مارتن بوبر وفلسفة الحوار

شغلته العلاقات التي يعيش من خلالها البشر

مارتن بوبر وفلسفة الحوار
TT

مارتن بوبر وفلسفة الحوار

مارتن بوبر وفلسفة الحوار

ماذا يعني أن تعيش في أوروبا إبان الحرب العالمية الأولى والثانية؟ بل ماذا يعني أن تكون يهوديا في تلك الفترة؟ بل، أيضا، ماذا يعني أن تكون يهوديا ألمانيا في تلك الفترة؟ حياة مارتن بوبر، المولود في 1878 والمتوفى عام 1965، يمكن أن تكون نموذجا للتفكير في تلك الأسئلة. بوبر، الفيلسوف الوجودي، اختار أن يكون الحوار جوابه عن الكوارث التي مرت بأوروبا وبالعالم في ذلك الوقت. في كتابه الشهير «أنا وأنت» (I and Thou)، أسس بوبر لفلسفة حوارية تقوم على اعتبار الحوار شكلا من أشكال الوجود الإنساني وليس فقط مجرد وسيلة للتواصل. سأخصص هذه المقالة لفلسفة بوبر الحوارية وربما نعود لاحقا لجوانب مهمة في حياته الفكرية.
على المستوى الميتافيزيقي، الإنسان كائن يوجد من خلال العلاقات. الإنسان دائما في علاقة وتلك العلاقة تشكل مفهوم ومعنى إنسانيته. من العلاقات الأولى الجوهرية في حياة الإنسان علاقته مع أمه في الطفولة، يتأمل بوبر مشهد طفل رضيع مستلق على ظهره بلا حول ولا قوة ينتظر حضور أمه. حضور أمه هنا ليس فقط حضورا لإنسان آخر في المشهد، بل حضور لشرط الحياة. حين تملأ الأم المكان تعود الحياة معها ويصبح للطفل مستقبل وأمل. كلنا هذا الطفل، ولكننا حين نكبر تصبح العلاقات التي نعيش بها أكثر تعقيدا، غير أننا في كل الأحوال مشروطون بهذه الطبيعة: إننا دائما في علاقة، وإنه لا حياة خارج تلك العلاقة. بناء على هذه المقدمة لطبيعة الوجود الإنساني، ينتقل بوبر إلى التأمل في نوع العلاقات التي يعيش من خلالها البشر. يرى بوبر أن هناك نوعين من العلاقات؛ أولا علاقة: «أنا - أنت» (I - Thou)، والعلاقة الثانية هي علاقة «أنا - هو» (I - It). علاقة أنا - هو تنشأ بين الإنسان والأشياء أو بين الإنسان وإنسان آخر. هذه العلاقة محدودة بغرض الاستعمال. بمعنى أن الطرف الآخر في هذه العلاقة ينظر له على أنه وسيلة لغاية معينة، وكل معنى يأخذه في هذه العلاقة إنما هو نابع من طبيعة الاستعمال هذه. مع الأشياء هذه العلاقة واضحة. مثلا علاقة الإنسان بسيارته هي علاقة استعمال. السيارة هنا هي وسيلة يستعملها الإنسان للتنقل والحركة. قد يشعر الإنسان بحب لسيارته وانتماء لها، ولكن هذا الحب وهذه العاطفة ناتجان عن كون هذه السيارة وسيلة نقل. هذا يعني أنه حين تتوقف هذه السيارة عن العمل كوسيلة نقل، فإن العلاقة معها تختلف وتنتهي في حال فشلت محاولات إصلاحها. علاقة أنا - هو، أو أنا - الشيء أيضا يمكن أن تنشأ بين البشر على أساس الاستعمال أيضا. العلاقة بين سائق التاكسي والمسافر هي علاقة تنشأ على هذا الأساس. المسافر أقام التواصل مع سائق التاكسي لغرض استعمالي وهو أن ينقله من منزله إلى المطار. السائق من جهته ينظر للمسافر على أنه زبون. هذه العلاقة هي علاقة أنا - هو حتى الآن، ولكنها تحمل في داخلها بذرة التحول إلى علاقة أنا - أنت. بمعنى أن المسافر وسائق التاكسي قد ينشأ بينهم حديث ينكشفون فيه على بعضهم لا كمسافر وسائق تاكسي بل كإنسان وإنسان. المسافر هنا يظهر لسائق التاكسي خارج علاقة الزبون إلى علاقة بشرية أوسع وأشمل. في المقابل، يبدأ سائق التاكسي للمسافر خارج علاقة التوصيل للمطار. يظهر كإنسان كامل له معنى وقيمة واعتبار متجاوزة كونه سائق تاكسي.
هنا تبدأ الفرصة لكل منهما بالتعرف على الطرف الآخر، وهنا فقط يمكن أن تنشأ علاقة الحوار. علاقة الحوار هي علاقة أنا - أنت بامتياز. في العلاقة الحوارية، يظهر كل طرف فيها ككل؛ أي كإنسان كامل لا يمكن رده إلى جانب واحد من جوانبه. كائن حر مختلف مستقل قادر على الظهور الكامل كما يرى الفرد أناه الكاملة. بحسب بوبر، فإن الأنا تختلف في العلاقتين. الأنا في العلاقة الأولى محدودة، لأنها لا ترى انعكاسها في الطرف الآخر. الطرف الآخر محجوب من خلال هذه العلاقة التي لا تدركه كإنسان كامل. علاقة التلقين في التعليم مثال على هذه العلاقة. الملقن لا يرى في الملقن إنسانا كاملا يستطيع الاستقلال بتفكيره. لا يراه سوى وسيلة يحقنها بالأفكار التي يؤمن بها. الآخر هنا ليس إلا مشروع تابع ومنفذ للأفكار المعدة سلفا. في المقابل، الأنا في العلاقة الحوارية لديها فرصة الظهور والتشكل والنمو داخل العلاقة المفتوحة بين الطرفين. الأنا هنا ترى ذاتها في الآخر الذي جرى إدراكه على أنه غاية في ذاته ومقابل نصل من خلاله لفهم ذواتنا أكثر. لذا، فإن الحوار هنا ينشأ في المسافة البينية، في المسافة الحرة التي تنشئها أطراف الحوار فيما بينها من دون هيمنة طرف على آخر. الحوار ها هو قرار والتزام وموقف من كل طرف للظهور الحقيقي مع الآخرين. مساحة الحوار البينية يهددها باستمرار تخلي أي من الأطراف عن آخريته من خلال الاندماج والتماهي مع الطرف الآخر. هنا، يتوقف الحوار لأننا أصبحنا مع ذات واحدة بنسختين. الحوار أيضا يهدده الظهور المزيف. أي إنه يظهر الفرد في الحوار ليعرض صورة غير حقيقية عن ذاته. هذا المظهر الزائف يعيق لقاء الذوات الحقيقية ويحجب إمكان الحوار أيضا. الحوار عند بوبر مغامرة غير معروفة النتائج، هي عملية إبداع يفاجئ الإنسان فيها نفسه. الحوار أيضا علاقة أمان شبيهة بعلاقة الطفل بأمه. الخوف يدمر الحوار لأنه يمنع ظهور الناس كما هم. لهذا، فإن عملية التأمين جزء من التزام كل طرف بالحوار مع الآخر.
الاستماع والصدق والصراحة والانفتاح كلها عوامل تأمين شديدة الأثر في أي علاقة، وتحديدا العلاقة الحوار. عند بوبر، حتى الحب بلا حوار يصبح علاقة شريرة. الحوار هو أعمق علاقة يحترم فيها الناس بعضهم. الحوار إعلان عن الحب والحرية في ذات الوقت.



إعلان القائمة الطويلة لجائزة بوكر

إعلان القائمة الطويلة لجائزة بوكر
TT

إعلان القائمة الطويلة لجائزة بوكر

إعلان القائمة الطويلة لجائزة بوكر

أعلنت لجنة الجائزة العالمية للرواية العربية (المعروفة بـ«البوكر العربية») صباح اليوم القائمة الطويلة لدورة عام 2026. وتم اختيار الـ16 المرشحة من بين 137 رواية، ضمن 4 روايات من مصر، و3 من الجزائر، و2 من لبنان، ورواية واحدة من السعودية، والعراق، والمغرب، وسوريا، واليمن، وتونس، وعمان. وتنوعت الموضوعات والرؤى التي عالجتها هذه الروايات كما جاء في بيان اللجنة، وهي:

«ماء العروس» للسوري خليل صويلح، و«خمس منازل لله وغرفة لجدتي» لليمني مروان الغفوري، و«الاختباء في عجلة الهامستر» للمصري عصام الزيات، و«منام القيلولة» للجزائري أمين الزاوي، و«عمة آل مشرق» لأميمة الخميس من السعودية، و«عزلة الكنجرو» لعبد السلام إبراهيم من مصر، و«أيام الفاطمي المقتول» للتونسي نزار شقرون، و«البيرق» للعُمانية شريفة التوبي، و«فوق رأسي سحابة» للكاتبة المصرية دعاء إبراهيم، و«في متاهات الأستاذ ف. ن.» للمغربي عبد المجيد سباطة، و«الرائي: رحلة دامو السومري» للعراقي ضياء جبيلي، و«غيبة مي» للبنانية نجوى بركات، و«أصل الأنواع» للمصري أحمد عبد اللطيف، و«حبل الجدة طوما» للجزائري عبد الوهاب عيساوي، و«الحياة ليست رواية» للبناني عبده وازن، و«أُغالب مجرى النهر» للجزائري سعيد خطيبي.

وستُعلَن القائمةُ القصيرة للجائزة في فبراير (شباط) المقبل، والرواية الفائزة في التاسع من أبريل (نيسان) 2026 في احتفالية تُقام في العاصمة الإماراتية أبوظبي.


متى ينتهي زمن الوصاية على الفنان العربي؟

من أعمال الفنان ثائر هلال
من أعمال الفنان ثائر هلال
TT

متى ينتهي زمن الوصاية على الفنان العربي؟

من أعمال الفنان ثائر هلال
من أعمال الفنان ثائر هلال

كان للسوري خالد سماوي مشروع رؤيوي مهم عبر، من خلال قاعته «أيام»، عن سعته في احتواء التجارب الفنية العربية، السورية منها بشكل خاص. ولقد سعدت حين رأيت ذات مرة معرضاً للفنان ثائر هلال في قاعة «أيام بلندن». ما فعله سماوي كان ريادياً من جهة أنه كان جديداً من نوعه. فلأول مرة هناك قاعة عربية تعرض لفنانين عرب وسط لندن. وفي دبي كانت له قاعة أيضاً. ولكن سماوي كان قبل ذلك قد فشل في فرض فكرته عن الاحتكار الفني المعمول به عالمياً يوم أصدر فنانون سوريون بياناً يتخلون من خلاله عن العلاقة بقاعته.

أتذكر منهم عيد الله مراد ويوسف عبد لكي وفادي يازجي وياسر صافي. السوريون يعرفون بضاعتهم أكثر منا. من جهتي كنت أتمنى أن ينجح خالد سماوي في مشروعه. فهو رجل طموح، ما كان لشغفه بالفن أن ينطفئ لولا جرثومة الوصاية التي تصيب أصحاب القاعات الفنية الناجحين في العالم العربي. في العالم هناك وصاية يمارسها صاحب قاعة على عدد من الرسامين الذين يتعامل معهم وهو ما يُسمى الاحتكار المحدود، غير أن ما يحدث في العالم العربي أن تلك الوصاية تتحول إلى وصاية وطنية شاملة. كأن يمارس شخص بعينه وصاية على الفن التشكيلي في العراق ويمارس آخر وصاية على الفن في لبنان وهكذا.

الخوف على المال

حين بدأ اهتمام المزادات العالمية بعد أن أقامت فروعاً لها في دبي بالنتاج الفني العربي، حرصت على أن تقدم ذلك النتاج بوصفه جزءاً من بضاعتها القادمة من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وليس من العالم العربي. ومن الطبيعي أن يكون لتلك المزادات خبراؤها الذين حتى وإن لم تكن لهم دراية فنية أو معرفة تاريخية بتحولات الحداثة الفنية في العالم العربي فإنهم كانوا على استعداد لصناعة تاريخ مجاور من أجل الترويج للبضاعة المعروضة. وبذلك صنعت المزادات إحداثيات زائفة، ذهب ضحيتها الكثير من رجال الأعمال العرب الذين لم يسمعوا بشيء اسمه النقد الفني، وهم لذلك لم يعدّوا ما يقوله نقاد الفن العرب مرجعاً يُعتد به. كانت كتيبات ومنشورات المزادات هي مرجعهم الوحيد الموثوق به. وإذا ما قلنا لهم اليوم «لا تصدقوا ما يقوله خبراء المزادات» فسيسخر الكثير من مقتني الأعمال الفنية منا، لا لشيء إلا لأن ذلك يؤثر على القيمة المادية للأعمال الفنية التي اقتنوها.

الأسوأ من ذلك أن الكثير من أصحاب القاعات الفنية في مختلف أنحاء العالم العربي صاروا يتحينون الفرص من أجل أن يتم عرض ما تكدس لديهم من أعمال فنية في تلك المزادات بسبب معرفتهم بحقيقة أن خبراءها لا خبرة لهم بالفن في العالم العربي وأن وصايتهم عليه مستلهمة من قوة المال لا من قوة الثقافة.

غياب سلطة النقد

لقد انتهى النقد الفني في العالم حين انتصر عليه المال. عبر أكثر من عشر سنوات لم تُعقد ندوات نقدية عن الفن في العالم العربي إلا بطريقة فقيرة بعيداً عن المراكز الحيوية التي كانت سوق الفن تحقق فيها نجاحاتها وأرباحها. لم يكن ذلك إلا انتصاراً لإرادة الخبراء الأجانب الذين نجحوا في العمل بعيداً عما يسببه نقاد الفن من صداع وإزعاج. في ذلك الفراغ تم تمرير الكثير من الأعمال المزورة كما تم إسباغ أهمية فنية على فنانين لا قيمة تاريخية أو فنية لأعمالهم.

قبل سنوات اتصلت بي سيدة نمساوية وطلبت اللقاء بي في أحد مقاهي لندن. حين التقيتها عرفت أنها اشترت مجموعة من الأعمال الورقية بنصف مليون درهم إماراتي رغبة منها في الاستثمار. حين رأيت تلك الأعمال اتضح لي أن تلك المرأة كانت ضحية لعملية استغفال، وأنها لن تتمكن من إعادة بيع ورقياتها لأنها لا قيمة لها. فجعت المرأة برأيي وكان واضحاً عليها أنها لم تصدقني. ذلك ما يفعله كل مقتني الأعمال الفنية العرب فهم لا يرغبون في أن يصدقوا أنهم كانوا ضحايا عمليات احتيال متقنة. في ظل غياب سلطة النقد الفني واختفاء النقاد أو اكتفاء بعضهم بالمتابعات الصحافية بعد أن أجبرتهم لقمة العيش على التحول إلى صحافيين، تستمر المزادات في تكريس سلطتها معتمدة على أموال المقتنين العرب.

محاولة لكسر الوصاية الأجنبية

وإذا ما تركنا المزادات وما يجري في كواليسها جانباً واتجهنا إلى أسواق الفن التي صارت تُقام سنوياً في مدن بعينها، فسنكتشف أن تلك الأسواق تُدار من قبل خبيرات أوروبيات. أصحاب القاعات الفنية العربية الذين شاركوا في العرض في تلك الأسواق يعرفون حقائق أكثر من الحقائق التي نعرفها ولكنهم لا يصرحون بها خشية على مصالحهم. ذلك لأن هناك شبكة من المنتفعين من تلك الأسواق في إمكانها أن تضر بهم أو هو ما يتوهمونه. ليس لأن المال جبان كما يُقال، بل لأن الإرادة ضعيفة. قيام سوق فنية عربية للفن هو الحل. ولكن ذلك الحل لن يكون ممكناً إلا بتضافر جهود أصحاب القاعات الفنية في العالم العربي. حقيقة أنا معجب بتجربة التعاون الحيوي والخلاق والنزيه بين غاليري مصر في القاهرة وغاليري إرم في الرياض. وفق معلوماتي، هذه هي المرة التي يتم فيها اختراق الحدود العربية بنتاج فني عربي. أجمل ما في الموضوع أن ذلك لا يتم من خلال فرض وصاية لا على الفن ولا على الفنانين. ليست الفكرة مدهشة فحسب، بل مفردات تنفيذها أيضاً. ذلك لأنها لا تقوم على تبادل ثقافي بين بلدين عربيين بقدر ما هي مساحة لعرض أعمال فنانين عرب بغض النظر عن هوياتهم الوطنية. ذلك التعاون مهم، كما أنه لا ينهي الوصاية الأجنبية على الفن في العالم العربي فحسب، بل أيضاً لأنه يمهد لولادة سوق نزيهة ومنصفة للفن.

حين حُول الفنانون إلى أجراء

في ظل غياب الملتقيات الفنية العربية نشط البعض في إقامة لقاءات فنية، غالباً ما تكون الجهات الراعية لها لا علاقة لها بالثقافة. فهي إما فنادق تسعى إلى الاستفادة من أوقات الكساد السياحي أو مصارف تقتطع الأموال التي تنفقها على النشاط الفني من الضرائب التي تدفعها. وهكذا ولدت ظاهرة اصطلح على تسميتها «السمبوزيوم». ذلك تعبير إغريقي يعني مأدبة الشرب من أجل المتعة مصحوباً بالموسيقى والرقص أو الحفلات أو المحادثة. ومن تجربتي الشخصية - وقد حضرت عدداً من تلك اللقاءات - فإن الأمر لا يخرج عن ذلك التوصيف إلا في منطقة واحدة، وهي أن القائمين على الـ«سمبوزيوم» كانوا يمارسون على الفنانين وصاية تجعلهم أشبه بالأجراء. لقد رأيت الرسامين والنحاتين يذهبون في ساعة محددة إلى العمل الذي لا ينتهون منه إلا في ساعة محددة. كان حدثاً فجائعياً أن يُطلب من الرسام أن يرسم ومن النحات أن ينحت.

كنت أشعر باليأس كلما رأيت تلك المشاهد. من الإنصاف القول هنا إن هناك مَن رفض أن ينضم إلى تلك الظاهرة حفظاً لكرامته. لذلك صار القيمون على تلك اللقاءات يتداولون فيما بينهم قوائم الفنانين الصالحين للوصاية. يشهد العالم لقاءات فنية شبيهة كل يوم. غير أنها لقاءات حرة فيها الكثير من البذخ، لا يشعر الفنان فيها بأن كرامته قد خُدشت وأنه صار أجيراً.


الإسباني لبينيتو بيريز غالدوس... البيروقراطي في متاهته

غالدوس
غالدوس
TT

الإسباني لبينيتو بيريز غالدوس... البيروقراطي في متاهته

غالدوس
غالدوس

رواية «مياو» لبينيتو بيريز غالدوس، التي صدرت في منتصف مسيرته المهنية، بترجمة مارغريت جول كوستا من الإسبانية، 302 صفحة، تصوّر معاناة موظف حكومي بيروقراطي مُسرّح من عمله.

كنت تعرّفتُ على روايات القرن التاسع عشر عندما كنتُ في الحادية عشرة من عمري، وأعيش مع عائلتي في مدريد. لكن القرن التاسع عشر الذي تعرّفتُ عليه لم يكن إسبانياً. وإذا كانت المكتبة الصغيرة للمدرسة البريطانية التي التحقتُ بها قد تضمّنت أعمالاً مترجمة لبينيتو بيريز غالدوس، فأنا لا أتذكرها، مع أن مدريد هي المدينة التي تدور فيها معظم رواياته. بدلاً من ذلك، كان هناك رفّ من روايات ديكنز، قرأتها بنهمٍ، وإن كان عشوائياً، ناسية حبكاتها وأنا أقرأها. كان غالدوس، الذي يصغر ديكنز بثلاثين عاماً قارئاً نهماً لأعمال الروائي الإنجليزي في شبابه، ويمكن ملاحظة تأثير ديكنز في شخصياته المتنوعة، وأنماطه المرسومة بشكل واسع، ومشاهده لقذارة المدن. ويشترك الكاتبان أيضاً في حماسة الإصلاح، مع أن شخصيات ديكنز في إنجلترا تُكافح التصنيع السريع، بينما في إسبانيا تُواجه شخصيات غالدوس عجز الحكومة وقوى رجعية راسخة.

غالدوس غير معروف في العالم الناطق باللغة الإنجليزية، وإن لم يكن ذلك بسبب قلة جهد المترجمين والناشرين.

عندما شرعت في كتابة هذه المراجعة، تخيلت أن عدداً قليلاً فقط من كتبه قد تُرجم، ولكن في الواقع، ظهرت نحو ثلاثين رواية باللغة الإنجليزية على مدار المائة وخمسين عاماً الماضية، نُشر العديد منها أكثر من مرة. هذه الروايات لم يبقَ منها إلا القليل، ومن المرجح أن يكون القراء المعاصرون الذين سبق لهم الاطلاع على أعمال جالدوس قد قرأوا إحدى الروايتين: «فورتوناتا وجاسينتا» (1887) أو «تريستانا» (1892)، اللتين تجذبان قراء مختلفين. «فورتوناتا وجاسينتا» رواية واقعية طموحة تُصعّد من حدة الأحداث، وتُعتبر عموماً أعظم رواية إسبانية في القرن التاسع عشر. وهي تروي قصة امرأتين على علاقة برجل واحد (غير جدير بالثقة)، بالإضافة إلى قصة مدينة مدريد، من مركزها النابض بالحياة إلى ضواحيها المتوسعة. أما «تريستانا»؛ فهي رواية أقصر وأكثر غرابة، وتدور حول فتاة يتيمة في التاسعة عشرة من عمرها يتبناها صديق لوالدها ويستغلها ببراعة. وكان لويس بونويل قد حوَّلها إلى فيلم سينمائي، وأصبحت من كلاسيكيات السينما. (قام بونويل أيضاً بتكييف روايتي غالدوس «نازارين» و«هالما»، والأخيرة بعنوان «فيريديانا»).

لم تُترجم روايتا «فورتوناتا» و«جاسينتا» إلى الإنجليزية حتى عام 1973، أي بعد نحو قرن من نشرها الأصلي. ربما يُعزى ذلك جزئياً إلى حجمها الضخم، لكن هذا التأخير يُشير إلى تدني مكانة إسبانيا في أدب القرن التاسع عشر - ففي نهاية المطاف، يُعتبر طول رواية مثل: «الحرب والسلام» أو «البؤساء» وسام فخر.

وقد يُشار أيضاً إلى ميل القراء المترجمين إلى توقع أن تُناسب الأدبيات الوطنية نمطاً مُعيناً - رومانسياً وتقليدياً في حالة إسبانيا القرن التاسع عشر. عند الأجيال السابقة، كانت رواية «دونيا بيرفكتا» أشهر رواية غالدوس بالإنجليزية، وهي عمل مبكر عن أم ريفية مُسيطرة تُحبط زواج ابنتها من ابن عمها الحضري. لغتها وحبكتها ميلودرامية، وأجواء قريتها أبسط من مدريد فورتوناتا وجاسينتا متعددة الطبقات. لكن موضوعها الأساسي - إسبانيا الحديثة الليبرالية في حرب مع قوى التقاليد المفسدة - حاضر في جميع أعماله الروائية.

تحت تأثير الكوميديا الإنسانية لبلزاك، شرع غالدوس في سبعينات القرن التاسع عشر في أولى روايتين ضخمتين، إحداهما تاريخية والأخرى اجتماعية. وفي هذه الأيام، تحول الاهتمام في إسبانيا إلى روايته التاريخية: «الحلقات الوطنية»، وهي غير متوفرة في الغالب باللغة الإنجليزية. كان هذا مشروعاً ضخماً: ست وأربعون رواية، نُشرت في خمس سلاسل على مدار مسيرته المهنية، تناول فيها تاريخ الصراع المستمر بين الملكيين الإسبان والليبراليين خلال القرن التاسع عشر.

* خدمة «نيويورك تايمز»