«داعش» و«القاعدة» ما بين الهوية والمستقبل

المتغيرات الشرق أوسطية ترسم خطيهما البيانيين

صراع في تنظيم القاعدة على استقطاب المجندين والمؤيدين («الشرق الاوسط»)
صراع في تنظيم القاعدة على استقطاب المجندين والمؤيدين («الشرق الاوسط»)
TT

«داعش» و«القاعدة» ما بين الهوية والمستقبل

صراع في تنظيم القاعدة على استقطاب المجندين والمؤيدين («الشرق الاوسط»)
صراع في تنظيم القاعدة على استقطاب المجندين والمؤيدين («الشرق الاوسط»)

لا يختلف المتابعون على أن تنظيم داعش الإرهابي المتطرف سرق الأضواء من تنظيم القاعدة، الذي خرج منه وانفصل عنه. ومن ثم تمكن من تكثيف حضوره القوي على الساحة الدولية، بصفته تنظيما وحشيا عنيفا وسّع نفوذه جغرافيًا، واكتسب أتباعًا ومؤيدين في بقاع مختلفة. إلا أن مؤشرات عدة تشير إلى تراجع قوة «داعش» نتيجة الضربات الموجهة إليه، ولا سيما في العراق وسوريا، والتصاعد التدريجي الاستراتيجي لـ«القاعدة» من جديد. ومردّ ذلك إلى تسرّع «داعش» وممارساته الموغلة في التوحش وابتعاده عن الاستراتيجيات التي من شأنها كسب مؤيدين على المدى البعيد. وحقًا، فإن الفوارق واضحة بين التنظيمين من حيث التخطيط والأهداف والهيكلة التنظيمية.
نظرًا لكون تنظيم القاعدة استهل نشاطاته الإرهابية منذ عقد التسعينات من القرن الماضي، سابقًا من الناحية الزمنية التنظيمات المتطرفة الأخرى التي نشطت خلال السنوات الأخيرة، فإن ذلك يفسر بداياته التقليدية في التواصل مع العالم.
«القاعدة» بدأ تواصله بنشر رسائل كتبها أبرز قادته، قبل أن يتدرّج إلى تسجيلات صوتية، ثم أخرى مرئية تركز غالبيتها على خطب للقادة ما يعبّر عن التوجه المركزي للتنظيم، الذي يجعل من القيادات أمرًا مهمًا جوهريًا، ويجعل كذلك للتنظيم بُنية هرمية، وبالأخصّ، إبان فترة قيادة أسامة بن لادن له (قتل في مايو (أيار) 2011 في بلدة آبوت آباد الباكستانية). وظهور بن لادن الدائم في مقاطع بث مرئي تعكس جاذبيته وقدرته على إقناع الآخرين بما يؤمن به بهدوء وسكينة تامة؛ الأمر الذي دفعه إلى أن يصبح أشبه بظاهرة، وباتت متابعته بالنسبة لأتباعه ومريديه والتطلع لخطاباته المقبلة، سواء في العالم العربي أو الغرب، أشبه بالهوس. وكما هو معروف، بدأ الالتفات الإعلامي إلى بن لادن عبر الإعلام التقليدي الغربي، وواصل الحرص على الظهور الإعلامي العالمي إلى أن توقف عن ذلك، ليكتفي فيما بعد في نقل رسائله عبر قناة إخبارية خليجية نقلت صوته إلى العالم وترجمت خطاباته إلى اللغة الإنجليزية.
* الاستراتيجية الإعلامية
منذ تلك المرحلة لم يظهر تغيير كبير في استراتيجية «القاعدة» الإعلامية؛ إذ لا تزال مقاطع البث المرئي تركز على قادتها، ويظهر أيمن الظواهري، القيادي الذي خلف بن لادن في سدة القيادة، من وقتٍ إلى آخر في مقاطع يثبت فيها وجوده أو يتطرق إلى موضوعات مهمة، منها تكراره إدانة ممارسات «داعش» ورفضه الاعتراف بشرعيته واعتباره تنظيمًا متطرفاَ.
ويأتي امتدادًا للاستراتيجية ذاتها الظهور المفاجئ لحمزة بن لادن، نجل مؤسس «القاعدة»، يوم 9 مايو 2016 في كلمة صوتية تظهر محاولته استخدام النسق نفسه الذي كان يستخدمه والده في التواصل مع الآخرين، وتجاهل التقدم التقني في الآونة الأخيرة، وكأنه بذلك يحذو حذو والده في استخدام التسجيلات الصوتية والمرئية التقليدية، والاستمرار في نقل أهدافه.
وإلى جانب ما يقال بأن ظهوره نتيجة لرغبته في الثأر لوالده، فإن خطابه سعى إلى التحريض ضد المملكة العربية السعودية، والحث على الانضمام إلى «تنظيم القاعدة في اليمن». وهو امتداد لحرص «القاعدة» على أدلجة الدين، واستهداف الغرب وأميركا بالتحديد كونها العدو الأهم، ومحاولة الإطاحة بمصالح الغرب حتى وإن كانت في دول عربية كما حدث في استهدافهم للسعودية. وفي ذلك أيضا سعي لاستقطاب المتطرفين ممن يتعاطف معهم لأهداف دينية وسياسية، وإن تظهر «القاعدة» أكثر نخبوية بوضعها شروطًا لانضمام المقاتلين والتأكد من ولائهم، وإخضاعهم لتدريبات عسكرية قاسية. وأما التواصل فيجري عبر منتديات خاصة كـ«الإخلاص» و«الفردوس» و«الفرقان»، ومجلات إلكترونية كـ«صوت الجهاد» و«البتار» و«ذروة السنام»، ولا يتيسر الوصول إلى رسائلها الإعلامية إلا عبر الانضمام إلى المنتديات، التي تحوي مقاطع بث مرئي تدريبية، مثل كيفية تصنيع المتفجرات أو حتى استخدام الأسلحة، وأخرى ترويجية كاستعراض المعسكرات التدريبية أو عمليات اختطاف وقتل «الأجانب الكفار»، كل ذلك عبر منتديات مغلقة.
* سياسة «داعش» الشعبوية
استراتيجيات «داعش» الإعلامية تختلف تمامًا عن كل هذا؛ فهي أكثر شعبوية وتعمل بتواصل جماهيري أكبر، من دون اكتراث للظهور الإعلامي لقادتها. فشخصية «أبو بكر البغدادي» زعيم التنظيم، يكتنفها الغموض، وهو لا يظهر إلا نادرًا متشحًا السواد.
ولقد تجاهل التنظيم المتطرف الإعلام التقليدي، وربما يكون ذلك نتيجة ظهوره في الفترة التي انحسر فيها الدور الإعلامي التقليدي وبزغ فيها نجم وسائل التواصل الإلكتروني. وبالتالي، تفوق على التنظيمات المتطرفة الأخرى باستغلاله مختلف تلك المواقع بدءًا بـ«تويتر» و«فيسبوك»، وانتهاء برسائل مشفرة عبر برامج التطبيق الذكية مثل «كيك» و«تيليغرام». هذا، ما أتاح للتنظيم التواصل عن بعد لكل بقاع العالم بأسهل وأسرع وأوفر الطرق، ليس فقط في العالم العربي، بل وحتى الغربي باستخدامه رسائل إعلامية مختلفة حسب الجهة المستهدفة وبلغات متعددة، ومن ثم، أسبغ على «داعش» القدرة على تجنيد عدد كبير من المتعاطفين ممن لديهم الاستعداد للقيام بعمليات إرهابية، سواء عبر انضمام فعلي وتسلل إلى مقرهم أو إعانة آخرين على التخطيط لهجمات أو حتى أشخاص منفردين فيما يطلق عليهم مسمى «الذئاب المنفردة».
ويظهر جليًا عبر الكثير من قصص المنضمين إلى صفوفهم التركيز على النواحي النفسية، كوجود أشخاص يشعرون بالتأزم النفسي والرغبة في الانضمام إلى جماعة تشعرهم بأهميتهم، أو كالمسلمين الذين يعيشون في الغرب ويشعرون بعنصرية الآخرين تجاههم، وإعطائهم تصورًا بوجود بيئة تحتضنهم دون الشعور بتعجب بممارسة الشعائر الدينية... وإن تسبب ذلك التصور المغلوط بأن يفاجأ بعض الأعضاء باختلاف الصورة الحقيقية عن كل ما سبق إقناعهم به.
هذا الأمر بالذات الذي دفع بالبعض إلى التراجع عن قرار الانضمام، ولقد ظهرت للملأ الكثير من هذه القصص؛ ما يدل على اكتفاء «داعش» بالاستقطاب الأولي، ومن ثم إذعان الآخرين لواقع التنظيم الشرس.
إذ تبدأ الرسائل الموجهة إلى شخص مستهدف بالترغيب والإغراء، ومن ثم تبدأ الرسائل بإظهار عنف شديد وممارسة للقتل الجماعي، بصورة بشعة وبتكثيف، لإرسال تلك المقاطع بعد أن شعر المستهدف برغبة فعلية في الانضمام. وتنجح مثل هذه الرسائل بشكل خاص في استقطاب أشخاص مرضى يشعرون بالجذل لمشاهد العنف، وتكون لديهم رغبة المغامرة، وممارسة القتل والسلطة المطلقة. ولذا؛ فإن الأماكن التي تندرج تحت حكم «داعش» تعد أشبه بملاذ تتحقق فيه تحقيق أحلام الشخصيات المنبوذة في مجتمعاتها.
* الهيكلية التنظيمية «داعش» و«القاعدة»
في بداية حقبة «القاعدة»، حين كانت أكثر قوة وتنظيمًا، بالتحديد في عهد أسامة بن لادن، كان التنظيم يتبع الهيكلة الهرمية التي تركز على مفهوم السيطرة النخبوية من قبل قادة مفكرين من أطباء ومهندسين في قمة الهرم، والتخطيط لعمليات ينفذها الأعضاء بتفكيرهم البسيط ممن يقع في أسفل الهرم. ويليهم المناصرون، ومن ثم الرأي العام في قاع الهرم كأكبر شريحة مستهدفة من قبل التنظيم... وذلك من أجل تكوين خلايا نائمة متعاطفة معهم عند الحاجة.
ويظهر فيما بعد تغير في هذا التوجه، والاكتفاء بالسيطرة فقط على الاستراتيجيات الأساسية والسياسات العامة لـ«القاعدة»، بوجود مجلس شورى وهيئات عسكرية ومالية، بينما تأتي العمليات التنفيذية حسب الجهة المنفذة.
ويظهر استخدام سياسة التكيّف حسب الظروف المختلفة؛ وذلك نتيجة لضعف «القاعدة» النوعي في الآونة الأخيرة، وخفوت بريقها باستثناء بعض المناطق الجغرافية. إذ يظهر تنظيم «القاعدة في جزيرة العرب»، المتمثل في اليمن، الأكثر نشاطًا والأكبر من حيث عدد الأعضاء بالنسبة لتنظيم القاعدة الأم، وتصاعد قوتها العسكرية والمالية.
تنظيم «القاعدة في جزيرة العرب» تمكن من نهب ما يزيد على 100 مليون دولار أميركي من البنك المركزي في مدينة المكلا، عاصمة حضرموت، وتهريب الوقود عبر ميناء المدينة ذاتها. وهذا مع أن المدينة كانت أخيرًا قيد الاستهداف من قبل الهجمات العسكرية لقوات التحالف والغارات الجوية الأميركية.
من ناحية ثانية، حرص تنظيم القاعدة على استخدام السياسة التدريجية في الصعود وتنفيذ هجمات إرهابية في مناطق مختلفة، كتبني «القاعدة في جزيرة العرب» الهجوم الإرهابي على مطبوعة «شارلي إيبدو» الفرنسية الذي تسبب في إثارة الرأي العام العالمي ضد التنظيم، وضد المسلمين عمومًا. أيضا، تبنى تنظيم «القاعدة في بلاد المغرب» هجمات على منتجع غراند باسام في جمهورية ساحل العاج، وكان في الحقيقة تنفيذًا مشتركًا عبر أعضاء ينتمون إلى «جماعة المرابطين» و«إمارة الصحراء الكبرى» ممن أعلنوا ولاءهم لـ«القاعدة»، إضافة إلى هجمات أخرى للتنظيم في كل من مالي وبوركينا فاسو. الأمر الذي يظهر التركيز الجديد لـ«القاعدة» ما بين اليمن وأفريقيا، مع العلم أن «القاعدة» حظي في عام 2014 بمبايعة «حركة الشباب الصومالية» التي نشطت في الآونة الأخيرة.
شن عمليات عشوائية في أماكن متفرقة تجعل من الأسهل على تنظيم «القاعدة» تحقيق غاياته وأهدافه من دون التعرض لاستهداف قوي كما يحدث لتنظيم داعش. كذلك أظهر تنظيم «القاعدة في سوريا» سياسة قاعدية جديدة في التعامل مع «جبهة النصرة» تدل على خروج «القاعدة» من نمطية السيطرة القيادية.. بغرض التكيّف. فكما هو معروف أعلن «أبو محمد الجولاني» زعيم «جبهة النصرة» وقف العمل بهذا الاسم (أي النصرة) وتشكيل جماعة جديدة تحت مسمى «جبهة فتح الشام»، منفصلاً بذلك عن «القاعدة»، وذلك بعد موافقة تنظيم «القاعدة» نفسه وتفويضه للجبهة الجديدة، فيما برره «الجولاني» بقوله «لتلبية رغبة أهل الشام في دفع ذرائع المجتمع الدولي»، محاولا إضفاء قبس من الشرعية لهم، وللابتعاد عن استهداف قوات التحالف بعد تمكنهم من تسديد ضربات قوية تجاه تنظيم داعش.
* الهيكلية الهرمية لـ«داعش»
في المقابل، على الرغم من حرص تنظيم داعش على المرونة في تجنيد الأعضاء، والتواصل معهم لتحقيق العمليات عن بعد، يظهر حرص «أبو بكر البغدادي» على وجه الخصوص على الهيكلية الهرمية. وهذا يعد أمرا منطقيًا في فترة يعتبر فيها التنظيم لا يزال قويًا؛ إذ تصبح كل القرارات تحت سيطرة القائد الأعلى، ويليه فيما بعد مجلس الشورى الذي لا بد من العودة إليه في جميع القرارات، والإشراف على مدى تطبيق الشريعة الإسلامية في المناطق التي سيطر عليها التنظيم.
ويتفرع من مجلس الشورى المجلس العسكري الذي يتميز بالسرية التامة، على نسق الضباط العراقيين البعثيين الذين انضموا إلى تنظيم داعش، إضافة إلى الهيئة الشرعية والإعلامية وأهل الحل والعقد، وتندرج تحتها مناطق النفوذ المقسمة إلى ألوية. وينوّب البغدادي كلاً من «أبو مسلم التركماني» في العراق و«أبو علي الأنباري» في سوريا، ولكن قد يتغير ذلك في حال استمر ضعف التنظيم واستهدافه من قبل قوات التحالف.
إذ إن الهيكلة مجدولة بناء على وجود «خلافة إسلامية» داعشية مزعومة في منطقة جغرافية معينة تمتد من العراق إلى سوريا؛ الأمر الذي يجعل من السهل القضاء على «داعش» عبر ضربات عسكرية مباشرة، واستخدام سياسة التضييق المكاني والمادي عليهم. وفعلاً شنت قوى التحالف منذ أبريل (نيسان) 2014 ما يزيد على 12 ألف غارة جوية استهدفت «داعش» في كل من العراق وسوريا، تسببت بالفعل في انحسار قوتهم، كما حدث في كل من الأنبار والفلوجة وشمال سوريا والرقة.
* القلوب والعقول
من جانب آخر، في الوقت الذي ظهر تنظيم داعش بصورة أكثر عنفًا وتكفيرًا لكل من يخالفهم، التزم «القاعدة» بالسياسة نفسها التي اتبعها منذ بداية تأسيسه، عبر التغرير بالقلوب والعقول بهدف اكتساب الثقة وتكوين شريحة من المؤيدين؛ الأمر الذي حدا بأعضاء وقيادات «القاعدة» إلى استنكار ما يشاهدونه من فظائع بشعة وتوحش ينفذها «داعش»، وبالأخص في استهدافه أعداء آخرين غير أميركا وحلفائها. وللعلم، يكفّر تنظيم داعش كل من يخالفه من السنة، إضافة إلى الشيعة والأكراد والإيزيديين، ولا يتوانى عن استهداف المساجد وأماكن تجمع المسلمين.
أما عن سياسة «القاعدة» الساعية إلى اكتساب «القلوب والعقول» في اليمن، فتتمثل في إلغاء الضرائب التي كانت مفروضة على الدخل، على اعتبار أنها ليست تطبيقًا شرعيًا. كذلك حرص التنظيم في اليمن على نشر صور ومقاطع بث مرئي تحوي تقديمه الخدمات الطبية، ورصف الطرق المحلية، وغير ذلك من أعمال تظهر حرصهم على بناء اليمن وليس فقط إثارة الرعب.
ملحوظة أخيرة: بشكل عام يظهر «القاعدة» مضمونًا آيديولوجيًا أعمق من عشوائية «داعش»، وقياداته أكثر نضجًا وتحسبًا في اتخاذ القرارات؛ إذ تكوين «خلافة إسلامية» يعد عند «القاعدة» هدفًا، ولكن على المدى البعيد. وحتى عند اللجوء إلى العنف، فإن أسلوب «القاعدة» المفضل هو المحاولات التدريجية الحذرة في طريق العودة إلى الساحة عبر هجمات عشوائية تجعل من الصعب استهدافه. في حين اندفع تنظيم داعش للسيطرة على الأراضي بسرعة وبتوسع؛ ما تسبب في تعرضه للهجمات وتدمير ألويته.



تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
TT

تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)

من يقود تنظيم داعش الإرهابي الآن؟ وما سر عدم ظهور إبراهيم الهاشمي القرشي، زعيم «داعش» الجديد، حتى اللحظة؟ ولماذا تعمد التنظيم إخفاء هوية «القرشي» منذ تنصيبه قبل شهرين؟ وهل هناك تغير في شكل التنظيم خلال الفترة المقبلة، عبر استراتيجية إخفاء هوية قادته، خوفاً عليهم من الرصد الأمني بعد مقتل أبو بكر البغدادي؟ تساؤلات كثيرة تشغل الخبراء والمختصين، بعدما خيم الغموض على شخصية زعيم «داعش» الجديد طوال الفترة الماضية. خبراء في الحركات الأصولية أكدوا لـ«الشرق الأوسط» أن «التنظيم يعاني الآن من غياب المركزية في صناعة القرار».
ويرجح خبراء التنظيمات المتطرفة أن «يكون (داعش) قد قرر إخفاء هوية (القرشي) تماماً، في محاولة لحمايته، وأن إعلان (القرشي) زعيماً من قبل كان شكلاً من أشكال التمويه فقط، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم». كما شكك الخبراء في «وجود شخصية (القرشي) من الأساس».
وأعلن «داعش»، في تسجيل صوتي بثه موقع «الفرقان»، الذراع الإعلامية للتنظيم، في نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تنصيب «القرشي» خلفاً للبغدادي الذي قتل في أعقاب غارة أميركية، وتعيين أبو حمزة القرشي متحدثاً باسم التنظيم، خلفاً لأبو الحسن المهاجر الذي قتل مع البغدادي. وكان الرئيس الأميركي دونالد ترمب قد أعلن «مقتل البغدادي في عملية عسكرية أميركية شمال غربي سوريا».
ورغم أن مراقبين أكدوا أن «(القرشي) هو القاضي الأول في التنظيم، وكان يرأس اللجنة الشرعية»، فإن مصادر أميركية ذكرت في وقت سابق أن «(القرشي) عُرف بلقب الحاج عبد الله، وعُرف أيضاً باسم محمد سعيد عبد الرحمن المولى، وكان أحد قادة تنظيم القاعدة في العراق، وقاتل ضد الأميركيين». لكن عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر «شكك في وجود (القرشي) من الأساس»، قائلاً: إن «(القرشي) شخصية غير حقيقية، وهناك أكثر من إدارة تدير (داعش) الآن».
وأكد أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أنه «بطبيعة الحال، لا يمكن أن نحدد من يقود (داعش) الآن، حتى هذا الإعلان (أي تنصيب القرشي) قد يكون شكلاً من أشكال التمويه، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم»، مضيفاً: «نحن أمام عدد من الاحتمالات: الاحتمال الأول هو أن تكون شخصية (القرشي) حقيقية لكن يتم إخفاءها، وعدم ظهوره إلى الآن هو من أجل تأمين حياته، وعدم مطاردته من قبل أجهزة الدول. والاحتمال الثاني أننا أمام شخصية (وهمية)، والتنظيم لا يزال منقسماً حول فكرة اختيار خليفة للبغدادي. أما الاحتمال الثالث فأننا أمام صراع حقيقي داخل التنظيم حول خلافة (البغدادي)».
وتحدث المراقبون عن سبب آخر لإخفاء «داعش» هوية «القرشي»، وهو «الخوف من الانشقاقات التي تضرب التنظيم من قبل مقتل البغدادي، بسبب الهزائم التي مُني بها في سوريا والعراق، خاصة أن نهج إخفاء المعلومات والتفاصيل التي تتعلق بقادة (داعش) استخدمه التنظيم من قبل، حين تم تعيين أبو حمزة المهاجر وزيراً للحرب (على حد تعبير التنظيم) في عهد البغدادي، وتم الكشف عن اسمه في وقت لاحق».
وكان البغدادي قد استغل فرصة الاضطرابات التي حدثت في سوريا، وأسس فرعاً لتنظيمه هناك، كما استغل بعض الأحداث السياسية في العراق، وقدم نفسه وتنظيمه على أنهم المدافعون عن الإسلام (على حد زعمه)، فاكتسب في البداية بيئة حاضنة ساعدته على احتلال المزيد من الأراضي العراقية التي أسس عليها «دولته المزعومة». وفي عام 2014، أعلن البغدادي نفسه «خليفة مزعوماً» من على منبر مسجد النوري الكبير، في مدينة الموصل، ثم اختفى بعدها لمدة 5 سنوات، ولم يظهر إلا في أبريل (نيسان) الماضي، في مقطع فيديو مصور مدته 18 دقيقة، ليعلن «انتهاء السيطرة المكانية لـ(دولته المزعومة)، وسقوط آخر معاقلها في الباغوز السورية». وقال المراقبون إنه «رغم أن ظهور البغدادي كان قليلاً في السنوات الأخيرة قبل مقتله، فإن أخباره كانت دائمة الانتشار، كما عمد مع بداية الإعلان عن (دولته المزعومة) إلى الظهور المتكرر، وهو ما لم يفعله (القرشي)».
وأكد عبد المنعم أن «هوية (القرشي) كانت لا بد أن تختفي تماماً لحمايته»، مدللاً على ذلك بأنه «في ثمانينات القرن الماضي، كانت التنظيمات الإرهابية تعلن عن أكثر من اسم للقيادة، حتى تحميه من التتبع الأمني»، موضحاً: «يبدو أن هوية (القرشي) الحقيقة بالنسبة لعناصر التنظيم ليست بالأهمية ذاتها، لأن ما يهمهم هو وجود الزعيم على هرم التنظيم، ضمن إطار وإرث ديني... وهذا أهم بكثير للعناصر من الإعلان عن هوية الرجل (أي القرشي)»، مدللاً على ذلك بأنه «في الأيام التي أعقبت إعلان تعيين (القرشي)، تساءلت مجموعة صغيرة من عناصر التنظيم على موقع التواصل (تليغرام) عن هوية الزعيم الجديد. وبعد أيام من تساؤلاتهم، وعندما طلب منهم مبايعة (القرشي)، قلت التساؤلات. ولهذا، من الواضح أن هوية الرجل بدت غير مهمة لهم، بل المهم هو أنه زعيم (داعش)، ويحتاج إلى دعمهم».
وحث أبو حمزة القرشي، متحدث «داعش» الجديد، أتباعه في رسالته الصوتية الأخيرة على «الالتزام بما أصدره البغدادي في رسالته في سبتمبر (أيلول) الماضي، التي طالب فيها بتحرير أنصار التنظيم من السجون، وتجنيد أتباع جدد لاستكمال المهمة، وتأكيد مواصلة التنظيم تمدده في الشرق الأوسط وخارجه».
ومن جهته، أضاف عبد المنعم أن «التنظيم دشن قبل أيام كتيبة أطلق عليها (الثأر للبغدادي والمهاجر)، بهدف الانتقام لمقتل البغدادي والمهاجر، كما جرى سجن عدد من قيادات التنظيم، مُرجح أنها تورطت في تسريب معلومات بطريقة غير مباشرة لعناصر في تنظيم (حراس الدين)»، موضحاً أن «المركز الإعلامي للتنظيم يعاني حالياً من عدم وجود اتصال مع باقي المراكز التابعة للتنظيم، ويعاني من حالة ارتباك شديدة».
وهدد المتحدث باسم التنظيم الجديد الولايات المتحدة، قائلاً: «لا تفرحوا بمقتل الشيخ البغدادي». وقال عبد المنعم: «يبدو أن (داعش) قرر عدم التعامل بالشكل التقليدي في التسجيلات والظهور المباشر لـ(القرشي)، مثلما كان يحدث مع البغدادي»، لافتاً إلى أن «عمليات (داعش) منذ تولي (القرشي) لم تشهد أي حراك، على عكس شهري أبريل وسبتمبر الماضيين، اللذين شهدا حراكاً، عقب بث تسجيلين: واحد مصور والآخر صوتي للبغدادي».
وكان أبو بكر البغدادي قد ذكر في سبتمبر (أيلول) الماضي أن «تنظيمه لا يزال موجوداً، رغم توسعه في البداية، ومن ثم الانكماش»، وأن ذلك يعد (اختباراً من الله)»، على حد زعمه.
وقال عمرو عبد المنعم إن «قنوات (داعش) واصلت بث أخبارها كالمعتاد، وأبرز ما نقلته هذه القنوات أخيراً إصدار مرئي جديد على شاكلة (صليل الصوارم)، بعنوان (لن يضروكم إلا أذى)، مدته 11 دقيقة، وفيه متحدث رئيسي مُقنع يتوعد بالثأر من عملية (التراب الأسود) التي أطلقتها القوات العراقية ضد (داعش) في سبتمبر (أيلول) الماضي. وفي نهاية الإصدار، ظهر مقاتلون ملثمون يبايعون الخليفة الجديد».
وبايع فرع «داعش» في الصومال «القرشي» في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، حيث نشر فرع التنظيم صوراً على موقع التواصل الاجتماعي «إنستغرام» لنحو 12 عنصراً يقفون بين الأشجار، وعليها تعليق يقول: «إنهم يعلنون مبايعة (القرشي)». كما بايع «ولاية سيناء»، الموالي لـ«داعش» في مصر، «القرشي»، ونشر في إصدار مرئي صوراً لمجموعة قال إنهم من العناصر التي بايعت «القرشي». ويشار إلى أنه ما زالت بعض أفرع تنظيم داعش حول العالم لم تعلن مبايعتها لـ«القرشي» حتى الآن، وفي مقدمتها «ولاية خراسان» في أفغانستان، و«ولاية غرب أفريقيا» (بوكو حرام سابقاً) في نيجيريا.
وحول وجود تغير في استراتيجية «داعش» في الفترة المقبلة، بالاعتماد على إخفاء شخصيات قادته، أكد الخبير الأصولي أحمد بان أن «هذه المرحلة ليست مرحلة الإمساك بالأرض من جديد، والسيطرة عليها، أو ما يسمى (الخلافة)، لكن مرحلة ترميم مجموعات التنظيم، وإعادة التموضع في ساحات جديدة، ومحاولة كسب ولاءات جماعات أخرى، قبل أن نصل إلى عنوان جديد، ربما يعكس ظهور تنظيم جديد، قد يكون أخطر من تنظيم (داعش). لكن في كل الأحوال، هيكلية (داعش) تغيرت، من مرحلة الدولة (المزعومة) إلى مرحلة (حروب النكاية) إلى مرحلة إعادة التنظيم والتموضع؛ وكل مرحلة تطرح الشكل المناسب لها. وفي هذه المرحلة (أي الآن)، أتصور أن التنظيم قد تشظى إلى مجموعات صغيرة، وأن هناك محاولة لكسب ولاء مجموعات جديدة في دول متعددة».
أما عمرو عبد المنعم، فقد لفت إلى أن «(داعش) فقد مركزية صناعة القرار الآن، وهناك عملية (انشطار) في المرحلة المقبلة للتنظيم، ولن يكرر التنظيم فكرة القيادة المركزية من جديد، لذلك لم يظهر (القرشي) على الإطلاق حتى الآن، لو كان له وجود حقيقي، وهذا على عكس ما كان يظهر به البغدادي، ويحث العناصر دائماً على الثبات والصبر»، محذراً في الوقت ذاته من «خطوة (حرب العصابات) التي قد يشنها التنظيم، وقتال الشوارع واستنزاف القوى الكبرى، وهي الاستراتيجية القديمة نفسها للتنظيم، مع زيادة العنصر (الانفرادي) الذي يعرف بـ(الذئاب المنفردة)».
وقال المراقبون إن «التنظيم تحول منذ سقوط بلدة الباغوز في مارس (آذار) الماضي، ونهاية (الخلافة المزعومة) بعد عدة سنوات من إرسائها، نحو اعتماد (نهج العصابات). وقاد البغدادي (داعش) بعد استيلائه على مناطق شاسعة في العراق وسوريا، قبل أن يتهاوى التنظيم خلال الأشهر الماضية نتيجة خسائره، وفرار عدد كبير من عناصره».