«فنانات الحداثة»... معرض يبرز مساهمة المرأة في الحركة التشكيلية المغربية

تأكيدًا للتطور اللافت والحضور المتميز، كمًا ونوعًا، للنساء في مسيرة الفن التشكيلي المغربي، يحتضن متحف محمد السادس للفن الحديث والمعاصر، بالرباط، حاليًا وإلى 8 مارس (آذار) المقبل، معرضًا يغطي 56 سنة من مساهمة نساء المغرب في الحركة التشكيلية ببلادهن، تحت شعار «نساء، فنانات الحداثة المغربيات: 1960 - 2016».
ويقترح المعرض، الذي افتتح يوم 23 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، 100 عمل فنيّ، بين لوحات ومنحوتات ومنشآت وصور فوتوغرافية وفيديوهات، لـ26 فنانة، من أعمار وتجارب وحساسيات مختلفة، مقدمًا، حسب منظميه، قراءة معمقة وتأملية في مسار الإبداع النسائي وتموقعه على الساحة الفنية المغربية، وكذا عطاءاته في تاريخ الفن، إذ «لا يتعلق الأمر، هنا، لا بعبور ولا بوصولٍ أسرع ما يُمكن، ولكن بانطلاقِ مغامرة في عوالمَ غريبة هي في الوقت نفسه منتظمةٌ وفوضوية، نشطة وكثيفة ومشبعة بالوعود: (عندما تفكر اليد)، (هذا النور الجواني)، (حصة الأحلام)، (ما يستطيعُهُ الجسدُ)، (الحياة في الطيات) و(جميعًا إلى الأمام)، سِتة فضاءات موضوعاتية، تهبُ الكثيرَ من العجائب، وتُطافُ تحرُّرًا عبر مواد وألوان وأشكال حد إنهاكها المحتمل».
وفي أعمال «عندما تفكر اليد»، نرى أنه انطلاقًا من التصوير الواقعي لمريم مزيان، وتدريجيًا إلى النزعة الفردية، عملت التشكيليات على إنشاء زمنية كرّسَتْها بكثافة من أجل الإنسان المغربي وللتعبيرات العفوية ولمصير مجموعات الطفولة، وليس أقل من ذلك، للتفاصيل الحميمة والحادة، باستدماج التفاصيل الكثيفة، والملونة، غالبًا، بمشاهد من الحياة اليومية لفاطمة حسن الفروج والشعيبية طلال وراضية بنت الحسين، وبإيقاع أحدثه عالمُ مُنية عبد العالي. عالمٌ حي ساذجٌ ظاهر فيما هو ساخرٌ فاضحٌ، إذا ما اعتمدنا الثقافة الشعبية السائدة في عصرنا، يمكن الوقوف فيه على جانبٍ من ذكاءِ يد التشكيليات.
وفي «هذا النور الجواني»، نكون مع التجريد الغنائي للتشكيلية مُنية التويس، في صباغة حيوية جلية للنظر وباهرة من دون توقف، يسمح بتخفيف خاص للون، يأتي متسقًا بالأساس، مقاومًا تضييق الرؤية، ومتحولاً إلى لعبة من انعكاسات التمظهرات والتباينات، وبطريقة حيةٍ تتجاهل سُمكُه. فيما تسلطُ كل من مليكة أكزناي ونجية مهادجي، متفردتين، الضوء على هذا اللّامادي الذي لا يمكن التفكير فيه إلا كنتيجة لحركة مُتموجة، أكثر أو أقل بطئًا، في عملية طويلة تقود المادة التصويرية من امتلائها اليانع إلى علامتها المائية، إلى كتابتها، كما قبل وجود الكلمات، في شكل من أشكال الأرابيسك أو فنون الخط غير المقيد، تسمح برؤية الأشكال المتصاعدة، المتحررة، المستسلمة لكل الحالات. فيما يبدو ضوء أحلام لمسفر مُجَسّدًا، نُصب نحو الأسفل، ثقيلاً ككتلة حجر نُحتت وئيدا، متحررًا من مادية حضوره ومُراوغًا حيث يتطورُ تدريجيًا إلى أن يصير فنَّ عمارة سماوية. أما المادة المضيئة لدى مونات الشراط فهي، أيضًا، كل سوى أن تكون متحجرةً صلبة.
أما العمل الثالث «الحياة بين الطيات» فتكشِفُ منسوجات أمينة أكزناي وأعمال سُكينة عزيز المادةَ المُعتمدةَ عالمًا من النسج. بنياتٌ وشبكاتٌ وأقمشةٌ وبُؤرُ رُؤيةٍ تُعَيِّنُ في تؤدةٍ المجالات عن طريق القَصّ والتشذيبات المتداخلة لإظهار التجانُسات والتقابلات وانتقال الضوء في إيقاعٍ مُعيّن. بهذا الفعل تؤلف المنسوجات شكلها الفني ولكنها تجعلهُ دفينًا، مُتمفصلاً في مُستوى مجهري. أيضًا، عندما تكون المادةُ خامًا وكثيفة وصلبةً وشديدة المقاومة، كما في حجر إكرام القباج أو خشب أديبة المكينسي، فهي تنتهي إلى أن تنتصِبَ أو تتكوّرَ مقلمة ومُرمَّلة في سموق وحزم حد تشكيل جسم وكتلة سلسيْن. وليس حضور الفحم لدى فتيحة الزموري أقل إثارة وإيحاء. إنه زلزلة للمادة السوداء. وفي العمل الرابع «كل ما يستطيعه الجسد»، يواجهُ الجسد ذاتَهُ ويسائل تحرره. عند خديجة طنانة يَظهرُ الجسدُ راغبًا، مُقاوِمًا وفاضحًا، وعند أمينة رزقي مُشكِّلاَ لمادة حَشْوِيّة عميقة في منتهى عُرْيِها. يظهر وكأنه منطلقٌ تحت ضغط قوةٍ، وللمفارقة، من شدة اليأس.
وإذا كانت فاطمة مَزْموز تكثَّفُه في الأمومة جسدًا حسيًا وأبديًا، في كل ينْشُد استقلاليتَه ويُسائلُ هويته، فإن دُنيا واعْليتْ تُخصِبُ الجسد وتجعله عُضويا في تحولات وطفرات مُربِكةٍ تترددُ بين شفافية وعتمةٍ أو بين صلابة وليونة إلى حد الغرابة المُقلقة.
أما العمل الخامس «حصة الأحلام»، تُلقي التشكيلياتُ نَظرةً رحيمة، ولكن أيضًا شعرية ونقدية على هذا المجال الداخلي المشترك. إن كُنهَ البيت أبعد من ذلك. مع أمينة بن بوشتي ودليلة العلوي وكارول ابْنيطاح ومريم أبوزيد السُّوعْلي، ينفتح الفضاء الداخلي على ميدان شاسع من الإمكانيات ويُظهِرُ بشكل فائقٍ المجموعَ المُعقد وغير المستقر لأشكال الحياة. وفي العمل السادس «جميعًا إلى الأمام»، مع تشكيليات جرّيئاتٍ يتقدمن ويفتحن الأفُقَ ويصبحن مُمثلات لتاريخ يحتاج إلى إعادة الابتكار بوضع فنهن في خدمة هدف: كسر الخُطاطات المُوجِهة للأحاسيسِ قصد التخلُص من المستنسخات، بلغة أخرى إنجاز إعادة تحويلٍ للنظرة بمُساءلة أسس النظام السياسي والمجتمعي المُتهم دائما بظُلمه للنساء.
في هذا الاتجاه، أخرجتْ لنا لالة السعيدي مُواجهة وضعت فيها «فينوس» وجهًا لوجه مع الجارية. وتقف كنزة بنجلون بقوة ضد انعدام المساواة التي تعاني منها النساء، بالصوت واللغة والصورة، من دون تضحية بالفن على مذبح السياسة. وتخلط ياسمين بوزيان، بنوع من الفُكاهَة، القوانين الثقافية، وتُظهرُ امرأة استثمرت بكبرياء في ذاكرة هجينة مُتحمسة ودون شروط. ولهذا السبب جاء الجسد عندها متحررا تماما من الرؤية الاستشراقية ومن نير السلطة الأبوية.
وعبر هذه الفضاءات الستة، يستكشف المعرض موقفًا محددًا في تاريخ الفن، موقف حداثة الفنانات المغربيات المتجلية في إنجازاتهن المتميزة والمبنية على علاقتهن الخاصة مع بلدهن ذي الثقافات المتعددة، ومع العالم، فضلاً على أن حداثتهن تبرز من خلال نظرتهن وشعورهن وتصرفهن، بشكل يميز أعمالهن المعبرة عن مشاعر فريدة توسع الإدراك وتتجاوز الصور النمطية والتفكير المحدود، وتمكن من استكشاف كنه المبهم.
والواضح أن المعرض الذي أسندت مندوبيته إلى الفنانة التشكيلية والجامعية والباحثة في الفنون التشكيلية ريم اللعبي، لا يدعي تقديم نظرة شاملة للفن النسائي بالمغرب، بل هو مدخل لمعارض مستقبلية تفتح المجال لفنانات مغربيات معاصرات أخريات.