كراسي البحث.. الحوار من جانب واحد

منها ما لم يحقق الهدف منه سواء بسوء الإدارة أو بعدم توفر الدعم الموعود

جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض تعد مع جامعة باريس الأولى السوربون في باريس كرسي حوار الحضارات ({الشرق الأوسط})
جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض تعد مع جامعة باريس الأولى السوربون في باريس كرسي حوار الحضارات ({الشرق الأوسط})
TT

كراسي البحث.. الحوار من جانب واحد

جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض تعد مع جامعة باريس الأولى السوربون في باريس كرسي حوار الحضارات ({الشرق الأوسط})
جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض تعد مع جامعة باريس الأولى السوربون في باريس كرسي حوار الحضارات ({الشرق الأوسط})

أشرت في مقالة سابقة إلى المؤتمر الذي عقد في باريس حول «التمثيلات المكانية للجزيرة العربية» تحت مظلة كرسي حوار الحضارات المدعوم من قبل جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض وجامعة باريس الأولى-السوربون بباريس، وأود هنا أن أدون بعض الملاحظات على طبيعة النشاط الذي يضطلع به الكرسي وما يشبهه من مناشط ذات طابع بحثي أو حواري تدعمه مؤسسات جامعية أو ثقافية أو غير ذلك.
المعروف أن الكراسي البحثية انتشرت في جامعاتنا السعودية على مدى العقد الماضي حتى أصبح من الصعب تعدادها ومعرفة تخصصاتها، والهدف من إنشائها كان دون شك تنشيط البحث العلمي في مختلف تلك التخصصات بتوفير الدعم والتنظيم اللازمين. غير أن ما أسمعه عن تلك الكراسي يوحي بأن منها ما لم يحقق الهدف منه سواء بسوء الإدارة أو بعدم توفر الدعم الموعود. ومن ناحية أخرى يبدو لي أن بعض تلك الكراسي تخدم أجندات غير علمية، أو غير مقنعة علميًا مثل كرسي للأخلاق في إحدى الجامعات، فمع التسليم بنبل الهدف يبقى السؤال حول علمية ذلك الهدف أو تماسكه من الناحية الفكرية والأكاديمية. والأقرب أن تتحول بعض تلك الكراسي إلى ممارسات إنشائية في الخطابة والكلام العام في شكل أوراق أو كتب لا تغني العلم بقدر ما تغني جيوب بعض الباحثين أو أدعياء البحث. الكراسي العلمية، أو ما يمكن تسميته طفرة الكراسي في الجامعات، يجب أن تخضع لمراجعة ومساءلة دقيقة وألا تترك الأمور تسير على عواهنها، مال يصرف وجهود تضيع أو توجه فقط من أجل المال.
لا يجب أن يوحي ما قلته بأنني أقصد به كرسي حوار الحضارات في السوربون، فلا شك أن تولي جامعة عريقة مثل الجامعة الفرنسية الشهيرة كفيل بإبقائه في حيز العمل الجاد. ولا شك أيضًا أن جامعة الإمام محمد بن سعود كانت وما تزال جادة في أن يحقق الكرسي المشار إليه أهدافه المتوخاة. ما قد يصدق على الكرسي أمر آخر يتصل ببعض الكراسي العلمية بشكل عام من حيث هي منصات للبحث أو أطر علمية تسمح للباحثين بالإنجاز ضمن سياق محدد.
إن مما يميز كرسي حوار الحضارات هو أنه كرسي مشترك بين جامعتين وهذا نادر الحدوث. الواقع أنني لا أعرف كرسيًا آخر مشتركًا بين جامعة سعودية وأخرى غير سعودية، وإن لم أستبعد وجود شيء من ذلك. غير أن ما استرعى انتباهي في نشاط الكرسي وهو يعمل تحت شعار الحوار أنه يجري الحوار من جانب واحد. كيف؟
المؤتمر الذي عقد في باريس كان حول الجزيرة العربية من حيث هي كيان جغرافي وإنساني جرى تمثله في عدد من النصوص التاريخية والجغرافية والأدبية والأنثروبولوجية. ولا شك أن في ذلك إثراء لمعرفة المختصين وغير المختصين، لكن لو طرحنا السؤال التالي: هل فكر الجانب السعودي من داعمي الكرسي أو من المشاركين فيه بندوة مقابلة، ندوة حول فرنسا، حول جانب من تاريخها أو ثقافتها أو جغرافيتها ليس بحد ذات ذلك التاريخ أو الثقافة أو الجغرافيا وإنما من حيث هو متصل بالثقافة العربية؟ هل يمكن تخيل ندوة حول عصر الأنوار (التنوير) وأعلامه وأثرهم على الثقافة العربية؟ هل يمكن تخيل ندوة حول «باريس في الثقافة العربية»؟
هذه موضوعات ليست بالصعبة وستجعل الحوار أكثر اكتمالاً، لأن موضوع البحث سيكون الآخر في اختلافه، الآخر في تأثيره على ثقافة مغايرة كالثقافة العربية. ولو أمعنا في التخيل لطرحنا فكرة أخرى: ماذا عن تأثير الثقافة العربية على فرنسا في عصر الترجمة، فرنسا عندما كانت بلاد الفرنجة، في العصور الوسطى حين كانت جامعاتها تدرّس الثقافة العربية إما بالعربية أو مترجمة إلى اللاتينية، فرنسا التي تبنت ابن رشد ودفع بعض مثقفيها ثمن ذلك بوصفه مروقًا عن الدين؟ ماذا عن عناية الفرنسيين بألف ليلة وليلة؟ أو ماذا عن الدراسات العربية في الجامعات الفرنسية؟
ما يستثيره هذا اللون من الطرح هو الضعف الذي توليه جامعاتنا للثقافات الأخرى إما نتيجة الإهمال أو نتيجة التخوف، ولعل السبب الأخير هو الأقوى، فإن اقتنع فرد أو اقتنعت مجموعة بأهمية ذلك الطرح جاءت الخشية من ردود الفعل. فلو تساءلنا مثلاً: كم عدد السعوديين المتخصصين في الأدب الفرنسي؟ أو كم عدد السعوديين المتخصصين في تاريخ فرنسا أو أوروبا إجمالاً؟ ولو توسعنا قليلاً فسيأخذ السؤال الشكل التالي: كم عدد مراكز الدراسات المتخصصة في الدراسات الغربية؟ في أميركا أو أوروبا؟ سنجد عددًا محدودًا جدًا، اثنين أو ثلاثة بالكثير، وأنا قريب من هذا المجال لأستطيع الإجابة بالكثير من الثقة. إن الغرب، كما يعلم الجميع، يدرس الإسلام وفيه مختصون في الدراسات الإسلامية ربما فاق عددهم عدد المختصين في بعض البلاد الإسلامية، والأهم من ذلك أن نتاجهم يفوق نتاج مقابليهم في العالم الإسلامي، يفوقه ليس من حيث الكم بالضرورة وإنما من حيث النوع والكيف والمستوى.
لكن السؤال الذي يجب طرحه هنا: هل لدينا مختصون بالدراسات المسيحية؟ أحد يعرف الأديان الأخرى: المسيحية واليهودية والبوذية وغيرها؟ هل لدينا مختصون في تاريخ العلمانية والليبرالية؟ نعم لدينا من يعرف مثالب تلك الأديان والفلسفات وأنها محرفة أو منحرفة، أي يعرفها معرفة مسبقة تجعل دراستها والبحث فيها غير ضرورية لأنها «معروفة». هذا مع أننا إذا كنا نريد معرفة الآخر حقًا لنحاوره ونبرز له ما لديننا وتراثنا من قيمة ونكون في ذلك مقنعين، فمن الضروري أن نبدأ بمعرفته هو معرفة تسعى للتجرد قدر الإمكان. إن معرفة الآخر ومحاورته، بتعبير آخر، تقتضي معرفة أديانه وفلسفاته وتياراته المؤثرة وليس الحكم المسبق على ذلك كله.
في المؤتمر المقام حول الجزيرة العربية في باريس تحدث مدير جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في كلمته الافتتاحية عن «حرية الأديان» وأهمية ذلك، ولا شك أنه رسم بمفهوم الحرية ذاك منطلقًا جيدًا للحوار مع الآخر يقنع الفرنسيين وغيرهم بأن الإسلام ليس حربًا على الأديان الأخرى وإنما يطرح نفسه بديلاً عظيمًا لمن أراد الهدى دونما قسر. من دون ذلك التأسيس لا يمكن لحوار أن ينشأ وإلا لصار شيئا آخر غير الحوار. غير أن للحوار، كما أشرت، أبعادًا معرفية أخرى غير البعد العقدي، بعدًا يتجه إلى ما لدى الآخر من نتاج فكري وعلمي وأدبي نحتاج إلى معرفته عن قرب وأن يكون بيننا مختصون فيه قادرون على جعل الحوار حوارًا، أي من طرفين وعلى مستوى ثقافتين أو أكثر. ومن هذا المنطلق أتمنى أن أرى في جامعاتنا كرسيًا للدراسات الأوروبية والدراسات الأميركية والدراسات الصينية والدراسات الروسية وكراسي لدراسة الأديان الأخرى، كراسي تكون معبرًا لمعرفة ما تزال ضئيلة في بيئاتنا الثقافية وتحتاج إلى الكثير من الدعم لتنمو وتزدهر.



طعم الجبل

طعم الجبل
TT

طعم الجبل

طعم الجبل

تفتّش في القاموس عن فحوى كلمة «جليل»، وتظهر لك المعاني: «العظيم، الخطير، المهمّ...».. ويمكن أيضاً أن يكون «المخيف، الخارق، البالغ»، كما أنّه «ما جاوز الحدّ من نواحي الفنّ والأخلاق والفكر». أستطيعُ أن أدلي هنا بدلوي وأقول إنّ «الجليل» هو ما يلزمنا الحديث عنه أوّلاً بلغة الشّعر، أي الخيال. فعندما نتحدّث عن «البحر» أو «الخير الأسمى» أو «الشّيطان» بكلام عاديّ، فإنّ صفة الجلالة تنتفي، ويتولّد لدينا شعور باللاّمبالاة.

«لو مرّت يوميّاً خلال ألف سنة ريشة طاووس على جبل غرانيتيّ، فإنّ هذا الجبل سيُحتّ، ويختفي». وإن كان قائلُ هذا الكلام بوذا، إلّا أنّ التأمّل في معناه يُزيح عن الجبل صفة الجلالة، حتماً. هناك فجوات مظلمة فيما هو جليل في كوننا، حتّى إنّه يمكن أن نعيش فقط لكشفها، ويكون عندها لحياتنا مغزى تنتقل إليه سِمة الجلالة. يقول نيتشه: «على مَن ابتكر أمراً عظيماً أن يحياه».

جاء في يوميّات شاعر يابانيّ: «يرتجي الغرب غزو الجبل. يرتجي الشّرق تأمّل الجبل، وأنا أرتجي طعمَ الجبل». وهذا عنوان كتاب للشّاعر، والأمر ليس غريباً تماماً عن الطبيعة البشريّة، فنحن نتعرّف في سنين الطّفولة على الكون بواسطة اللّسان. أي شيء تصل إليه يد الطّفل يضعه مباشرة في فمه، وهذه الخطوة تؤدّي إلى اتّصاله بالشّيء بواسطة جسده كلّه. اختار الطّفل هذا العضو وهذه الحاسّة لأنّها الأقرب إليه والأسهل، مثلما يفعل العشّاق الذين يبدأون الحبّ بالتقبيل بشغف لا يشبهه شغف، ثمّ يصبح بعد ذلك كلّ فعل وحديث بين الاثنين مبقّعاً بهذا الفعل، الذي يعني المعرفة الحميمة والعميقة لكلا الجسدَين والقلبَين.

ورغم أنّ الجبل يُعدّ من الجماد، فإن نسغَ الحياة فيه قوي، وهو يشمخ على صفحة السّماء. هل جرّبتَ الشّعور بالسّكينة والسّعادة وأنت تتجوّل على سفح الجبل قاصداً القمّة، عند السَّحر؟ ما إن يطلع عليك ضوء الفجر الأزرق حتّى تجدَ أن بصرك صار حديداً. حدث هذا الأمر معي كحُلُم غريب؛ كنت أنظر من خلال عدستين طبيتين أثناء صعودي السّفح، وأخذت رعشة بيضاء تهزّ قلبي عندما اكتشفتُ، في بريق الشّمس الطّالعة، أن لا حاجة لي بهما، وأنّه بإمكاني متابعة النّسر الحائم في السّماء البعيدة. كان الفجر ينشر سناه، وراح الطّائر يتأرجح، ثم حلّق في دائرة كبيرة وصعد بعد ذلك عالياً موغلاً في السّماء القصيّة. ها هي صورة تعجز عن إيفائها حقّها من الوصف حتّى في ألف عام، العبارة لشاعر ألمانيا غوته، وفيها تعريف ثانٍ للجليل. في خاصرة جبل «زاوا»؛ حيث كنتُ أتجوّل، ثمة مرتفع صخري شاهق، وفي الأسفل ترتمي مدينة دهوك، مبانيها تبدو متآكلة محتوتة بفعل الرّياح والشّمس، والنّاس في الشّوارع كنقاط من النّمل. أخذ الطّريق يصعد وينحدر، وهبط النّسر في طيران هادئ راسماً بجناحيه دائرة واسعة، ثم حطّ على صخرة قريبة واسعة رماديّة اللّون، وبرق قلبي وأحسستُ أنّي أعيش حياة حارّة في حضرة كائن حي مبجّل، وتوهمتُ النّسرَ في سكونه المقدّس جبلاً، يتقاطع ظلّه المجنون مع ظلّ الصّخرة.

ورد ذكر «الجبل» بجوار «الطّير» في الكتاب المنزّل في ثلاث سور: «ص»: «إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ. وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ۖ كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ»، و(الأنبياء): «وسخّرنا مع داود الجبال يسبّحْنَ وَالطَّيرَ وكُنَّا فاعلين»، و(سبأ): «ولقد آتينا داود منّا فضلاً يا جبال أوّبي معه والطّيرَ وألَنّا لهُ الحديد». من يقرأ هذه الآيات أو يسمع تلاوتها، فإنّه يشكّ في أنّ حياته مجرّد حلم يخطف مثل طائر على قاع أو سفح أو قمّة الجبل، طالت سنينُه أم قصُرت.

تشبيه آخر يكون الجبلُ فيه حاضراً، والمقصود به حياتنا الفانية:

«ظِلّ الجبلِ جبلٌ أقلُّ/ أخفُّ/ أسهلُ/ في لحظة/ يُفردُ جناحيهِ/ يطيرُ».

الاستعارة هنا قريبة، فظلّ الجبل هو الطّائر الذي يحلّق سريعاً عند انقضاء النّهار، كناية عن الأجل. لكنّ أنهار الشّعر تجري في كلّ مكان، وليس بالضرورة أنها تصبّ في بعضها بعضاً. للشّاعر ليف أنينيسكي قصيدة تردُ فيها هذه الصّورة: «الطّريق مضاءة بليلها وجبالها»، صار الجبل مصدراً للضّياء، والعلاقة باتت أكثر تطوّراً وتعقيداً، وكلّما بعدت الاستعارة ازدادت كفاءة الشّاعر. من المعروف أن أنينيسكي هو شاعر روسي عاش في الحقبة السّوفياتيّة، وثمّة رمزيّة دينيّة مسيحيّة تظهر في هذا البيت مصوّرة، ومختزلة بشبح الجبل في الظّلام. لا توجد أشجار ولا يوجد نبات يعيش على السّفح، البعيد تماماً عمّا يُسمّى بحرائق الألوان، فما مصدر الضّوء، والدّنيا ظلام لأنّ اللّيل أدلهمّ، اللّيل الذي لا يُريد أن ينتهي؟ لكنّه انجلى على يد غورباتشوف، وعاد الإيمان لدى الرّوس بقوّة. عندما قرأتُ شعر أنينيسكي، كان الوقتُ ليلاً، وبقيتُ أتأمّل المشهد في السّرير وانعكاس الجبل في الظّلمة الدّاكنة راح يهدهدني، ثم غرقتُ في النّوم، وكان رُقادي عذباً إلى درجة أن صدى قهقهاتي في أثناء حلمي السّعيد لا يزال محفوراً في ذاكرتي. حتّى الآن لا أعرف لماذا كنتُ متنعّماً في نومي إلى هذه الدّرجة، وهذه فائدة ثانية نحصل عليها من رفقة الجبل، وإن كانت بواسطة كتاب.

في مدينة دهوك، في كردستان العراق؛ حيث تكثر الجبال وتكون قريبة، لم أعثر على دوّارة واحدة للحمام الدّاجن فوق سطوح المباني في المدينة. دامت زيارتي خمسة أيّام، لم أرَ فيها غير أسراب الطيور تدور حول قمّة الجبل، تشقّ بأجنحتها الفضاء السّاكن، وتنتزع نفسها من الهواء إلى هواء أعلى، وتبدو كأنّها تصطبغ بالأزرق في السّماء الصّافية. هناك جرعة من حاجة الإنسان إلى الطّير يشغلها الجبل، وكأنّ هناك لوحة في صدور محترفي تربية الطّيور خُطّ عليها: «إذا كانت في مدينتك جبال، فلا حاجة إلى أن يعيش الطّير في بيتك». لا شكّ في أنّ الغد في دهوك سيكون حتماً كاليوم، اليوم الذي يشبه الأمس، ويشبه كلّ الأيّام. سربٌ من الحمائم يدور حول الجبل في النّهار، ولمّا يجنّ اللّيل تبدو قمّته مهدّدة في الظلام، وتبقى أشباح الطيور دائرة حولها، تحرسها من الفناء. جاء في سورة الإسراء - آية 13: « وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ». يحرس الطّيرُ الجبالَ العالية، ويحرس الإنسان أيضاً من الموت؛ الجبل هو انعكاس للإنسان، ونقيض له أيضاً؛ فهو لم يكن يوماً ضعيفاً وعاطفيّاً، ولا تهزّه مشاعر السرور والألم.

بالإضافة إلى حدّ البصر والنوم الرغيد، تمنحنا رفقة الطّور إحساساً عميقاً بإرادة الحياة وقوّة الأمل، مع شعور بشدّة الشّكيمة، لأنه مكتمل ولا تشوبه شائبة، كما أنه عظيم إلى درجة أن أضخم مخلوقات البرّ والبحر، أي الديناصور والحوت، تبدو بالمقارنة تافهة الحجم والصورة. المنفعة الرابعة التي تحصل عليها بعد زيارتك شعفة الجبل، أنك تشعر بالطّهارة من الإثم، كما لو أنّك أدّيتَ طقساً دينيّاً. ثم يهبط المرء على السفح شديد الانحدار، شاعراً بضالته تحت الثقل السابغ والمدوّخ لواجهة الجبل السوداء، ويكون عندها بحالة من الطّفو في تلك المنطقة بين السير على الأرض والتحليق في الهواء. عندما تحطّ قدم المرء على الأرض، يكون ممتلئاً تيهاً، لأنه صار يشعر بنفسه بريئة من كلّ وزر، ومنيعة وأكثر أبديّة من الجبل ذاته.

ولكن أين تذهب الطيور الميّتة؟ نادراً ما يعثر أحدنا في الطريق على عصفور أو حمامة ميّتة. إنها تولد بالآلاف كلّ يوم، وتقضي بالآلاف أيضاً. فما مصيرها؟ سألتُ نفسي هذا السؤال، وبحثتُ في المصادر والمراجع، وليس هناك جواب. البعض يقول يأكلها النّمل أو القطط والقوارض، وهذا جواب غير مقنع البتّة. هل تدّخر عظامَ مختلف أنواع الطير قاعدة الجبل، لتمنحه القوّة والقدرة على التحليق، شاهقاً في أعالي السماء؟

المنفعة الخامسة للجبل شعريّة خالصة ولا يتمكّن منها إلا من كان ذا حظّ عظيم، ويمتلك عيناً ترى كلّ شيء. بعد هيام طويل بجبال الجزائر سوف يجد سعدي يوسف نفسه يفتّش عن النساء العاشقات، وهو ينظر من خلال الجبل:

«في الصّيف تبقى المدينة، ظُهرا، بلا عاشقاتْ/ كان ينظرُ عَبرَ الشّجرْ/ وغصونِ الشجرْ/ والسنابلْ/ كان ينظرُ عبرَ الجبال».

القصيدة هي «تسجيل» من ديوان «نهايات الشّمال الأفريقي»، ومكان الجبال في نهاية المقطع لا تبرّره دوافع منطقيّة، وإنما بواعث شعريّة. هناك إسقاطات أو تمثّلات لما ورد في الكتاب عن تشبيه الجبال بالسحاب والسراب: سورة النمل: «وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ»، والنبأ: «وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا». إن جوهر الهويّة الشعرية تشكّله قدرة الشاعر على استعمال الكلمات كطلاسم وحقائق على حدّ سواء. الجبل الذي يُحيلهُ البارئ إلى سحاب وسراب بات في نظر الشاعر حصناً (أو مدفناً!) للنساء العاشقات، ملاذاً لهنّ مِن «شقق نصف مفروشة»، ومِن «تبغ أسود في ضفاف النّبيذ»، في أيام «العطل غير مدفوعة الأجر».

في الصفحات الأخيرة من رواية «مائة عام من العزلة»، يقوم العاشقان أورليانو بوينيديا وآمارانتا أورسولا، في ساعة شبق ملعونة، بدهن جسديهما بمربّى المشمش، ثم يروحان «يلتهمان» أحدهما الآخر «معرفيّاً» بواسطة اللسان. عنوان المجموعة الشّعرية «طعم الجبل» دليل يؤكد فيه الشاعر الياباني على جلالة الطّور، لأنه ليس هناك مخلوق يستطيع التعرف على الجبل بواسطة طعمه، وهذا تعريف ثالث لما هو جليل في كوننا.