدادي قد استغل فرصة الاضطرابات التي حدثت في سوريا، وأسس فرعاً لتنظيمه هناك، كما استغل بعض الأحداث السياسية في العراق، وقدم نفسه وتنظيمه على أنهم المدافعون عن الإسلام (على حد زعمه)، فاكتسب في البداية بيئة حاضنة ساعدته على احتلال المزيد من الأراضي العراقية التي أسس عليها «دولته المزعومة». وفي عام 2014، أعلن البغدادي نفسه «خليفة مزعوماً» من على منبر مسجد النوري الكبير، في مدينة الموصل، ثم اختفى بعدها لمدة 5 سنوات، ولم يظهر إلا في أبريل (نيسان) الماضي، في مقطع فيديو مصور مدته 18 دقيقة، ليعلن «انتهاء السيطرة المكانية لـ(دولته المزعومة)، وسقوط آخر معاقلها في الباغوز السورية». وقال المراقبون إنه «رغم أن ظهور البغدادي كان قليلاً في السنوات الأخيرة قبل مقتله، فإن أخباره كانت دائمة الانتشار، كما عمد مع بداية الإعلان عن (دولته المزعومة) إلى الظهور المتكرر، وهو ما لم يفعله (القرشي)».
وأكد عبد المنعم أن «هوية (القرشي) كانت لا بد أن تختفي تماماً لحمايته»، مدللاً على ذلك بأنه «في ثمانينات القرن الماضي، كانت التنظيمات الإرهابية تعلن عن أكثر من اسم للقيادة، حتى تحميه من التتبع الأمني»، موضحاً: «يبدو أن هوية (القرشي) الحقيقة بالنسبة لعناصر التنظيم ليست بالأهمية ذاتها، لأن ما يهمهم هو وجود الزعيم على هرم التنظيم، ضمن إطار وإرث ديني... وهذا أهم بكثير للعناصر من الإعلان عن هوية الرجل (أي القرشي)»، مدللاً على ذلك بأنه «في الأيام التي أعقبت إعلان تعيين (القرشي)، تساءلت مجموعة صغيرة من عناصر التنظيم على موقع التواصل (تليغرام) عن هوية الزعيم الجديد. وبعد أيام من تساؤلاتهم، وعندما طلب منهم مبايعة (القرشي)، قلت التساؤلات. ولهذا، من الواضح أن هوية الرجل بدت غير مهمة لهم، بل المهم هو أنه زعيم (داعش)، ويحتاج إلى دعمهم».
وحث أبو حمزة القرشي، متحدث «داعش» الجديد، أتباعه في رسالته الصوتية الأخيرة على «الالتزام بما أصدره البغدادي في رسالته في سبتمبر (أيلول) الماضي، التي طالب فيها بتحرير أنصار التنظيم من السجون، وتجنيد أتباع جدد لاستكمال المهمة، وتأكيد مواصلة التنظيم تمدده في الشرق الأوسط وخارجه».
ومن جهته، أضاف عبد المنعم أن «التنظيم دشن قبل أيام كتيبة أطلق عليها (الثأر للبغدادي والمهاجر)، بهدف الانتقام لمقتل البغدادي والمهاجر، كما جرى سجن عدد من قيادات التنظيم، مُرجح أنها تورطت في تسريب معلومات بطريقة غير مباشرة لعناصر في تنظيم (حراس الدين)»، موضحاً أن «المركز الإعلامي للتنظيم يعاني حالياً من عدم وجود اتصال مع باقي المراكز التابعة للتنظيم، ويعاني من حالة ارتباك شديدة».
وهدد المتحدث باسم التنظيم الجديد الولايات المتحدة، قائلاً: «لا تفرحوا بمقتل الشيخ البغدادي». وقال عبد المنعم: «يبدو أن (داعش) قرر عدم التعامل بالشكل التقليدي في التسجيلات والظهور المباشر لـ(القرشي)، مثلما كان يحدث مع البغدادي»، لافتاً إلى أن «عمليات (داعش) منذ تولي (القرشي) لم تشهد أي حراك، على عكس شهري أبريل وسبتمبر الماضيين، اللذين شهدا حراكاً، عقب بث تسجيلين: واحد مصور والآخر صوتي للبغدادي».
وكان أبو بكر البغدادي قد ذكر في سبتمبر (أيلول) الماضي أن «تنظيمه لا يزال موجوداً، رغم توسعه في البداية، ومن ثم الانكماش»، وأن ذلك يعد (اختباراً من الله)»، على حد زعمه.
وقال عمرو عبد المنعم إن «قنوات (داعش) واصلت بث أخبارها كالمعتاد، وأبرز ما نقلته هذه القنوات أخيراً إصدار مرئي جديد على شاكلة (صليل الصوارم)، بعنوان (لن يضروكم إلا أذى)، مدته 11 دقيقة، وفيه متحدث رئيسي مُقنع يتوعد بالثأر من عملية (التراب الأسود) التي أطلقتها القوات العراقية ضد (داعش) في سبتمبر (أيلول) الماضي. وفي نهاية الإصدار، ظهر مقاتلون ملثمون يبايعون الخليفة الجديد».
وبايع فرع «داعش» في الصومال «القرشي» في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، حيث نشر فرع التنظيم صوراً على موقع التواصل الاجتماعي «إنستغرام» لنحو 12 عنصراً يقفون بين الأشجار، وعليها تعليق يقول: «إنهم يعلنون مبايعة (القرشي)». كما بايع «ولاية سيناء»، الموالي لـ«داعش» في مصر، «القرشي»، ونشر في إصدار مرئي صوراً لمجموعة قال إنهم من العناصر التي بايعت «القرشي». ويشار إلى أنه ما زالت بعض أفرع تنظيم داعش حول العالم لم تعلن مبايعتها لـ«القرشي» حتى الآن، وفي مقدمتها «ولاية خراسان» في أفغانستان، و«ولاية غرب أفريقيا» (بوكو حرام سابقاً) في نيجيريا.
وحول وجود تغير في استراتيجية «داعش» في الفترة المقبلة، بالاعتماد على إخفاء شخصيات قادته، أكد الخبير الأصولي أحمد بان أن «هذه المرحلة ليست مرحلة الإمساك بالأرض من جديد، والسيطرة عليها، أو ما يسمى (الخلافة)، لكن مرحلة ترميم مجموعات التنظيم، وإعادة التموضع في ساحات جديدة، ومحاولة كسب ولاءات جماعات أخرى، قبل أن نصل إلى عنوان جديد، ربما يعكس ظهور تنظيم جديد، قد يكون أخطر من تنظيم (داعش). لكن في كل الأحوال، هيكلية (داعش) تغيرت، من مرحلة الدولة (المزعومة) إلى مرحلة (حروب النكاية) إلى مرحلة إعادة التنظيم والتموضع؛ وكل مرحلة تطرح الشكل المناسب لها. وفي هذه المرحلة (أي الآن)، أتصور أن التنظيم قد تشظى إلى مجموعات صغيرة، وأن هناك محاولة لكسب ولاء مجموعات جديدة في دول متعددة».
أما عمرو عبد المنعم، فقد لفت إلى أن «(داعش) فقد مركزية صناعة القرار الآن، وهناك عملية (انشطار) في المرحلة المقبلة للتنظيم، ولن يكرر التنظيم فكرة القيادة المركزية من جديد، لذلك لم يظهر (القرشي) على الإطلاق حتى الآن، لو كان له وجود حقيقي، وهذا على عكس ما كان يظهر به البغدادي، ويحث العناصر دائماً على الثبات والصبر»، محذراً في الوقت ذاته من «خطوة (حرب العصابات) التي قد يشنها التنظيم، وقتال الشوارع واستنزاف القوى الكبرى، وهي الاستراتيجية القديمة نفسها للتنظيم، مع زيادة العنصر (الانفرادي) الذي يعرف بـ(الذئاب المنفردة)».
وقال المراقبون إن «التنظيم تحول منذ سقوط بلدة الباغوز في مارس (آذار) الماضي، ونهاية (الخلافة المزعومة) بعد عدة سنوات من إرسائها، نحو اعتماد (نهج العصابات). وقاد البغدادي (داعش) بعد استيلائه على مناطق شاسعة في العراق وسوريا، قبل أن يتهاوى التنظيم خلال الأشهر الماضية نتيجة خسائره، وفرار عدد كبير من عناصره».