صراع الآلة والعمالة.. قضية العقد المقبل

المخاوف الدولية تزداد من «الثورة الصناعية الرابعة»

روبوتات آلية تعمل بدلاً عن العمال في مصنع لسيارات فولسفاكن الألمانية (رويترز)
روبوتات آلية تعمل بدلاً عن العمال في مصنع لسيارات فولسفاكن الألمانية (رويترز)
TT

صراع الآلة والعمالة.. قضية العقد المقبل

روبوتات آلية تعمل بدلاً عن العمال في مصنع لسيارات فولسفاكن الألمانية (رويترز)
روبوتات آلية تعمل بدلاً عن العمال في مصنع لسيارات فولسفاكن الألمانية (رويترز)

مع كل ثورة من الثورات الصناعية الثلاث التي حدثت في القرون الماضية، تراجعت نسبيًا مساهمة الإنسان بعد أن كان المنفذ والمسيطر على ما كان ينتجه، ومع التقدم التقني تزداد المخاوف من أن يأتي يوم تتحكم الآلة بمصيره بعد أن تم تطويرها بشكل مثير، لتأخذ مكانه في العمل؛ ما يجعله عنصرًا سلبيًا.
وهذا يحمل في طياته كارثة بشرية لا يمكن اليوم معرفة أبعادها ومخاطرها الحقيقية، لكن الخطر الأول هو أن الآلة بدأت فعليًا - منذ تطوير طرق الإنتاج - تزيح الإنسان عن محرك الإنتاج، وقد تتحكم يومًا في نوعية الإنتاج التي يجب أن تنتج بمعزل عنه، ما قد يحول «فيلم الرعب» هذا إلى حقيقة لا يرغب أحد حتى بالتفكير بها.
فكما هو معروف شهدت بلدان أوروبا الغربية ثورة صناعية كبيرة في القرن الثامن عشر، ساهمت في رفع حجم الإنتاج وتحسين نوعيته، كما أن الاكتشافات الكثيرة أعطت نقلة نوعية أخرى للصناعة في القرن التاسع عشر، وهي الحقبة التي شهدت ثورة صناعية حقيقية في أوروبا أثرت إيجابًا في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية على السواء.
مع ذلك، يميل الكثيرون إلى القول بأن التطور الصناعي (الآلي) كان وما زال يصب في صالح طبقة اجتماعية معينة. ففي مطلع النصف الثاني من القرن الماضي، بذل المحافظون المسيطرون على قطاع الإنتاج في البلدان الصناعية الغربية في أميركا وأوروبا جهودًا لخفض الإنفاق العام، بهدف تحقيق مزيد من الأرباح على حساب الطبقة العاملة، لكنهم عادوا وتخلوا عن هذه الفكرة، فزادوا من إنفاقهم مضطرين من أجل تشغيل العامل والآلة على مدار الساعة لتمويل الحروبـ وكسب أسواق جديدة خسروها بعد أن انتزعتها منهم دول كانت على قائمة البلدان النامية مثل الهند والصين وبلدان في أميركا الجنوبية.
بعدها، ومن أجل لجم التململ الاجتماعي، تم رفع الإنفاق الداخلي في مجالات الرعاية الصحية والاجتماعية، وإعادة النظر في السياسة الضريبية لتنحاز لصالح الطبقة الغنية والشركات العملاقة والكبيرة في الولايات المتحدة وألمانيا وفرنسا على سبيل المثال.
> تراكمات ثقيلة: وبعد أن شكلت هذه السياسات تراكمات من الصعب التخلص منها، أتت فكرة الثورة الصناعية الثالثة في نهاية القرن الماضي، مع تصنيع وانتشار التكنولوجيا الحديثة المعلوماتية والرقمية.. واليوم تقف البشرية على عتبة الثورة الصناعية الرابعة.
وللترويج لهذه الثورة، خصصت حملات إعلانية ضخمة تظهر حسناتها التي سوف يكون روادها بشكل عام الإنسان الآلي، والذي سيُبرمج كي يقوم بأعمال كثيرة عوضًا عن الإنسان.
هذا الإنسان الاصطناعي أو بالأحرى «الروبوت»، سيكون العنصر الأكثر فعالية من الإنسان في قطاع الإنتاج وأداء وظائف مهمة، وهو لا يمرض ولا يطالب بحقوقه ولا برفع أجره، ويمكن أن يعمل طوال 24 ساعة من دون تعب.
بالطبع فإن كل ابتكار جديد يثير الإعجاب، لكن أيضًا يحدث ردود فعل متناقضة تحسبًا من المجهول والنتائج غير المرئية التي سوف يحملها. فالثورة الصناعية الأولى حدثت بعد اختراع المحرك البخاري سنة 1775، وأسهمت رغم المخاوف منها في البداية في إحداث ثورة صناعية غير عادية في القرن الـ19 بعد امتداد جذورها من إنجلترا إلى أوروبا، ومن ثم الولايات المتحدة الأميركية.
أما الثورة الصناعية الثانية، فحملت معها تطورا كبيرا وهو اختراع الكهرباء. ومع أنها ساهمت في زيادة بالإنتاج، فإنها قللت من حضور اليد العاملة في المصانع التي كانت تشغل يدويًا الآلات، وأدى اختراع شريط الإنتاج الذي لا يتوقف إلى تشغيل عامل واحد بدلاً من ثلاثة.
وتغيرت الكثير من المعايير منذ الثورة الصناعية الثالثة في نهاية القرن الماضي، والتي صاحبتها اختراعات تكنولوجية عالية. وأولى الضحايا كان بالطبع العامل، لأن قوته العضلية والفكرية لم تعد مطلوبة كثيرًا. والأمر لم يتوقف عند هذا الحد، فالحديث اليوم عن الثورة الصناعية الرابعة واحتكار ذكاء الإنسان بتطوير آلات تحل مكانه، وذلك عبر برمجة آلات الإنتاج والصناعات الكبيرة، كما دخل حلبة منافسة الإنسان الإنترنت والبيانات الكبيرة وتقنية الهواتف النقالة، وغيرها من الاكتشافات.
> تقدم.. وريبة: وينظر إلى هذا التقدم التقني اليوم بعين الريبة، فهو يعزز الإنتاج بالقدر نفسه الذي حققه الحاسوب الشخصي أواخر ثمانينات القرن الماضي، لكنه بالنسبة لأصحاب المصانع الكبيرة والمتوسطة «فرصة للربح الأكبر».
ومن دون شك، ستلاقي الاختراعات التي سوف تحملها الثورة الصناعية الرابعة الإقبال الكبير، ومخترعوها لن يخشوا الخسارة لأن الإقبال على شرائها سوف يكون كبيرا، إذ إنه بمجرد السماع بنموذج جديد للهاتف النقال أو الكاميرات الرقمية على سبيل المثال يتهافت الناس على شرائها وكأنها ساحرة بارعة الجمال، لكن القليلين يدركون أن من يصنع هذه التقنيات ليس الإنسان وحده، بل مع شريكه الرئيسي وهو الآلة، التي أصبحت بمثابة نقطة تحول لصناعات أخرى وأخذت أماكن عمل كثيرة، ليس فقط في المعمل أو المصنع أو المتجر. فقدرات الحاسوب جعلته يأخذ دورًا مهمًا أيضًا في وسائل النقل والتوزيع والأرشفة والتخزين وربط الأشياء ببعضها البعض، مثل شبكة الاتصالات السريعة المرئية والمسموعة، مما أدى إلى تخفيض تكاليف العمل؛ وإلغاء وظائف كثيرة قبل أن تظهر فائدة أنماط الإنتاج الجديد.
ومن بين الدول التي تعجل للالتحاق بهذا الركب الولايات المتحدة الأميركية وألمانيا وبريطانيا وفرنسا والصين وأستراليا والهند واليابان وإيطاليا، ما دفع الكثير من خبراء العمل للتحذير من أنماط الإنتاج المستقبلية المتوقعة قبل أن تظهر فوائدها، فهي ستبيد صناعات ووظائف كثيرة، وهذا ما ذكره كارل هاينس لاند، الألماني مؤسسة ومدير مكتب الاستشارات نيولاند في ألمانيا، حيث قال في كتابه بعنوان: «إعادة توزيع العالم في زمن الداروينية (نسبة إلى العالم الشهير تشارلز داروين) الرقمية، ماذا سيحدث عندما يكون كل شيء تطبيقات وبرامج رقمية؟».
> منتدى دافوس.. بين الترحيب والحذر من الرقمية: ومسألة التطور التقني، كانت أحد أهم محاور النقاش في المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس لعام 2016، ورغم ترحيب البعض بالتقدم وآثاره، إلا أن كثيرا من المشاركين حذروا مما يسمى بالثورة الصناعية الرابعة. فبرأيهم أن اعتمادها سيجلب الفوضى الكبيرة لسوق العمل، فخلال الأعوام الخمسة المقبلة سوف تلغى أكثر من 20 مليون وظيفة في البلدان الصناعية الكبيرة.
واعتمد أصحاب هذا الرأي بقولهم هذا على دراسة أجرتها مؤسسة دولية مع 350 شركة ومصنعا كبيرا في أستراليا والصين وفرنسا وألمانيا والهند وإيطاليا واليابان وبريطانيا والولايات المتحدة الأميركية.
ووفق بيانات صدرت عن المنتدى، فإن الثورة الصناعية «بدأت بالفعل».. وأولى ضحاياها اليوم 7 ملايين عاطل عن العمل تقوم آلات بدورهم. واللافت أن هذه الملايين السبعة ليسوا فقط من العاملين أصحاب الزي التقليدي الأزرق في المصانع، والتي أصبحت إلى حد كبير آلية؛ بل تعدى ذلك ليشمل ضحايا في المكاتب والإدارات، والمهددين بالطرد ممن يطلق عليهم اسم «ذوي الياقات البيضاء»، لكن عوضًا عنهم سوف ينشأ حتى عام 2020 مليون مكان عمل جديد للمتخصصين بأجهزة الكومبيوتر والتقنيات العالية، وستكون ألمانيا من الدول الأكثر تأثرًا بالتغييرات من أي دولة أوروبية أخرى.. والنساء مهددات أكثر بفقدان الوظيفة من الرجال، فحصة النساء ما زالت أقل بكثير من حيث التأهيل في مجال التقنيات المتقدمة.
> صورة المستقبل: وقد تكون الصور الكاريكاتورية التي نشرتها إحدى المجلات الألمانية هي الصورة المستقبلية لسوق العمل: رجل إلى يقود سيارة تاكسي، وآخر يعطي الدواء لمريض في سريره بالمستشفى في الأوقات المحددة دون تأخر، ورجل إلى يجري عملية جراحية لمريض، وسيدة يابانية جميلة لكنها روبوت تشرح لزبون كيفية استخدامه لجهاز الإنذار في المنزل.. وفي صورة أخرى، روبوت يلعب مع زميل له لعبة الشطرنج.
بالطبع جانب من هذه الصور لن يكون حقيقة، لكنه سوف يصبح جزءًا من حياتنا نتيجة التطورات السريعة الحاصلة اليوم، أو ما يسمى بالثورة الرقمية (الثورة الصناعية الرابعة)، فقد تسهل الحياة على الكثير من الناس لكنها ستكون في الوقت نفسه مدمرة للإنسانية.
ولقد أثارت قبل عامين دراسة وضعها معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا MIT عن «العصر الثاني للآلة» ضجة كبيرة، إذ إن الأتمتة (التشغيل الآلي) سوف تزيد من الفوارق في الدخل بين الناس، وتكون مرحلة انتقالية لزمن تترفع فيه البطالة العمالية بشكل مخيف لكن لا بد منه.
ووفقًا للدراسة، سيخلق التقدم التكنولوجي بالطبع وظائف جديدة في مجالات معينة، لكن في المقابل سوف يلغي وظائف في مجالات وقطاعات أكثر، وهذا الإلغاء لن يلحق سائقي التاكسي والممرضات والمحاسبين والمستشارين أو الباعة في المحلات فقط. ثم تضيف الدراسة أن قوة الأضرار التي ستلحق بقطاعات العمل مختلفة، وسوف تكون قوية في قطاع الصحة والمال والطاقة، بينما ستزيد أماكن العمل في مجال تكنولوجيا المعلومات، حيث التقدم في الرقمنة.
والمستقبل الواعد سيكون في مجال صناعة الإنسان الآلي والطابعات بالأبعاد الثلاثية 3D وتكنولوجيا النانو والهندسة الوراثية والتكنولوجيا الحيوية والإنترنت عبر الهاتف النقال.
> من هم أبرز المستفيدين؟
واللافت أن تشير الدراسة نفسها إلى حدوث تزايد الطلب على قوة العمل في بلدان ما يسمى بـ«آسيان» في جنوب شرق آسيا، يتبعها المكسيك ثم الولايات المتحدة الأميركية؛ وخصوصا العاملين في قطاع التطور التقني. ويمكن لبريطانيا أن تكون الوحيدة في أوروبا التي تدخل في الحسبان تحسنًا في مستوى الطلب على قوة العمل لديها، وأيضا تركيا لكن بنسبة ضئيلة. فيما سوف يرتفع عدد العاطلين عن العمل في بقية البلدان، مع القليل من التفاؤل بالنسبة لقطاعات في ألمانيا كالمبيعات والخدمات اللوجيستية وعلوم الكومبيوتر والهندسة.
وكإجراء مضاد، تنصح الدراسة الحكومات بالاستثمار في مجال التأهيل والتدريب لتعزيز التكنولوجيات الجديدة، وهي ضد مبدأ النقابات العمالية الداعي إلى خفض ساعات العمل كي يتاح المجال لتشغيل عاملين أكثر، فمبدأ توزيع العمل بهذا الشكل لا يحل المشكلات المقبلة.
من جانب آخر، فإن خبراء السوق متشائمون من فقدان ملايين الوظائف، فهم يتوقعون أن يتم في المستقبل الاستثمار في الآلة من أجل تحسين أدائها كي تحل بالكامل مكان الإنسان. وللمحافظة على موقع الإنسان في سوق العمل، يجب تقسيم العمل بينه وبين الرجل الآلي، وإلا سوف يحدث انفجار اجتماعي خطير.
ويزيد من المخاوف تقرير اقتصاديين في مصرف «أي إن جي دي با» في فرانكفورت (بنك الادخار وتراكم الأصول)، والذي قال إن تعجيل اعتماد دول مثل ألمانيا في المدى المتوسط والبعيد على الآلة سيبيد الملايين من الوظائف المعتمدة اليوم. فمن أصل نحو 38 مليون وظيفة تم تفحص مستقبلها، فإن 18 مليون وظيفة ستقوم بها الآلة في السنوات المقبلة، والسبب في ذلك الثقل الكبير لقطاع الصناعة الألماني في سوق العمل، بينما ستصل النسبة إلى 47 في المائة في الولايات المتحدة الأميركية.
> الوظائف المهددة في ألمانيا
والوظائف المهددة بالشطب وإحلال «الزميل الكومبيوتر» مكانها في ألمانيا هي تبعًا للتخصص والتراتب والنوع، فنسبة 86 في المائة من المهن الإدارية والتي تقوم بأنشطة إدارية نموذجية ستكون من المهن الأكثر عرضة للشطب الدائم وإحلال الآلة مكانها، ما يعني أن ثلثي الأعمال في مجال الميكانيكا وتشغيل الآلات في المصانع وقطاع الخدمات ستشطب. يضاف إليها الوظائف المكتبية، وتشكل نحو مليوني مكان عمل، وكذلك نصف العدد في قطاع الخدمات البريدية والبريد السريع والتنظيفات، و1.2 مليون مكان عمل في المحلات التجارية على مختلف أنواعها.
إلا أن هذه الملايين من الوظائف لن تفقد بين ليلة وضحاها بل «تسللا»، أي على فترات طويلة انتقالية ومتواصلة فتحل التقنيات والآلات شيئًا فشيئًا مكان الإنسان. والسبب أن تطوير الرجل الآلي سيستغرق سنوات كثيرة حتى يصبح حقًا قادرًا على تولي كل المهام التي تعطى له، والتعاطي مع أي مستجدات تطرأ، عدا عن ذلك، فإن صنع «رجل آلي» اليوم مكلف جدًا، ونمط الإنتاج المستقبلي يحتاج إلى عدد كبير من الرجال الآليين ليقوموا بأعمال الإنسان في المصنع أو أي في مكان عمل.



الانتخاب الرئاسي... خطوة أولى لإنقاذ لبنان من أزمته الاقتصادية

الكرسي الرئاسي الشاغر في «قصر بعبدا» بعد انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون (رويترز)
الكرسي الرئاسي الشاغر في «قصر بعبدا» بعد انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون (رويترز)
TT

الانتخاب الرئاسي... خطوة أولى لإنقاذ لبنان من أزمته الاقتصادية

الكرسي الرئاسي الشاغر في «قصر بعبدا» بعد انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون (رويترز)
الكرسي الرئاسي الشاغر في «قصر بعبدا» بعد انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون (رويترز)

منذ عام 2019، يشهد لبنان واحدة من أشد الأزمات الاقتصادية والمالية في تاريخه الحديث... أزمة تجاوزت نطاق الاقتصاد لتؤثر بشكل حاد في جميع جوانب الحياة، فقد أثقلت هذه الأزمة كاهل المواطن اللبناني، وأغرقت البلاد في دوامة من انهيار شامل للنظامين المالي والاقتصادي، بعد أن فقدت العملة المحلية أكثر من 95 في المائة من قيمتها. ونتيجة لذلك، تفشى التضخم بشكل غير مسبوق مع ارتفاع أسعار السلع والخدمات إلى مستويات قياسية، في حين قفزت معدلات الفقر والبطالة بشكل دراماتيكي.

وفي خضم هذا الواقع المأساوي، شلّت الصراعات السياسية الحادة مؤسسات الدولة، فقد تعمقت الانقسامات إلى حد أن الحكومة أصبحت عاجزة عن اتخاذ خطوات حاسمة لمعالجة الأزمة جذرياً. ومع تفاقم الأوضاع، أضافت الحرب الأخيرة مع إسرائيل عبئاً جديداً على لبنان، مخلّفة خسائر بشرية ومادية هائلة قدّرها «البنك الدولي» بنحو 8.5 مليار دولار، وزادت من تعقيد الأزمة الاقتصادية والاجتماعية، فقد بات من الصعب تصور أي إمكانية لاحتواء أعبائها في غياب انتخاب رئيس للجمهورية.

المنصب الرئاسي والمأزق الاقتصادي

المنصب الرئاسي، الذي لا يزال شاغراً منذ انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون في أكتوبر (تشرين الأول) 2022، يحمل للفائز به قائمة طويلة من التحديات الاقتصادية والمالية المتراكمة، التي باتت تهدد بنية الدولة وكيانها. فقد أدى غياب هذا المنصب إلى تعطيل عملية تشكيل الحكومة، مما جعل الدولة غير قادرة على التفاوض بجدية مع الجهات الدولية المانحة التي يحتاج إليها لبنان بقوة لإعادة إحياء اقتصاده، مثل «صندوق النقد الدولي» الذي يشترط إصلاحات اقتصادية ومالية جذرية مقابل أي دعم مالي يمكن أن يوفره.

وعليه؛ فإن انتخاب رئيس جديد للجمهورية يمثل أولوية ملحة ليس فقط لاستعادة الثقة المحلية والدولية، بل أيضاً ليكون مدخلاً أساسياً لبدء مسار الإصلاحات التي طال انتظارها.

ومن بين أبرز هذه التحديات، ملف إعادة الإعمار، الذي تُقدر تكلفته بأكثر من 6 مليارات دولار، وفق موقع «الدولية للمعلومات»، وهو عبء مالي ضخم يتطلب موارد هائلة وجهوداً استثنائية لتأمين التمويل اللازم.

لكن عملية إعادة الإعمار ليست مجرد عملية تقنية لإصلاح البنية التحتية أو ترميم الأضرار، بل هي اختبار حقيقي لقدرة الدولة على استعادة مكانتها وتفعيل دورها الإقليمي والدولي. وفي هذا السياق، تبرز الحاجة الملحة إلى رئيس يتمتع برؤية استراتيجية وشبكة واسعة من العلاقات الدولية، وقادر على استخدام مفاتيح التواصل الفعّال مع الدول المانحة والمؤسسات المالية الكبرى. فمن دون قيادة سياسية موحدة تتمتع بالصدقية، فستبقى فرص استقطاب الدعم الخارجي محدودة، خصوصاً أن الثقة الدولية بالسلطات اللبنانية تعرضت لاهتزاز كبير في السنوات الأخيرة بسبب سوء الإدارة وغياب الإصلاحات الهيكلية.

مواطنون وسط جانب من الدمار الناجم عن الغارات الجوية الإسرائيلية بمنطقة الشويفات (رويترز)

فرصة محورية لإحداث التغيير

كما يأتي انتخاب رئيس للجمهورية يوم الخميس بوصفه فرصة محورية لإحداث تغيير في مسار الأزمات المتراكمة التي يعاني منها لبنان، والتي تفاقمت بشكل حاد خلال عام 2024؛ بسبب الصراعات المتصاعدة والأزمة الاقتصادية الممتدة.

ومع انكماش الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بنسبة -5.7 في المائة خلال الربع الرابع من 2024، انعكست التداعيات السلبية بوضوح على الاقتصاد، فقد تراجعت معدلات النمو بشكل كبير منذ عام 2019، ليصل الانخفاض التراكمي إلى أكثر من 38 في المائة عام 2024، مقارنة بـ34 في المائة خلال العام السابق عليه. وتزامن هذا التدهور مع تصعيد الصراع في الربع الأخير من 2024، مما أضاف آثاراً إنسانية مدمرة، مثل النزوح الجماعي والدمار واسع النطاق، وبالتالي أدى إلى خفض إضافي في الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بنسبة 6.6 في المائة بحلول منتصف نوفمبر (تشرين الثاني) 2024. وكان قطاع السياحة، الذي يمثل أحد أعمدة الاقتصاد اللبناني، من بين الأشد تضرراً، فقد تراجعت عائداته لتتحول من فائض إلى عجز بنسبة -1 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي عام 2024.

منصب حاكم «المصرف المركزي»

كذلك يمثل هذا الحدث محطة مهمة لإصلاح المؤسسات اللبنانية، بما في ذلك معالجة الشغور في المناصب القيادية التي تُعد ركيزة أساسية لاستقرار البلاد. ومن بين هذه المناصب، حاكم «مصرف لبنان» الذي بقي شاغراً منذ انتهاء ولاية رياض سلامة في 31 يوليو (تموز) 2023، على الرغم من تعيين وسيم منصوري حاكماً بالإنابة. لذا، فإن تعيين خَلَفٍ أصيل لحاكم «المصرف المركزي» يُعدّ خطوة حاسمة لضمان استقرار النظامين المالي والنقدي، خصوصاً أن «مصرف لبنان» يشكل محوراً رئيسياً في استعادة الثقة بالنظامين المصرفي والمالي للبلاد.

مقر «مصرف لبنان المركزي» في بيروت (رويترز)

علاوة على ذلك، سيجد الرئيس الجديد نفسه أمام تحدي إصلاح «القطاع المصرفي» الذي يُعدّ جوهر الأزمة الاقتصادية. فملف المصارف والمودعين يتطلب رؤية شاملة لإعادة هيكلة القطاع بطريقة شفافة وعادلة، تُعيد ثقة المودعين وتوزع الخسائر بشكل منصف بين المصارف والحكومة والمودعين. ومع إدراج لبنان على «اللائحة الرمادية» وتخلفه عن سداد ديونه السيادية، تصبح هذه الإصلاحات ضرورية لاستعادة العلاقات بالمؤسسات المالية الدولية، واستقطاب التمويل اللازم، ومنع إدراج لبنان على «اللائحة السوداء». ناهيك بورشة إصلاح القطاع العام وترشيده وتفعيله، فتكلفة مرتَّبات القطاع العام مرتفعة جداً نسبةً إلى المعايير الدولية. فعلى مرّ السنين، شكّل مجموع رواتب وتعويضات القطاع العام لموظفي الخدمة الفعلية والمتقاعدين (وعددهم نحو 340 ألفاً) نحو 40 في المائة من إجمالي نفقات الموازنة، الأمر الذي شكّل عبئاً فادحاً على مالية الدولة والاقتصاد عموماً.

آمال اللبنانيين في قيادة جديدة

وسط هذه الأزمات المتشابكة، يعوّل اللبنانيون على انتخاب رئيس جديد للجمهورية لفتح نافذة أمل على الصعيدين الاقتصادي والسياسي. فمن المأمول أن يسعى الرئيس المقبل، بدعم من حكومة فاعلة، إلى إعادة بناء الثقة الدولية والمحلية، واستعادة الاستقرار السياسي، وهما شرطان أساسيان لوقف التدهور الاقتصادي وتحفيز النمو. فاستعادة قطاع السياحة؛ الرافعة الأساسية للاقتصاد اللبناني، على سبيل المثال، تتطلب تحسين الأوضاع الأمنية وتعزيز الثقة بلبنان بوصفه وجهة آمنة وجاذبة للاستثمارات. وهذه الأمور لن تتحقق إلا بوجود قيادة سياسية قادرة على تقديم رؤية استراتيجية واضحة لإعادة الإعمار وتحقيق الإصلاحات الضرورية. وبالنظر إلى العجز المستمر في الحساب الجاري والانخفاض الكبير في الناتج المحلي الإجمالي، يصبح نجاح الرئيس الجديد في معالجة هذه الملفات عاملاً حاسماً لإنقاذ لبنان من أزمته العميقة، وإعادة توجيه الاقتصاد نحو التعافي والنمو المستدام.