التطرّف والتراث... والمؤسسة الدينية

منهج وانفصال... أم معرفة واتصال؟!

أسامة بن لادن وأيمن الظواهري زعيم «القاعدة» لم يكونا من الأزاهرة ولا من خريجي مدارسه رغم أن مدرسة دينية كالأزهر ليست صوتًا واحدًا (غيتي)
أسامة بن لادن وأيمن الظواهري زعيم «القاعدة» لم يكونا من الأزاهرة ولا من خريجي مدارسه رغم أن مدرسة دينية كالأزهر ليست صوتًا واحدًا (غيتي)
TT

التطرّف والتراث... والمؤسسة الدينية

أسامة بن لادن وأيمن الظواهري زعيم «القاعدة» لم يكونا من الأزاهرة ولا من خريجي مدارسه رغم أن مدرسة دينية كالأزهر ليست صوتًا واحدًا (غيتي)
أسامة بن لادن وأيمن الظواهري زعيم «القاعدة» لم يكونا من الأزاهرة ولا من خريجي مدارسه رغم أن مدرسة دينية كالأزهر ليست صوتًا واحدًا (غيتي)

بتوضيح أكثر، فإن الحسم بأن جريرة الإرهاب تقع على المؤسسة الدينية، سلفية كانت أم أزهرية، وقوع في خطأ فادح. أو الحكم بأنها مسؤولية النص خطأ فادح قد يقترب منه تحميل قراءاته في التراث وبعض أحكام فقهائه الماضين كذلك (التي تؤخذ أحيانا من كتاب تعليمي أو كتاب تجميعي أو فتاوى شاردة دون اعتناء بالنسق الكامل لمن أفتاها ومدرسته) خطأ أكبر. وهو يحول قضية تجفيف روافد الإرهاب لمعركة مع التراث منفصلة عن الاشتباك بنص الإرهاب نفسه. وهو ما يفتح المجال أمام محاور أربعة، تتمثل في في اتساع المؤسسة الدينية وقطع التطرف معها، والتراث المفتوح والنسبة المنغلقة، إلى جانب الاهتمام بالأخبار لا الأفكار، وأخيرا، انتقائية ومحدودية التراث عند الإرهاب.
كثيرون من منظّري ما يسميه البعض «الجهاد» المصري والمعولم لم يكونوا أزاهرة ولم يكونوا خريجي مدارسه. فعبد السلام فرج مهندس، والظواهري وعبد القادر بن عبد العزيز طبيبان، والزرقاوي لم يزُر مصر أو يعرفها ويعرف أزهرها وتراثه. وهذا مع أننا لا ننكر أن ثمة في الأزهر مَن مالوا للتعصّب والتطرّف واحتكار الحق والحقيقة منذ الشيخ المالكي محمد عليش (المتوفى عام 1882) أبرز مناهضي الشيخ محمد عبده (توفي عام 1905) - الأزهري أيضًا - وجمال الدين الأفغاني (توفي عام 1897)، مرورًا بالشيخ محمد شاكر (والد الشيخين المحقّقين والناقدين أبي فهر وأبي الِأشبال أحمد ومحمود محمد شاكر) وهو أبرز من واجه كلاً من علي عبد الرازق وكتابه «الإسلام وأصول الحكم» وطه حسين وكتابه «في الشعر الجاهلي» وغيرهم في عشرينات القرن الماضي، وصولا إلى بعض المعاصرين.
والحقيقة أن الأزهر لم يكن يضم هؤلاء فقط، بل اتسع أيضًا لكثير من أضدادهم ومَن ساندوا هؤلاء في كل اتجاه، ومَن مارسوا التجديد والترجمة والتطور كذلك. إن مدرسة دينية كالأزهر ليست صوتًا واحدًا، وكذلك المدرسة السلفية أو الزيتونية ليست صوتًا واحدًا، بل كان الكثير من المجدّدين ودعاة الإصلاح وحقوق المرأة والدعوة للتقدم أبناء هذه المدرسة كذلك. بل الغالب في كليهما ليس الغلو والتشدد قولاً واحدًا، وإن كان ثمة رأي وافق المتشددين في سياق معين، فيوجد ما يخالفه في منظومتها وربما في تراث الشخص نفسه.
ويظهر أن الحسم بمسؤولية قبلية في التاريخ لتطرّف معاصر يفصله عن سياقاته، ويعطيه شرعية وأصالة لا تشبهه. فضلاً عن أن نظامه المعرفي ليس إلا منهجًا عشوائيًا (اللامنهج) في انتقائيته وعشوائيته وذرائعيته في قراءة التراث والتاريخ معًا.
وإن عوَرًا عميقًا في كثير من عمل منظمات وأفراد في مجال مكافحة التطرف العنيف أنها تقف عند منتجاته وعملياته وأخباره دون أفكاره الراهنة، خصوصا في تجليها الأخير الأصولي الراديكالي والداعشي. وهي اعتبرته اتصالا بالتراث رغم أنه قطيعة معه بممارسته تأويلاً انتقائيا لتحقيق هدف يعتقده في الراهن فقط. بل يرى كل ما يقوم به ويقدمه نظرا وعملا «تجديدًا دينيًا»، ومن هنا لا غرابة لديه حين يصف «أبو جندل الأزدي» - أي فارس آل شويل، الذي أعدم في (2 يناير/ كانون الثاني 2015) - «شيخه» أسامة بن لادن في كتيب له بأنه «مجدّد الزمان وقاهر الأميركان» يحمل العنوان نفسه.
وإذا قبلنا أن المشكلة مشكلة منهج لا مشكلة قراءة، يمكننا تفسير جسارة وجرأة الأستاذ أبو الأعلى المودودي في «المصطلحات الأربعة» وحسمه بأنه يعيد فهم الدين من جديد! وأن كثيرا من القرون الأولى لم تستطع أو تنل فهما صحيحا لأركان معرفية أربعة في تصور الدين، وهي مفاهيم «الإله والدين والرب والعبادة»، وهو ما انتقده عليه الكثيرون فيما بعد. واعتبره أبو الحسن الندوي «تفسيرًا سياسيًا للإسلام» يطوعه مفاهيمه ومفرداته لغاية سياسية، وذكر الندوي في مقدمته أن المودودي قبل منه ذلك فيما بعد واطلع عليه، وطلب منه مواصلته على سائر مؤلفاته.
لذا نرى المشكلة مع ظاهرة التطرف العنيف والأصولية المنسوبة للإسلام سنية وشيعية، مشكلة منهج وليست مشكلة معرفة أو انتساب أو تأثير وتأثر يتحمل النص أو مدرسة ما جريرته. مع الظاهرة الأصولية والمتطرفة المنسوبة للإسلام، سنيا وشيعيا، ليست مشكلة إسناداته ومرتكزاته النصية والتراثية التي يستند إليها بالأساس، لكنها مشكلة المنهج والذرائعية وإرادة الآيديولوجيا لا إرادة المعرفة في فهم النص نفسه، مما يجعلها تمارس تطويعا للنص قبل أن تمارس قراءة أو اكتشافا له.
إن ثمة انتقاء واقتطافًا اختزاليًا النظام المعرفي لأفكار الإرهاب والتطرّف الديني العنيف المنسوب للإسلام. ويبدو أن البحث في معضلة الإرهاب بهدف مكافحته وعلاقته بالتراث الإسلامي أو منظومات المدارس الإسلامية بحث غير مجد، لأنها منفصل عن هذا التراث في تأويله الذي تبلور خاصًا مؤسسًا على أدبيات الإسلام السياسي القطبي وعلى الفتاوى مؤسسا منظومته وأدبياته الخاصة فيما بعد، بعدا وقطعا مع هذه المنظومات الأولى وصداما عليها ومعها. وسنعرض في ما يلي ملامح من إهمال الإرهاب لجوانب عريضة من التراث مثل مبحث الأدب والفقه السياسي الإسلامي الذي يفترض أن يكون أقرب لاهتماماتها، ولم تدخل عليه إلا برغبة وإرادة الأدلجة، أو القوة والتطويع توظيفًا لا الاكتشاف أو الاستلهام استئناسا.
مفردة «الحاكمية» التي صكها سيد قطب، تعريبا لما كتبه المودودي واتفاقًا معه، ليست أصيلة في النص والتراث الإسلامي ولم ترد قبلهما لفظا أو دلالة قبلهما عند أحد من علماء السلف عمومًا.
لكنها، استحالت وصارت مع الحركات الراديكالية الإسلامية المعاصرة كأنها ثابت لا مناص عنه، وأصل لا انفلات منه. واعتبرها منظر راديكالي معاصر «أخص خصائص عقيدة الألوهية ذاتها»، وهو (رغم نسبته للسلف) حشر في مجمل وتفاصيل اعتقاده ما ليس منه، ذرائعية تخدم واقعيته وهدفه المعاصر والآني في حرب وصراع الأنظمة «العدو القريب» أو العالم وقواه المتحالفة معه (العدو البعيد).
ولا يهتم المتطرفون في أدب الخلافة والإمامة المعاصر بتاريخ المفاهيم، بل يهتمون بتوظيفها وإسقاطها على الواقع المعاصر مرة واحدة، سواء في ذلك في مفهوم الخلافة نفسه، أو مفاهيم أخرى كمفهوم «الدار» و«الخروج» وما شابه. وهذا رغم أن الأخير نفسه أجمع علماء المسلمين السنّة على رفضه بعد فترة من الوقت، منذ القرن الأول، ولم يكن هدفا ولا غاية عندهم. بل وقدموا عليه مفهوم «درء الفتنة» بعد تألمهم من أحداث الفتن ومأساة الحسين ومأساة القراء وقبلوا بحكم التغلب لهذا السبب، نائين بالدين عن صدامه بالسلطة إلا أمرا بمعروف ونهيا عن المنكر لا عنفيًا. وهكذا كان إلحاح ابن خلدون على العصبية أو ابن تيمية على الشوكة كشرط لانعقاد أي إمامة، قبل غيرها من الصفات التي يرددها التطرف المعاصر والقديم.
كذلك، فإن تأملاً بسيطًا في تاريخ التأثير الفارسي في الأدب الإسلامي، مع نهايات الحكم الأموي - ولقد أعجب الكثير من حكامه بعهد أردشير بالخصوص - سيلحظ صداه الباطني في أدب الخلافة والإمامة على السواء. فالكلمة المشهورة لأردشير بن بابك أن «الدين أس الملك» هي من صنعت كثيرا متوالياتها الأخرى في تراث الخلافة بل مفهومها نفسه، فتم تصوير الحكم الإسلامي أو الخلافة والخليفة كحفظ للدين ومحفوظ به، وتم تعريف الخلافة عند مختلف الفرق ومؤرخيهم كـ«حراسة للدين وسياسة للدنيا كذلك». وهنا تمت بلورة التاريخ دينا، وآثرت فتنة البشر على وحدة الدين، وتفرّق الناس إلا عن كلمة التوحيد التي تجمعهم، كما ضبط الأشعري تصنيفه في «مقالات الإسلاميين».
وحتى لا ينتقد ناقد بأن الكتابات الإسلامية السياسية، إلى القرن الرابع والخامس الهجري، في إشارة لما بدأ على يد أمثال أبو الحسن الماوردي (450 هجرية) الذي مأسس لتصوراتها في عهد الخليفة القادر بالله عام 422 هجرية، وتبعه في ذلك معاصراه إمام الحرمين أبو المعالي الجويني (المتوفى 478 هجرية)، الذي تميز في طرحه عنه، والقاضي أبو يعلى الحنبلي (458 هجرية) الذي نقل عن الماوردي الكثير في كتابه، ولم يشر إليه، رغم تعاصرهما. لكنه نقد غير صحيح، فالاهتمام بما يسمى «السياسة وتصورات الدولة وأحكامها» مبكر يعود للقرن الثاني الهجري في مسائل جزئية كـ«الخراج» لأبي يوسف (توفي 182 هجرية) إلى كتاب «الأم» للشافعي (توفي 204 هجرية).
ولكن خلاف الإمامة وتصور الخلافة وتدييين الحكم وتسييسه، مع أجواء الفتنة وتأثير عهد أردشير والتأثيرات الفكرية الأخرى، إذ ولد معها مبكرا ولم تكن شرعية تتولد إلا من تصورات الدين وأحكامه، وصارت كل فكرة تصوغ اعتقادها وفق لخلافها في مسألة الإمامة والحكم نفسها.
ويبدو النظام المعرفي للتطرّف المعاصر، بأشكاله العنفية خصوصًا، منفصلاً عن كل هذه الآداب، مكتفيا بالانتقاء منها أحيانا أو التوظيف الآيديولوجي فقط. وأحيانا اختزالها ظنًا ورهانًا فقط على أن الآخرين سيصدقون أن مقولتهم أصيلة أو شرعية، كما كان في تدليسهم فتوى لابن تيمية نسبوا فيها له جواز التحريق، مع أن ابن تيمية قال في آخر نصه إنه يرفض ولا يفضل ذلك، حتى لو انتقامًا ممن صنع مثله بأسير مسلم. ولقد كشفنا هذا التدليس في مقال بـ«الشرق الأوسط» سابقًا بعد بيانهم بأيام.



تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟