فك السحر عن العالم... أم عودة الدين إلى الحياة العامة؟

الدين والسياسة عند مارسيل غوشيه

المتطرفون استخدموا أسلحة العالم الحديثة للمحاربة ضد هذا العالم الحديث نفسه («الشرق الأوسط»)
المتطرفون استخدموا أسلحة العالم الحديثة للمحاربة ضد هذا العالم الحديث نفسه («الشرق الأوسط»)
TT

فك السحر عن العالم... أم عودة الدين إلى الحياة العامة؟

المتطرفون استخدموا أسلحة العالم الحديثة للمحاربة ضد هذا العالم الحديث نفسه («الشرق الأوسط»)
المتطرفون استخدموا أسلحة العالم الحديثة للمحاربة ضد هذا العالم الحديث نفسه («الشرق الأوسط»)

شكلت النظريات الأكاديمية للعلمانية خريطة فكرية للعقل الغربي الحديث، وما زالت تشكل نسقا مهما في علم السياسة وسوسيولوجيا الدين، وعلم الاجتماع السياسي المعاصر. واستطاعت مختلف الأطروحات المقدمة في هذا الإطار، الإبقاء على صلابتها النظرية بفعل كوكبة من الفلاسفة والمفكرين وعلماء السياسة الذين نظروا للعلمنة والمسار السياسي للدين في المجتمعات اليوم. ويعتبر مارسيل غوشيه واحدا من أبرز الفلاسفة الفرنسيين المعاصرين، الذين دافعوا في اتجاه تقوية التنظير المعرفي الإبستمولوجي للعلمنة؛ حيث التحق بنظرية «نزع السحر على العالم»، التي ابتكرها ماكس فييبر، وإن كانت لها أصول في فلسفة نتشه حول الدين.
كانت ازدواجية تخصص الفيلسوف الفرنسي مارسيل غوشيه في الفلسفة والتاريخ، وعمله البحثي مديرا للدراسات بالمدرسة العليا للأبحاث في العلوم الاجتماعية، مركز ريمون آرون للأبحاث السياسية، وراء اهتمامه الشديد بالاعتقادين الديني والسياسي، والعلاقة الرابطة بينهما. ولقد استهل بحثه في هذا المجال بالدفاع عن أطروحة «فك السحر عن العالم: التاريخ السياسي للدين» في كتاب صدر له عام (1985)، وبعده ناقش جدلية «الدين في الديمقراطية» (1998). لينتقل بعد ذلك لمناقشات للنظرية السياسية في مؤلفه «الشرط السياسي» (2005)، وأخيرا «من أجل فلسفة سياسية للتربية» (2013).
ينطلق غوشيه، وهو يناقش الدين في عالم الحداثة، وتشكلها وتأثيرها على مصير وديناميات الدين، من منطلق أساسي يعتبر فيه أن زمن الحداثة الغربية، خصوصا الأوروبية هو زمن الخروج من الدين. غير أن فيلسوفنا الفرنسي المتأثر بالمدرسة البنيوية، يقول إن «هناك أصلاً مسيحيًا للحداثة، ذلك ما أؤمن به حقًّا، لكن الأصل ليس بالضرورة أن يكون المدخل إلى بيان مقترحات الحداثة». ولذلك؛ فإن العلمنة عند غوشيه ليست آيديولوجية ولدت من رحم الحداثة السياسية، وليست تمثلات كوسموبوليتية لفيلسوف معزول عن الواقع الأوروبي وتطور مجتمعاته في زمن صراعات الأصولية، وعودة الدين للفضاء العام الغربي نفسه.

لا قطيعة مع الإيمان
وتبعا لذلك، يرى غوشيه أن أطروحة «نزع السحر على العالم» وتهميش الدين والتحَاكُم للماضي تعني الخروج من الدين. وأن عملية النزع، لا تمثل قطيعة مع الإيمان بالله، و«لا تعني أن الناس باتوا لا يؤمنون بالله.
فهم لم يكونوا أقوياء الإيمان به من قبل في كل الأحوال!... إن إحدى أولى المؤشرات الصارخة على الدخول في الحداثة بصفتها خروجًا من الدين هي الإصلاح البروتستانتي الذي وُلِدَ رد فعل على ما عرف بالإصلاح الكاثوليكي». ففي زمن الإصلاح هذا تراجعت بشكل قوي هيمنة الدين على البناء والتنظيم المجتمعي، وبدأ عصر الفرد باعتباره «بنية جديدة» في المجتمع الغربي الحديث.
ولهذا؛ يدقق غوشيه قصده من فكرة الخروج من الدين بالقول: «هو خروج عن التنظيم الديني للعالم. لهذا السبب لم نفهم المجتمعات القديمة، حيث إنها كانت منظّمة دينيًّا وكانت تحدّد في الوقت نفسه نوع السلطة السائدة فيها، ونوع العلاقة بين الأفراد وشكل المجموعات... هذا البنيان الكامل هو الذي راح يتفكّك شيئا فشيئًا في مجهود استغرق خمسة قرون وصولاً إلى عصرنا. بموازاة الإصلاح الديني، ثمة حدث يبرز على أنه معاصر تمامًا: هو ظهور السياسة الحديثة الذي ولّد على مدى قرن كامل مفهوم الدولة الحديث. يمكنك إذن أن ترى كيف أن مسارًا سياسيا ومسارًا دينيًّا يغيّران معطيات الإيمان بشكل كلي..».
في هذا السياق الخطي للتاريخ، احتلت السياسة الجغرافية التنظيمية، والمعرفية التي كان الدين يسكنها، ويستمد منها قوته في المجال العام، وتشكيل وعي الإنسان. ومن ثم تجدد الوعي الاجتماعي بالتغير الحاصل، ونُزع الطابع اللاهوتي عن مسار التاريخي، ومعه سقط وهم التبعية الدينية. وانتقل الفرد والمجتمع إلى عصر عرف تحولا كبيرا للآيديولوجيا بتعبيراتها الجذرية والمعتدلة، خلال الثلاثين سنة الماضية؛ مما أدى بدوره إلى إدخال الدين في عالم الاستقلالية الديمقراطية المعاصرة.
يمكن القول إذن، إن هذا الواقع هو تعبير عن دينامية فلسفية وتاريخية، انتقل الإنسان من خلالها من عصر التفكك الاجتماعي والفوضى الفكرية إلى عصر الاستقلالية الفردية.
وهكذا نجد أنفسنا في عصر يتجه فيه المعتقد الديني ألا يكون سياسيا، فيما يتجه المعتقد السياسي ألا يكون دينيا؛ وهذا يدخلنا في عصر جديد من تاريخ الإنسانية، يتميز بحسب أطروحة مارسيل غوشيه بأربع خصائص أساسية، يمكن إجمالها فيما يلي:
أولا: تراجع الدين في تكوين مؤسسات الدولة والمجتمع المعاصر.
ثانيا: خصخصة الدين، واحتلال البعد الفردي للدين مكانة الصدارة، أمام المعتقد الجماعي ودوره في الحياة العامة الأوروبية خاصة.
ثالثا: الفردانية الدينية، حيث أصبح الدين تفسيرا وممارسة، يخضع لنوع من التصور الفردي؛ بعيدا عن مفهوم الجماعة للدين الذي كان سائدا إلى حدود القرن التاسع عشر.
رابعا: الابتعاد عن الممارسة الدينية الكنسية، حيث ظهرت سلوكيات غير مؤسساتية للدين تؤمن بالنسبية الدينية، وتخرق النسق المعرفي الكنسي للدين. ويظهر ذلك في موجة الخروج الكبير عن نمط المنظومة الدينية، باعتبارها نسقا واحدا، وثابتا ولا يتحقق الإيمان إلا بالتبعية الدينية للكنيسة؛ إذ أثبتت الدراسات المتعددة في مختلف الدول الأوروبية، ازديادا مهما في نسبة المتدينين المخالفين للثقافة الدينية والسلوكية للكنيسة الكاثوليكية والبروتستانتية.

الأصوليون.. والعالم
غير أن هذا المسار التاريخي للدين والإيديولوجيات، لا يجب أن يفهم منه انهزام الدين في الواقع المعاصر.
فلا يزال المعتقد الديني يخط مساره دون أن يفقد مكانته الضمنية، في التفاعلات المجتمعية في زمن الحداثة والفردانية المُعلمنة. ومن المؤشرات القوية على ذلك عودة الدين للمجال العام بصيغ مختلفة؛ وكذلك ظهور موجات جديدة من الأصوليات الدينية المركبة، التي تختلف عن الدين التقليدي المعروف تاريخيا، من حيث المنطلقات المعرفية والأهداف السياسية للدين.
وهذا ما يشرحه غوشيه في حوار له مع الباحث ماتيو جيرو بالقولـ«ترى الأصوليين يستخدمون أسلحة العالم الحديث للمحاربة ضد هذا العالم الحديث نفسه.
وعند الاستيلاء على الأسلحة، نستولي كذلك على أنماط التفكير.... الأصوليون يدمّرون التديّن التقليدي الذي يزعمون أنهم يريدون استرجاعه. وهم بالفعل يُنظَر إليهم على هذا النحو. فكل من لديهم إيمان تقليدي حقيقي يكرهون الأصوليين ويعتبرونهم عدميين مجانين».
لكن عودة الدين في مجتمع الفردانية، وفي ظل الواقع المعقد للدولة الحديثة اليوم، يلعب لصالح الأصولية؛ فهذه الأخيرة تتمتع بنوع من الإغراء عند الجيل الجديد من الشباب الذي يعيش نزاعا بين الانتماء للذات الفردية والانتماء للجماعة المفككة بفعل الحداثة والعلمنة. هذا الوضع من الناحية السوسيولوجية يفسر انجذاب الشباب الفرنسي إلى الإرهاب تحت مظلة «داعش» ومقولاته عن «الجهاد» و«الخلافة».
ويقدم غوشيه طرحه التفسيري لهذه الإشكالية، بالانطلاق من وجود إيعاز اجتماعي جديد يدفع الفرد ويخاطبه بأن يكون «فردا».
لكن هناك واقعا أكثر تعقيدا مما نتصوره نظريا، يجعل من خيارات الاستقلالية الفردية عن الجماعة وتحقيق التطلعات أمر صعب؛ وتزداد الأمور صعوبة عن المهاجرين والشباب وغيرهم. «وفي هذا السياق، يمكن للأصولية الدينيّة أن تُغوي. إنها توفّر مدونة معايير يُلتزم بها، وجماعة يُرتبط بها، وتقليدا يُنخرط فيه، إلخ… أضف إلى ذلك، أن هؤلاء الشباب يعتبرون نذر أنفسهم لقضيتهم شيئا نبيلاً. إنهم يشعرون في أعماقهم بأنهم يتحولون إلى أشخاص جديرين بالتقدير، ويصبحون شخصيات معتبرة من خلال إنكار ذواتهم كأفراد وفقًا لمعاييرنا المعتادة».

الإرهاب والشباب
ولهذا؛ يجب التنبيه إلى الحل العملي لظاهرة الإرهاب في وسط الشباب، والذي يكمن في إيجاد سبل لتحقيق الفرد لذاته وسط مجتمع معقد التنظيم ومتعدد التفاعلات. فتحقيق الشباب لذواتهم كأفراد هي مسألة اجتماعية تواجه فرنسا، ولا بد من توفير وسائل تحقيق ذلك للجميع؛ و«هذا منوط بداية بالتفكير المتعمّق حول التعليم. فهذا ما تتوقّف عليه القدرة على الاستقلال الفردية. ولا يمكننا الاكتفاء بتوزيع بعض المال هنا وهناك، من خلال الدولة الاجتماعية، على هؤلاء الشّباب المهمش، ولا مندوحة من إيجاد حل لهذه المشكلة».
عموما يمكن القول إن أطروحة مارسيل غوشيه، تقدم مقاربة تاريخية وفلسفية نظرية لمسار الدين في الاجتماع الإنساني. وهي مقاربة وأطروحة ضمن أطروحات متضاربة، بعضها يعتبر الدين في تراجع مستمر، والبعض الآخر يستند إلى دراسات سوسيولوجية معاصرة تؤكد عودة الدين إلى المجال العام، وأنه أصبح يلعب دورا سياسيا في الدولة الحديثة، وفي العلاقات الدولية المعاصرة.
فعلى خلاف ما يطرحه غوشيه من تحليلات تزعم تراجع الدين في الحياة المعاصرة، يرى عالم الاجتماع الأشهر كليفورد غيرتز وكذلك طلال أسد، أن الدين لا يزال يلعب دورا مهما، من خلال قوة المسيحية المعاصر، سواءً من ناحية الرموز، أم من جهة النسق الاجتماعي والمعرفي الذي لا تزال قادرة على إنتاجه. ذلك أن عقلنة الفعل الاجتماعي، لم تتملص بالكامل من الثقافة الدينية، التي ظلت تسكن ضميره، رغم موجة العلمنة العاتية؛ لأن الدين انساق وراء السياقات القائمة وإعادة تشكيل ذاته.
في هذا السياق، يرى غيرتز أن الدائرة الدينية لها إمكانية تجسيد واقعية تمنحها لها الأنظمة الرمزية الدينية؛ ما يبقي الدين حيا في قضايا المجتمع الأساسية المتعلقة بالحق في الحياة وحقوق الإنسان، والحريات الفردية والعامة؛ وكل ذلك يجعل من الدين قضية سياسية، ومن السياسة تعبيرا عن تمثلات دينية أخلاقية في المجال العام للدولة الغربية المعاصرة.
* أستاذ العلوم السياسية
- جامعة محمد الخامس



تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
TT

تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)

من يقود تنظيم داعش الإرهابي الآن؟ وما سر عدم ظهور إبراهيم الهاشمي القرشي، زعيم «داعش» الجديد، حتى اللحظة؟ ولماذا تعمد التنظيم إخفاء هوية «القرشي» منذ تنصيبه قبل شهرين؟ وهل هناك تغير في شكل التنظيم خلال الفترة المقبلة، عبر استراتيجية إخفاء هوية قادته، خوفاً عليهم من الرصد الأمني بعد مقتل أبو بكر البغدادي؟ تساؤلات كثيرة تشغل الخبراء والمختصين، بعدما خيم الغموض على شخصية زعيم «داعش» الجديد طوال الفترة الماضية. خبراء في الحركات الأصولية أكدوا لـ«الشرق الأوسط» أن «التنظيم يعاني الآن من غياب المركزية في صناعة القرار».
ويرجح خبراء التنظيمات المتطرفة أن «يكون (داعش) قد قرر إخفاء هوية (القرشي) تماماً، في محاولة لحمايته، وأن إعلان (القرشي) زعيماً من قبل كان شكلاً من أشكال التمويه فقط، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم». كما شكك الخبراء في «وجود شخصية (القرشي) من الأساس».
وأعلن «داعش»، في تسجيل صوتي بثه موقع «الفرقان»، الذراع الإعلامية للتنظيم، في نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تنصيب «القرشي» خلفاً للبغدادي الذي قتل في أعقاب غارة أميركية، وتعيين أبو حمزة القرشي متحدثاً باسم التنظيم، خلفاً لأبو الحسن المهاجر الذي قتل مع البغدادي. وكان الرئيس الأميركي دونالد ترمب قد أعلن «مقتل البغدادي في عملية عسكرية أميركية شمال غربي سوريا».
ورغم أن مراقبين أكدوا أن «(القرشي) هو القاضي الأول في التنظيم، وكان يرأس اللجنة الشرعية»، فإن مصادر أميركية ذكرت في وقت سابق أن «(القرشي) عُرف بلقب الحاج عبد الله، وعُرف أيضاً باسم محمد سعيد عبد الرحمن المولى، وكان أحد قادة تنظيم القاعدة في العراق، وقاتل ضد الأميركيين». لكن عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر «شكك في وجود (القرشي) من الأساس»، قائلاً: إن «(القرشي) شخصية غير حقيقية، وهناك أكثر من إدارة تدير (داعش) الآن».
وأكد أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أنه «بطبيعة الحال، لا يمكن أن نحدد من يقود (داعش) الآن، حتى هذا الإعلان (أي تنصيب القرشي) قد يكون شكلاً من أشكال التمويه، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم»، مضيفاً: «نحن أمام عدد من الاحتمالات: الاحتمال الأول هو أن تكون شخصية (القرشي) حقيقية لكن يتم إخفاءها، وعدم ظهوره إلى الآن هو من أجل تأمين حياته، وعدم مطاردته من قبل أجهزة الدول. والاحتمال الثاني أننا أمام شخصية (وهمية)، والتنظيم لا يزال منقسماً حول فكرة اختيار خليفة للبغدادي. أما الاحتمال الثالث فأننا أمام صراع حقيقي داخل التنظيم حول خلافة (البغدادي)».
وتحدث المراقبون عن سبب آخر لإخفاء «داعش» هوية «القرشي»، وهو «الخوف من الانشقاقات التي تضرب التنظيم من قبل مقتل البغدادي، بسبب الهزائم التي مُني بها في سوريا والعراق، خاصة أن نهج إخفاء المعلومات والتفاصيل التي تتعلق بقادة (داعش) استخدمه التنظيم من قبل، حين تم تعيين أبو حمزة المهاجر وزيراً للحرب (على حد تعبير التنظيم) في عهد البغدادي، وتم الكشف عن اسمه في وقت لاحق».
وكان البغدادي قد استغل فرصة الاضطرابات التي حدثت في سوريا، وأسس فرعاً لتنظيمه هناك، كما استغل بعض الأحداث السياسية في العراق، وقدم نفسه وتنظيمه على أنهم المدافعون عن الإسلام (على حد زعمه)، فاكتسب في البداية بيئة حاضنة ساعدته على احتلال المزيد من الأراضي العراقية التي أسس عليها «دولته المزعومة». وفي عام 2014، أعلن البغدادي نفسه «خليفة مزعوماً» من على منبر مسجد النوري الكبير، في مدينة الموصل، ثم اختفى بعدها لمدة 5 سنوات، ولم يظهر إلا في أبريل (نيسان) الماضي، في مقطع فيديو مصور مدته 18 دقيقة، ليعلن «انتهاء السيطرة المكانية لـ(دولته المزعومة)، وسقوط آخر معاقلها في الباغوز السورية». وقال المراقبون إنه «رغم أن ظهور البغدادي كان قليلاً في السنوات الأخيرة قبل مقتله، فإن أخباره كانت دائمة الانتشار، كما عمد مع بداية الإعلان عن (دولته المزعومة) إلى الظهور المتكرر، وهو ما لم يفعله (القرشي)».
وأكد عبد المنعم أن «هوية (القرشي) كانت لا بد أن تختفي تماماً لحمايته»، مدللاً على ذلك بأنه «في ثمانينات القرن الماضي، كانت التنظيمات الإرهابية تعلن عن أكثر من اسم للقيادة، حتى تحميه من التتبع الأمني»، موضحاً: «يبدو أن هوية (القرشي) الحقيقة بالنسبة لعناصر التنظيم ليست بالأهمية ذاتها، لأن ما يهمهم هو وجود الزعيم على هرم التنظيم، ضمن إطار وإرث ديني... وهذا أهم بكثير للعناصر من الإعلان عن هوية الرجل (أي القرشي)»، مدللاً على ذلك بأنه «في الأيام التي أعقبت إعلان تعيين (القرشي)، تساءلت مجموعة صغيرة من عناصر التنظيم على موقع التواصل (تليغرام) عن هوية الزعيم الجديد. وبعد أيام من تساؤلاتهم، وعندما طلب منهم مبايعة (القرشي)، قلت التساؤلات. ولهذا، من الواضح أن هوية الرجل بدت غير مهمة لهم، بل المهم هو أنه زعيم (داعش)، ويحتاج إلى دعمهم».
وحث أبو حمزة القرشي، متحدث «داعش» الجديد، أتباعه في رسالته الصوتية الأخيرة على «الالتزام بما أصدره البغدادي في رسالته في سبتمبر (أيلول) الماضي، التي طالب فيها بتحرير أنصار التنظيم من السجون، وتجنيد أتباع جدد لاستكمال المهمة، وتأكيد مواصلة التنظيم تمدده في الشرق الأوسط وخارجه».
ومن جهته، أضاف عبد المنعم أن «التنظيم دشن قبل أيام كتيبة أطلق عليها (الثأر للبغدادي والمهاجر)، بهدف الانتقام لمقتل البغدادي والمهاجر، كما جرى سجن عدد من قيادات التنظيم، مُرجح أنها تورطت في تسريب معلومات بطريقة غير مباشرة لعناصر في تنظيم (حراس الدين)»، موضحاً أن «المركز الإعلامي للتنظيم يعاني حالياً من عدم وجود اتصال مع باقي المراكز التابعة للتنظيم، ويعاني من حالة ارتباك شديدة».
وهدد المتحدث باسم التنظيم الجديد الولايات المتحدة، قائلاً: «لا تفرحوا بمقتل الشيخ البغدادي». وقال عبد المنعم: «يبدو أن (داعش) قرر عدم التعامل بالشكل التقليدي في التسجيلات والظهور المباشر لـ(القرشي)، مثلما كان يحدث مع البغدادي»، لافتاً إلى أن «عمليات (داعش) منذ تولي (القرشي) لم تشهد أي حراك، على عكس شهري أبريل وسبتمبر الماضيين، اللذين شهدا حراكاً، عقب بث تسجيلين: واحد مصور والآخر صوتي للبغدادي».
وكان أبو بكر البغدادي قد ذكر في سبتمبر (أيلول) الماضي أن «تنظيمه لا يزال موجوداً، رغم توسعه في البداية، ومن ثم الانكماش»، وأن ذلك يعد (اختباراً من الله)»، على حد زعمه.
وقال عمرو عبد المنعم إن «قنوات (داعش) واصلت بث أخبارها كالمعتاد، وأبرز ما نقلته هذه القنوات أخيراً إصدار مرئي جديد على شاكلة (صليل الصوارم)، بعنوان (لن يضروكم إلا أذى)، مدته 11 دقيقة، وفيه متحدث رئيسي مُقنع يتوعد بالثأر من عملية (التراب الأسود) التي أطلقتها القوات العراقية ضد (داعش) في سبتمبر (أيلول) الماضي. وفي نهاية الإصدار، ظهر مقاتلون ملثمون يبايعون الخليفة الجديد».
وبايع فرع «داعش» في الصومال «القرشي» في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، حيث نشر فرع التنظيم صوراً على موقع التواصل الاجتماعي «إنستغرام» لنحو 12 عنصراً يقفون بين الأشجار، وعليها تعليق يقول: «إنهم يعلنون مبايعة (القرشي)». كما بايع «ولاية سيناء»، الموالي لـ«داعش» في مصر، «القرشي»، ونشر في إصدار مرئي صوراً لمجموعة قال إنهم من العناصر التي بايعت «القرشي». ويشار إلى أنه ما زالت بعض أفرع تنظيم داعش حول العالم لم تعلن مبايعتها لـ«القرشي» حتى الآن، وفي مقدمتها «ولاية خراسان» في أفغانستان، و«ولاية غرب أفريقيا» (بوكو حرام سابقاً) في نيجيريا.
وحول وجود تغير في استراتيجية «داعش» في الفترة المقبلة، بالاعتماد على إخفاء شخصيات قادته، أكد الخبير الأصولي أحمد بان أن «هذه المرحلة ليست مرحلة الإمساك بالأرض من جديد، والسيطرة عليها، أو ما يسمى (الخلافة)، لكن مرحلة ترميم مجموعات التنظيم، وإعادة التموضع في ساحات جديدة، ومحاولة كسب ولاءات جماعات أخرى، قبل أن نصل إلى عنوان جديد، ربما يعكس ظهور تنظيم جديد، قد يكون أخطر من تنظيم (داعش). لكن في كل الأحوال، هيكلية (داعش) تغيرت، من مرحلة الدولة (المزعومة) إلى مرحلة (حروب النكاية) إلى مرحلة إعادة التنظيم والتموضع؛ وكل مرحلة تطرح الشكل المناسب لها. وفي هذه المرحلة (أي الآن)، أتصور أن التنظيم قد تشظى إلى مجموعات صغيرة، وأن هناك محاولة لكسب ولاء مجموعات جديدة في دول متعددة».
أما عمرو عبد المنعم، فقد لفت إلى أن «(داعش) فقد مركزية صناعة القرار الآن، وهناك عملية (انشطار) في المرحلة المقبلة للتنظيم، ولن يكرر التنظيم فكرة القيادة المركزية من جديد، لذلك لم يظهر (القرشي) على الإطلاق حتى الآن، لو كان له وجود حقيقي، وهذا على عكس ما كان يظهر به البغدادي، ويحث العناصر دائماً على الثبات والصبر»، محذراً في الوقت ذاته من «خطوة (حرب العصابات) التي قد يشنها التنظيم، وقتال الشوارع واستنزاف القوى الكبرى، وهي الاستراتيجية القديمة نفسها للتنظيم، مع زيادة العنصر (الانفرادي) الذي يعرف بـ(الذئاب المنفردة)».
وقال المراقبون إن «التنظيم تحول منذ سقوط بلدة الباغوز في مارس (آذار) الماضي، ونهاية (الخلافة المزعومة) بعد عدة سنوات من إرسائها، نحو اعتماد (نهج العصابات). وقاد البغدادي (داعش) بعد استيلائه على مناطق شاسعة في العراق وسوريا، قبل أن يتهاوى التنظيم خلال الأشهر الماضية نتيجة خسائره، وفرار عدد كبير من عناصره».