عبقرية اللحظة التي غيرت وجه أوروبا

5 قرون على اللوثرية

مارتن لوثر
مارتن لوثر
TT

عبقرية اللحظة التي غيرت وجه أوروبا

مارتن لوثر
مارتن لوثر

* الزمان 31 أكتوبر (تشرين الأول) 1517.
* المكان: بلدة وتتينبيرغ الألمانية الصغيرة.
* الحدث: أكاديمي غامض يدعى مارتن لوثر يعلّق على باب كنيسة البلدة إعلانًا عن نقاط مقترحة للمناقشة في ندوة أكاديميّة مقبلة بجامعة البلدة.
لم تُعقد هذه الندوة قطّ على ما تذكر المصادر التاريخية، لكن الأحداث التي نتجت عنها خلال الخمسين عامًا التالية كانت بمثابة أكبر زلزال معرفي وسياسي وديني عاشته أوروبا في العصور الوسطى، وما زالت نتائجها ماثلة على مسارات العالم الغربي إلى اليوم بعد مرور خمسمائة عام، لا سيما في ألمانيا والدول الإسكندنافيّة، وإلى حد أقل في إنجلترا واسكوتلندا وبالتبعيّة لاحقًا الولايات المتحدة الأميركية والغرب عمومًا.
أصبح «الإصلاح» الديني اسمًا لحراك هائج في بحر أوروبا العصور الوسطى الراكدة لقرون تحت تحالف متين بين «الإكليروس» والإقطاعيين والسلالات الحاكمة، وأطلق أوسع انشقاق في تاريخ المسيحيّة ما لبث أن وُصف أتباعه باسم البروتستانت - أو المحتجين - وهي تسميّة أطلقت في بادئ الأمر على مجموعة من السياسيين الألمان الذين قادوا الاحتجاجات ضد قانون استهدف قمع الحركة اللوثرية الصاعدة وقتها، لكنها ما لبثت أن أصبحت غطاء يُلقى على كل أتباع لوثر اعتبارًا من منتصف القرن السادس عشر الميلادي.
وبموازاة الذكرى الخمسمائة لهذا الحراك فإن موجة جديدة من الاهتمام بسيرة مارتن لوثر لوحظت في الأوساط الأدبيّة والأكاديميّة، فصدرت عنه عدة كتب جديدة ولا شك أن كتبًا أخرى في طريقها للنشر خلال هذا العام مستفيدة من مناخ النقاشات والاحتفالات التي ستجري في أماكن مختلفة لإحياء الذكرى. معظم هذه الكتب ربما لن تجد شيئًا جديدًا لتقوله غير إعادة سرد الكليشيهات التاريخيّة المعروفة عن الرجل والحركة وما نشأ عنهما من صراعات لاحقة، في ظل حروب بروبوغاندا واسعة بين طرفي العالم المسيحي (الغربي) حينذاك. لكن أحدها (كتاب «ماركة لوثر» لأندرو بيتيجري، الصادر عن دار «بنجوين» 2015) يقدّم رواية مختلفة وجدّ مشوقة عن سر تحول إعلان دعوة لنقاش أكاديمي داخل أسوار جامعة قصيّة إلى قضية رأي عام عبر وسط أوروبا خلال أسابيع قليلة ومن ثم إلى صراع هائل خلال سنوات. وهو أولاً يقدّم أقوى دلائل توفرت حتى الآن عن أن مارتن لوثر قام فعلاً بتعليق ورقة الإعلان المذكور، وأن الأمر لم يكن مجرّد تصور خيالي من قبل كتاب سيرته، فالرجل كان يعلق بصفة دورية فيما يبدو دعوات للنقاش الأكاديمي، وقد عثر فعلاً على إحدى هذه الدعوات من شهر سبتمبر (أيلول) 1517، أي قبل شهر تمامًا من موعد الندوة التالية التي كان يُفترض أن يُعلن عنها في نهاية أكتوبر من العام ذاته.
يقول أندرو بيتيجري إن الأستاذ الجامعي الشاب مارتن لوثر (الذي لم يسبق له نشر كتب من قبل) اكتشف قدرته المذهلة على التأثير في الناس من خلال شكل جديد من أشكال الكتابة: الكتابة الشعبيّة. فهو من خلال المزاوجة بين اللهجات المحلية البعيدة عن اللغة الأكاديمية الجافة والصياغة المبدعة للأفكار أنتج ما كانت السوق متعطشة له تمامًا: مواد مثيرة للقراءة من قبل الناس العاديين. هؤلاء كانوا كتلة مهمة من الشعب، تجاوزت الأميّة، وتوفرت لديها في بعض الأحيان دُرَيْهمات قليلة كانت مستعدة لإنفاقها على شراء مواد مطبوعة بغرض استكشاف متعة قراءة نصوص مختلفة وربما أيضًا تلاوتها للأصدقاء والأقارب. تلك كانت لحظة ثوريّة يشبهها ديارميد ماكلولوش (كاتب تقديم كتاب بيتيجري) بثورة تواصل اجتماعي مكتملة الأركان.
طباعة الكتب في أوروبا كانت معروفة حينئذ منذ مائة عام تقريبًا، لكن سحر لوثر الحقيقي كان في جعل النصوص أعمالاً مثيرة تتحدى السائد والمألوف، وتخاطب الجماهير مباشرة بلغتها اليوميّة، وتطرح جدالات ذات تأثير على نظرتها لذاتها وللعالم من حولها، بعد سنوات طويلة من طباعة أدعية الصلاة والكتاب المقدس والنصوص الأكاديمية الجادة، وربما بعض الكتابات التحريضيّة ضد العثمانيين. لقد كان تأثير لوثر وكأنه «فيسبوك» العالم قبل 500 عام من الآن: نصوص فيها مماحكات ممتعة، ليست صادرة عن السّلطات الرسميّة أو «الإكليروس»، وإنما تتحدى هذه السلطات بالذات.
بفضل كتابات لوثر والجدالات بشأنها، تحولت وتتينبيرغ، هذه البلدة الصغيرة في قلب أوروبا القديمة، إلى ما يشبه عاصمة للكتاب الأوروبي. لم يكن ذلك بفضل مطبعة يوهان غوتينبرغ الرّائدة، التي كانت بالصدفة في البلدة ذاتها! بل بفضل جيل جديد من مطابع النشر المحترفة التي نشأت في البلدة، وبالذات لوكاس كراناش، صديق لوثر، الذي كان ظاهرة مميزة ليس في قدراته الطباعية فقط، بل وبإحساسه التجاري الرفيع الذي مكّنه من ملاحظة التأثير الخطير للرسومات والأشكال إلى جوار النصوص في بيع الأعمال المطبوعة. الرسومات في الكتب التي أنتجها كراناش هي التي نقلت لنا صورة مارتن لوثر شخصيًا لا أفكاره فقط، فبدا في شكله كما هو مألوف لنا الآن، وكأنه ألماني سمين آخر، مستبقًا أي محاولات (معتادة في الكتب الرسميّة) لإظهار البطل دائمًا كإله إغريقي وسيم.
إلى جانب وضع أول ترجمة للكتاب المقدس إلى الألمانية الدارجة، وهو حدث جلل كسر هيمنة الإكليروس على الوصول للنصوص الدينية، أنتج تحالف لوثر وكراناش مجموعة شديدة الروعة من الكتيبات القصيرة (رخيصة السعر نسبيًا) ذات الأغلفة المثيرة للانتباه، التي تضم رسومًا وأشكالاً إلى جانب عناوين طويلة في عدّة أسطر للنص، مع اسم مارتن لوثر مزخرفًا، وهو نموذج حاز قبولاً واسعًا من القراء، وتبناه الناشرون لاحقًا عبر أوروبا كلها لا سيما البروتستانت منهم.
انتشرت أفكار مارتن لوثر انتشار النار في الهشيم، وما زاده الحرمان المفروض عليه من قبل بابا روما إلا قبولاً وتوسعًا، فصار له أتباع مخلصون في كل أوروبا. حتى في إنجلترا (شديدة الحساسيّة تجاه كل شيء ألماني) تبنت قطاعات واسعة أفكاره بعد تلوينها باسم أحد أتباعه (كالفن). ويشير البعض إلى أحد كتيباته بوصفها وراء ظهور نزعة العداء لليهود في ألمانيا التي تسببت لاحقًا في جرائم حرب خلال فترة صعود الفاشيات في أوروبا القرن العشرين.
يتساءل المرء هنا: هل كان مارتن لوثر محظوظًا لظهوره في وقت كانت فيه الأجواء متعطشة لقراءة نصوص مختلفة وفي إطار جديد فأعطته الأداة الأمضى لنشر أفكاره، أم أن الكتب والقراء هم الذين كانوا محظوظين بظهور كاتب ومفكر نجح في تقديم شكل جديد من الكتابة الشعبيّة التي وسعت نطاق القراءة والطباعة إلى أبعاد غير مسبوقة بعد أن كانت لعدة عقود مجرد خادم للمؤسسات الرسميّة؟ قد يطول الجدل بشأن ذلك، لكن 31 أكتوبر 1517 سيبقى في ضمير أوروبا والعالم لحظة عبقريّة نادرة، التقت فيها سياقات الأحداث والظروف الموضوعيّة وتقدّم الأمور مع مواهب أفراد نادرين في خليط متفجر غريب، كان له ما كان في تغيير مسار التاريخ.



«الأقلمة» و«العبور»... كتابان جديدان لنادية هناوي

«الأقلمة» و«العبور»... كتابان جديدان لنادية هناوي
TT

«الأقلمة» و«العبور»... كتابان جديدان لنادية هناوي

«الأقلمة» و«العبور»... كتابان جديدان لنادية هناوي

عن مؤسسة أبجد للنشر والترجمة والتوزيع صدر حديثاً كتاب «أقلمة سرد الحيوان» للدكتورة نادية هناوي ويأتي استكمالاً لمشروعها في «الأقلمة السردية»، وكانت قد بدأته بكتابها «أقلمة المرويات التراثية» وأتبعته بكتابين هما «الأقلمة السردية من العصور الوسطى حتى القرن التاسع عشر» و«الأقلمة السردية: مخابرها الغربية - مناشئها الشرقية».

ويدور كتاب «أقلمة سرد الحيوان» في إطار النظرية السردية وما يجري في العالم من تطور في مجال دراسات الأقلمة، بغية الإفادة منها في دراسة تراث السرد العربي بكل ما فيه من نظم وتقاليد وأساليب وتقنيات، ترسيخاً لدوره التأصيلي في السرد الحديث والمعاصر، وتدليلاً على عالميته التي ترى المؤلفة أنها قد «حجبت بستر التبعية، بكل ما في الاتباع من تقريع الذات ودفن قابلياتها والتشكيك في قدراتها».

ويدخل هذا النوع من الدراسات في إطار نزعة ما بعد الإنسان التي ساهم بعض المفكرين والنقاد في تعزيزها. وممن تناولهم الكتاب بالدراسة الفيلسوف جاك دريدا بمقالته «الحيوان الذي أكون» وفيها رأى أن الحيوان يملك وجوداً متجانساً ومتناغماً مثلنا، وأن الملايين من الكائنات الأخرى تتطلب منا أن نبدأ في التعامل معها بجدية. واستعاد دريدا ما قاله ميشال دي مونتيني (1533 - 1592) حين كتب اعتذاراً إلى ريموند سيبوند، متسائلاً عن علاقته بقطته. فالقطة كيان حقيقي وتحديقها فيه تأمل وله معنى. أما جان فرنسوا ليوتار فطرح أسئلة كثيرة حول علم الأجناس وما هو غير إنساني وتساءل: «ماذا لو كان البشر بذاك الإدراك الحسي الإنساني في عملية إكراهية لتحويلهم إلى غير البشر؟ ماذا لو كان ما نعرف أنه مناسب للبشر قد أصبح ملائماً لغير البشر؟». ومن جهته افترض فرانسيس فوكوياما في كتابه «مستقبلنا ما بعد البشري» أن الإنسان في أصل تكوينه حيوان ثقافي، ومن المستحيل أن نتحدث عن حقوق الإنسان، وبالتالي عن العدالة والسياسة والفضيلة بصورة أكثر عمومية من دون أن يكون لدينا مفهوم ما عن ماهية البشر كنوع حي. فالبشر أحرار في صوغ سلوكياتهم الخاصة لأنهم حيوانات ثقافية قادرة على تعديل الذات، ومثلما أن الحيوانات تتصارع من أجل البقاء والاعتراف بالغلبة فكذلك البشر يتصارعون.

وتؤكد المؤلفة أن تبني المدرسة الأنجلوأميركية لنزعة ما بعد الإنسان، هو الذي وسّع مدارات علوم السرد ما بعد الكلاسيكية باتجاهات بشرية وغير بشرية، ويعد علم سرد الحيوان واحداً من تلك العلوم المستجدة وميداناً بحثياً يُختبر فيه كل ما هو نظري وإجرائي له صلة بعلاقة الإنسان بالحيوان من جهة ويتقارب أو يتداخل من جهة أخرى مع ميادين علمية أخرى، لعل أهمها علم البيئة من ناحية ما للإنسان من دور رئيس في دمار الطبيعة وتهديد نظامها الإحيائي النباتي والحيواني. ويساهم في ذلك كله ظهور جمعيات ومنظمات تدافع عن البيئة وتدعو إلى الرفق بالحيوان.

في السياق نفسه، صدر حديثاً عن المؤسسة نفسها كتاب آخر للدكتورة نادية هناوي بعنوان «العبور الأجناسي: الأشكال - الأنواع - القضايا»، ويعد الكتاب السادس فيما بحثته المؤلفة في هذه النظرية من قضايا وتفريعات بعد كتبها «نحو نظرية عابرة للأجناس» 2019 و«الطائر المكدود في البحث عن اليقين المفقود لعبد الرحمن طهمازي» 2021 و«غاليانو صياد الكلام والعبور الأجناسي» 2022 و«قصيدة النثر العابرة في مطولات الشاعر منصف الوهايبي» 2024 و«السونيت في شعر حسب الشيخ جعفر» 2023.