يوسف مليطان.. حالة «داعشية» غامضة تجاوزت تأثيراتها ليبيا

أمام خلفية النزاعين السياسي والعسكري

عناصر من « انصار الشريعة» بايعوا داعش وانتقلوا الى سرت وسرعان ماخرجوا منها ايضا  («الشرق الاوسط»)
عناصر من « انصار الشريعة» بايعوا داعش وانتقلوا الى سرت وسرعان ماخرجوا منها ايضا («الشرق الاوسط»)
TT

يوسف مليطان.. حالة «داعشية» غامضة تجاوزت تأثيراتها ليبيا

عناصر من « انصار الشريعة» بايعوا داعش وانتقلوا الى سرت وسرعان ماخرجوا منها ايضا  («الشرق الاوسط»)
عناصر من « انصار الشريعة» بايعوا داعش وانتقلوا الى سرت وسرعان ماخرجوا منها ايضا («الشرق الاوسط»)

حكاية يوسف مليطان، الشخصية الليبية الداعشية المثيرة للجدل، برزت بين الدواعش ليس في ليبيا فقط، ولكن أيضًا في المركز الرئيسي للتنظيم في العراق والشام. وتوعد أربعة قادة جدد ممن جاؤوا من الخارج إلى ليبيا، أخيرًا، بالثأر له من مدينة مصراتة التي ينتمي إليها غالبية مقاتلي عملية «البنيان المرصوص» ضد داعش في سرت.
غير أن التنظيم الدموي في هذه المدينة الليبية تلقى ضربة أخرى بعد واقعة مقتل مليطان بيومين، حين وردت أنباء عن مقتل القيادي في داعش سرت، المدعو محمد غليو. ومن الملابسات ذات المغزى أن المحققين المتهورين ممن كانوا يستجوبون مليطان وهو يرتعش من البرد والخوف، سألوه عمن يعرف من القيادات الداعشية التي تنتمي لمصراتة وتقيم في سرت، فقال إن من بينهم غليو، وذكر أنه مصاب بطلقة رصاص في صدره، وأنه قد يكون قد فارق الحياة.
تعد واقعة مقتل غليو، وهو أيضًا في الثلاثينات من العمر، نقطة مهمة في مسيرة الليبيين للقضاء على داعش في هذه البلاد التي تعاني من الفوضى منذ سقوط نظام معمر القذافي عام 2011. فقد أسس غليو البؤرة الرئيسية لدواعش مصراتة، وانتقل بهم فيما بعد إلى سرت مصطحبا معه مليطان. وهناك أخذ على عاتقه مهمة استقبال الداعشي البحريني الأصل، تركي البنعلي، الذي تدور شكوك حول مقتله هو الآخر في هذه الأيام الأخيرة من معارك سرت.
أما مليطان فكان من بين شباب مصراتة المعجبين بلحية غليو ونظاراته الطبية وطريقته في تحدي كبار قادة مصراتة ممن يجنحون إلى التفاوض السياسي بدلا من الاحتراب وذلك منذ عام 2013. أي قبل سنة من ظهور داعش في ليبيا. كان مليطان وهو يدور في شوارع مصراتة يتوقف ليستمع إلى غليو وخطبه التي كان يلقيها هنا وهناك بألفاظ حادة ولهجة حماسية، فهو قيادي في «كتيبة الفاروق» التي كانت قد أعلنت ولاءها في ذلك الوقت لتنظيم «أنصار الشريعة» وقادتها الذين كانوا وقتها يتحكمون في مدينتي درنة وبنغازي بشرق ليبيا.
كانت ميليشيات مصراتة مشغولة في عامي 2013 و2014 بالنزاع السياسي حول حكم البلاد. وتخوض ضمن تحالف «فجر ليبيا» معارك طاحنة مع منافسين لها من ميليشيات مدينة الزنتان حول مطار طرابلس الدولي. وحين هدأت الأمور بعض الشيء أدرك بعض زعماء مصراتة أنه يمكن الاستفادة من كتيبة الفاروق في مواصلة الحرب في الشرق ضد الجيش الوطني الذي يقوده خليفة حفتر، وضد البرلمان الذي خسر فيه «تيار الإسلام السياسي» معظم مقاعده التي كان يستحوذ عليها في البرلمان السابق (المؤتمر الوطني).
يقول «أبو مسعود» وهو أحد قيادات فجر ليبيا التي حاربت في واقعة مطار طرابلس إن كتيبة الفاروق كانت تميل إلى التطرف منذ البداية. وحين بدأت محاولات استثمار الانتصار في حرب طرابلس سياسيا، رفضت ذلك. كان لدى قادتها، ومنهم مليطان وغليو، رغبة في مواصلة الحرب من أجل ما يؤمنون به، وهو تطبيق الشريعة الإسلامية من وجهة نظرهم. لهذا رأى البعض أن يتم استثمار هذا في الضغط على الجيش وعلى البرلمان. ولم يكن تنظيم داعش قد ظهر في سرت بعد.
ويضيف أنه باختصار جرى دمج كتيبة الفاروق في القوات التي كانت تحاول في أواخر 2014 وحتى بداية 2015، السيطرة على الحقول النفطية الموجودة في الشمال الأوسط من البلاد، أي إلى الشرق قليلاً من مدينة سرت. وكان البعض يرى أنه يمكن لكتيبة الفاروق أن تكون مصدر عون في الحرب التي يشنها تنظيم أنصار الشريعة في بنغازي ضد الجيش الوطني والبرلمان. كما كان بعض قادة مصراتة يسعون لترويض قادة الكتيبة. وعقدوا معهم، داخل معسكراتهم، اجتماعات، وألقوا عليهم محاضرات ودروسا دينية وغيرها.
وبعد محاولات فاشلة في السيطرة على الحقول النفطية شرقي سرت، تحولت الكتيبة إلى مصدر تهديد لمصراتة نفسها. وجرى طرد عناصرها الموجودة في مصراتة إلى مدينة سرت. وكانت أولى العمليات التي شاركت فيها قتل 12 من جنود الصاعقة التابعين للجيش في تلك المنطقة.
ويقول شهود كانوا على صلة بعدد من متطرفي ليبيا، إن مليطان وغليو انتقلا إلى سرت. وهناك جرى الإعلان عن أن المدينة أصبحت مركز داعش في ليبيا. ثم انقسمت كتيبة الفاروق إلى قسمين: قسم استمر على موالاة «أنصار الشريعة» دون أن يبايع داعش وهذا القسم انتقل إلى بنغازي. وقسم أصبح على صلة مباشرة بمركز قيادة داعش في العراق والشام، وهذا رسَّخ قدميه في المدينة وضم إليه كل عناصر «أنصار الشريعة» الذين بايعوا داعش، وبناء عليه جاؤوا من درنة وبنغازي وتونس ومصر وغيرها للإقامة في المركز الداعشي الجديد.
ومع منتصف العام الماضي أصبح داعش يسيطر على سرت بشكل كامل. وظهر مليطان في وسط المدينة بلحية طويلة ولقب جديد هو «أبو همام»، وفقًا لروايات مستقاة من شهود عيان فروا وقتها من سرت وأقاموا في بلدة أجدابيا الصحراوية ناحية الشرق. لكن الخلاف يتعلق بالدور الذي كان يقوم به الرجل. فالبعض شاهده في حلقات الدروس الدينية التي كان يلقيها البنعلي أثناء زياراته إلى سرت. والبعض يقول إنه أصبح في سرت من المقربين من غليو ومساعديه. ويقول بشير، أحد أبناء سرت ممن نزح مع أسرته وأصبح يقيم في أجدابيا: «أبو همام» لم يكن متفقها في الدين لكنه كان محبوبا وسط دواعش المدينة. أحيانا يؤم المصلين في المسجد. وأحيانا يقضي في النزاعات بين الناس، وأحيانا يصدر أحكاما بالإعدام. وأحيانا نسمعه في إذاعة سرت الداعشية يلقي الخطب الحماسية.
وحين دخل «المجلس الرئاسي» المنبثق من حوار الصخيرات لتولي زمام الحكم من طرابلس في نهاية مارس (آذار) الماضي، كان يبحث، على ما يبدو، عن عملية كبيرة يثبت بها وجوده. وكانت العملية التي جرى تجهيزها على عجل، هي محاربة داعش في سرت بداية من شهر مايو (أيار) الماضي. وأثناء التحضير للحرب تبين أن نفوذ كتيبة الفاروق لا يقتصر على سرت بل إن لها متعاطفين موجودين على رؤوس كتائب كانت متمركزة في معسكر الأبرار في بلدة تاورغاء المهجورة من السكان. وهي بلدة تقع على مشارف مصراتة.
وبداية من يوم 20 من شهر أكتوبر (تشرين الأول) الماضي بدأ نشاط كتيبة الفاروق (الفرع الداعشي) ينشط في داخل مصراتة نفسها، وأصبح هذا مصدر قلق كبير، ومصدرا للخلافات بين عدد من قادة المدينة التي تعد من المدن الثرية الواقعة على البحر المتوسط. وشوهد غليو ومعه مليطان وهما يتجولان فيها مع أحد قادتها الكبار. وكان هذا الأمر مثار غضب من جانب مسؤولين عسكريين في مصراتة، خصوصًا أن الكتيبة كانت قد حاصرت القاعدة الجوية في المدينة لمنع الطيارين من الإقلاع بالطائرات الحربية لقصف داعش في سرت.
ووفقًا لشهادة من مصدر عسكري، فإن دخول الرجلين إلى مصراتة التي يتساقط أبناؤها قتلى في الحرب ضد داعش سرت، كان أمرًا مستفزًا. وقال الرجل: «أبلغنا أحد القيادات القبلية التي كانت ترافق غليو ومليطان في ميناء مصراتة البحري في شهر أكتوبر، وقلنا له هل أنت لا تعلم أن الرجلين اللذين معك من قيادات داعش في سرت.. هل أنت لم تر خيام العزاء التي نصباها وسط مصراتة على قتلى قيادات داعش في العراق وسوريا؟». وكانت إجابة القيادي القبلي قوله: «إذا كانت لديكم كل هذه المعلومات عنهما فلماذا لم تلقوا القبض عليهما؟». ويضيف المصدر العسكري أن «غليو ومليطان اختفيا فجأة مرة أخرى من مصراتة وعادا للظهور لمواصلة الحرب ضدنا في سرت». ويشير إلى أن مليطان كان يبدو عليه المرض والهزال في تلك الأيام.
وينتمي مليطان إلى قرية صغيرة في منطقة قصر أحمد المطلة على ميناء مصراتة البحري. وكان قبل الانتفاضة المسلحة المدعومة من حلف شمال الأطلسي «الناتو»، التي أطاحت بحكم القذافي، يعمل موظفا بسيطا في شركة في المدينة. والتحق بالانتفاضة وشارك في محاربة القوات التي كانت تدعم القذافي. وبعد ذلك ظهر مع كتيبة الفاروق وانتقل معها إلى سرت. ويضيف أحد القيادات الأمنية في طرابلس حوله أنه يعد من قيادات الصف الثاني في داعش، وأنه ليس لديه الكثير من المعلومات كما يعتقد البعض ممن يقولون إن عملية قتله كانت لإخفاء علاقات متداخلة بين قادة من مصراتة وقادة من داعش. ويضيف أن أكبر دور لعبه مليطان خلال الشهور الثلاثة الماضية يتلخص في توريد المؤن.
ويشير مصدر آخر على صلة بقوات «البنيان المرصوص» إلى أن مليطان كان يورد للدواعش أسلحة وذخائر وسيارات من مصراتة، وكان صندوقا متحركا ممتلئا بالمعلومات الثمينة؛ ولذا فقتله دون استجواب خطأ كبير. وكان الرجل اختفى عن الأنظار بداية من منتصف شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، ولم يظهر لا في سرت ولا في مصراتة، إلى أن بث مقاتلون مقطع فيديو على الإنترنت مطلع الشهر الحالي يظهر فيه مرتديًا بنطلونا وعاري الصدر وهزيلا وخائفا. كان مقيد اليدين والقدمين بين أيدي عناصر غاضبة مما فعله الدواعش من ذبح وتقتيل وسحل وصلب لأهالي سرت منذ التمركز فيها العام الماضي، بالإضافة إلى سقوط مئات القتلى من قوات «البينان المرصوص» خلال الشهور الأخيرة.
وسأله أحد المقاتلين «مَن على حق.. نحن أم أنتم؟» فأجاب: «يا شيخ عالجني فكريًا.. أنا أسير لديك يا شيخ.. راجعني فكريًا». ونهره مقاتل آخر وسأله: «من على حق؟ أجب». فقال مليطان: «أنا أرى أن بعضًا مما تقوم به تنظيم داعش على حق، مثل معاقبة شارب الخمر بالجلد وقطع يد السارق. وهناك أمور أخرى نختلف عليها. هات لي شيخ يقنعني ويراجعني فكريًا».
فقال له ثالث: «كلنا شيوخ». ثم سأله آخر: «قل لنا ما رأيك في قتل الناس وتصليبهم الذي تقوم به (داعش)؟ هل أنتم تقتلون الأسرى؟». فأجاب قائلا: «ما أعرفه من علوم شرعية أن الأسير يمكن أن يُقتل، ويمكن أن يُفدى، ويمكن أن يتم تبادله مع أسرى آخرين».
لا أحد يريد أن يكشف على وجه الدقة كيف جرى القبض على مليطان. ولكن تقول إحدى الروايات إنه خرج من بين أنقاض ضاحية الجيزة البحرية في مدينة سرت هو وزوجته وأطفاله، حيث سلموا أنفسهم إلى قوات «البنيان المرصوص». وتوضح رواية أخرى أن الرجل أصيب في قدميه أثناء الاشتباكات في ضاحية الجيزة، ومن ثم ألقت القوات القبض عليه. وتزيد رواية ثالثة أنه كان قد ترك سرت منذ منتصف الشهر الماضي واختبأ في بيته بقصر أحمد، إلى أن جرى القبض عليه واقتياده إلى سرت لكي يُقتل فيها في المكان نفسه الذي كان يقتل فيه الناس. ولقد جرى ضرب مليطان وتعذيبه قبل قتله بالسكين في ميدان الزعفران وسط سرت.
ويقول مصدر في قوات «البنيان المرصوص» إنه فتح تحقيقًا في الواقعة لمعرفة ما إذا كان القبض على الرجل وتعذيبه وقتله جرى بأيدي القوات التابعة للمجلس الرئاسي، أم أنها عملية انتقامية من ذوي ضحايا داعش. ويضيف أنه «يلقى القبض عليهم أو تسليم أنفسهم يقتادون إلى جهات التحقيق للاستفادة مما لديهم من معلومات تساعد في تخليص ليبيا من خطر التنظيم الدموي».
هذا، ويخشى قادة عسكريون من التكتيكات الجديدة لتنظيم داعش في ليبيا. ووفقًا لمصدر عسكري فقد انتقل عدة مئات من الدواعش من سرت إلى مناطق تقع على تخوم طرابلس من بينها منطقة الخُمس ومنطقة مسلاتة، مع ظهور قيادات جديدة يبدو أنها حلت محل القيادي السابق المعروف باسم «المدهوني» وهو ليبي يحمل جواز سفر عراقي منذ عام 2012، وكان على صلة مباشرة بمركز قيادة التنظيم في العراق والشام.
ويضيف مصدر عسكري أن «المدهوني» سافر إلى العراق قبل ثلاثة شهور ولم يرجع، بينما جرى رصد تحركات لأربع قيادات داعشية جديدة هم: لبناني يدعى «أبو طلحة»، وتونسي يلقب بـ«أبو حيدرة»، وصومالي اسمه «أبو إسحاق»، وليبي يلقب بـ«أبو مصعب».. وكان هذا الأخير يحارب في العراق تحت اسم «أبو حذيفة الليبي». ويشير المصدر إلى أن هؤلاء عقدوا اجتماعًا في منطقة النقازة القريبة من طرابلس، وبحثوا مستقبل التنظيم وإعادة انتشاره في ليبيا، وبدوا غاضبين من خسائر سرت ومن الطريقة التي جرى بها تصفية مليطان.



تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟