«مانشستر على البحر» يصطاد أولى جوائزه تمهيدًا للغزو الكبير

«الشرق الأوسط» في موسم الجوائز الأميركية 2: توجه فعلي لتقدير المزيد من الأفلام المستقلة

كايسي أفلك في «مانشستر على البحر».
كايسي أفلك في «مانشستر على البحر».
TT

«مانشستر على البحر» يصطاد أولى جوائزه تمهيدًا للغزو الكبير

كايسي أفلك في «مانشستر على البحر».
كايسي أفلك في «مانشستر على البحر».

قرار أكاديمية العلوم والفنون السينمائية الأميركية الذي اتخذته في أعقاب حفلة الأوسكار في فبراير (شباط) الماضي، بضم أكثر من مائة عضو جديد لها يعني أكثر من أي وقت مضى بأن هناك توجهًا فعليًا لتقدير واحتواء المزيد من الأفلام المستقلة.‬
هذا لأن العدد الغالب من الأعضاء الجدد، الذي تم استقبالهم لتنويع العنصر العرقي الأبيض الذي كان سائدًا بنسبة كبيرة، هم من جيل لا يكترث للمقومات ذاتها التي كان يكترث لها، وما زال، أبناء الأجيال السابقة من منتجين ومخرجين وكتاب وممثلين.
ليس أن ترشيحات الأوسكار في السنوات القريبة الماضية خلت من الأفلام الصغيرة التي تدخل عرين السباق جنبًا إلى جنب مع أفلام ضخمة أو من إنتاج وتمويل ستوديوهات كبيرة، بل سبق لعدة أفلام من هذا النوع، أن شاركت أو حتى ربحت كما كان الحال سنة 2010 عندما فاز فيلم كاثلين بيغلو «خزنة الألم» (The Hurt Locker) بأوسكار أفضل فيلم وهو من إنتاج منفرد شاركت فيه المخرجة لجانب الكاتب مارك بوال.
في الحقيقة يمكن اعتبار ذلك العام نموذجًا للصراع بين المستقل والمؤسس فالفيلم الفائز واجه «أفاتار» لجيمس كاميرون، أحد أكبر أفلام القرن الحالي والماضي وأعلاها نجاحًا. الأفلام الأخرى لم تخلُ أيضًا من أعمال مستقلة مثل «في الفضاء» Up in the Air لجاسون رايتمان و«تعليم» للون شرفينغ.

جمعيات مستقلة
في العام الماضي فاز «سبوتلايت» لتوم ماكارثي بالأوسكار في مواجهة أربعة أفلام من إنتاج الاستوديوهات الكبيرة وهي «المنبعث» لأليخاندرو إيناريتو و«جسر الجواسيس» لستيفن سبيلبرغ و«المريخي» لريدلي سكوت و«ماد ماكس: طريق الغضب» لجورج ميلر.
هذا العام، الأفلام غزيرة على الجانب المستقل والصغير أبرزها «أسد» لغارث ديفيز الذي نال تسعة جوائز متنوعة خلال هذه السنة من مهرجانات أوستن وشيكاغو ودنفر وسواها. و«حواجز» لدنزل واشنطن و«نساء القرن العشرين».
أيضًا من بينها «مانشستر على البحر» لكينيث لونرغان و«ضوء قمر» لباري جنكينز. هذان الفيلمان فازا بجائزتين كأفضل فيلم من المسابقات السنوية الأولى في هذا الموسم.
«مانشستر على البحر» حظي قبل أيام قليلة بجائزتين مهمتين هما جائزة «هوليوود فيلم أووردز» كأفضل كتابة سيناريو، وبجائزة أفضل فيلم من «ذا ناشنال بورد أوف ريفيو» (المجلس الوطني للنقد). أما «ضوء قمر» فنال جائزة جمعية «غوثام إنترناشيونال فيلم أووردز» النيويوركية وهي جمعية نقدية أخرى تختص بالأعمال المستقلة دون سواها وهي أنشئت سنة 2005 وكان فيلم «كابوتي» (من إخراج بَنِت ميلر عن حياة الكاتب ترومان كابوتي) أول فيلم يفوز بها.
لكن مؤسسة «ناشنال بورد أوف ريڤيو» (أو NBR كما هي معروفة) منحت أيضًا «ضوء قمر» جائزة هي جائزة أفضل مخرج كما جائزة أفضل ممثلة مساندة وفازت بها ناوومي هاريس. أما «مانشستر على البحر» فحصد، لجانب جائزة أفضل فيلم، جائزة أفضل ممثل (ذهبت إلى كايسي أفلك) وجائزة أفضل سيناريو غير مقتبس (نالها المخرج كينيث لونرغان) ثم جائزة أفضل ممثل صاعد (لوكاس هدجز).

خصائص المستقل
«مانشستر على البحر» دراما قام بإنتاجها وبطولتها كايسي أفلك، وتروي قصّة حياة رجل غير مرتبط بعلاقات أسرية يرث عن شقيقه المتوفى ابنه المراهق باتريك (لوكانس هدجز). كايسي ليس شخصًا تستطيع الاعتماد عليه. يعمل منظفًا في مدرسة ويفتعل «الخناقات» في الحانة ليلاً، والآن صار عليه احتواء ابن أخيه من دون أن يكون استعد لمثل هذه المهمّة المفاجئة. إذ يفعل، يقف على سطح جليد يتصدّع بسبب علاقات مقطوعة بينه وبين باقي أفراد الأسرة كما بينه وبين مطلقته (ميشيل ويليامز).
المادة حتى الآن كان يمكن لها أن تؤدي دورها الروائي في أي دراما من هذا النوع، لكن ما يميز شغل لونرغان في فيلمه الثالث، هو حسن تقديمه شخصيات مكثفة يصرف عليها ساعة الفيلم الأولى. الساعة الثانية تتوالى مع مشكلة هي قدر من الإطالة في السرد بحيث يصيب الضجر بعض المشاهد وإن لا يقضي على العمل ووحدته وجودة كل نواحيه الفنية بما فيها ما يمكن اعتباره أفضل تمثيل لكايسي أفلك (شقيق بن أفلك) وتعزيز لموهبة ميشيل ويليامز كإحدى أفضل المواهب في هذا القرن. وكان من المفترض قيام مات دامون بالدور الأول، لكنه اكتفى بإنتاج هذا الفيلم بسبب تضارب أعماله.
إنتاجيًا يندرج الفيلم تحت سياق السينما المستقلة بجدارة، رغم أن الاستقلالية لم تعد منوطة بالأفلام الفقيرة وحدها (ميزانية هذا الفيلم تجاوزت 15 مليون دولار) أو بتلك التي تغزل بصنارة الأسلوب الذاتي وسينما المؤلف أو سواها.
هناك المهرجانات الكبيرة المخصصة لها (صندانس لا يزال في مقدّمتها) وصالات العرض في كل المدن الرئيسية التي تعرضها دون سواها. حتى ستوديوهات هوليوود تقوم بتوزيعها طالما أن هناك احتمال تحقيقها رواجًا تجاريًا أو نقديًا مقبولاً. والواقع هو أنه على العكس تمامًا مما تعيشه السينما العربية من وضع، هناك صناعة كاملة تمنح السينما الأميركية المستقلة حضورًا محصّنًا ودائمًا. لكن كثرة تداول هذه الأفلام في مسابقات رئيسية مثل البافتا البريطاني والـ«غولدن غلوبز» والأوسكار الأميركيين قد يؤدي إلى مزاحمة الأفلام الجيدة من تلك الإنتاجات الكبيرة المناوئة. هذا سيتبدى مع الأيام المقبلة عندما يُطرح «مانشستر على البحر» و«ضوء قمر» أمام «صولي» لكلينت إيستوود أو «وصول» لدنيس فيلينييف.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)