كانت وسائل الإعلام الروسية، خلال الأيام القليلة الماضية، مليئة بالتقارير الإخبارية والتكهنات حول «النهاية الوشيكة» للحملة العسكرية التي قادها الرئيس فلاديمير بوتين ضد قوات المعارضة في حلب، ثاني أكبر المدن السورية. وزعمت وكالة «سبوتنيك» الإخبارية التي يسيطر عليها الكرملين، أن روسيا وبقايا جيش رئيس النظام السوري بشار الأسد، إضافة إلى «المتطوعين» من لبنان، والعراق، وأفغانستان، وإيران، والخاضعين لسيطرة طهران، على مقربة من إنهاء عمليات القتال. وإذا ما حدث ذلك، فإن حلب، وهي واحدة من أكبر المراكز في التاريخ الإسلامي، لن تكون أول مدينة في مكانتها التي يقضي عليها الجيش الروسي. ولكن ما يجري في حلب يحمل أصداء ما فعلته روسيا، وفي غالب الأمر بمساعدة من الحلفاء المحليين، في العشرات من المدن الإسلامية الأخرى.
وكانت أولى المدن الإسلامية التي «قضي عليها»، بطبيعة الحال، هي مدينة قازان عاصمة الخانية المسلمة التي حكمت روسيا نفسها لما يزيد على قرنين من الزمان. ولقد أنشئت مدينة قازان في بداية القرن الحادي عشر الميلادي لتكون مركزًا تجاريًا يربط بين السهول وبين سيبيريا المترامية الأطراف.
أرسل كثير من الخلفاء الدعاة إلى المنطقة من أجل تحويل السكان المحليين إلى الدين الإسلامي. وفي ذلك الوقت، أصبحت قازان وضواحيها واحدة من المناطق القليلة التي اعتنقت الإسلام ديانة، ومن دون أن يغزوها الجيش الإسلامي. وفي بدايات القرن الخامس عشر الميلادي تحولت مدينة قازان إلى المدينة الرئيسية للتتار، وهم بقايا القبيلة الذهبية لجنكيز خان، والتي اعتنقت الإسلام. ولقد أعلنت مدينة قازان رسميا عاصمة للخانية في عام 1438، وهي الوضعية التي احتفظت بها حتى عام 1552 عندما تعرضت للغزو من قبل القيصر الروسي إيفان الرهيب.
تمكن إيفان من السيطرة على قازان بفضل تعاون البكوات الباشكيرية الذين على غرار بشار الأسد اليوم، زعموا أنهم من المسلمين، ولكنهم كانوا مستعدين لمساعدة جيش «الكفار» في غزو مدينة الإسلام قازان والسيطرة عليها. اجتاحت قوات إيفان، بمساعدة الحلفاء المحليين، المدينة ودمروها تماما وقطعوا رؤوس أكثر من 100 من زعماء التتار. القبة المقوسة لكاتدرائية القديس باسيل في موسكو، والتي شيدت في عام 1561، تمثل النصب التذكاري للاحتفال بانتصار القيصر إيفان الرهيب على المسلمين، وهي تجسد الرؤوس المقطوعة لزعماء التتار المسلمين بعمائم وأغطية الرؤوس المشهورة لديهم. وعلى مر القرون، أعاد شعب قازان بناء مدينتهم، بما في ذلك كثير من المساجد والمدارس الدينية التي سوّاها الجيش الروسي بالأرض.
والموجة الثانية من الدمار الروسي جاءت بين عامي 1920 و1930 عندما صدرت الأوامر من لينين وخليفته ستالين بإزالة آثار الإسلام كافة من مدينة قازان مرة أخرى. ومجددا، كان الحلفاء المحليون لروسيا، بمن فيهم أتباع سلطان التتار الشيوعي علييف (أو غيلاييف باللغة الروسية) قد ساعدوا القوات الروسية مثل ما يصنع بشار الأسد الآن في حلب.
المسلمون الباشكيريون الذين ساعدوا القيصر إيفان في تدمير قازان، لم يَسلَموا هم أنفسهم من المصير الرهيب على يد نفس القيصر. فلقد سوى عاصمتهم (عوفا) بالأرض في عام 1557، واستبدل مسجد المدينة الكبير بكنيسة سانت ترينيتي. وفي هذه المرة لعبت عصابة من اللصوص التتار بقيادة شخص يدعى شيباك بك نفس الدور الذي يلعبه بشار الأسد اليوم، عن طريق التعاون مع الغزاة الروس.
ومن المدن المسلمة الكبيرة التي دمرها الروس أيضا كانت مدينة (ميرف)، وهي من حواضر آسيا الوسطى التي أبهرت الناس خلال الإمبراطورية الأخمينية (550 - 330 قبل الميلاد). استولى الروس على المدينة في عام 1881، وكان «الخائن» المسلم في هذه المرة هو المغامر علي خانوف، الذي انضم إلى الجيش القيصري وحصل على رتبة عقيد هناك. وعلى العكس من قازان وعوفا اللتين تمكنتا من التعافي من المحن والمآسي التي تعرضتا لها بعد قرون لاحقة، لم يعد هناك ذكر لمدينة ميرف بعد دمارها الأول وحتى الآن. وحتى يومنا هذا، ليست تلك المدينة سوى كومة من الأطلال القديمة.
وجاء الدور على مدينة (باكو) في القرن الثامن عشر الميلادي لتعاني من الدمار الروسي، وهي عاصمة إقليم شيروان الإيراني، والذي أعيد تسميته أذربيجان الآن.
وخلال الخمسين عاما التالية، انتقلت باكو بين الأيدي الروسية والإيرانية ثلاث مرات. وكان الضم النهائي من قبل روسيا تحت معاهدة «تركمانجاي» في عام 1828، بعدما انحاز «الخونة» المحليون إلى جانب الروس، وكانوا هذه المرة تحت قيادة زعماء قبائل الترك وبعض الأقليات المسيحية. وكان سكان المدينة، ويقدرون بنحو 20 ألفًا في ذلك الوقت، ويعود أغلبهم إلى قبائل التاتيين والطاليين، قد أجبروا على النزوح من المدينة إلى إيران حيث عاشوا هناك مهاجرين.
وفي الآونة الأخيرة، دبرت روسيا التدمير الكامل لاثنتين، على الأقل، من المدن المسلمة: كابول عاصمة أفغانستان، وغروزني عاصمة جمهورية الشيشان المستقلة. دمرت كابول خلال الاجتياح السوفياتي والاحتلال الذي تلاه في الفترة بين عامي 1980 – 1989، عندما كان المتعاونون المحليون مع القوات السوفياتية هم فصائل الشيوعيين الأفغان، فصيل (خلق، أي الشعب) وفصيل (بارشام، أي الراية). أما الميليشيات الأوزبكية، والمعروفة باسم (غليم – جام، أي لصوص السجاد)، والذين تم تجنيدهم بواسطة الجيش الأحمر السوفياتي، فقد لعبوا نفس الدور الذي تلعبه قوات بشار الأسد في حلب اليوم.
كانت غروزني هي ساحة المعركة بين روسيا والشيشان منذ القرن الثامن عشر. ولكن تدميرها النهائي جاء في يناير (كانون الثاني) من عام 2000، عندما صدرت الأوامر من فلاديمير بوتين بتنفيذ عمليات القصف البساطي من النوع الذي تشهده حلب الآن. وكما هو الحال في حلب، أصدرت روسيا الأوامر بوقف إطلاق النار للسماح للمدنيين بالمغادرة. وبمجرد الانتهاء من ذلك، شنت القوات الروسية هجومها النهائي. بحلول السادس من فبراير (شباط) من عام 2000، تم رفع العلم الروسي في وسط المدينة التي تحولت الآن إلى كومة من الأنقاض. وبعد ستة عشر عاما أخرى، أصبح تعداد سكان غروزني أقل بمقدار الثلث عما كان عليه الأمر في عام 2000. ومن بين منازل المدينة البالغ عددها 6700 منزل في عام 2000، لم تتم إعادة بناء إلا 900 منزل فقط منها.
وفي غروزني، لعب رمضان قاديروف وأتباعه من الجماعة الصوفية التي ينتمي إليها، دور بشار الأسد الحالي في حلب. وفي حالة روسيا وجيرانها من المسلمين، يعيد التاريخ نفسه، وفي كل مرة بمأساة أعمق من سابقتها.
في حلب.. روسيا تعيد صناعة تاريخها القديم
أوامر بوتين دمرت غروزني والمدن السورية تعرضت لقصف بساطي
في حلب.. روسيا تعيد صناعة تاريخها القديم
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة