عين على «داعش» و«النصرة» وأخرى على «الإخوان المسلمين»

الدعوية النسائية في السعودية.. متشعبة ونشطة تنفرد بها مجموعة من لون واحد

عين على «داعش» و«النصرة» وأخرى على «الإخوان المسلمين»
TT

عين على «داعش» و«النصرة» وأخرى على «الإخوان المسلمين»

عين على «داعش» و«النصرة» وأخرى على «الإخوان المسلمين»

«المطلوب اليوم من المرأة المسلمة أن تبادر بكل جسارة للقيام بمهامها التاريخية، من دون خوف من شيء اسمه (التقاليد). فالتقاليد والأعراف شيء والدين والأحكام الشرعية شيء آخر تماما».
لعل هذه العبارة الواردة في كتيب الدكتور عبد الله النفيسي: «العمل النسائي في الخليج الواقع والمرتجى»، الصادر عام 1986. تعطي تصورا عن بداية تقييم هذا المثقف الإسلامي الكويتي، لواقع الخطاب الحركي من خلال تياره النسوي.
النفيسي في كتيبه الصغير، الذي عده الخطاب الحركي الدعوي النسوي في الخليج والسعودية «وثيقة»، صوّر المنهج الصحيح للعمل النسائي الحركي، والمجالات التي غاب عنها في مجتمع الخليج.
بعد تواري الداعيات الكلاسيكيات، الواعظات القديمات، بأنشطتهن السهلة في المجتمعات النسوية، بدأ الزج بالنساء المسيسات، من قبل نشطاء التنظيمات أو التيارات والتوجهات الحركية، فيما يسمى بـ«قضية المرأة»، في خطوة تهدف إلى إشعال صراع فكري بين الناس لتحقيق مكاسب سياسية في المجتمعات الخليجية.
النفيسي في مؤلفه الآخر، المنشور تحت عنوان «الفكر الحركي للتيارات الإسلامية»، الصادر علم 1995، اعترف بأن «ارتفاع حدة تحرك التيارات الإسلامية كان بسبب عمليات الهجرة الواسعة من الأرياف إلى المدن»، التي ترافق عادة، التنمية المتسارعة والتحديث الواسع والعشوائي، مضيفا: «المدن العربية والإسلامية غير قادرة على استيعاب هذه الهجرات الواسعة، فتتحول إلى أحزمة من الفقر والعوز والبطالة، حيث تتحول عمليا إلى حقول مناسبة لعمل التيارات الإسلامية، ويصير الدين في محصلة الأمر ملاذا آمنا للجماهير».

من هنا، استغلت التيارات الحركية واقع المرأة العربية والخليجية، الذي اعترف النفيسي ذاته في كتيبه الأول، بكونه واقعا «متخلفا»، في توظيف أوهام حول وجود مؤامرة تتمثل في الاتفاقيات والمعاهدات الدولية، وتغريب المرأة المسلمة في سبيل خدمة أغراض السياسة.
بعد بداية استيعاب التيارات الحركية لأهمية توظيف المرأة، عبر النشاط الدعوي الحركي، بقيت مسألة فحوى الخطاب الحركي نفسه وآليات تصدره في الساحة، عبر إيجاد الثقة «بأفكار الإسلام»، من خلال العمل الثقافي والسياسي، بهدف «تثقيف ملايين الناس تثقيفا جماعيا بالثقافة الإسلامية، وتوليد الصراعات الفكرية بينهم على هذا الأساس». بحسب شرح النفيسي في كتابه «الفكر الحركي».
هذه البداية المندفعة، خلقت مفارقات في الخطاب حول شؤون المرأة وقضاياها من منظور إسلامي، وإشكالية موازنتها مع متطلبات العصر الحديث. وهذا ما لاحظه النفيسي وهو ينتقد «حزب التحرير» وكلامه عن دستور دولة الخلافة بقوله: «يتوسع الدستور - يقصد دستور حزب التحرير في المادتين 34 و35 - في منح المرأة حقوقها الاجتماعية والسياسية، وفي الوقت نفسه، نجد بعض مواده تؤكد على أنها – أي المرأة - في الأصل، أم، وربة بيت، وعرض يجب أن يصان، وأن الأصل أن ينفصل الرجال عن النساء في المجتمع الإسلامي».
لكن النفيسي وقع بذات التناقض في كتابه، عندما تناول حقوق المرأة المسلمة من منظور حركي. إذ يقول في الصفحة رقم 37: «يتصور البعض أن المرأة المسلمة غير مؤهلة لبناء حركة نسائية نشطة وجادة ومستقلة، وأن هناك قيودا شرعية إسلامية تحد من حركتها المستقلة عن الرجل. وهذا تصور خاطئ ناتج عن فهم خاطئ للإسلام... المطلوب من المرأة أن تبادر بكل جسارة للقيام بمهماتها التاريخية (من) دون الخوف».
لكن النفيسي يؤكد في صفحة 22 من الكتاب قوله: «لقد آن الأوان لتقييم وتثمين دور ربة البيت تقييما اقتصاديا واجتماعيا يليق به، ولا بد من استصدار كافة التشريعات والقوانين لحماية ربة البيت وتسهيل مهمتها العظيمة الجليلة، وتشجيع الفتاة على العمل المنزلي والإبداع فيه، فقد يكون مخرجا لمشكلة العمالة الأجنبية».
عليه، فهذه التناقضات والمفارقات القائمة، حاليا، في الخطاب النسوي الدعوي السعودي، لها جذور في التنظير المتعلق بالعمل النسائي نفسه، كما لاحظنا في كلام النفيسي، بين إطلاق يدها في العمل في فضاءات لا حصر لها، وبين فكرة التزامها البيت والكف عن النشاط في المجال العام.
الإيمان بالقضية
والوقوف ضدها
استعراض وثيقة النفيسي المشار إليها، حول «العمل النسائي في الخليج.. الواقع والمرتجى»، ومحددات الخطاب الحركي في العمل النسوي الدعوي، كان ضروريا قبل تناول ملتقى مركز (باحثات) السعودي، في نسخته الثانية «المرأة ما لها وما عليها».
فقد أنهى المركز أخيرا، ملتقاه بعد ست جلسات صباحية، وأخرى مسائية، استمرت يومين. وتزامن المؤتمر مع انتهاء مهلة الثلاثين يوما التي حددها الأمر الملكي، في تجريم الانضمام للأحزاب والتنظيمات الإرهابية، ومنها جماعة «الإخوان المسلمين»، ليعلن المركز بعدها، توصياته التي لم تبتعد عما خرج به الملتقى في نسخته الأولى قبل عام.
ركز أعضاء مركز (باحثات) من كلا الجنسين، في عناوينهم وأوراق العمل التي وصفت بأنها «بحوث علمية»، وطرحت للمناقشة أمام حضور متواضع العدد، خصوصا في اليوم الثاني، على هدف واحد، هو «خلق وعي جمعي» محدد.
د. نورة العمر، مدير عام القسم النسائي في مركز باحثات لدراسات المرأة، والمشرفة على لجان الملتقى، ورئيس مجلس إدارة «رابطة المنظمات النسائية الإسلامية العالمية» التي أعلن المركز عن إنشائها ورعايته الرسمية لها من العاصمة التركية إسطنبول، أثارت مسألة غموض آلية ما أعد حول ماهية العينة المستهدفة وحجمها، ومدى استيفاء الشروط الأكاديمية لصياغة الأسئلة بموضوعية، وغير ذلك من شروط إعداد الدراسات الاجتماعية، قبل الإعلان والترويج لها.
جاء في بعض هذه العينات، أن 47 في المائة منها، ترى أن الرجل أحق بالعمل الوظيفي من المرأة. بينما أقر 43 في المائة، بأن عمل المرأة خارج بيتها، يؤثر سلبا على أسرتها وأولادها. ووجد 41 في المائة من النساء اللواتي استهدفتهن الدراسة، أن عمل المرأة خارج المنزل، يؤثر سلبا على حياتها الزوجية، فيما رأت 36 في المائة من نساء العينة، أن عمل المرأة قد يؤدي إلى الاختلاط المحرم شرعا.
تجدر الإشارة هنا، إلى أن «رابطة المنظمات النسائية الإسلامية العالمية»، انتخبت المهندسة المصرية، كاميليا حلمي، أمينا عاما لها ومتحدثا رسميا، بينما ترأس «اللجنة الإسلامية العالمية للمرأة والطفل»، وهي مسؤولة المرأة في حزب «الحرية والعدالة»، الذراع السياسية لجماعة «الإخوان المسلمين» في مصر، التي صنّفت في مصر والسعودية أخيرا، جماعة إرهابية ووضعت على قائمة المنظمات الإرهابية.
وعلى الرغم من نتائج الدراسة، التي استهلت بها فعاليات الملتقى، فإن التعريف بالمشاركات في ملتقى (باحثات)، اللواتي يشغلن وظائف مختلفة في القطاعين العام والخاص، وتقديم سيرهن الذاتية، استهلك الكثير من الوقت المحدد للجلسات.
بالإضافة إلى ذلك، ظهرت مفارقات عدة خلال نشاط هذه الجولة، بدأت بمشاركة د. نورة العدوان، عضو مجلس الشورى، التي أدارت إحدى الجلسات رغم تأكيد د. وفاء العيسى، عضو هيئة التدريس في جامعة الملك سعود، ورئيسة لجنة التشريفات في (باحثات)، أن «الطموح الحقيقي للمرأة (هو) البيت وليست المشاركات الاجتماعية والسياسية»، حسب تعليقها.
هذا التحذير، لم يمنع د. العيسى نفسها، من النشاط الأكاديمي في إحدى الجامعات السعودية، واسمها مسجل ضمن ديوان الخدمة المدنية، إلى جانب المهام الأخرى التي تقوم بها. وقد عادت العيسى وكررت في الملتقى نفسه، تحذيراتها من خطورة فكرة تمكين المرأة بالاستقواء المادي، لأن هذا يقضي على مبدأ «القوامة بالإنفاق».
المعاشرة.. النسل.. القوامة
حقوق الرجل الشرعية في ملتقى المرأة السعودية، كانت الحاضر اللافت في ثنايا الأوراق، وحديث المشاركين والمشاركات على حد سواء. فإلى جانب الإخلال بموازين القوامة، كان لافتا تنبيه د. محمد العقيل، رئيس قسم الأنظمة في كلية الشريعة في الأحساء، خلال طرحه ورقة أعدها بعنوان «اعتبار المقاصد الشرعية في فقه الأسرة»، من خطورة إخلال الوظائف الليلية بحق الرجل في «المعاشرة».
وفي مفارقات أخرى، جاء اعتراف د. حصة الوايلي، مديرة التوعية الإسلامية في وزارة التربية والتعليم، خلال ترؤسها للجلسة الخامسة، بما فرضه الواقع الاجتماعي، وأهمية توظيف المرأة نتيجة لمضاعفة متطلبات الحياة التي تفرض زيادة الدخل الأسري.
ولخّصت الكاتبة وفاء الدباس، أوراق عمل من سبقنها في التحدث عن مؤامرة خارجية بأذرع وأصابع داخلية تعمل من أجل محو الحضارة الإسلامية، تحت غطاء العولمة، بقولها، إن «للمرأة عملا رئيسا هو صناعة المجتمع والأسرة والعمل الثانوي يكمن خارج المنزل».
صوت يتيم في مشاركات الملتقى اعترض على مجمل ما طرح خلاله، جاء من قبل د.أحمد الصقيه، القاضي السابق في ديوان المظالم، خلال ترؤسه إحدى الجلسات، معلقا على ما ذكرته الأوراق بقوله: «أتحفظ على ما ذكر بشأن مبدأ استقلال المرأة سوى للحاجة فقط بتضييق مطلق في الشريعة الإسلامية، بناء على أننا ننظر لمآلات محققة»، متسائلا «ماذا ستفعل المرأة التي ورثت الملايين؟ هل عليها أن تبقى تحت القوامة والرجل ينفق؟»، مطالبا بضرورة الابتعاد عن إسقاطات غير صحيحة. وقد أثار تعليقه، على ما يبدو، د.فؤاد العبد الكريم مؤسس ورئيس مركز «باحثات»، الذي ظهر من خلال نقل البث المباشر، يتبادل حديثا جانبيا مع الصقيه بعد تعليقه.
د. خالد السعدي عضو هيئة التدريس في قسم التربية وعلم النفس، بكلية التربية في جامعة الأمام، لم يشأ غير أن يدلي بتشخيصه للواقع النفسي والجسدي للمرأة العاملة، والتي تصارع في رأيه «القلق والإرهاق والملل والإحباط والهدر بالطاقات الرجالية». أما عن عنصر التغيرات الفسيولوجية، فظهر من خلال بحث السعدي، انعكاس عمل المرأة على العقم وانخفاض معدلات الخصوبة، رغم أن الإحصاءات الرسمية تشير إلى أن عدد المواليد في السعودية، بلغ خلال العام 2012. أكثر من ستين ألفا، بالإضافة إلى مشكلات أخرى لخصها السعدي، بالعجز عن الإرضاع، وارتفاع معدلات الطلاق، والخيانة الزوجية، والعنوسة، والتحرش، وانحراف الأبناء.
خطاب خاص لنساء «القاعدة» وعام لبقية النساء
د. نورة السعد خريجة الولايات المتحدة، التي كثيرا ما سجل لها في محافل أخرى تحذيراتها من إفساد برامج الابتعاث لأخلاقيات الطلاب والطالبات المبتعثين، حذرت من أن «اعتساف القيم المجتمعية، واستحداث مشكلات، وترويجها إعلاميا ليتلبسها المجتمع، ليس سوى استيراد لمشكلات المرأة الغربية والاستعانة بالحلول الوضعية بحسب تأثرات المجتمعات الغربية».
السعد رئيسة مركز (التمكين للمستقبل للدراسات والاستشارات)، ونائب رئيس منظمة رابطة الداعيات المسلمات، تركز دوما على «اصطياد» مظاهر التغريب في المجتمع السعودي، حتى الخفي منها، من ذلك زعمها بخطورة حملة التوعية النسائية بسرطان الثدي، التي أطلقتها إحدى الطبيبات السعوديات بعد أن من الله عليها بالشفاء منه. وبحسب نورة السعد، فهذه «الحملات» مستورد غربي. وكذلك استنكارها الإعلان عن الرقم المجاني للإبلاغ عن حالات العنف الأسري، بذريعة حث الأطفال والفتيات على التجرؤ على أوليائهم.
تأثير المرأة على مستوى التنمية لم تغفل عنه د. أسماء الرويشد، رئيسة (مركز آسيا)، في كلمتها التي ألقتها بالنيابة عنها سيدة أخرى، قالت: إن من الواجب تأمين راتب كاف لربة البيت لكي تتمكن من القيام بأعبائها التربوية والأسرية، يوازي، أي الراتب، ما يقدم للمرأة العاملة في القطاعات الأخرى. منبهة إلى ضرورة سن ضوابط لعمل المرأة، مستوحاة من قيم المجتمع، وعدم استيرادها من الخارج.
تجدر الإشارة إلى استضافة كل من الداعية أسماء الرويشيد، ورقية المحارب في مركزيهما، القيادية المصرية في تنظيم الإخوان المسلمين، كاميليا.
وبينما تسعى الرموز النسوية في الخطاب الدعوي الحركي إلى رفض مطالب حقوقية، كسن نظام لتجريم التحرش، ومنع تزويج الصغيرات، والوقوف بوجه قرار عمل المرأة «كاشيرة» بسبب الاختلاط وعدم وجود بيئة آمنة لعمل المرأة، وكذلك اشتراط موافقة ولي الأمر لعمل المرأة. إلا أنه لم يسجل لأي من تلك الأسماء النسائية التي حافظت، طوال سنوات، على حضورها في مناقشات القضايا كافة، وانخراطهن في القضايا السياسية المحلية والإقليمية، الاستنكار والاحتساب على من خرجن من النساء السعوديات إلى مواقع القتال والاضطرابات في الخارج، رغم خطورة الوقوع في أيدي العصابات والشبيحة، بدءا من وفاء اليحيى التي هربت إلى العراق، ورضيت بالزرقاوي زوجا لها قبل أن تقتل هناك، أو فرار أروى البغدادي إلى اليمن، مع شقيقها وزوجته وابنة شقيقها الآخر، وتركها أطفالها من دون رعاية، واكتفائها بوداع زوجها بتغريدة موجزة.
كذلك كان الصمت سيد الموقف، بعد هروب وفاء الشهري مع صغارها إلى اليمن، وندائها نساء السعودية للحاق بها وإعلان نصرتها، ودعمها لهيلة القصير، أو «سيدة القاعدة» كما وصفها التنظيم، التي صدر بحقها عقوبة السجن 13 عاما بعد محاكمتها، لدعمها «القاعدة» بالمال والسلاح، وأخيرا، الفتاة ندى معيض، أو «أخت جليبيب» التي أعلنت، عبر حسابها على مواقع التواصل الاجتماعي، وصولها إلى الأراضي السورية والتحاقها بصفوف تنظيم «داعش» وحيدة من دون محرم.
حق إعلان الانتماء
«أول حق من حقوق المرأة الذي يجب أن تعيه جيدا وتتمسك به، هو حقها في إعلان انتمائها إلى أمة التوحيد». هذا ما جاء في كتاب د. سعاد الناصر «قضية المرأة رؤية تأصيلية»، حيث أكدت «أنه يمكن للمرأة أن تجمع بين العمل الاجتماعي والسياسي وبين العبادة، مثلها في ذلك مثل الرجل».
من هذا المدخل، يمكن التوصل إلى فهم دوافع ومبررات انخراط الناشطات السعوديات في فضاء الدعوة الحركية في الشؤون السياسية، كما بدا لافتا أخيرا عبر حسابات «تويتر».
في وثيقته، خلص د.عبد الله النفيسي إلى أن حركة المرأة في صدر الإسلام، كانت حركة مستقلة وغير تابعة لحركة الرجل، كما هو الحال في كثير من المجتمعات العربية الحالية، قائلا: «يتبين لنا أن مجتمع الإسلام ليس قيم تقاليد وأعراف تعزل النساء عن الفعل الاجتماعي، والبعض يتصور أن التشدد في مسألة المرأة وعزلها اجتماعيا لسد الذرائع، ومهما كان سد الذرائع فلا يجب أن يمسخ أصل النظام الإسلامي العام، الذي يقضي بإشراك الرجال والنساء في الحياة العامة».
الأسماء ذاتها، من النساء رافعات الأصابع بشعار «رابعة»، اشتهرن قبل أن يختفي الشعار، أو تعود جزئيا، حسب الشعور الأمني، مع قرب انتهاء مهلة الأمر الملكي ضد الجماعات المحظورة.
كان لافتا، ما سجلته حسابات هؤلاء، من تغريدات ذات نفس سياسي أصولي، متعاطف مع رموز الجماعات الأصولية وحركاتها، من بينها تغريدة د. ابتسام الجابري، التي وجهتها إلى أحمد الأسير في لبنان وقالت فيها:
«شيخنا لا تمكنهم منك ولا تسمح باعتقالك، فهم لن يتوقفوا عن إيذاء أهل السنة ولو ادعوا ذلك، ولو توقفوا اليوم، سيعودون غدا وبقاء مثلك منهم». وتغريدة أخرى للجابري تقول فيها: «ردا على ما يشهده الإعلام المصري الخليجي، من حملة مسعورة يتم فيها شيطنة جماعة الإخوان المسلمين، ورميهم بكل شر كذبا وبهتانا». وتضيف: «طريق النصر ليس ممهدا فدونه تراق الدماء». كذلك مشاركة للدكتورة رقية المحارب في السياق نفسه: «النصرة» لجماعة الإخوان بمصر، دونت فيها: «الشعب المصري يعلن أنه حر وأن بيعه (ببضع) مليارات لمصالح فردية، لن يهنأ بها من قبض الثمن، فليكتب التاريخ هذه الملحمة التي تجري الآن في الميادين».
وتعلق د. أفراح الحميضي على فض اعتصام رابعة بقولها: «اللهم لا تشمت الأعداء بنا ولا تجعلنا فرجة للحاقدين، وأعز المسلمين، ودمر من أراد بمصر شرا واجعل تدبيره تدميره». لتتوجه بدعوة في تغريدة أخرى نصها: «اللهم عليك بكل خائن أشعل أرض مصر السلام وحارب الإسلام، اللهم أبدل خوفهم أمنا (وأدر) دائرتك على البغاة».
هل يمكن ضبط الخطاب
النسوي السعودي؟
يطرح ما تقدم حول حالة الخطاب النسوي الدعوي في السعودية، سؤالا مهما، حول سبل ومظاهر ضبط الساحة الدعوية النسوية خاصة ومظاهرها.
تأكيدات وزارة الشؤون الإسلامية بحسب معلومات رسمية حصلت عليها «الشرق الأوسط»، تفيد بأن أيا من الأسماء - النساء - الشهيرة في الساحة الدعوية، لم تحصل على ترخيص في مجال الدعوة أو التعاون مع الوزارة، رغم كثافة الأنشطة المتنوعة التي تقام في المدارس والجامعات والجوامع، ويتم الإعلان عنها من حين إلى آخر، إلى جانب عدم ترخيص وزارة الشؤون الإسلامية لأي مكاتب دعوية نسائية.
وهذا يقودنا إلى سؤال آخر، حول ماهية الغطاء الذي تؤدي ضمنه الداعيات الشهيرات، في مختلف المحافل برامجهن الدعوية، إذا كانت الوزارة المشرفة على هذا النشاط تقول لا علم لنا بهن؟
الإجابة تكمن خارج الإطار الحكومي نفسه، حسب ما نظّر له د.عبد الله النفيسي في وثيقته حين قال: «هناك حاجة ماسة للعمل النسائي الجاد والمنظم، الجاد في منهجه ومساره وحركته، والمنظم في خطواته ومراحله وتفكيره وقياداته. أين نبدأ؟ هل نبدأ من القضية الاجتماعية؟ أم من القضية الاقتصادية؟ أم من القضية السياسية؟ أم من القضية الثقافية التعليمية؟ أم نبدأ عبر مبادرة واحدة وكبيرة شاملة؟».
من هذه الدعوة في أواسط الثمانينات، بدأت الحركة الدعوية النسوية بالسعودية في التمدد والتغلغل عبر مراكز البحوث والدراسات (الاجتماعية والتربوية والنفسية والاقتصادية)، التي اتسعت رقعتها في عدد من المناطق السعودية.
وبحسب ما ذكره النفيسي في فصل «الجمعيات النسائية»، دعا إلى ضرورة إعادة النظر في بعض أوضاع العمل النسائي، لإعادة الثقة به، من خلال فتح الجمعيات النسائية أبوابها للنساء الراغبات في الانضمام، وأن تكف بعض المحتكرات للعمل النسائي عن رفضهن التام لانضمام الدماء الشابة والجديدة والمتحركة لتلك الجمعيات، منتقدا سيطرة شخصيات مترهلة تحولت إلى إقطاعية نخبوية وطبقية في عدد من الجمعيات النسائية. وأضاف النفيسي إلى ذلك، إعادة النظر في أوضاع الصحافة النسائية التي عدها نافذة العمل النسائي المطلة على الجمهور.
من هنا نفهم نشأة عدد من المراكز محليا، لعل الأبرز بينها مركز «آسيا للاستشارات التربوية والنفسية»، للداعية أسماء الرويشد، ومركز «التمكين للمستقبل» للاستشارات والدراسات، للداعية الدكتورة نورة السعد، وموقع «لها أون لاين» الإلكتروني، ومركز «النجاح للاستشارات» للداعية رقية المحارب. وجميع هذه المنابر تروج لمناشط ومحاضرات ودورات ذات صبغة سياسية وثقافية محددة، بالإضافة إلى اعتبارها صوتا إعلاميا لمالكاته وأفكارهن، وجميع هذه النوافذ ابتدأت نشأتها بإصدار مجلات إلكترونية وأخرى مطبوعة.
في السعودية تعود صلاحية الترخيص لمراكز الأبحاث والدراسات النسائية، إلى وزارة الشؤون الاجتماعية، في ضوابط حددتها اللائحة المنظمة لعمل المراكز الاجتماعية، أو من خلال وزارة التجارة، بمنح ترخيص لمركز غير ربحي، كما هو قائم مع «مركز باحثات».
د. عبد الله السدحان، وكيل وزارة الشؤون الاجتماعية للتنمية الاجتماعية، ذكر لـ«الشرق الأوسط»، أن ضوابط المراكز الاجتماعية، إنما تهدف إلى تنظيم مراكز البحوث والدراسات الاجتماعية الأهلية، وتفعيل دورها في المجتمع، وتمكينها من مباشرة اختصاصها وفق الأساليب العلمية الحديثة، بغرض رصد القضايا والظواهر والمشكلات الاجتماعية في السعودية، وإجراء البحوث والدراسات والمسوح الاجتماعية حولها، واقتراح التوصيات والحلول المناسبة لها، وعقد الدورات التدريبية والتأهيلية، وورش العمل، واللقاءات العلمية، والمنتديات ذات العلاقة بالشأن الاجتماعي، وعدم القيام بأجراء أي بحوث أو دراسات أو استشارات خارجة عن هذا النطاق.
وبين السدحان أن هذه التراخيص تصدر للمواطنين من الجنسين الرجال والنساء، وليست خاصة بجنس من دون آخر، وفقا لعدد من الشروط يمكن الحصول عليها من موقع الوزارة، ورفع الطلب آليا كذلك.
وحول ممارسة عدد من المراكز النسوية ما يغاير تخصصاتها المعلن عنها، وخصوصا الجانب الدعوي، أوضح السدحان، أنه لا يسمح لهذه المراكز بتجاوز المهام المحددة لها في تقديم استشارات نفسية وتربوية، ومخاطبة المراهقين. وذكّر قائلا: يمكن لمن يرغب في تقديم هذه الاستشارات، الحصول على ترخيص لمركز للاستشارات الأسري وفق ضوابط محددة، موجودة على موقع الوزارة، ويمكن التقدم بطلب الترخيص آليا في حال توافرت الشروط المطلوبة.
أما ما يتعلق بمجال الإشراف والمتابعة والرقابة، فقد بادرت الوزارة، كما أوضح السدحان، من تاريخ صدور اللوائح والقواعد في العمل، على استكمال الإجراءات واتخاذ التدابير لتنظيم عملية الحصول على الترخيص، والمتابعة والإشراف والرقابة. وتم تشكيل الكثير من اللجان الفنية المتخصصة في مختلف مناطق السعودية، من أصحاب الخبرات الإدارية والفنية للأشراف على هذه المراكز وفقا لتنظيم محدد.
وحول عدد المراكز الاجتماعية النسوية بالسعودية، اكتفى د. عبد الله السدحان بالقول: «منذ صدور الضوابط التنظيمية لمراكز البحوث والدراسات الاجتماعية، في شهر ديسمبر (كانون الأول) الماضي، بلغ عدد طلبات التراخيص من القطاع النسائي، أربعة مراكز حتى الآن».
الساحة الدعوية النسائية في السعودية متشعبة ونشطة، ينفرد في العمل بها لون واحد متشابه، يغرد بلحن خاص، بعيد عن كل الجو المحيط به.



«مؤسسة غامضة» تغري الغزيين برحلات نجاة إلى أوروبا


صورة متداولة على وسائل التواصل لإحدى الطائرات التي هبطت في جوهانسبرغ حاملة فلسطينيين من غزة
صورة متداولة على وسائل التواصل لإحدى الطائرات التي هبطت في جوهانسبرغ حاملة فلسطينيين من غزة
TT

«مؤسسة غامضة» تغري الغزيين برحلات نجاة إلى أوروبا


صورة متداولة على وسائل التواصل لإحدى الطائرات التي هبطت في جوهانسبرغ حاملة فلسطينيين من غزة
صورة متداولة على وسائل التواصل لإحدى الطائرات التي هبطت في جوهانسبرغ حاملة فلسطينيين من غزة

فوجئ الغزيون منذ أشهر قليلة، بإعلان على وسائل التواصل الاجتماعي لمؤسسة غامضة اسمها «المجد أوروبا»، تحفزهم على الهجرة وتعدهم بالوصول إلى أوروبا.

ورغم كثير من الشكوك والتساؤلات حول مصداقية تلك الإعلانات، لم يتوانَ البعض عن التواصل مع رقم هاتف «واتساب» ذُيّل به الإعلان، بحثاً عن ضوء في نفق مظلم. وبالفعل، سيّرت المؤسسة 3 رحلات جوية لنحو 300 فلسطيني خرجوا من القطاع في ظروف استثنائية ورحلة يكتنفها الكتمان والسرية. لكن الوجهة لم تكن بلدان أوروبا الموعودة؛ وإنما جوهانسبرغ في جنوب أفريقيا.

«الشرق الأوسط» تحدثت إلى إحدى المسافرات على متن تلك الرحلات، وتعقبت تفاصيل تسجيل الأسماء والمبالغ المدفوعة، ورصدت انطلاق الركاب بحافلات صغيرة من دير البلح، تحميها مسيّرات حتى لحظة الوصول إلى مطار رامون الإسرائيلي، ومن هناك تقلع الطائرات نحو نيروبي، ثم جوهانسبرغ، لتترك المسافرين أمام مصير مجهول.

وبين اتهامات دولية بأن المؤسسة تنفذ خطة إسرائيلية - أميركية لإفراغ غزة من سكانها، ورغبة المدنيين بالفرار من جحيم الحرب والجوع، تستمر الإعلانات على وسائل التواصل، ويستمر كثيرون في محاولات النجاة بأي ثمن.


رحلات «هجرة صامتة» تغري الغزيين بالنجاة و«مجد أوروبا»

TT

رحلات «هجرة صامتة» تغري الغزيين بالنجاة و«مجد أوروبا»

طفلان فلسطينيان يلهوان بهيكل سيارة مدمرة في حي تل الهوا في غزة (أ.ف.ب)
طفلان فلسطينيان يلهوان بهيكل سيارة مدمرة في حي تل الهوا في غزة (أ.ف.ب)

لأشهر عديدة استمرت جنين (ب)، من سكان دير البلح وسط قطاع غزة، تتواصل مع قائمين على إعلان ممول عبر «السوشيال ميديا»، يهدف لاستقطاب الغزيين للهجرة إلى الخارج. وعمد الإعلان إلى تحديد الوجهة «إلى أوروبا» لتحفيزهم بشكل أكبر، باستغلال الحرب الدامية في القطاع.

الإعلان الممول عبر «فيسبوك» حمل اسم مؤسسة «المجد أوروبا»، التي يسمع بها الغزيون داخل القطاع للمرة الأولى، ما أثار الكثير من التساؤلات حول مصداقية تلك الإعلانات، إلا أن البعض لم يتوانَ عن التواصل مع رقم هاتف «واتساب» ذُيّل به الإعلان، بحثاً عن ضوء في نفق مظلم، أو بصيص أمل يمنحهم حياة مختلفة بعيداً عن أصوات القصف وأهواله التي لم تتوقف على مدار عامين.

 

رحلة محفوفة بالكتمان

لم يكن الوصول إلى أحد الغزيين الذين استقلوا تلك الرحلات بالأمر اليسير؛ ففضلاً عن السرية المطبقة التي أحاطت وتحيط بخروجهم من القطاع وسط ظروف أمنية وإنسانية سيئة للغاية، فإن ظروفهم الحالية وأوضاعهم القانونية لم تتثبت بعدُ في البلدان التي وصلوا إليها. ومن قريب إلى آخر، وبشبكة ثقة عبر أفراد الأسرة المقربين، تواصلنا عبر «واتساب» مع جنين التي تحدثت إلينا بعد تردد كثير، وفضّلت عدم ذكر هويتها كاملة، خشية الملاحقة من الدولة الموجودة فيها حالياً.

صورة متداولة على وسائل التواصل لإحدى الطائرات التي هبطت في جوهانسبرغ حاملة فلسطينيين من غزة

وتقول جنين لـ«الشرق الأوسط» إنها للوهلة الأولى كانت مترددة جداً في التواصل مع الرقم الذي وضعته المؤسسة في إعلانها، ثم قررت المجازفة والتواصل، وبعد التأكد من أنها تتحدث مع أشخاص يستعملون أرقاماً إسرائيلية، قررت وضع اسمها وزوجها وثلاثة من أبنائها، ضمن من قرروا الهجرة من غزة، بحثاً عن حياة آمنة.

تشير جنين إلى أنها كانت تخشى أن تقع ضحية عملية نصب كما جرى مع الكثير من الغزيين خلال وقبيل الحرب، إلا أنها تلقت تطمينات ممن كانوا يتحدثون معها بأن دفع المال بالنسبة لهم يأتي كـ«خطوة أخيرة ولا يهتمون به»، وهذا ما شجعها على استكمال خطواتها نحو البحث عن أمل جديد لها ولعائلتها التي عانت كثيراً خلال الحرب.

وكشفت السيدة أن الإجراء بدأ بإرسال معلومات تفصيلية عنها وعن أفراد عائلتها الراغبين في السفر، مثل الاسم الرباعي ورقم الهوية ورقم جواز السفر، ومعلومات شخصية متكاملة، ثم قالت إنه طُلب منها مبلغ 1500 دولار عن كل فرد بمن فيهم الأطفال، وإنها أبدت استعدادها لدفع المبلغ عند اكتمال الإجراءات.

تدقيق أمني في الأسماء

وبقيت جنين تتواصل بين الفينة والأخرى مع القائمين على المؤسسة لمعرفة تفاصيل عن مواعيد السفر، مشيرةً إلى أنها كانت تتلقى «تطمينات بأن العملية مستمرة وفق الخطوات المطلوبة»، ولافتةً إلى أن المؤسسة أوضحت لها أن «هناك إجراءات فحص أمني مشددة تجري حول كل شخص» سيخرج من القطاع، حتى لا يكون «بينهم عناصر من (حماس) أو أي فصيل فلسطيني آخر يوصف بأنه إرهابي».

وذكرت أنه بعد 3 أشهر ونصف الشهر تلقت رسالة مفاجئة على هاتفها الجوال، وكذلك هاتف زوجها، تبلغهم بالاستعداد خلال 6 ساعات للتجهّز، وألا يجلبوا إلا الأوراق الثبوتية اللازمة، مشيرةً إلى أنه تم تحويل الأموال المطلوبة للسفر قبل ذلك بأيام عبر حسابات تتعامل بشكل أساسي مع العملات المشفرة، وعبر التطبيقات الإلكترونية للمحافظ الخاصة بالعملات الأجنبية.

من دير البلح عبر مطار رامون

وبحسب جنين، خرجت العائلة بحافلة صغيرة من مكان قرب دير البلح وسط قطاع غزة، نهاية شهر أكتوبر (تشرين الأول) من العام الجاري، حملتها وعائلتها مع نحو 40 شخصاً آخرين، وتوجهوا إلى المناطق الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية، وصولاً إلى نقطة عسكرية في ما يبدو أنها شرق خان يونس أو رفح، ومنها نُقلوا إلى داخل معبر كرم أبو سالم، ثم إلى مطار رامون الإسرائيلي في النقب، ومن هناك سافروا إلى جنوب أفريقيا. ولفتت جنين إلى أنه كان هناك عدد آخر من سكان القطاع وصلوا قبلهم من خان يونس.

ومنذ اللحظة التي انطلقت فيها الحافلة حتى وصولها للموقع الإسرائيلي ما بين خان يونس ورفح، حلقت طائرتان مسيّرتان فوق الحافلة ورافقتاها حتى وصولها لنقطة العبور إلى الداخل الإسرائيلي.

فلسطينيون يمرون قرب عربة عسكرية إسرائيلية مدمرة في مدينة غزة الخميس (أ.ب)

وكانت جنين (ب) وأفراد عائلتها جزءاً من الرحلة الأولى التي تنظمها مؤسسة «المجد أوروبا»، وتمت عملية وصولها ودخولها إلى جنوب أفريقيا عبر دولة أخرى، أسهل بكثير مما واجهه فلسطينيون آخرون احتُجزوا ساعات طويلة في طائرة أقلّتهم من نيروبي بعد أن اكتشفت السلطات أنهم لا يمتلكون أوراقاً كاملة، منها تذاكر عودة، وكذلك ختم جوازات سفرهم من قبل إسرائيل، كما كان في الرحلة التي على متنها جنين (ب).

 

رحلات «المجد أوروبا»

 

وتظهر بعض الشهادات لفلسطينيين أن مؤسسة «المجد أوروبا» نجحت في تسيير 3 رحلات جوية لفلسطينيين من داخل قطاع غزة، من مايو (أيار) حتى نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2025، وكانت الأولى وجهتها إندونيسيا، وعلى متنها 57 من سكان القطاع، بعد أن هبط من كانوا على متنها في بودابست، انطلاقاً من مطار رامون نفسه، في حين كانت الرحلة الثانية في أكتوبر الماضي للانتقال من مطار رامون باتجاه نيروبي، ومنها إلى جنوب أفريقيا، وهي الحال ذاتها مع الرحلة الأخيرة خلال الشهر الماضي.

وأثارت هذه الرحلات العديد من التساؤلات حول مؤسسة «المجد أوروبا»، التي تعرّف نفسها على موقعها الإلكتروني بأنها «منظمة إنسانية تأسست عام 2010 في ألمانيا، متخصصة في تقديم المساعدات وجهود الإنقاذ للمجتمعات المسلمة في مناطق النزاع والحروب».

عرب في إسرائيل خلال مظاهرة ضد تهجير الغزيين في 8 فبراير من العام الحالي (أ.ف.ب)

وأشارت المؤسسة إلى أن مقرها الرئيسي في القدس، وتحديداً حي الشيخ جراح، لكن زيارة صحافيين فلسطينيين في القدس إلى الموقع المذكور كشفت أنه لا يوجد أثر فعلي للمؤسسة، وأن المقر الذي وضعته تبيّن أنه لمبنى مهجور.

وتزعم المؤسسة أنها منذ العام الماضي تركز جهودها بشكل أساسي على دعم أهل غزة، مع التركيز على مساعدة الجرحى والمصابين، بما يشمل تسهيل وصول المرضى إلى الرعاية الطبية الحرجة، وتأمين السفر إلى الخارج للعلاج، وضمان مرافقة ذويهم لهم طوال فترة العلاج.

هل «الصحة العالمية» متورطة؟

يفتح هذا الأمر تساؤلات كثيرة حول ما إذا كانت مؤسسة «المجد أوروبا» هي مَن أدارت وتدير فعلياً عمليات خروج بعض الجرحى ومرافقيهم من داخل قطاع غزة، تحت ستار التنسيق مع «منظمة الصحة العالمية»، للعلاج في الخارج، ومن ثم مغادرتهم لدول أوروبية وغيرها.

وتفيد مصادر أمنية من غزة لـ«الشرق الأوسط» بأنه في الحقيقة كان هناك العديد من الرحلات التي تم تسييرها من داخل القطاع في خضم الحرب، وكان هناك استغلال واضح للظروف الأمنية وملاحقة رجال الأمن والمقاتلين وغيرهم، الأمر الذي سهّل عمليات السفر بهذه الطريقة المشبوهة.

وصول عائلات فلسطينية من غزة إلى مطار جنيف لتلقي العلاج في مستشفيات سويسرية بتنسيق بين الاردن وسويسرا والنرويج (إي بي أي)

وتشير المصادر إلى أن هناك عائلات خرجت بذريعة المرض والحاجة للعلاج، وهناك أيضاً مرضى فعليون سافروا إلى دول عربية وأوروبية للعلاج، وذلك من خلال آلية رسمية وعبر منظمة الصحة العالمية التي كانت جهزت قوائم للمرضى ذوي الأولوية، ومنهم جرحى الحرب.

بالعودة إلى مؤسسة «المجد أوروبا»، فإنه عند فتح موقعها الإلكتروني تظهر تنويهات، منها وضع أرقام شخصين حملا اسم «عدنان» و«مؤيد»، وأحدهما يحمل رقماً فلسطينياً والآخر إسرائيلياً، في حين وُضع رقمان آخران من إسرائيل للمؤسسة للتواصل عبر «واتساب»، داعيةً في التنويه من يدخل الموقع إلى ضمان سير إجراءات التنسيق بشكل سليم، ودفع الرسوم عبر الأرقام التي وُضعت، وعدم التعامل مع أي أرقام أخرى. كذلك تحذّر المؤسسة في تنويه آخر من التعامل مع أي وسيط خارجي، مؤكدةً أنه لا يوجد وساطة في عملية التسجيل، أو تسريع الحصول على تصريح أمني للسفر، أو تفضيل شخص على آخر، في طريقة تهدف إلى تنبيه من يسجل للسفر من الوقوع في الاحتيال أو النصب.

تنفيذ لخطة إسرائيلية

ذهب البعض في قطاع غزة وخارجه إلى التأكيد أن المؤسسة تتبع بشكل مباشر جهات رسمية إسرائيلية، وتأتي في إطار تشجيع الهجرة من غزة لتفريغها. وبالإضافة للأخطاء الإملائية الكثيرة التي ترد في تعريفها بنفسها، وحتى في اسمها، فإن الأرقام المستخدمة إسرائيلية، والأهم أن المؤسسة تقوم بالحصول على موافقات أمنية للسفر إلى الخارج، ما يؤكد أنها على صلة وثيقة بالسلطات الإسرائيلية، وتنطلق رحلاتها من مطار إسرائيلي، ونشاطاتها بدأت تبرز بشكل أساسي بعد سيطرة إسرائيل بشكل أكبر أمنياً على القطاع .

وأكثر من ذلك، كشف مختصون في التكنولوجيا، بينهم فلسطينيون وعرب، أن الموقع التابع للمؤسسة تم إنشاؤه في الثاني من فبراير (شباط) من العام الجاري، وتم تسجيله في آيسلندا.

وأقرت مصادر إسرائيلية في تقرير لصحيفة «هآرتس» العبرية بأن مؤسسة «المجد أوروبا» سلّمت الجيش الإسرائيلي ووحدة تنسيق أعمال الحكومة في المناطق الفلسطينية قوائم مسبقة تتضمن بيانات الفلسطينيين الراغبين في الهجرة، والذين سجلوا أنفسهم عبر الموقع الإلكتروني أو بالتواصل مع القائمين على المؤسسة.

وبحسب تحقيق صحيفة «هآرتس» العبرية، فإن مؤسسة «المجد أوروبا» مرتبطة بشركة «تالنت غلوبس»، وهي شركة مسجلة في إستونيا، ومؤسسها تومر جانار ليند، وهو إسرائيلي - إستوني. وأشارت الصحيفة إلى أن المؤسسة تنسق مع إدارة في وزارة الدفاع الإسرائيلية أُنشئت بدورها في فبراير من العام الجاري، بهدف «تسهيل الهجرة الطوعية» للغزيين، وقد تم استحداثها بشكل أساسي في أعقاب اقتراح الرئيس الأميركي دونالد ترمب فتح باب الهجرة الطوعية لسكان القطاع.

أب وطفله يصلان إلى مطار جنيف في سويسرا ضمن رحلة علاجية شملت 13 طفلاً و51 عائلة فلسطينية خرجت من غزة بتنسيق بين الاردن وسويسرا والنرويج (أ.ف.ب)

في الثامن عشر من نوفمبر من العام الجاري أصدرت المؤسسة بياناً أكدت فيه أنها تتعرض لحملة تشويه وتشهير كبيرة، بهدف تجريد سكان غزة من حريتهم في اختيارهم وتقرير مكان عيشهم، وإجبارهم على البقاء تحت خطر مباشر ومعاناة يومية، وحرمانهم من أي فرصة لإنقاذ حياتهم أو تأمين مستقبل أفضل لأطفالهم، مؤكدةً أنه لا علاقة لها بإسرائيل سوى تنسيق عمليات الخروج معها، ومشددةً على أنه لا علاقة لها بـ«الموساد» أو أي جهة استخباراتية.

 

تبادل اتهامات ومصاير مجهولة

واتهمت المؤسسة دبلوماسيين يتبعون السلطة الفلسطينية باستدعاء المسافرين الذين غادروا من خلالها للاستجواب والتهديد.

ويقول أحمد (غ) البالغ من العمر (33 عاماً)، مفضّلاً عدم ذكر هويته، والذي غادر عبر الرحلة الثانية لمؤسسة «المجد أوروبا»، إنه لم يتلقَّ أي تهديدات من أي جهة فلسطينية عقب مغادرته قطاع غزة. لكنه أشار في المقابل إلى أنه تلقى تحذيرات من بعض العاملين في إحدى السفارات الفلسطينية من التعامل مع هذه المؤسسة، وأنه تم الاستفسار منه عن آلية التسجيل والخروج، والأشخاص الذين قابلهم في مطار رامون، بحسب ما أوضح لـ«الشرق الأوسط».

ويوضح أحمد أن رحلته انطلقت من مطار رامون إلى جنوب أفريقيا عبر نيروبي، مشيراً إلى أنه «كان سعيداً جداً بالهجرة مع زوجته ومغادرة قطاع غزة»، وإن اصطدم بواقع حياتي صعب نسبياً.

صورة مقتطعة من فيديو لطائرة ركاب تحمل فلسطينيين من غزة هبطت في مطار جوهانسبرغ ورفضت السلطات إدخال المسافرين القادمين على متنها (وسائل تواصل)

ويلفت الشاب إلى أنه بعد مغادرتهم مطار نيروبي لم يعد أحد من المؤسسة يتابع ظروفهم، وبقي مصيرهم مجهولاً، دون أن يكون هناك من ينتظرهم في جنوب أفريقيا، مشيراً إلى أن وفداً من المؤسسة استقبلهم فقط في مطار رامون، وفي مطار نيروبي، وبعد مغادرتهم الأخيرة لم يكن أحد برفقتهم على متن الطائرة أو في مطار «أو آر تامبو» في جوهانسبرغ. وقال: «تُركنا نواجه مصيرنا وحدنا بعدما نقلتنا مركبات كانت تنتظرنا أمام المطار إلى بيوت ضيافة بسيطة وعلى نفقتنا الشخصية». علماً إن السلطات في جنوب أفريقيا اعلنت رفضها استقبال مزيد من الوافدين الفلسطينيين على متن هذه الرحلات خوفاً من أن تكون فعلاً تنفيذ لمخطط إسرائيلي بإفراغ غزة والقطاع من السكان.

ولكن على الرغم من كل ذلك كله، ما زال أحمد وزوجته سعيدين بخروجهما من الواقع المأساوي الذي يعيشه السكان في قطاع غزة، كما قال.

 

بين «حماس» والسلطة

تقول المصادر الأمنية بغزة، وهي من حكومة «حماس»، إنها لم تكن تعلم بحقيقة تلك الرحلات والجهة التي تقف خلفها، وكان الاعتقاد السائد أنهم من المرضى، أو ممن لديهم أقارب في أوروبا، ويتم تسهيل سفرهم عبر سفارات تلك الدول للمّ الشمل.

وأكدت المصادر أنها لم تستجوب أو تتواصل مع أي من المسافرين للحصول على المعلومات اللازمة لهم، ولكنها تعمل حالياً لمنع محاولات جديدة من السفر.

العمليات الإسرائيلية تسببت في تهجير 40 ألف فلسطيني حتى الآن بشمال الضفة الغربية (رويترز)

وبينما لم يصدر تعقيب رسمي من السلطة الفلسطينية على الأحداث أو الاتهامات التي وُجهت إليها من مؤسسة «المجد أوروبا»، اكتفت «الخارجية الفلسطينية» بإصدار بيان حذرت فيه من «الوقوع فريسة لشبكات الاتجار بالبشر وتجار الدم ووكلاء التهجير»، مؤكدة عزمها على ملاحقة المنظمة واتخاذ الإجراءات القانونية ضدها.

وكانت سفارة فلسطين لدى جنوب أفريقيا أصدرت في الرابع عشر من نوفمبر من العام الجاري تحذيراً شديد اللهجة من استغلال جهة «مضللة ومشبوهة»، كما وصفتها، الأوضاع الإنسانية لسكان القطاع، وخداعهم لتنظيم عملية سفرهم بطريقة غير قانونية وغير مسؤولة. كما قالت في أعقاب أزمة الرحلة الأخيرة التي وصلت إلى جوهانسبرغ، مؤكدةً أن تلك الجهة حاولت التنصل من أي مسؤولية بمجرد ظهور التعقيدات والإجراءات الروتينية عند وصول المسافرين إلى الدولة المحددة لهم للسفر إليها.

وتقول مصادر أمنية من حكومة «حماس» إنه بعد أن دخل وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، ورغم أن الظروف الأمنية غير مستقرة وتحاول إسرائيل رصد أي تحركات، فإنها ستسعى لمنع مثل هذه الرحلات المشبوهة، وإنها ستتصدى لمثل هذه المحاولات، لكنها لن تعترض أي رحلات هدفها سفر المواطنين للعلاج أو حالات إنسانية، لكن مثل هذه العمليات التي تقف خلفها جهات مشبوهة ستتصدى لها وستعمل على منعها، لمنع تنفيذ الخطة الإسرائيلية - الأميركية، الهادفة إلى تهجير السكان.

الملاحقة والاستمرارية

ويبدو أن المؤسسة تعاني من ملاحقة حقيقية، وتتعرض لحملات إلكترونية مثل الاختراق، ولإجراءات قانونية تُتخذ ضدها من قبل بعض الجهات، الأمر الذي دفع تطبيق «واتساب» لحظر أرقامها المعلنة عبر وسائل التواصل وعبر موقعها الإلكتروني.

فلسطينيون يحملون لافتات كُتب عليها: «لا للتهجير» و«غزة تموت» خلال احتجاج في مخيم النصيرات بغزة (د.ب.أ)

واتهمت المؤسسة في منشور لها عبر «فيسبوك» جهات لم تسمها بأن عملية حظر أرقامها جاءت كجزء من «الهجمة» الموجهة ضد نشاطاتها، مؤكدةً الاستمرار في عملها، وأنها تعمل على معالجة هذه القضية وترتيب أرقام جديدة للتواصل، وأنها ستتواصل مع متابعيها من أرقام بديلة عند جهوزيتها.

وعلى الرغم من كل هذا الضجيج حول المؤسسة وعملها، فإنها ما زالت تواصل استقبال طلبات المسافرين من سكان قطاع غزة، كما يظهر على موقعها الإلكتروني، ومن خلال صفحتها على «فيسبوك»، إلى جانب استمرار الإعلانات الممولة التي تظهر للغزيين عبر شبكات التواصل.

الغزي نادر (ع)، من سكان مدينة غزة، والذي فضّل عدم ذكر اسمه لأسباب أمنية، وهو يبلغ من العمر (41 عاماً)، ومتزوج ولديه 4 أطفال، كان أحد من تسابقوا للتسجيل مجدداً لدى المؤسسة، منذ أكثر من شهر ونصف الشهر، وما زال في عملية تواصل مستمر مع الأرقام التي وضعتها المؤسسة.

غروب شمس خريفية في غزة (رويترز)

ويقول نادر إن الظروف الحياتية الصعبة أجبرته على التفكير في الهجرة، والبحث عن مستقبل أفضل له ولعائلته، معرباً عن أمله أن تنجح مساعيه في السفر، وأن يحالفه الحظ كما حالف آخرين.

وأضاف: «كل ما أريده أن أخرج من قطاع غزة إلى أي دولة، ومنها سأغادر إلى أي جهة كانت... ما يهمني أن أرتاح من حياة الخيام، وأن أبحث عن حياة آمنة لي ولزوجتي وأطفالي».


فوز الحلبوسي في انتخابات العراق… استراتيجية «النجاة» بعد «الإقصاء»

محمد الحلبوسي (أ.ف.ب)
محمد الحلبوسي (أ.ف.ب)
TT

فوز الحلبوسي في انتخابات العراق… استراتيجية «النجاة» بعد «الإقصاء»

محمد الحلبوسي (أ.ف.ب)
محمد الحلبوسي (أ.ف.ب)

فاز محمد الحلبوسي، أحد أكثر الفاعلين السنة في العراق تعقيداً، بعشرة مقاعد برلمانية عن بغداد، و35 مقعداً من أصل 329، عن عموم البلاد في الانتخابات التي أُجريت في 11 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

تبدو هذه الأرقام استثنائية لرجل أُقيل في مثل هذه الأيام قبل عامين من منصبه رئيساً للبرلمان، وهو أعلى موقع خصصه العرف السياسي للعرب السنة بعد الرئيس الراحل صدام حسين.

ما الذي جرى في مسيرة رئيس حزب «تقدم» خلال فترة كانت مزدحمة بالعواصف منذ 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023؟ بينما كانت فصول عنيفة تُطوى في الشرق الأوسط، كان عراقيون يزورون محافظة الأنبار، مسقط رأس الحلبوسي غرب العراق، يلتقطون الصور لشوارع معبّدة وملاعب وأبنية جديدة، ويتساءلون: «أليست هذه نفسها صحراء الرجل الذي عاقبته إيران؟».

أظهرت الأرقام النهائية للانتخابات، أن الحلبوسي الذي تنافس للمرة الأولى على أصوات الناخبين في بغداد قد تفوق فيها بنحو 72 ألف صوت على نوري المالكي، زعيم ائتلاف «دولة القانون» الذي جمع أصواتاً أقل بنحو 20 ألفاً. في المشهد الحزبي، فاز «تقدم» منفرداً بفارق 8 مقاعد على الحزب الديمقراطي الكردستاني الخبير في لعبة الاقتراع منذ 3 عقود.

تشكل عودة الحلبوسي نموذجاً فريداً لعلاقات القوة بين الجماعات الطائفية في العراق، وكيفية النجاة من أشدّ معاركها ضراوة. ومثلما تثير العودة أسئلة حول كيفية التعامل أو التعايش مع النفوذ الإيراني في البلاد، تسلط الضوء على نموذج حزبي صارم يتنامى في مجتمع سني لم يعهد خبرة في العمل السياسي، لكنه يستعيد شيئاً من التقاليد الكلاسيكية في احتكار النفوذ وتصفية المنافسين.

الحلبوسي مهندس مدني في منتصف عقده الرابع من بلدة «الكرمة» بمحافظة الأنبار. ومن شركة كانت تُنفذ مشاريع محدودة للبنى التحتية في الفلوجة، وجد طريقه إلى استثمار أشد صعوبة وتعقيداً في السياسة، تتقاطع عنده جماعات شيعية وسنية، تتنافس تحت ظلال إيرانية.

دخل الحلبوسي البرلمان عام 2014. انتقل من لجنة «حقوق الإنسان» التي همّشتها الحياة السياسية، مباشرة إلى المعركة الأساسية؛ صار عضواً في لجنة المال عام 2015 ورئيسها عام 2016. هناك تعرّف على وسطاء الموازنة، إذ يمثلون شبكات الولاء مقابل المنفعة، والخطأ فيها قاتل في لمح البصر.

لم ينتبه اللاعبون الأساسيون يومها إلى شاب سني بلحية خفيفة وتسريحة حديثة، لم يبد لهم أنه قد يثير القلق. الحلبوسي نفسه لم يكن قد اكتشف بعد أين ستقوده أحلامه، لكنه سرعان ما بدأ يعبر عن نفسه. بعد سنوات وجدته قوى شيعية مرتابة وسنية ناقمة، على حد سواء، خطراً عليها. وتم وصفه على نطاق واسع برأس تلعب فيه شياطين «الزعامة»، فلعب معها.

محاولات دامية

بعد 2003 عاد الحلبوسي إلى جامعته في بغداد لإكمال دراسته العليا. كان العرب السنة خارج مطبخ السياسة في أعقاب الغزو الأميركي. تسرد وقائع عديدة على مدى العقدين الماضيين كيف قادت محاولات نخب سنية لدخول الحياة العامة إلى نهايات مميتة، سُفكت فيها دماء.

في يونيو (حزيران) 2005 توسعت لجنة كتابة الدستور لتضم 15 ممثلاً عن العرب السنة الذين كانوا بعيدين عن أهم نقاشات حول مستقبل البلاد. التوسع شمل مجبل الشيخ عيسى وضامن حسين عليوي وعزيز إبراهيم، الذين انخرطوا فوراً في معارضة صياغة بنود في الدستور. في يوليو (تموز) من العام نفسه، كان الثلاثة يتناولون وجبة غداء في أحد المطاعم وسط بغداد، قبل أن يفتح مسلحون النار على سيارتهم، ويُقتلوا في الحال.

على طريق مزدحم بحي الداوودي غرب العاصمة، كان عصام الراوي، وهو أستاذ علوم الأرض في جامعة بغداد، في طريقه إلى مكان عمله حين قتله مسلحون في أكتوبر 2006. كان الرجل، في أعقاب تفجير المرقدين العسكريين في سامراء، قد قطع الطريق راجلاً إلى مرقد «الكاظم» المقدس لدى الشيعة، ليصلي، في محاولة لإطفاء فتنة تتفجر في كل مكان. يقول كثيرون إن جماعة أصولية عاقبته على ذلك.

في العام نفسه، قتل شاكر وهيب، القيادي في تنظيم «القاعدة»، زعيمَ قبيلة كبيرة في محافظة الأنبار كان يدعو إلى إشراك السكان المحليين في الحياة السياسية، وانخراطهم في مؤسسات الأمن بالتزامن مع انسحاب كان مأمولاً للقوات الأميركية.

في 30 ديسمبر (كانون الأول) 2009، شنّ تنظيم «القاعدة» هجوماً على مبنى حكومة الأنبار، أسفر عن مقتل نحو 30 مسؤولاً وعنصر أمن وإصابة العشرات. من بين الجرحى المحافظ قاسم الفهداوي الذي اقترب منه انتحاري خمسة أمتار.

وشاهد سكان الرمادي يومها مروحيتين فوق سطح مستشفى المحافظة لنقل الفهداوي إلى منشأة طبية أكثر تخصصاً، لعلاج إصابات خطيرة في القدم والساق.

نجا الفهداوي وانتكست المدينة خلال محاولتها التعايش مع النظام الجديد.

الطريق بين الكرمة وبغداد

خلال تلك الأيام الدامية، كان الحلبوسي يتنقل بين مسرحين قاتلين، بغداد والكرمة. الطريق الذي يُقطع براً بينهما بساعة ونصف يربط بين ملعبين لانتحاريين وأحزمة ناسفة وميليشيات، ومئات الآلاف من الضحايا من كل الطوائف.

غادر الحلبوسي بغداد عام 2010 ناجياً بشهادة ماجستير في الهندسة إلى مدينة ينشط فيها سياسيون من «الإخوان المسلمين» والقوميين العرب وبقايا من «حزب البعث». كانوا جميعاً محبطين، يقدمون أجندة سياسية قائمة على المظلومية، ويفتقدون الفاعلية. كانت قائمة «العراقية» بقيادة إياد علاوي التي راهنوا عليها «سنياً»، قد تلقت ضربة موجعة بإعلانها الفائز الخاسر في انتخابات 2010.

مع هؤلاء، جاءت أخطر 6 أشهر في تاريخ السنة خلال العقدين الماضيين. ففي 30 ديسمبر 2013، أمر نوري المالكي، رئيس الحكومة آنذاك، باستخدام القوة لفض اعتصام في الأنبار كان امتداداً لاحتجاجات متفرقة في مدن وسط البلاد وجنوبها، لكن المالكي عدّ السنة «متمردين». اعتقلت قوة حكومية سياسيين سُنة بعد اشتباكات، من بينهم أحمد العلواني، أبرز معارضي المالكي، اقتيد إلى محاكمته بتهم إرهاب، وقُتل شقيقه ببشاعة.

في 30 أبريل (نيسان) 2014 انتخب العراقيون البرلمان الثالث. يومها وقعت هجمات انتحارية قرب مراكز اقتراع في الرمادي وبعقوبة وتكريت وكركوك، وقُتل موظفون في «مفوضية الانتخابات» وضباط كانوا يحمونهم، كما شغّلت الأحزاب السُنية دعايتها سراً بسبب المخاوف. وحصل الحلبوسي على مقعد بأصوات ناجين، بشكل ما، من الموت.

بعد شهر، في 29 يونيو 2014، أعلن «داعش» قيام دولته. اضطرت الحكومة، بضغط من التحالف الدولي، إلى تجنيد شبان من العرب السنة لمقاتلة التنظيم، وكانت القبائل في الأنبار تجرب التحالف مجدداً مع القوات النظامية مع مجيء حيدر العبادي إلى رئاسة الحكومة في محاولة لنسيان جراح فتحها المالكي وتركها مفتوحة.

رئيس البرلمان الأسبق أسامة النجيفي خلال زيارته طهران في سبتمبر 2013 (إيرنا)

«نادي العجز» السياسي

كانت الكتلة السنية «متحدون للإصلاح» بزعامة أسامة النجيفي الخيار السني الوحيد الذي وجد «حزب الحل» الذي ترشح عنه الحلبوسي الشاب إلى البرلمان عام 2014. رغم أن الكتلة كانت أقرب إلى نادٍ مغلق يخفي عجزاً بنيوياً عن إنتاج السياسات، لكن الجمهور السني صوّت لها في محاولة لتحدي قوى شيعية تتفرد بالسلطة، وتنظيمات إرهابية تمنعهم من التعامل معها والانخراط فيها. كان ذلك تكليفاً بمهمة شبه مستحيلة.

النجيفي، الذي ترأس برلمان الدورة الثانية حتى 2014، وآخرون من أمثال طارق الهاشمي نائب رئيس الجمهورية حتى ديسمبر 2013، ورافع العيساوي وزير المال حتى مارس (آذار) 2013، كانوا آخر من وُضعوا في فوهة المدفع أمام المالكي، وسقطوا من دون خطط بديلة للعودة، وبكثير من الشكوى والعزلة.

سرعان ما انقلب الحلبوسي على هذه المقاربة في «إدارة التهميش»، كان يريد التحرك إلى قلب النظام وليس البقاء في هامشه، معارضاً معزولاً.

عثر الحلبوسي على مقعده في البرلمان. واحتل «داعش» ثلث العراق. سرعان ما اجتذبت معارك التحرير تشكيلات عسكرية مختلفة، وأخرجت النفوذ الإيراني من الكواليس إلى العلن. وانتشر مستشارو «الحرس الثوري» الإيراني مع فصائل في «الحشد الشعبي»، تحت كل سماء حلّقت فيها مقاتلات الجيش الأميركي.

بعد 3 سنوات من القتال تراجع «داعش» عن مساحات شاسعة واستعادت بغداد أراضيها في الموصل والرمادي، وبدأت معركة نفوذ جديدة. كان الحلبوسي يعود إلى الكرمة في إجازته عبر نقاط تفتيش نصبتها فصائل منتصرة.

نسخة سياسية جديدة

لقد أمضى الآن 3 سنوات في البرلمان، تجربة وضعته بين «أسماك قرش» تتعاظم على أيديهم إمبراطوريات مال وسلاح، وامتد شيء منها إلى مساحات محررة من «داعش». قالت فصائل مسلحة إنها «صاحبة الفضل» في التحرير، ولها الحق في حماية الأمن في كل مكان رسمته دماء مقاتليها. حينها أصبح الحلبوسي محافظاً يحلم بإمبراطورية. كان ذلك في أغسطس (آب) 2017.

تزامن التعاظم المضطرد للنفوذ الإيراني في العراق مع ظهور نسخة جديدة من السياسية السنية. بينما كانت القوى الشيعية بحاجة إلى وسطاء سنة لتوطيد سلطتها، بدا أن الحلبوسي كان يريد ما هو أكثر، بتقاسم النفوذ. أصبح الآن رئيساً للبرلمان، وأزاح عن وجهه قناع الشاب الطموح وسحب كرسياً من الصفوف الخلفية إلى المائدة الرئيسية.

يرى أحد المسؤولين الحكوميين الذين عرفوا الحلبوسي عن قرب أن «ظاهرة الرجل نشأت من تفاعل الحاجة الاجتماعية داخل البيئة السنية بعد انهيار نموذج (الزعيم المنقذ)؛ ثم التوقيت والتمركز الصحيحين بأداء واقعي». يقول سياسي معارض للحلبوسي إنه «مشروع ديكتاتور جديد».

انتبه خصوم الحلبوسي إلى تحالفاته الواسعة بين جماعات متنافسة في العراق (د.ب.أ)

«أكثر من اللازم»

قاد الحلبوسي البرلمان منذ 2018... سرعان ما تعرضت المنظومة الشيعية إلى الاهتزاز بفعل التنافس على تمثيل المكون الأكبر، وأمام احتجاج شعبي في أكتوبر 2019 سقط رئيس الحكومة عادل عبد المهدي، وغاب عن المطبخ قاسم سليماني، قائد «قوة القدس» في «الحرس الثوري».

لم يمنع الحلبوسي نفسه من التعبير عن النسخة الحديثة من السياسة السنية. ديناميكيته سمحت له بالتنقّل بين الجبهات لبناء تحالفات واسعة. يقول ذلك سياسيون شاهدوا كيف «قدم الحلبوسي نفسه عرّاباً أمام بيئة الاحتجاج بينما كانت الأحزاب الشيعية تفقد المبادرة». ويقول مقربون منه، إن «فاعليته تلك الأيام تعبير عن حضوره في النظام، بوصفه شريكاً».

انتبهت المنظومة الشيعية إلى الحلبوسي كأنها لم تعرفه من قبل. قرر الجميع إخراجه من اللعبة. بالنسبة لمنافسين سنة وشيعة، فإن الحد المسموح للحلبوسي هو الاستفادة من التوازن دون التحول «أكثر من اللازم إلى سمكة قرش»، على حد تعبير قيادي شيعي.

الحال أن الحلبوسي أُقيل من رئاسة البرلمان وشُطبت عضويته في نوفمبر 2023. في اليوم التالي خرج أمام الصحافيين ملوّحاً بنسخة من الدستور لـ«تصحيح خطأ» وقعت فيه المحكمة الاتحادية. كان هذا فعلاً سياسياً غير مسبوق على المستوى السني.

قيل على نطاق واسع إن خصوم الحلبوسي من العرب السنة اشتكوا لدى حلفاء شيعة من فائض قوته، وإن إيران في النهاية قررت إعادة التوازن. يقول سياسي عراقي إن فريق رئيس حزب «تقدم» تعامل مع القرار بوصفه «محطة فاصلة لإعادة إنتاج المشروع، دون الخوض في السياق السياسي للأزمة». كان هذا أمراً غير معهود في الحياة السياسية للسنة العرب.

بعد شهر واحد، خاض الحلبوسي انتخابات مجالس المحافظات في اختبار حاسم لقدرته وهو معاقَبٌ من دون منصب، وفاز بـ21 مقعداً. يقول قيادي من حزب «تقدم» إن شطب العضوية تحول إلى وقود لإشعال نيران الحملة الانتخابية، ونجح الأمر.

أصبح الحلبوسي الآن أكثر شراسة، بل أقل تساهلاً مع الثغرات في مشروعه، وأظهر ميلاً للصرامة الحزبية. كان على استعداد لتصفية أقرب المقرّبين. في يوليو 2024 تفاقمت شكوكه حول ذراعه اليمنى في حزب «تقدم» بالأنبار، المحافظ السابق علي فرحان، من حيث إنه منفتح ربما على خيارات سياسية مختلفة. حوكم الرجل بتهم إساءة استخدام المنصب، وقضى فترة في السجن.

في أبريل 2025، برأ القضاء الحلبوسي من تهمة التزوير التي أُقيل بموجبها. بعد شهر سيقضي القاضي جاسم العميري، الذي أقاله، إجازة التقاعد مغادراً المحكمة الاتحادية.

بدأ ثقل الحلبوسي السياسي من مناطق غرب العراق (إكس)

حصانة غير مضمونة

ثمة انقسام حول تفسير «ظاهرة الحلبوسي». يقول خصوم إن خصاله الشخصية لم تكن تكفيه لتحقيق هذه المكاسب، وإنه «حاصل الجمع بين شبكة تؤهل الزعامات ولحظة سنية سمحت له بالظهور».

لكن كثيرين من السنة في بغداد، بعد سنوات من العنف والانقسام، وجدوا في الحلبوسي الشخص الذي يشبع حاجتهم إلى الزعامة. لقد استمعوا إليه خلال الحملة الانتخابية الأخيرة يقول «شعارات» حادة: «نحن السنة نقرر ما نريد (...) لن نسمح للآخر (الشيعة والكرد) بأن يقرر نيابة عنا».

بعد إعلان النتائج الأخيرة، قال قيادي شيعي إن «الحلبوسي بموقعه الوسطي بين تيارات سائدة في المنطقة، خصوصاً بعد أحداث أكتوبر 2023، بين إيران التي تحاول التقاط أنفاسها، وتركيا المتفوقة في سوريا، سيلعب دوراً متقدماً في ضبط التوازنات العراقية».

تبدو هذه المهمة واعدة، إذ تمنح الحلبوسي «جدار حماية» إضافياً في منطقة متقلبة، لكنه لا يزال يبحث عن «حصانة» أكبر. تدرك دائرته المقربة أن «الضمانات في هذه اللعبة غير متوفرة، ولا أحد يقدمها. النظام هش ويتغير بسرعة، كل ما يشغلهم الآن هو الاستعداد للضربة المقبلة: من أين؟ ومن يسددها؟». هذا النوع من «الاستعداد» يتحول الآن إلى أحد أهم فنون البقاء في العملية السياسية العراقية.