فك السحر عن العالم... أم عودة الدين إلى الحياة العامة؟

الدين والسياسة عند مارسيل غوشيه

المتطرفون استخدموا أسلحة العالم الحديثة للمحاربة ضد هذا العالم الحديث نفسه («الشرق الأوسط»)
المتطرفون استخدموا أسلحة العالم الحديثة للمحاربة ضد هذا العالم الحديث نفسه («الشرق الأوسط»)
TT

فك السحر عن العالم... أم عودة الدين إلى الحياة العامة؟

المتطرفون استخدموا أسلحة العالم الحديثة للمحاربة ضد هذا العالم الحديث نفسه («الشرق الأوسط»)
المتطرفون استخدموا أسلحة العالم الحديثة للمحاربة ضد هذا العالم الحديث نفسه («الشرق الأوسط»)

شكلت النظريات الأكاديمية للعلمانية خريطة فكرية للعقل الغربي الحديث، وما زالت تشكل نسقا مهما في علم السياسة وسوسيولوجيا الدين، وعلم الاجتماع السياسي المعاصر. واستطاعت مختلف الأطروحات المقدمة في هذا الإطار، الإبقاء على صلابتها النظرية بفعل كوكبة من الفلاسفة والمفكرين وعلماء السياسة الذين نظروا للعلمنة والمسار السياسي للدين في المجتمعات اليوم. ويعتبر مارسيل غوشيه واحدا من أبرز الفلاسفة الفرنسيين المعاصرين، الذين دافعوا في اتجاه تقوية التنظير المعرفي الإبستمولوجي للعلمنة؛ حيث التحق بنظرية «نزع السحر على العالم»، التي ابتكرها ماكس فييبر، وإن كانت لها أصول في فلسفة نتشه حول الدين.
كانت ازدواجية تخصص الفيلسوف الفرنسي مارسيل غوشيه في الفلسفة والتاريخ، وعمله البحثي مديرا للدراسات بالمدرسة العليا للأبحاث في العلوم الاجتماعية، مركز ريمون آرون للأبحاث السياسية، وراء اهتمامه الشديد بالاعتقادين الديني والسياسي، والعلاقة الرابطة بينهما. ولقد استهل بحثه في هذا المجال بالدفاع عن أطروحة «فك السحر عن العالم: التاريخ السياسي للدين» في كتاب صدر له عام (1985)، وبعده ناقش جدلية «الدين في الديمقراطية» (1998). لينتقل بعد ذلك لمناقشات للنظرية السياسية في مؤلفه «الشرط السياسي» (2005)، وأخيرا «من أجل فلسفة سياسية للتربية» (2013).
ينطلق غوشيه، وهو يناقش الدين في عالم الحداثة، وتشكلها وتأثيرها على مصير وديناميات الدين، من منطلق أساسي يعتبر فيه أن زمن الحداثة الغربية، خصوصا الأوروبية هو زمن الخروج من الدين. غير أن فيلسوفنا الفرنسي المتأثر بالمدرسة البنيوية، يقول إن «هناك أصلاً مسيحيًا للحداثة، ذلك ما أؤمن به حقًّا، لكن الأصل ليس بالضرورة أن يكون المدخل إلى بيان مقترحات الحداثة». ولذلك؛ فإن العلمنة عند غوشيه ليست آيديولوجية ولدت من رحم الحداثة السياسية، وليست تمثلات كوسموبوليتية لفيلسوف معزول عن الواقع الأوروبي وتطور مجتمعاته في زمن صراعات الأصولية، وعودة الدين للفضاء العام الغربي نفسه.

لا قطيعة مع الإيمان
وتبعا لذلك، يرى غوشيه أن أطروحة «نزع السحر على العالم» وتهميش الدين والتحَاكُم للماضي تعني الخروج من الدين. وأن عملية النزع، لا تمثل قطيعة مع الإيمان بالله، و«لا تعني أن الناس باتوا لا يؤمنون بالله.
فهم لم يكونوا أقوياء الإيمان به من قبل في كل الأحوال!... إن إحدى أولى المؤشرات الصارخة على الدخول في الحداثة بصفتها خروجًا من الدين هي الإصلاح البروتستانتي الذي وُلِدَ رد فعل على ما عرف بالإصلاح الكاثوليكي». ففي زمن الإصلاح هذا تراجعت بشكل قوي هيمنة الدين على البناء والتنظيم المجتمعي، وبدأ عصر الفرد باعتباره «بنية جديدة» في المجتمع الغربي الحديث.
ولهذا؛ يدقق غوشيه قصده من فكرة الخروج من الدين بالقول: «هو خروج عن التنظيم الديني للعالم. لهذا السبب لم نفهم المجتمعات القديمة، حيث إنها كانت منظّمة دينيًّا وكانت تحدّد في الوقت نفسه نوع السلطة السائدة فيها، ونوع العلاقة بين الأفراد وشكل المجموعات... هذا البنيان الكامل هو الذي راح يتفكّك شيئا فشيئًا في مجهود استغرق خمسة قرون وصولاً إلى عصرنا. بموازاة الإصلاح الديني، ثمة حدث يبرز على أنه معاصر تمامًا: هو ظهور السياسة الحديثة الذي ولّد على مدى قرن كامل مفهوم الدولة الحديث. يمكنك إذن أن ترى كيف أن مسارًا سياسيا ومسارًا دينيًّا يغيّران معطيات الإيمان بشكل كلي..».
في هذا السياق الخطي للتاريخ، احتلت السياسة الجغرافية التنظيمية، والمعرفية التي كان الدين يسكنها، ويستمد منها قوته في المجال العام، وتشكيل وعي الإنسان. ومن ثم تجدد الوعي الاجتماعي بالتغير الحاصل، ونُزع الطابع اللاهوتي عن مسار التاريخي، ومعه سقط وهم التبعية الدينية. وانتقل الفرد والمجتمع إلى عصر عرف تحولا كبيرا للآيديولوجيا بتعبيراتها الجذرية والمعتدلة، خلال الثلاثين سنة الماضية؛ مما أدى بدوره إلى إدخال الدين في عالم الاستقلالية الديمقراطية المعاصرة.
يمكن القول إذن، إن هذا الواقع هو تعبير عن دينامية فلسفية وتاريخية، انتقل الإنسان من خلالها من عصر التفكك الاجتماعي والفوضى الفكرية إلى عصر الاستقلالية الفردية.
وهكذا نجد أنفسنا في عصر يتجه فيه المعتقد الديني ألا يكون سياسيا، فيما يتجه المعتقد السياسي ألا يكون دينيا؛ وهذا يدخلنا في عصر جديد من تاريخ الإنسانية، يتميز بحسب أطروحة مارسيل غوشيه بأربع خصائص أساسية، يمكن إجمالها فيما يلي:
أولا: تراجع الدين في تكوين مؤسسات الدولة والمجتمع المعاصر.
ثانيا: خصخصة الدين، واحتلال البعد الفردي للدين مكانة الصدارة، أمام المعتقد الجماعي ودوره في الحياة العامة الأوروبية خاصة.
ثالثا: الفردانية الدينية، حيث أصبح الدين تفسيرا وممارسة، يخضع لنوع من التصور الفردي؛ بعيدا عن مفهوم الجماعة للدين الذي كان سائدا إلى حدود القرن التاسع عشر.
رابعا: الابتعاد عن الممارسة الدينية الكنسية، حيث ظهرت سلوكيات غير مؤسساتية للدين تؤمن بالنسبية الدينية، وتخرق النسق المعرفي الكنسي للدين. ويظهر ذلك في موجة الخروج الكبير عن نمط المنظومة الدينية، باعتبارها نسقا واحدا، وثابتا ولا يتحقق الإيمان إلا بالتبعية الدينية للكنيسة؛ إذ أثبتت الدراسات المتعددة في مختلف الدول الأوروبية، ازديادا مهما في نسبة المتدينين المخالفين للثقافة الدينية والسلوكية للكنيسة الكاثوليكية والبروتستانتية.

الأصوليون.. والعالم
غير أن هذا المسار التاريخي للدين والإيديولوجيات، لا يجب أن يفهم منه انهزام الدين في الواقع المعاصر.
فلا يزال المعتقد الديني يخط مساره دون أن يفقد مكانته الضمنية، في التفاعلات المجتمعية في زمن الحداثة والفردانية المُعلمنة. ومن المؤشرات القوية على ذلك عودة الدين للمجال العام بصيغ مختلفة؛ وكذلك ظهور موجات جديدة من الأصوليات الدينية المركبة، التي تختلف عن الدين التقليدي المعروف تاريخيا، من حيث المنطلقات المعرفية والأهداف السياسية للدين.
وهذا ما يشرحه غوشيه في حوار له مع الباحث ماتيو جيرو بالقولـ«ترى الأصوليين يستخدمون أسلحة العالم الحديث للمحاربة ضد هذا العالم الحديث نفسه.
وعند الاستيلاء على الأسلحة، نستولي كذلك على أنماط التفكير.... الأصوليون يدمّرون التديّن التقليدي الذي يزعمون أنهم يريدون استرجاعه. وهم بالفعل يُنظَر إليهم على هذا النحو. فكل من لديهم إيمان تقليدي حقيقي يكرهون الأصوليين ويعتبرونهم عدميين مجانين».
لكن عودة الدين في مجتمع الفردانية، وفي ظل الواقع المعقد للدولة الحديثة اليوم، يلعب لصالح الأصولية؛ فهذه الأخيرة تتمتع بنوع من الإغراء عند الجيل الجديد من الشباب الذي يعيش نزاعا بين الانتماء للذات الفردية والانتماء للجماعة المفككة بفعل الحداثة والعلمنة. هذا الوضع من الناحية السوسيولوجية يفسر انجذاب الشباب الفرنسي إلى الإرهاب تحت مظلة «داعش» ومقولاته عن «الجهاد» و«الخلافة».
ويقدم غوشيه طرحه التفسيري لهذه الإشكالية، بالانطلاق من وجود إيعاز اجتماعي جديد يدفع الفرد ويخاطبه بأن يكون «فردا».
لكن هناك واقعا أكثر تعقيدا مما نتصوره نظريا، يجعل من خيارات الاستقلالية الفردية عن الجماعة وتحقيق التطلعات أمر صعب؛ وتزداد الأمور صعوبة عن المهاجرين والشباب وغيرهم. «وفي هذا السياق، يمكن للأصولية الدينيّة أن تُغوي. إنها توفّر مدونة معايير يُلتزم بها، وجماعة يُرتبط بها، وتقليدا يُنخرط فيه، إلخ… أضف إلى ذلك، أن هؤلاء الشباب يعتبرون نذر أنفسهم لقضيتهم شيئا نبيلاً. إنهم يشعرون في أعماقهم بأنهم يتحولون إلى أشخاص جديرين بالتقدير، ويصبحون شخصيات معتبرة من خلال إنكار ذواتهم كأفراد وفقًا لمعاييرنا المعتادة».

الإرهاب والشباب
ولهذا؛ يجب التنبيه إلى الحل العملي لظاهرة الإرهاب في وسط الشباب، والذي يكمن في إيجاد سبل لتحقيق الفرد لذاته وسط مجتمع معقد التنظيم ومتعدد التفاعلات. فتحقيق الشباب لذواتهم كأفراد هي مسألة اجتماعية تواجه فرنسا، ولا بد من توفير وسائل تحقيق ذلك للجميع؛ و«هذا منوط بداية بالتفكير المتعمّق حول التعليم. فهذا ما تتوقّف عليه القدرة على الاستقلال الفردية. ولا يمكننا الاكتفاء بتوزيع بعض المال هنا وهناك، من خلال الدولة الاجتماعية، على هؤلاء الشّباب المهمش، ولا مندوحة من إيجاد حل لهذه المشكلة».
عموما يمكن القول إن أطروحة مارسيل غوشيه، تقدم مقاربة تاريخية وفلسفية نظرية لمسار الدين في الاجتماع الإنساني. وهي مقاربة وأطروحة ضمن أطروحات متضاربة، بعضها يعتبر الدين في تراجع مستمر، والبعض الآخر يستند إلى دراسات سوسيولوجية معاصرة تؤكد عودة الدين إلى المجال العام، وأنه أصبح يلعب دورا سياسيا في الدولة الحديثة، وفي العلاقات الدولية المعاصرة.
فعلى خلاف ما يطرحه غوشيه من تحليلات تزعم تراجع الدين في الحياة المعاصرة، يرى عالم الاجتماع الأشهر كليفورد غيرتز وكذلك طلال أسد، أن الدين لا يزال يلعب دورا مهما، من خلال قوة المسيحية المعاصر، سواءً من ناحية الرموز، أم من جهة النسق الاجتماعي والمعرفي الذي لا تزال قادرة على إنتاجه. ذلك أن عقلنة الفعل الاجتماعي، لم تتملص بالكامل من الثقافة الدينية، التي ظلت تسكن ضميره، رغم موجة العلمنة العاتية؛ لأن الدين انساق وراء السياقات القائمة وإعادة تشكيل ذاته.
في هذا السياق، يرى غيرتز أن الدائرة الدينية لها إمكانية تجسيد واقعية تمنحها لها الأنظمة الرمزية الدينية؛ ما يبقي الدين حيا في قضايا المجتمع الأساسية المتعلقة بالحق في الحياة وحقوق الإنسان، والحريات الفردية والعامة؛ وكل ذلك يجعل من الدين قضية سياسية، ومن السياسة تعبيرا عن تمثلات دينية أخلاقية في المجال العام للدولة الغربية المعاصرة.
* أستاذ العلوم السياسية
- جامعة محمد الخامس



«المراجعات»... فكرة غائبة يراهن عليها شباب «الإخوان»

جانب من اعتصام «الإخوان» في ميدان «رابعة» بالقاهرة عام 2013 عقب عزل مرسي (الشرق الأوسط)
جانب من اعتصام «الإخوان» في ميدان «رابعة» بالقاهرة عام 2013 عقب عزل مرسي (الشرق الأوسط)
TT

«المراجعات»... فكرة غائبة يراهن عليها شباب «الإخوان»

جانب من اعتصام «الإخوان» في ميدان «رابعة» بالقاهرة عام 2013 عقب عزل مرسي (الشرق الأوسط)
جانب من اعتصام «الإخوان» في ميدان «رابعة» بالقاهرة عام 2013 عقب عزل مرسي (الشرق الأوسط)

بين الحين والآخر، تتجدد فكرة «مراجعات الإخوان»، الجماعة التي تصنفها السلطات المصرية «إرهابية»، فتثير ضجيجاً على الساحة السياسية في مصر؛ لكن دون أي أثر يُذكر على الأرض. وقال خبراء في الحركات الأصولية، عن إثارة فكرة «المراجعة»، خصوصاً من شباب الجماعة خلال الفترة الماضية، إنها «تعكس حالة الحيرة لدى شباب (الإخوان) وشعورهم بالإحباط، وهي (فكرة غائبة) عن قيادات الجماعة، ومُجرد محاولات فردية لم تسفر عن نتائج».
ففكرة «مراجعات إخوان مصر» تُثار حولها تساؤلات عديدة، تتعلق بتوقيتات خروجها للمشهد السياسي، وملامحها حال البدء فيها... وهل الجماعة تفكر بجدية في هذا الأمر؟ وما هو رد الشارع المصري حال طرحها؟
خبراء الحركات الأصولية أكدوا أن «الجماعة ليست لديها نية للمراجعات». وقال الخبراء لـ«الشرق الأوسط»: «لم تعرف (الإخوان) عبر تاريخها (مراجعات) يُمكن التعويل عليها، سواء على مستوى الأفكار، أو السلوك السياسي التنظيمي، أو على مستوى الأهداف»، لافتين إلى أن «الجماعة تتبنى دائماً فكرة وجود (محنة) للبقاء، وجميع قيادات الخارج مُستفيدين من الوضع الحالي للجماعة». في المقابل لا يزال شباب «الإخوان» يتوعدون بـ«مواصلة إطلاق الرسائل والمبادرات في محاولة لإنهاء مُعاناتهم».

مبادرات شبابية
مبادرات أو رسائل شباب «الإخوان»، مجرد محاولات فردية لـ«المراجعة أو المصالحة»، عبارة عن تسريبات، تتنوع بين مطالب الإفراج عنهم من السجون، ونقد تصرفات قيادات الخارج... المبادرات تعددت خلال الأشهر الماضية، وكان من بينها، مبادرة أو رسالة اعترف فيها الشباب «بشعورهم بالصدمة من تخلي قادة جماعتهم، وتركهم فريسة للمصاعب التي يواجهونها هم وأسرهم - على حد قولهم -، بسبب دفاعهم عن أفكار الجماعة، التي ثبت أنها بعيدة عن الواقع»... وقبلها رسالة أخرى من عناصر الجماعة، تردد أنها «خرجت من أحد السجون المصرية - بحسب من أطلقها -»، أُعلن فيها عن «رغبة هذه العناصر في مراجعة أفكارهم، التي اعتنقوها خلال انضمامهم للجماعة». وأعربوا عن «استعدادهم التام للتخلي عنها، وعن العنف، وعن الولاء للجماعة وقياداتها».
وعقب «تسريبات المراجعات»، كان رد الجماعة قاسياً ونهائياً على لسان بعض قيادات الخارج، من بينهم إبراهيم منير، نائب المرشد العام للجماعة، الذي قال إن «الجماعة لم تطلب من هؤلاء الشباب الانضمام لصفوفها، ولم تزج بهم في السجون، ومن أراد أن يتبرأ (أي عبر المراجعات) فليفعل».
يشار إلى أنه كانت هناك محاولات لـ«المراجعات» عام 2017 بواسطة 5 من شباب الجماعة المنشقين، وما زال بعضهم داخل السجون، بسبب اتهامات تتعلق بـ«تورطهم في عمليات عنف».
من جهته، أكد أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أن «(المراجعات) أو (فضيلة المراجعات) فكرة غائبة في تاريخ (الإخوان)، وربما لم تعرف الجماعة عبر تاريخها (مراجعات) يُمكن التعويل عليها، سواء على مستوى الأفكار، أو على مستوى السلوك السياسي التنظيمي، أو على مستوى أهداف الجماعة ومشروعها»، مضيفاً: «وحتى الآن ما خرج من (مراجعات) لم تتجاوز ربما محاكمة السلوك السياسي للجماعة، أو السلوك الإداري أو التنظيمي؛ لكن لم تطل (المراجعات) حتى الآن جملة الأفكار الرئيسية للجماعة، ومقولتها الرئيسية، وأهدافها، وأدبياتها الأساسية، وإن كانت هناك محاولات من بعض شباب الجماعة للحديث عن هذه المقولات الرئيسية».

محاولات فردية
وقال أحمد بان إن «الحديث عن (مراجعة) كما يبدو، لم تنخرط فيها القيادات الكبيرة، فالجماعة ليس بها مُفكرون، أو عناصر قادرة على أن تمارس هذا الشكل من أشكال (المراجعة)، كما أن الجماعة لم تتفاعل مع أي محاولات بحثية بهذا الصدد، وعلى كثرة ما أنفقته من أموال، لم تخصص أموالاً للبحث في جملة أفكارها أو مشروعها، أو الانخراط في حالة من حالات (المراجعة)... وبالتالي لا يمكننا الحديث عن تقييم لـ(مراجعة) على غرار ما جرى في تجربة (الجماعة الإسلامية)»، مضيفاً أن «(مراجعة) بها الحجم، وبهذا الشكل، مرهونة بأكثر من عامل؛ منها تبني الدولة المصرية لها، وتبني قيادات الجماعة لها أيضاً»، لافتاً إلى أنه «ما لم تتبنَ قيادات مُهمة في الجماعة هذه (المراجعات)، لن تنجح في تسويقها لدى القواعد في الجماعة، خصوصاً أن دور السلطة أو القيادة في جماعة (الإخوان) مهم جداً... وبالتالي الدولة المصرية لو كانت جادة في التعاطي مع فكرة (المراجعة) باعتبارها إحدى وسائل مناهضة مشروع الجماعة السياسي، أو مشروع جماعات الإسلام السياسي، عليها أن تشجع مثل هذه المحاولات، وأن تهيئ لها ربما عوامل النجاح، سواء عبر التبني، أو على مستوى تجهيز قيادات من الأزهر، للتعاطي مع هذه المحاولات وتعميقها».
وأكد أحمد زغلول، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أن «الجماعة لم تصل لأي شيء في موضوع (المراجعات)، ولا توجد أي نية من جانبها لعمل أي (مراجعات)»، مضيفاً: «هناك محاولات فردية لـ(المراجعات) من بعض شباب الجماعة الناقم على القيادات، تتسرب من وقت لآخر، آخرها تلك التي تردد أنها خرجت من داخل أحد السجون جنوب القاهرة - على حد قوله -، ومن أطلقها صادر بحقهم أحكام بالسجن من 10 إلى 15 سنة، ولهم مواقف مضادة من الجماعة، ويريدون إجراء (مراجعات)، ولهم تحفظات على أداء الجماعة، خصوصاً في السنوات التي أعقبت عزل محمد مرسي عن السلطة عام 2013... وتطرقوا في انتقاداتهم للجوانب الفكرية للجماعة، لكن هذه المحاولات لم تكن في ثقل (مراجعات الجماعة الإسلامية)... وعملياً، كانت عبارة عن قناعات فردية، وليس فيها أي توجه بمشروع جدي».
وأكد زغلول، أن «هؤلاء الشباب فكروا في (المراجعات أو المصالحات)، وذلك لطول فترة سجنهم، وتخلي الجماعة عنهم، وانخداعهم في أفكار الجماعة»، مضيفاً: «بشكل عام ليست هناك نية من الجماعة لـ(المراجعات)، بسبب (من وجهة نظر القيادات) (عدم وجود بوادر من الدولة المصرية نحو ذلك، خصوصاً أن السلطات في مصر لا ترحب بفكرة المراجعات)، بالإضافة إلى أن الشعب المصري لن يوافق على أي (مراجعات)، خصوصاً بعد (مظاهرات سبتمبر/ أيلول الماضي) المحدودة؛ حيث شعرت قيادات الجماعة في الخارج، بثقل مواصلة المشوار، وعدم المصالحة».
وفي يناير (كانون الثاني) عام 2015، شدد الرئيس عبد الفتاح السيسي، على أن «المصالحة مع من مارسوا العنف (في إشارة ضمنية لجماعة الإخوان)، قرار الشعب المصري، وليس قراره شخصياً».
وأوضح زغلول في هذا الصدد، أن «الجماعة تتبنى دائماً فكرة وجود (أزمة أو محنة) لبقائها، وجميع القيادات مستفيدة من الوضع الحالي للجماعة، وتعيش في (رغد) بالخارج، وتتمتع بالدعم المالي على حساب أسر السجناء في مصر، وهو ما كشفت عنه تسريبات أخيرة، طالت قيادات هاربة بالخارج، متهمة بالتورط في فساد مالي».

جس نبض
وعن ظهور فكرة «المراجعات» على السطح من وقت لآخر من شباب الجماعة. أكد الخبير الأصولي أحمد بان، أن «إثارة فكرة (المراجعة) من آن لآخر، تعكس حالة الحيرة لدى الشباب، وشعورهم بالإحباط من هذا (المسار المغلق وفشل الجماعة)، وإحساسهم بالألم، نتيجة أعمارهم التي قدموها للجماعة، التي لم تصل بهم؛ إلا إلى مزيد من المعاناة»، موضحاً أن «(المراجعة أو المصالحة) فكرة طبيعية وإنسانية، وفكرة يقبلها العقل والنقل؛ لكن تخشاها قيادات (الإخوان)، لأنها سوف تفضح ضحالة عقولهم وقدراتهم ومستواهم، وستكشف الفكرة أمام قطاعات أوسع».
برلمانياً، قال النائب أحمد سعد، عضو مجلس النواب المصري (البرلمان)، إن «الحديث عن تصالح مع (الإخوان) يُطلق من حين لآخر؛ لكن دون أثر على الأرض، لأنه لا تصالح مع كل من خرج عن القانون، وتورط في أعمال إرهابية - على حد قوله -».
وحال وجود «مراجعات» فما هي بنودها؟ أكد زغلول: «ستكون عبارة عن (مراجعات) سياسية، و(مراجعة) للأفكار، ففي (المراجعات) السياسية أول خطوة هي الاعتراف بالنظام المصري الحالي، والاعتراف بالخلط بين الدعوة والسياسة، والاعتراف بعمل أزمات خلال فترة حكم محمد مرسي... أما الجانب الفكري، فيكون بالاعتراف بأن الجماعة لديها أفكار عنف وتكفير، وأنه من خلال هذه الأفكار، تم اختراق التنظيم... وعلى الجماعة أن تعلن أنها سوف تبتعد عن هذه الأفكار».
وعن فكرة قبول «المراجعات» من قبل المصريين، قال أحمد بان: «أعتقد أنه يجب أن نفصل بين من تورط في ارتكاب جريمة من الجماعة، ومن لم يتورط في جريمة، وكان ربما جزءاً فقط من الجماعة أو مؤمناً فكرياً بها، فيجب الفصل بين مستويات العضوية، ومستويات الانخراط في العنف».
بينما أوضح زغلول: «قد يقبل الشعب المصري حال تهيئة الرأي العام لذلك، وأمامنا تجربة (الجماعة الإسلامية)، التي استمرت في عنفها ما يقرب من 20 عاماً، وتسببت في قتل الرئيس الأسبق أنور السادات، وتم عمل (مراجعات) لها، وبالمقارنة مع (الإخوان)، فعنفها لم يتعدَ 6 سنوات منذ عام 2013. لكن (المراجعات) مشروطة بتهيئة الرأي العام المصري لذلك، وحينها سيكون قبولها أيسر».
يُشار إلى أنه في نهاية السبعينات، وحتى منتصف تسعينات القرن الماضي، اُتهمت «الجماعة الإسلامية» بالتورط في عمليات إرهابية، واستهدفت بشكل أساسي قوات الشرطة والأقباط والأجانب. وقال مراقبون إن «(مجلس شورى الجماعة) أعلن منتصف يوليو (تموز) عام 1997 إطلاق ما سمى بمبادرة (وقف العنف أو مراجعات تصحيح المفاهيم)، التي أسفرت بالتنسيق مع الأجهزة الأمنية وقتها، على إعلان الجماعة (نبذ العنف)... في المقابل تم الإفراج عن معظم المسجونين من كوادر وأعضاء (الجماعة الإسلامية)».
وذكر زغلول، أنه «من خلال التسريبات خلال الفترة الماضية، ألمحت بعض قيادات بـ(الإخوان) أنه ليس هناك مانع من قبل النظام المصري - على حد قولهم، في عمل (مراجعات)، بشرط اعتراف (الإخوان) بالنظام المصري الحالي، وحل الجماعة نهائياً».
لكن النائب سعد قال: «لا مجال لأي مصالحة مع (مرتكبي جرائم عنف ضد الدولة المصرية ومؤسساتها) - على حد قوله -، ولن يرضى الشعب بمصالحة مع الجماعة».