يوسف مليطان.. حالة «داعشية» غامضة تجاوزت تأثيراتها ليبيا

أمام خلفية النزاعين السياسي والعسكري

عناصر من « انصار الشريعة» بايعوا داعش وانتقلوا الى سرت وسرعان ماخرجوا منها ايضا  («الشرق الاوسط»)
عناصر من « انصار الشريعة» بايعوا داعش وانتقلوا الى سرت وسرعان ماخرجوا منها ايضا («الشرق الاوسط»)
TT

يوسف مليطان.. حالة «داعشية» غامضة تجاوزت تأثيراتها ليبيا

عناصر من « انصار الشريعة» بايعوا داعش وانتقلوا الى سرت وسرعان ماخرجوا منها ايضا  («الشرق الاوسط»)
عناصر من « انصار الشريعة» بايعوا داعش وانتقلوا الى سرت وسرعان ماخرجوا منها ايضا («الشرق الاوسط»)

حكاية يوسف مليطان، الشخصية الليبية الداعشية المثيرة للجدل، برزت بين الدواعش ليس في ليبيا فقط، ولكن أيضًا في المركز الرئيسي للتنظيم في العراق والشام. وتوعد أربعة قادة جدد ممن جاؤوا من الخارج إلى ليبيا، أخيرًا، بالثأر له من مدينة مصراتة التي ينتمي إليها غالبية مقاتلي عملية «البنيان المرصوص» ضد داعش في سرت.
غير أن التنظيم الدموي في هذه المدينة الليبية تلقى ضربة أخرى بعد واقعة مقتل مليطان بيومين، حين وردت أنباء عن مقتل القيادي في داعش سرت، المدعو محمد غليو. ومن الملابسات ذات المغزى أن المحققين المتهورين ممن كانوا يستجوبون مليطان وهو يرتعش من البرد والخوف، سألوه عمن يعرف من القيادات الداعشية التي تنتمي لمصراتة وتقيم في سرت، فقال إن من بينهم غليو، وذكر أنه مصاب بطلقة رصاص في صدره، وأنه قد يكون قد فارق الحياة.
تعد واقعة مقتل غليو، وهو أيضًا في الثلاثينات من العمر، نقطة مهمة في مسيرة الليبيين للقضاء على داعش في هذه البلاد التي تعاني من الفوضى منذ سقوط نظام معمر القذافي عام 2011. فقد أسس غليو البؤرة الرئيسية لدواعش مصراتة، وانتقل بهم فيما بعد إلى سرت مصطحبا معه مليطان. وهناك أخذ على عاتقه مهمة استقبال الداعشي البحريني الأصل، تركي البنعلي، الذي تدور شكوك حول مقتله هو الآخر في هذه الأيام الأخيرة من معارك سرت.
أما مليطان فكان من بين شباب مصراتة المعجبين بلحية غليو ونظاراته الطبية وطريقته في تحدي كبار قادة مصراتة ممن يجنحون إلى التفاوض السياسي بدلا من الاحتراب وذلك منذ عام 2013. أي قبل سنة من ظهور داعش في ليبيا. كان مليطان وهو يدور في شوارع مصراتة يتوقف ليستمع إلى غليو وخطبه التي كان يلقيها هنا وهناك بألفاظ حادة ولهجة حماسية، فهو قيادي في «كتيبة الفاروق» التي كانت قد أعلنت ولاءها في ذلك الوقت لتنظيم «أنصار الشريعة» وقادتها الذين كانوا وقتها يتحكمون في مدينتي درنة وبنغازي بشرق ليبيا.
كانت ميليشيات مصراتة مشغولة في عامي 2013 و2014 بالنزاع السياسي حول حكم البلاد. وتخوض ضمن تحالف «فجر ليبيا» معارك طاحنة مع منافسين لها من ميليشيات مدينة الزنتان حول مطار طرابلس الدولي. وحين هدأت الأمور بعض الشيء أدرك بعض زعماء مصراتة أنه يمكن الاستفادة من كتيبة الفاروق في مواصلة الحرب في الشرق ضد الجيش الوطني الذي يقوده خليفة حفتر، وضد البرلمان الذي خسر فيه «تيار الإسلام السياسي» معظم مقاعده التي كان يستحوذ عليها في البرلمان السابق (المؤتمر الوطني).
يقول «أبو مسعود» وهو أحد قيادات فجر ليبيا التي حاربت في واقعة مطار طرابلس إن كتيبة الفاروق كانت تميل إلى التطرف منذ البداية. وحين بدأت محاولات استثمار الانتصار في حرب طرابلس سياسيا، رفضت ذلك. كان لدى قادتها، ومنهم مليطان وغليو، رغبة في مواصلة الحرب من أجل ما يؤمنون به، وهو تطبيق الشريعة الإسلامية من وجهة نظرهم. لهذا رأى البعض أن يتم استثمار هذا في الضغط على الجيش وعلى البرلمان. ولم يكن تنظيم داعش قد ظهر في سرت بعد.
ويضيف أنه باختصار جرى دمج كتيبة الفاروق في القوات التي كانت تحاول في أواخر 2014 وحتى بداية 2015، السيطرة على الحقول النفطية الموجودة في الشمال الأوسط من البلاد، أي إلى الشرق قليلاً من مدينة سرت. وكان البعض يرى أنه يمكن لكتيبة الفاروق أن تكون مصدر عون في الحرب التي يشنها تنظيم أنصار الشريعة في بنغازي ضد الجيش الوطني والبرلمان. كما كان بعض قادة مصراتة يسعون لترويض قادة الكتيبة. وعقدوا معهم، داخل معسكراتهم، اجتماعات، وألقوا عليهم محاضرات ودروسا دينية وغيرها.
وبعد محاولات فاشلة في السيطرة على الحقول النفطية شرقي سرت، تحولت الكتيبة إلى مصدر تهديد لمصراتة نفسها. وجرى طرد عناصرها الموجودة في مصراتة إلى مدينة سرت. وكانت أولى العمليات التي شاركت فيها قتل 12 من جنود الصاعقة التابعين للجيش في تلك المنطقة.
ويقول شهود كانوا على صلة بعدد من متطرفي ليبيا، إن مليطان وغليو انتقلا إلى سرت. وهناك جرى الإعلان عن أن المدينة أصبحت مركز داعش في ليبيا. ثم انقسمت كتيبة الفاروق إلى قسمين: قسم استمر على موالاة «أنصار الشريعة» دون أن يبايع داعش وهذا القسم انتقل إلى بنغازي. وقسم أصبح على صلة مباشرة بمركز قيادة داعش في العراق والشام، وهذا رسَّخ قدميه في المدينة وضم إليه كل عناصر «أنصار الشريعة» الذين بايعوا داعش، وبناء عليه جاؤوا من درنة وبنغازي وتونس ومصر وغيرها للإقامة في المركز الداعشي الجديد.
ومع منتصف العام الماضي أصبح داعش يسيطر على سرت بشكل كامل. وظهر مليطان في وسط المدينة بلحية طويلة ولقب جديد هو «أبو همام»، وفقًا لروايات مستقاة من شهود عيان فروا وقتها من سرت وأقاموا في بلدة أجدابيا الصحراوية ناحية الشرق. لكن الخلاف يتعلق بالدور الذي كان يقوم به الرجل. فالبعض شاهده في حلقات الدروس الدينية التي كان يلقيها البنعلي أثناء زياراته إلى سرت. والبعض يقول إنه أصبح في سرت من المقربين من غليو ومساعديه. ويقول بشير، أحد أبناء سرت ممن نزح مع أسرته وأصبح يقيم في أجدابيا: «أبو همام» لم يكن متفقها في الدين لكنه كان محبوبا وسط دواعش المدينة. أحيانا يؤم المصلين في المسجد. وأحيانا يقضي في النزاعات بين الناس، وأحيانا يصدر أحكاما بالإعدام. وأحيانا نسمعه في إذاعة سرت الداعشية يلقي الخطب الحماسية.
وحين دخل «المجلس الرئاسي» المنبثق من حوار الصخيرات لتولي زمام الحكم من طرابلس في نهاية مارس (آذار) الماضي، كان يبحث، على ما يبدو، عن عملية كبيرة يثبت بها وجوده. وكانت العملية التي جرى تجهيزها على عجل، هي محاربة داعش في سرت بداية من شهر مايو (أيار) الماضي. وأثناء التحضير للحرب تبين أن نفوذ كتيبة الفاروق لا يقتصر على سرت بل إن لها متعاطفين موجودين على رؤوس كتائب كانت متمركزة في معسكر الأبرار في بلدة تاورغاء المهجورة من السكان. وهي بلدة تقع على مشارف مصراتة.
وبداية من يوم 20 من شهر أكتوبر (تشرين الأول) الماضي بدأ نشاط كتيبة الفاروق (الفرع الداعشي) ينشط في داخل مصراتة نفسها، وأصبح هذا مصدر قلق كبير، ومصدرا للخلافات بين عدد من قادة المدينة التي تعد من المدن الثرية الواقعة على البحر المتوسط. وشوهد غليو ومعه مليطان وهما يتجولان فيها مع أحد قادتها الكبار. وكان هذا الأمر مثار غضب من جانب مسؤولين عسكريين في مصراتة، خصوصًا أن الكتيبة كانت قد حاصرت القاعدة الجوية في المدينة لمنع الطيارين من الإقلاع بالطائرات الحربية لقصف داعش في سرت.
ووفقًا لشهادة من مصدر عسكري، فإن دخول الرجلين إلى مصراتة التي يتساقط أبناؤها قتلى في الحرب ضد داعش سرت، كان أمرًا مستفزًا. وقال الرجل: «أبلغنا أحد القيادات القبلية التي كانت ترافق غليو ومليطان في ميناء مصراتة البحري في شهر أكتوبر، وقلنا له هل أنت لا تعلم أن الرجلين اللذين معك من قيادات داعش في سرت.. هل أنت لم تر خيام العزاء التي نصباها وسط مصراتة على قتلى قيادات داعش في العراق وسوريا؟». وكانت إجابة القيادي القبلي قوله: «إذا كانت لديكم كل هذه المعلومات عنهما فلماذا لم تلقوا القبض عليهما؟». ويضيف المصدر العسكري أن «غليو ومليطان اختفيا فجأة مرة أخرى من مصراتة وعادا للظهور لمواصلة الحرب ضدنا في سرت». ويشير إلى أن مليطان كان يبدو عليه المرض والهزال في تلك الأيام.
وينتمي مليطان إلى قرية صغيرة في منطقة قصر أحمد المطلة على ميناء مصراتة البحري. وكان قبل الانتفاضة المسلحة المدعومة من حلف شمال الأطلسي «الناتو»، التي أطاحت بحكم القذافي، يعمل موظفا بسيطا في شركة في المدينة. والتحق بالانتفاضة وشارك في محاربة القوات التي كانت تدعم القذافي. وبعد ذلك ظهر مع كتيبة الفاروق وانتقل معها إلى سرت. ويضيف أحد القيادات الأمنية في طرابلس حوله أنه يعد من قيادات الصف الثاني في داعش، وأنه ليس لديه الكثير من المعلومات كما يعتقد البعض ممن يقولون إن عملية قتله كانت لإخفاء علاقات متداخلة بين قادة من مصراتة وقادة من داعش. ويضيف أن أكبر دور لعبه مليطان خلال الشهور الثلاثة الماضية يتلخص في توريد المؤن.
ويشير مصدر آخر على صلة بقوات «البنيان المرصوص» إلى أن مليطان كان يورد للدواعش أسلحة وذخائر وسيارات من مصراتة، وكان صندوقا متحركا ممتلئا بالمعلومات الثمينة؛ ولذا فقتله دون استجواب خطأ كبير. وكان الرجل اختفى عن الأنظار بداية من منتصف شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، ولم يظهر لا في سرت ولا في مصراتة، إلى أن بث مقاتلون مقطع فيديو على الإنترنت مطلع الشهر الحالي يظهر فيه مرتديًا بنطلونا وعاري الصدر وهزيلا وخائفا. كان مقيد اليدين والقدمين بين أيدي عناصر غاضبة مما فعله الدواعش من ذبح وتقتيل وسحل وصلب لأهالي سرت منذ التمركز فيها العام الماضي، بالإضافة إلى سقوط مئات القتلى من قوات «البينان المرصوص» خلال الشهور الأخيرة.
وسأله أحد المقاتلين «مَن على حق.. نحن أم أنتم؟» فأجاب: «يا شيخ عالجني فكريًا.. أنا أسير لديك يا شيخ.. راجعني فكريًا». ونهره مقاتل آخر وسأله: «من على حق؟ أجب». فقال مليطان: «أنا أرى أن بعضًا مما تقوم به تنظيم داعش على حق، مثل معاقبة شارب الخمر بالجلد وقطع يد السارق. وهناك أمور أخرى نختلف عليها. هات لي شيخ يقنعني ويراجعني فكريًا».
فقال له ثالث: «كلنا شيوخ». ثم سأله آخر: «قل لنا ما رأيك في قتل الناس وتصليبهم الذي تقوم به (داعش)؟ هل أنتم تقتلون الأسرى؟». فأجاب قائلا: «ما أعرفه من علوم شرعية أن الأسير يمكن أن يُقتل، ويمكن أن يُفدى، ويمكن أن يتم تبادله مع أسرى آخرين».
لا أحد يريد أن يكشف على وجه الدقة كيف جرى القبض على مليطان. ولكن تقول إحدى الروايات إنه خرج من بين أنقاض ضاحية الجيزة البحرية في مدينة سرت هو وزوجته وأطفاله، حيث سلموا أنفسهم إلى قوات «البنيان المرصوص». وتوضح رواية أخرى أن الرجل أصيب في قدميه أثناء الاشتباكات في ضاحية الجيزة، ومن ثم ألقت القوات القبض عليه. وتزيد رواية ثالثة أنه كان قد ترك سرت منذ منتصف الشهر الماضي واختبأ في بيته بقصر أحمد، إلى أن جرى القبض عليه واقتياده إلى سرت لكي يُقتل فيها في المكان نفسه الذي كان يقتل فيه الناس. ولقد جرى ضرب مليطان وتعذيبه قبل قتله بالسكين في ميدان الزعفران وسط سرت.
ويقول مصدر في قوات «البنيان المرصوص» إنه فتح تحقيقًا في الواقعة لمعرفة ما إذا كان القبض على الرجل وتعذيبه وقتله جرى بأيدي القوات التابعة للمجلس الرئاسي، أم أنها عملية انتقامية من ذوي ضحايا داعش. ويضيف أنه «يلقى القبض عليهم أو تسليم أنفسهم يقتادون إلى جهات التحقيق للاستفادة مما لديهم من معلومات تساعد في تخليص ليبيا من خطر التنظيم الدموي».
هذا، ويخشى قادة عسكريون من التكتيكات الجديدة لتنظيم داعش في ليبيا. ووفقًا لمصدر عسكري فقد انتقل عدة مئات من الدواعش من سرت إلى مناطق تقع على تخوم طرابلس من بينها منطقة الخُمس ومنطقة مسلاتة، مع ظهور قيادات جديدة يبدو أنها حلت محل القيادي السابق المعروف باسم «المدهوني» وهو ليبي يحمل جواز سفر عراقي منذ عام 2012، وكان على صلة مباشرة بمركز قيادة التنظيم في العراق والشام.
ويضيف مصدر عسكري أن «المدهوني» سافر إلى العراق قبل ثلاثة شهور ولم يرجع، بينما جرى رصد تحركات لأربع قيادات داعشية جديدة هم: لبناني يدعى «أبو طلحة»، وتونسي يلقب بـ«أبو حيدرة»، وصومالي اسمه «أبو إسحاق»، وليبي يلقب بـ«أبو مصعب».. وكان هذا الأخير يحارب في العراق تحت اسم «أبو حذيفة الليبي». ويشير المصدر إلى أن هؤلاء عقدوا اجتماعًا في منطقة النقازة القريبة من طرابلس، وبحثوا مستقبل التنظيم وإعادة انتشاره في ليبيا، وبدوا غاضبين من خسائر سرت ومن الطريقة التي جرى بها تصفية مليطان.



«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
TT

«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)

في مؤشر رمزي لـ«اختبار قدراته»، عقب هزائمه في سوريا والعراق وعدد من الدول، دفع تنظيم داعش الإرهابي عناصره وخلاياه لتنفيذ عمليات في غرب أفريقيا، أملاً في «إثبات الوجود» وتأكيد استمرار مشروع التنظيم. ضربات التنظيم «الخاطفة» التي شهدتها بوركينا فاسو ومالي والنيجر، ونيجيريا أخيراً، دفعت لتساؤلات تتعلق بأهداف توجه «داعش» نحو غرب أفريقيا الآن، وخطة نشاطه خلال الفترة المقبلة.
خبراء ومتخصصون في الحركات الأصولية أكدوا أن «التنظيم يهدف من نشاطه في غرب القارة السمراء إلى تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، وتأكيد الوجود في المشهد، والحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق».
وقال الخبراء لـ«الشرق الأوسط» إن «التنظيم الإرهابي عانى من الانحسار الجغرافي خلال الأشهر الماضية، وتأثر بمقتل زعيمه السابق أبي بكر البغدادي، وهو يسعى لتدوير قدراته القتالية في مناطق جديدة». لكن الخبراء قللوا في هذا الصدد من تأثير عمليات «داعش» في هذه الدول، لكونها للترويج الإعلامي.

خلايا فرعية
يشار إلى أن «ولاية غرب أفريقيا» في «داعش» انشقت عن جماعة «بوكو حرام» في عام 2016، وأصبحت الجماعة المتشددة المهيمنة في تلك المنطقة. وأبدى «داعش» اهتماماً ملحوظاً خلال الأشهر الماضية بتوسيع نطاق نشاطه في القارة الأفريقية، حيث تعاني بعض الدول من مشكلات أمنية واقتصادية واجتماعية، مما ساعده في تحقيق أهدافه.
وقال أحمد زغلول، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر، إن «النقطة المركزية في حركة التنظيمات الجهادية، وتحديداً (المعولمة) الموجودة بين أكثر من دولة، وأكثر من نشاط، تحت رعاية مشروع آيديولوجي (جهادي) محدد، مثل (داعش) ومن قبله (القاعدة)، أنه في كثير من الأحيان يكون التمركز في منطقة معينة، وتكون هي مركز الثقل، مع وجود فروع أو جيوب أخرى يتم التحرك من خلالها في بعض الأحيان، فضلاً عن أن هناك قواعد جهادية قتالية بلا عمل، فيكون التكتيك الذي يتبعه التنظيم في هذه السياقات ضرورة العمل في مناطق أخرى، أو توزيع جهوده على نطاقات جغرافية أخرى، بهدف تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، بصفته (أي داعش) جماعة مقاومة -على حد زعم التنظيم- فضلاً عن تأكيد عبارات مثل: (موجودون) و(مستمرون في القتال) و(مستمرون في إقامة مشروعنا)».
في حين أرجع عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، محاولات «داعش» للتمدد في غرب أفريقيا إلى «إعادة التموضع واتخاذ مرتكزات أخرى، بعد الضربات التي مُني بها التنظيم أخيراً، خاصة بعد مقتل البغدادي والمهاجر. لذلك لجأ التنظيم إلى أفريقيا الساحل ونيجيريا وبوركينا فاسو والنيجر ومالي، وغيرها من الدول، لأن بعض هذه الدول تعاني من مشكلات في الوجود الأمني، سواء داخلياً أو على الحدود. لذا لجأ التنظيم لعدة عمليات للحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق، مع وجود منافس شرس هناك مثل تنظيم (القاعدة) الموجود بصور مختلفة في السنوات القليلة الماضية على أراضي بعض الدول الأفريقية».
وفي غضون ذلك، فسر الأكاديمي الدكتور أيمن بريك، أستاذ الإعلام المساعد في جامعتي الأزهر والإمام محمد بن سعود الإسلامية، تمدد «داعش» في غرب أفريقيا بأنه «محاولة لـ(لملمة شتات) عناصره، بعد الهزائم المتتالية في العراق وسوريا، حيث دفع بكثير من أعضائه الفارين إلى أفريقيا، في محاولة لتأكيد البقاء».

ضربات موجعة
الكلام السابق تطابق مع دراسة لمرصد دار الإفتاء في مصر، أكدت أنه «رغم الضربات الموجعة التي تعرض لها (داعش)، سواء بإخراجه من آخر معاقله في الباغوز بسوريا، واستعادة كافة الأراضي التي سيطر عليها خلال عام 2014، أو بالقضاء على غالبية قياداته ورموزه، وعلى رأسهم أبو بكر البغدادي زعيم التنظيم السابق، فإنه ظل قادراً على تنفيذ عمليات في مناطق عدة، بعد فتح جبهات جديدة لعناصره في غرب أفريقيا التي تُعد ساحة مرشحة لعمليات متزايدة متضاعفة للتنظيم».
هذا وقد قتل البغدادي بعد غارة عسكرية أميركية في سوريا، بينما قتل المتحدث باسم التنظيم السابق أبو الحسن المهاجر في عملية عسكرية منفصلة في الأسبوع نفسه تقريباً، نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.
وأكد زغلول أن «التنظيم الإرهابي عانى من أزمات في مناطق انتشاره الأساسية، وهناك استراتيجيات أمنية على المستوى المحلي والدولي ضده، فضلاً عن انحسار جغرافي في سوريا والعراق، وهناك قيادة جديدة تولت التنظيم... كل هذه التحديات تدفعه إلى إثبات وجود، وإعادة تدوير قدراته القتالية في مناطق أخرى واختبارها، لذا يبدو طبيعياً أن يتمدد في غرب أفريقيا، أو في أي منطقة أخرى، ما دام أن هناك موارد وسياقات محلية تدعم هذا التوجه، والأمر لا يتوقف فقط على التنظيم الرئيسي (أي القيادة المركزية لداعش وقراراتها)، لكنه مرتبط بجانب آخر بوجود سياقات مناسبة؛ بمعنى أن الأوضاع الداخلية في دولة ما قد تكون مناسبة لنشاط التنظيم خلال فترة ما، وقد تكون هذه الأوضاع غير مناسبة للتنظيم في دولة أخرى».
ودعا البغدادي في وقت سابق ما سماها «ولايات دولة الخلافة المزعومة» في أفغانستان والقوقاز وإندونيسيا، وأيضاً غرب ووسط أفريقيا، للقيام بعمليات إرهابية.

مشهد جديد
وعن دلالة توجه «داعش» لغرب أفريقيا الآن، قال عبد المنعم: «هي محاولة لبلورة مشهد جهادي جديد في هذه الدول. وقد هذا ظهر بشكل كبير بعد أيام من مقتل البغدادي، وبيعة أبو إبراهيم الهاشمي القرشي زعيم (داعش) الجديد، ليؤكد التنظيم أنه عازم على استكمال مسيرة مشروعه، لذا خرج بشعار جديد في أحد إصداراته الأخيرة بعنوان (سوف نمضي)».
ومن جهته، أكد أحمد زغلول أن «التضييقات السياسية والأمنية على التنظيم في نقاطه المركزية دفعته إلى الكمون خلال الأشهر الماضية، وتضييق نشاطه، وتقليل حجم عملياته، بهدف البقاء، أو كنوع من المناورة مع السياسات الأمنية التي يتعرض لها من وقت لآخر، وهذا جعل التنظيم لديه أزمات داخلية؛ بمعنى أن هناك مشروعاً جهادياً لا بد من تحقيقه، وهناك قواعد له في دول أخرى ترى أن التنظيم نموذجاً وتدعمه بشكل أو بآخر بمختلف أوجه الدعم، لذا يؤكد دائماً على البقاء والثبات».
وكثف «داعش» من هجماته الإرهابية في دول غرب أفريقيا أخيراً. ففي نهاية ديسمبر (كانون الأول) الماضي، تبنى «داعش» هجوماً على قاعدة أربيندا العسكرية في بوركينا فاسو، قُتل خلاله 7 عسكريين. وفي الشهر ذاته، نشر التنظيم شريطاً مصوراً مدته دقيقة واحدة، أظهر فيه مشاهد إعدام 11 مسيحياً في شمال شرقي نيجيريا. وسبق ذلك إعلان «داعش»، في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، مسؤوليته عن هجوم استهدف قاعدة عسكرية شمال شرقي مالي، وأسفر عن مقتل 53 جندياً. كما تبنى التنظيم هجوماً أوقع أكثر من 70 قتيلاً في معسكر لجيش النيجر في ايناتيس قرب مالي.
وأشارت تقديرات سابقة لمراكز بحثية غربية إلى أن «عدد الذين انضموا لـ(داعش) من أفريقيا منذ عام 2014 في سوريا والعراق يزيد على 6 آلاف مقاتل». وقال مراقبون إن «عودة هؤلاء، أو من تبقى منهم، إلى أفريقيا بعد هزائم سوريا والعراق كانت إشكالية كبيرة على أمن القارة، خصوصاً أن كثيرين منهم شباب صغير السن، وليس لهم روابط إرهابية سابقة، وأغلبهم تم استقطابه عبر الإنترنت».

عمليات نوعية
وحول نشاط «داعش» المستقبلي في غرب أفريقيا، قال عمرو عبد المنعم إن «نشاط (داعش) بدأ يظهر في غرب أفريقيا من خلال عمليات نوعية، سواء ضد المسيحيين أو جيوش الدول أو العناصر الغربية الموجودة في هذه المناطق»، لافتاً إلى أن «الاستهداف حتى الآن عشوائي، وبعض هذه العمليات لم يحدث تأثيراً بالقدر الكبير، كمثل العمليات التي حدثت في أوروبا، وأحدثت دوياً من قبل، وحتى الآن هي مجرد عمليات للترويج الإعلامي وإثبات الوجود، لأن بعض ولايات وأذرع (داعش) بأفريقيا التي بايعت البغدادي في وقت سابق ما زالت لم يسمع لها صوتاً، بالمقارنة بحجم وتأثير العمليات التي شهدتها أوروبا في وقت سابق».
أما الدكتور أيمن بريك، فقد تحدث عن احتمالية «حدوث تحالف بين (داعش) و(القاعدة) ‏في القارة الأفريقية، كـ(تحالف تكتيكي) في ظل حالة الضعف والتردي التي ‏يعاني منها التنظيمين»، لكنه في الوقت نفسه دعا إلى «ضرورة التصدي لـمحاولات تمدد (داعش) وغيره من التنظيمات الإرهابية في ‏القارة الأفريقية، وذلك قبل أن ينجح بقايا الدواعش في إعادة بناء تنظيم، ربما يكون أكثر عنفاً وتشدداً وإجراماً مما فعله التنظيم الأم (أي داعش) خلال أعوامه السابقة».