فك السحر عن العالم... أم عودة الدين إلى الحياة العامة؟

الدين والسياسة عند مارسيل غوشيه

المتطرفون استخدموا أسلحة العالم الحديثة للمحاربة ضد هذا العالم الحديث نفسه («الشرق الأوسط»)
المتطرفون استخدموا أسلحة العالم الحديثة للمحاربة ضد هذا العالم الحديث نفسه («الشرق الأوسط»)
TT

فك السحر عن العالم... أم عودة الدين إلى الحياة العامة؟

المتطرفون استخدموا أسلحة العالم الحديثة للمحاربة ضد هذا العالم الحديث نفسه («الشرق الأوسط»)
المتطرفون استخدموا أسلحة العالم الحديثة للمحاربة ضد هذا العالم الحديث نفسه («الشرق الأوسط»)

شكلت النظريات الأكاديمية للعلمانية خريطة فكرية للعقل الغربي الحديث، وما زالت تشكل نسقا مهما في علم السياسة وسوسيولوجيا الدين، وعلم الاجتماع السياسي المعاصر. واستطاعت مختلف الأطروحات المقدمة في هذا الإطار، الإبقاء على صلابتها النظرية بفعل كوكبة من الفلاسفة والمفكرين وعلماء السياسة الذين نظروا للعلمنة والمسار السياسي للدين في المجتمعات اليوم. ويعتبر مارسيل غوشيه واحدا من أبرز الفلاسفة الفرنسيين المعاصرين، الذين دافعوا في اتجاه تقوية التنظير المعرفي الإبستمولوجي للعلمنة؛ حيث التحق بنظرية «نزع السحر على العالم»، التي ابتكرها ماكس فييبر، وإن كانت لها أصول في فلسفة نتشه حول الدين.
كانت ازدواجية تخصص الفيلسوف الفرنسي مارسيل غوشيه في الفلسفة والتاريخ، وعمله البحثي مديرا للدراسات بالمدرسة العليا للأبحاث في العلوم الاجتماعية، مركز ريمون آرون للأبحاث السياسية، وراء اهتمامه الشديد بالاعتقادين الديني والسياسي، والعلاقة الرابطة بينهما. ولقد استهل بحثه في هذا المجال بالدفاع عن أطروحة «فك السحر عن العالم: التاريخ السياسي للدين» في كتاب صدر له عام (1985)، وبعده ناقش جدلية «الدين في الديمقراطية» (1998). لينتقل بعد ذلك لمناقشات للنظرية السياسية في مؤلفه «الشرط السياسي» (2005)، وأخيرا «من أجل فلسفة سياسية للتربية» (2013).
ينطلق غوشيه، وهو يناقش الدين في عالم الحداثة، وتشكلها وتأثيرها على مصير وديناميات الدين، من منطلق أساسي يعتبر فيه أن زمن الحداثة الغربية، خصوصا الأوروبية هو زمن الخروج من الدين. غير أن فيلسوفنا الفرنسي المتأثر بالمدرسة البنيوية، يقول إن «هناك أصلاً مسيحيًا للحداثة، ذلك ما أؤمن به حقًّا، لكن الأصل ليس بالضرورة أن يكون المدخل إلى بيان مقترحات الحداثة». ولذلك؛ فإن العلمنة عند غوشيه ليست آيديولوجية ولدت من رحم الحداثة السياسية، وليست تمثلات كوسموبوليتية لفيلسوف معزول عن الواقع الأوروبي وتطور مجتمعاته في زمن صراعات الأصولية، وعودة الدين للفضاء العام الغربي نفسه.

لا قطيعة مع الإيمان
وتبعا لذلك، يرى غوشيه أن أطروحة «نزع السحر على العالم» وتهميش الدين والتحَاكُم للماضي تعني الخروج من الدين. وأن عملية النزع، لا تمثل قطيعة مع الإيمان بالله، و«لا تعني أن الناس باتوا لا يؤمنون بالله.
فهم لم يكونوا أقوياء الإيمان به من قبل في كل الأحوال!... إن إحدى أولى المؤشرات الصارخة على الدخول في الحداثة بصفتها خروجًا من الدين هي الإصلاح البروتستانتي الذي وُلِدَ رد فعل على ما عرف بالإصلاح الكاثوليكي». ففي زمن الإصلاح هذا تراجعت بشكل قوي هيمنة الدين على البناء والتنظيم المجتمعي، وبدأ عصر الفرد باعتباره «بنية جديدة» في المجتمع الغربي الحديث.
ولهذا؛ يدقق غوشيه قصده من فكرة الخروج من الدين بالقول: «هو خروج عن التنظيم الديني للعالم. لهذا السبب لم نفهم المجتمعات القديمة، حيث إنها كانت منظّمة دينيًّا وكانت تحدّد في الوقت نفسه نوع السلطة السائدة فيها، ونوع العلاقة بين الأفراد وشكل المجموعات... هذا البنيان الكامل هو الذي راح يتفكّك شيئا فشيئًا في مجهود استغرق خمسة قرون وصولاً إلى عصرنا. بموازاة الإصلاح الديني، ثمة حدث يبرز على أنه معاصر تمامًا: هو ظهور السياسة الحديثة الذي ولّد على مدى قرن كامل مفهوم الدولة الحديث. يمكنك إذن أن ترى كيف أن مسارًا سياسيا ومسارًا دينيًّا يغيّران معطيات الإيمان بشكل كلي..».
في هذا السياق الخطي للتاريخ، احتلت السياسة الجغرافية التنظيمية، والمعرفية التي كان الدين يسكنها، ويستمد منها قوته في المجال العام، وتشكيل وعي الإنسان. ومن ثم تجدد الوعي الاجتماعي بالتغير الحاصل، ونُزع الطابع اللاهوتي عن مسار التاريخي، ومعه سقط وهم التبعية الدينية. وانتقل الفرد والمجتمع إلى عصر عرف تحولا كبيرا للآيديولوجيا بتعبيراتها الجذرية والمعتدلة، خلال الثلاثين سنة الماضية؛ مما أدى بدوره إلى إدخال الدين في عالم الاستقلالية الديمقراطية المعاصرة.
يمكن القول إذن، إن هذا الواقع هو تعبير عن دينامية فلسفية وتاريخية، انتقل الإنسان من خلالها من عصر التفكك الاجتماعي والفوضى الفكرية إلى عصر الاستقلالية الفردية.
وهكذا نجد أنفسنا في عصر يتجه فيه المعتقد الديني ألا يكون سياسيا، فيما يتجه المعتقد السياسي ألا يكون دينيا؛ وهذا يدخلنا في عصر جديد من تاريخ الإنسانية، يتميز بحسب أطروحة مارسيل غوشيه بأربع خصائص أساسية، يمكن إجمالها فيما يلي:
أولا: تراجع الدين في تكوين مؤسسات الدولة والمجتمع المعاصر.
ثانيا: خصخصة الدين، واحتلال البعد الفردي للدين مكانة الصدارة، أمام المعتقد الجماعي ودوره في الحياة العامة الأوروبية خاصة.
ثالثا: الفردانية الدينية، حيث أصبح الدين تفسيرا وممارسة، يخضع لنوع من التصور الفردي؛ بعيدا عن مفهوم الجماعة للدين الذي كان سائدا إلى حدود القرن التاسع عشر.
رابعا: الابتعاد عن الممارسة الدينية الكنسية، حيث ظهرت سلوكيات غير مؤسساتية للدين تؤمن بالنسبية الدينية، وتخرق النسق المعرفي الكنسي للدين. ويظهر ذلك في موجة الخروج الكبير عن نمط المنظومة الدينية، باعتبارها نسقا واحدا، وثابتا ولا يتحقق الإيمان إلا بالتبعية الدينية للكنيسة؛ إذ أثبتت الدراسات المتعددة في مختلف الدول الأوروبية، ازديادا مهما في نسبة المتدينين المخالفين للثقافة الدينية والسلوكية للكنيسة الكاثوليكية والبروتستانتية.

الأصوليون.. والعالم
غير أن هذا المسار التاريخي للدين والإيديولوجيات، لا يجب أن يفهم منه انهزام الدين في الواقع المعاصر.
فلا يزال المعتقد الديني يخط مساره دون أن يفقد مكانته الضمنية، في التفاعلات المجتمعية في زمن الحداثة والفردانية المُعلمنة. ومن المؤشرات القوية على ذلك عودة الدين للمجال العام بصيغ مختلفة؛ وكذلك ظهور موجات جديدة من الأصوليات الدينية المركبة، التي تختلف عن الدين التقليدي المعروف تاريخيا، من حيث المنطلقات المعرفية والأهداف السياسية للدين.
وهذا ما يشرحه غوشيه في حوار له مع الباحث ماتيو جيرو بالقولـ«ترى الأصوليين يستخدمون أسلحة العالم الحديث للمحاربة ضد هذا العالم الحديث نفسه.
وعند الاستيلاء على الأسلحة، نستولي كذلك على أنماط التفكير.... الأصوليون يدمّرون التديّن التقليدي الذي يزعمون أنهم يريدون استرجاعه. وهم بالفعل يُنظَر إليهم على هذا النحو. فكل من لديهم إيمان تقليدي حقيقي يكرهون الأصوليين ويعتبرونهم عدميين مجانين».
لكن عودة الدين في مجتمع الفردانية، وفي ظل الواقع المعقد للدولة الحديثة اليوم، يلعب لصالح الأصولية؛ فهذه الأخيرة تتمتع بنوع من الإغراء عند الجيل الجديد من الشباب الذي يعيش نزاعا بين الانتماء للذات الفردية والانتماء للجماعة المفككة بفعل الحداثة والعلمنة. هذا الوضع من الناحية السوسيولوجية يفسر انجذاب الشباب الفرنسي إلى الإرهاب تحت مظلة «داعش» ومقولاته عن «الجهاد» و«الخلافة».
ويقدم غوشيه طرحه التفسيري لهذه الإشكالية، بالانطلاق من وجود إيعاز اجتماعي جديد يدفع الفرد ويخاطبه بأن يكون «فردا».
لكن هناك واقعا أكثر تعقيدا مما نتصوره نظريا، يجعل من خيارات الاستقلالية الفردية عن الجماعة وتحقيق التطلعات أمر صعب؛ وتزداد الأمور صعوبة عن المهاجرين والشباب وغيرهم. «وفي هذا السياق، يمكن للأصولية الدينيّة أن تُغوي. إنها توفّر مدونة معايير يُلتزم بها، وجماعة يُرتبط بها، وتقليدا يُنخرط فيه، إلخ… أضف إلى ذلك، أن هؤلاء الشباب يعتبرون نذر أنفسهم لقضيتهم شيئا نبيلاً. إنهم يشعرون في أعماقهم بأنهم يتحولون إلى أشخاص جديرين بالتقدير، ويصبحون شخصيات معتبرة من خلال إنكار ذواتهم كأفراد وفقًا لمعاييرنا المعتادة».

الإرهاب والشباب
ولهذا؛ يجب التنبيه إلى الحل العملي لظاهرة الإرهاب في وسط الشباب، والذي يكمن في إيجاد سبل لتحقيق الفرد لذاته وسط مجتمع معقد التنظيم ومتعدد التفاعلات. فتحقيق الشباب لذواتهم كأفراد هي مسألة اجتماعية تواجه فرنسا، ولا بد من توفير وسائل تحقيق ذلك للجميع؛ و«هذا منوط بداية بالتفكير المتعمّق حول التعليم. فهذا ما تتوقّف عليه القدرة على الاستقلال الفردية. ولا يمكننا الاكتفاء بتوزيع بعض المال هنا وهناك، من خلال الدولة الاجتماعية، على هؤلاء الشّباب المهمش، ولا مندوحة من إيجاد حل لهذه المشكلة».
عموما يمكن القول إن أطروحة مارسيل غوشيه، تقدم مقاربة تاريخية وفلسفية نظرية لمسار الدين في الاجتماع الإنساني. وهي مقاربة وأطروحة ضمن أطروحات متضاربة، بعضها يعتبر الدين في تراجع مستمر، والبعض الآخر يستند إلى دراسات سوسيولوجية معاصرة تؤكد عودة الدين إلى المجال العام، وأنه أصبح يلعب دورا سياسيا في الدولة الحديثة، وفي العلاقات الدولية المعاصرة.
فعلى خلاف ما يطرحه غوشيه من تحليلات تزعم تراجع الدين في الحياة المعاصرة، يرى عالم الاجتماع الأشهر كليفورد غيرتز وكذلك طلال أسد، أن الدين لا يزال يلعب دورا مهما، من خلال قوة المسيحية المعاصر، سواءً من ناحية الرموز، أم من جهة النسق الاجتماعي والمعرفي الذي لا تزال قادرة على إنتاجه. ذلك أن عقلنة الفعل الاجتماعي، لم تتملص بالكامل من الثقافة الدينية، التي ظلت تسكن ضميره، رغم موجة العلمنة العاتية؛ لأن الدين انساق وراء السياقات القائمة وإعادة تشكيل ذاته.
في هذا السياق، يرى غيرتز أن الدائرة الدينية لها إمكانية تجسيد واقعية تمنحها لها الأنظمة الرمزية الدينية؛ ما يبقي الدين حيا في قضايا المجتمع الأساسية المتعلقة بالحق في الحياة وحقوق الإنسان، والحريات الفردية والعامة؛ وكل ذلك يجعل من الدين قضية سياسية، ومن السياسة تعبيرا عن تمثلات دينية أخلاقية في المجال العام للدولة الغربية المعاصرة.
* أستاذ العلوم السياسية
- جامعة محمد الخامس



ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.