«داعش» و«القاعدة» ما بين الهوية والمستقبل

المتغيرات الشرق أوسطية ترسم خطيهما البيانيين

صراع في تنظيم القاعدة على استقطاب المجندين والمؤيدين («الشرق الاوسط»)
صراع في تنظيم القاعدة على استقطاب المجندين والمؤيدين («الشرق الاوسط»)
TT

«داعش» و«القاعدة» ما بين الهوية والمستقبل

صراع في تنظيم القاعدة على استقطاب المجندين والمؤيدين («الشرق الاوسط»)
صراع في تنظيم القاعدة على استقطاب المجندين والمؤيدين («الشرق الاوسط»)

لا يختلف المتابعون على أن تنظيم داعش الإرهابي المتطرف سرق الأضواء من تنظيم القاعدة، الذي خرج منه وانفصل عنه. ومن ثم تمكن من تكثيف حضوره القوي على الساحة الدولية، بصفته تنظيما وحشيا عنيفا وسّع نفوذه جغرافيًا، واكتسب أتباعًا ومؤيدين في بقاع مختلفة. إلا أن مؤشرات عدة تشير إلى تراجع قوة «داعش» نتيجة الضربات الموجهة إليه، ولا سيما في العراق وسوريا، والتصاعد التدريجي الاستراتيجي لـ«القاعدة» من جديد. ومردّ ذلك إلى تسرّع «داعش» وممارساته الموغلة في التوحش وابتعاده عن الاستراتيجيات التي من شأنها كسب مؤيدين على المدى البعيد. وحقًا، فإن الفوارق واضحة بين التنظيمين من حيث التخطيط والأهداف والهيكلة التنظيمية.
نظرًا لكون تنظيم القاعدة استهل نشاطاته الإرهابية منذ عقد التسعينات من القرن الماضي، سابقًا من الناحية الزمنية التنظيمات المتطرفة الأخرى التي نشطت خلال السنوات الأخيرة، فإن ذلك يفسر بداياته التقليدية في التواصل مع العالم.
«القاعدة» بدأ تواصله بنشر رسائل كتبها أبرز قادته، قبل أن يتدرّج إلى تسجيلات صوتية، ثم أخرى مرئية تركز غالبيتها على خطب للقادة ما يعبّر عن التوجه المركزي للتنظيم، الذي يجعل من القيادات أمرًا مهمًا جوهريًا، ويجعل كذلك للتنظيم بُنية هرمية، وبالأخصّ، إبان فترة قيادة أسامة بن لادن له (قتل في مايو (أيار) 2011 في بلدة آبوت آباد الباكستانية). وظهور بن لادن الدائم في مقاطع بث مرئي تعكس جاذبيته وقدرته على إقناع الآخرين بما يؤمن به بهدوء وسكينة تامة؛ الأمر الذي دفعه إلى أن يصبح أشبه بظاهرة، وباتت متابعته بالنسبة لأتباعه ومريديه والتطلع لخطاباته المقبلة، سواء في العالم العربي أو الغرب، أشبه بالهوس. وكما هو معروف، بدأ الالتفات الإعلامي إلى بن لادن عبر الإعلام التقليدي الغربي، وواصل الحرص على الظهور الإعلامي العالمي إلى أن توقف عن ذلك، ليكتفي فيما بعد في نقل رسائله عبر قناة إخبارية خليجية نقلت صوته إلى العالم وترجمت خطاباته إلى اللغة الإنجليزية.
* الاستراتيجية الإعلامية
منذ تلك المرحلة لم يظهر تغيير كبير في استراتيجية «القاعدة» الإعلامية؛ إذ لا تزال مقاطع البث المرئي تركز على قادتها، ويظهر أيمن الظواهري، القيادي الذي خلف بن لادن في سدة القيادة، من وقتٍ إلى آخر في مقاطع يثبت فيها وجوده أو يتطرق إلى موضوعات مهمة، منها تكراره إدانة ممارسات «داعش» ورفضه الاعتراف بشرعيته واعتباره تنظيمًا متطرفاَ.
ويأتي امتدادًا للاستراتيجية ذاتها الظهور المفاجئ لحمزة بن لادن، نجل مؤسس «القاعدة»، يوم 9 مايو 2016 في كلمة صوتية تظهر محاولته استخدام النسق نفسه الذي كان يستخدمه والده في التواصل مع الآخرين، وتجاهل التقدم التقني في الآونة الأخيرة، وكأنه بذلك يحذو حذو والده في استخدام التسجيلات الصوتية والمرئية التقليدية، والاستمرار في نقل أهدافه.
وإلى جانب ما يقال بأن ظهوره نتيجة لرغبته في الثأر لوالده، فإن خطابه سعى إلى التحريض ضد المملكة العربية السعودية، والحث على الانضمام إلى «تنظيم القاعدة في اليمن». وهو امتداد لحرص «القاعدة» على أدلجة الدين، واستهداف الغرب وأميركا بالتحديد كونها العدو الأهم، ومحاولة الإطاحة بمصالح الغرب حتى وإن كانت في دول عربية كما حدث في استهدافهم للسعودية. وفي ذلك أيضا سعي لاستقطاب المتطرفين ممن يتعاطف معهم لأهداف دينية وسياسية، وإن تظهر «القاعدة» أكثر نخبوية بوضعها شروطًا لانضمام المقاتلين والتأكد من ولائهم، وإخضاعهم لتدريبات عسكرية قاسية. وأما التواصل فيجري عبر منتديات خاصة كـ«الإخلاص» و«الفردوس» و«الفرقان»، ومجلات إلكترونية كـ«صوت الجهاد» و«البتار» و«ذروة السنام»، ولا يتيسر الوصول إلى رسائلها الإعلامية إلا عبر الانضمام إلى المنتديات، التي تحوي مقاطع بث مرئي تدريبية، مثل كيفية تصنيع المتفجرات أو حتى استخدام الأسلحة، وأخرى ترويجية كاستعراض المعسكرات التدريبية أو عمليات اختطاف وقتل «الأجانب الكفار»، كل ذلك عبر منتديات مغلقة.
* سياسة «داعش» الشعبوية
استراتيجيات «داعش» الإعلامية تختلف تمامًا عن كل هذا؛ فهي أكثر شعبوية وتعمل بتواصل جماهيري أكبر، من دون اكتراث للظهور الإعلامي لقادتها. فشخصية «أبو بكر البغدادي» زعيم التنظيم، يكتنفها الغموض، وهو لا يظهر إلا نادرًا متشحًا السواد.
ولقد تجاهل التنظيم المتطرف الإعلام التقليدي، وربما يكون ذلك نتيجة ظهوره في الفترة التي انحسر فيها الدور الإعلامي التقليدي وبزغ فيها نجم وسائل التواصل الإلكتروني. وبالتالي، تفوق على التنظيمات المتطرفة الأخرى باستغلاله مختلف تلك المواقع بدءًا بـ«تويتر» و«فيسبوك»، وانتهاء برسائل مشفرة عبر برامج التطبيق الذكية مثل «كيك» و«تيليغرام». هذا، ما أتاح للتنظيم التواصل عن بعد لكل بقاع العالم بأسهل وأسرع وأوفر الطرق، ليس فقط في العالم العربي، بل وحتى الغربي باستخدامه رسائل إعلامية مختلفة حسب الجهة المستهدفة وبلغات متعددة، ومن ثم، أسبغ على «داعش» القدرة على تجنيد عدد كبير من المتعاطفين ممن لديهم الاستعداد للقيام بعمليات إرهابية، سواء عبر انضمام فعلي وتسلل إلى مقرهم أو إعانة آخرين على التخطيط لهجمات أو حتى أشخاص منفردين فيما يطلق عليهم مسمى «الذئاب المنفردة».
ويظهر جليًا عبر الكثير من قصص المنضمين إلى صفوفهم التركيز على النواحي النفسية، كوجود أشخاص يشعرون بالتأزم النفسي والرغبة في الانضمام إلى جماعة تشعرهم بأهميتهم، أو كالمسلمين الذين يعيشون في الغرب ويشعرون بعنصرية الآخرين تجاههم، وإعطائهم تصورًا بوجود بيئة تحتضنهم دون الشعور بتعجب بممارسة الشعائر الدينية... وإن تسبب ذلك التصور المغلوط بأن يفاجأ بعض الأعضاء باختلاف الصورة الحقيقية عن كل ما سبق إقناعهم به.
هذا الأمر بالذات الذي دفع بالبعض إلى التراجع عن قرار الانضمام، ولقد ظهرت للملأ الكثير من هذه القصص؛ ما يدل على اكتفاء «داعش» بالاستقطاب الأولي، ومن ثم إذعان الآخرين لواقع التنظيم الشرس.
إذ تبدأ الرسائل الموجهة إلى شخص مستهدف بالترغيب والإغراء، ومن ثم تبدأ الرسائل بإظهار عنف شديد وممارسة للقتل الجماعي، بصورة بشعة وبتكثيف، لإرسال تلك المقاطع بعد أن شعر المستهدف برغبة فعلية في الانضمام. وتنجح مثل هذه الرسائل بشكل خاص في استقطاب أشخاص مرضى يشعرون بالجذل لمشاهد العنف، وتكون لديهم رغبة المغامرة، وممارسة القتل والسلطة المطلقة. ولذا؛ فإن الأماكن التي تندرج تحت حكم «داعش» تعد أشبه بملاذ تتحقق فيه تحقيق أحلام الشخصيات المنبوذة في مجتمعاتها.
* الهيكلية التنظيمية «داعش» و«القاعدة»
في بداية حقبة «القاعدة»، حين كانت أكثر قوة وتنظيمًا، بالتحديد في عهد أسامة بن لادن، كان التنظيم يتبع الهيكلة الهرمية التي تركز على مفهوم السيطرة النخبوية من قبل قادة مفكرين من أطباء ومهندسين في قمة الهرم، والتخطيط لعمليات ينفذها الأعضاء بتفكيرهم البسيط ممن يقع في أسفل الهرم. ويليهم المناصرون، ومن ثم الرأي العام في قاع الهرم كأكبر شريحة مستهدفة من قبل التنظيم... وذلك من أجل تكوين خلايا نائمة متعاطفة معهم عند الحاجة.
ويظهر فيما بعد تغير في هذا التوجه، والاكتفاء بالسيطرة فقط على الاستراتيجيات الأساسية والسياسات العامة لـ«القاعدة»، بوجود مجلس شورى وهيئات عسكرية ومالية، بينما تأتي العمليات التنفيذية حسب الجهة المنفذة.
ويظهر استخدام سياسة التكيّف حسب الظروف المختلفة؛ وذلك نتيجة لضعف «القاعدة» النوعي في الآونة الأخيرة، وخفوت بريقها باستثناء بعض المناطق الجغرافية. إذ يظهر تنظيم «القاعدة في جزيرة العرب»، المتمثل في اليمن، الأكثر نشاطًا والأكبر من حيث عدد الأعضاء بالنسبة لتنظيم القاعدة الأم، وتصاعد قوتها العسكرية والمالية.
تنظيم «القاعدة في جزيرة العرب» تمكن من نهب ما يزيد على 100 مليون دولار أميركي من البنك المركزي في مدينة المكلا، عاصمة حضرموت، وتهريب الوقود عبر ميناء المدينة ذاتها. وهذا مع أن المدينة كانت أخيرًا قيد الاستهداف من قبل الهجمات العسكرية لقوات التحالف والغارات الجوية الأميركية.
من ناحية ثانية، حرص تنظيم القاعدة على استخدام السياسة التدريجية في الصعود وتنفيذ هجمات إرهابية في مناطق مختلفة، كتبني «القاعدة في جزيرة العرب» الهجوم الإرهابي على مطبوعة «شارلي إيبدو» الفرنسية الذي تسبب في إثارة الرأي العام العالمي ضد التنظيم، وضد المسلمين عمومًا. أيضا، تبنى تنظيم «القاعدة في بلاد المغرب» هجمات على منتجع غراند باسام في جمهورية ساحل العاج، وكان في الحقيقة تنفيذًا مشتركًا عبر أعضاء ينتمون إلى «جماعة المرابطين» و«إمارة الصحراء الكبرى» ممن أعلنوا ولاءهم لـ«القاعدة»، إضافة إلى هجمات أخرى للتنظيم في كل من مالي وبوركينا فاسو. الأمر الذي يظهر التركيز الجديد لـ«القاعدة» ما بين اليمن وأفريقيا، مع العلم أن «القاعدة» حظي في عام 2014 بمبايعة «حركة الشباب الصومالية» التي نشطت في الآونة الأخيرة.
شن عمليات عشوائية في أماكن متفرقة تجعل من الأسهل على تنظيم «القاعدة» تحقيق غاياته وأهدافه من دون التعرض لاستهداف قوي كما يحدث لتنظيم داعش. كذلك أظهر تنظيم «القاعدة في سوريا» سياسة قاعدية جديدة في التعامل مع «جبهة النصرة» تدل على خروج «القاعدة» من نمطية السيطرة القيادية.. بغرض التكيّف. فكما هو معروف أعلن «أبو محمد الجولاني» زعيم «جبهة النصرة» وقف العمل بهذا الاسم (أي النصرة) وتشكيل جماعة جديدة تحت مسمى «جبهة فتح الشام»، منفصلاً بذلك عن «القاعدة»، وذلك بعد موافقة تنظيم «القاعدة» نفسه وتفويضه للجبهة الجديدة، فيما برره «الجولاني» بقوله «لتلبية رغبة أهل الشام في دفع ذرائع المجتمع الدولي»، محاولا إضفاء قبس من الشرعية لهم، وللابتعاد عن استهداف قوات التحالف بعد تمكنهم من تسديد ضربات قوية تجاه تنظيم داعش.
* الهيكلية الهرمية لـ«داعش»
في المقابل، على الرغم من حرص تنظيم داعش على المرونة في تجنيد الأعضاء، والتواصل معهم لتحقيق العمليات عن بعد، يظهر حرص «أبو بكر البغدادي» على وجه الخصوص على الهيكلية الهرمية. وهذا يعد أمرا منطقيًا في فترة يعتبر فيها التنظيم لا يزال قويًا؛ إذ تصبح كل القرارات تحت سيطرة القائد الأعلى، ويليه فيما بعد مجلس الشورى الذي لا بد من العودة إليه في جميع القرارات، والإشراف على مدى تطبيق الشريعة الإسلامية في المناطق التي سيطر عليها التنظيم.
ويتفرع من مجلس الشورى المجلس العسكري الذي يتميز بالسرية التامة، على نسق الضباط العراقيين البعثيين الذين انضموا إلى تنظيم داعش، إضافة إلى الهيئة الشرعية والإعلامية وأهل الحل والعقد، وتندرج تحتها مناطق النفوذ المقسمة إلى ألوية. وينوّب البغدادي كلاً من «أبو مسلم التركماني» في العراق و«أبو علي الأنباري» في سوريا، ولكن قد يتغير ذلك في حال استمر ضعف التنظيم واستهدافه من قبل قوات التحالف.
إذ إن الهيكلة مجدولة بناء على وجود «خلافة إسلامية» داعشية مزعومة في منطقة جغرافية معينة تمتد من العراق إلى سوريا؛ الأمر الذي يجعل من السهل القضاء على «داعش» عبر ضربات عسكرية مباشرة، واستخدام سياسة التضييق المكاني والمادي عليهم. وفعلاً شنت قوى التحالف منذ أبريل (نيسان) 2014 ما يزيد على 12 ألف غارة جوية استهدفت «داعش» في كل من العراق وسوريا، تسببت بالفعل في انحسار قوتهم، كما حدث في كل من الأنبار والفلوجة وشمال سوريا والرقة.
* القلوب والعقول
من جانب آخر، في الوقت الذي ظهر تنظيم داعش بصورة أكثر عنفًا وتكفيرًا لكل من يخالفهم، التزم «القاعدة» بالسياسة نفسها التي اتبعها منذ بداية تأسيسه، عبر التغرير بالقلوب والعقول بهدف اكتساب الثقة وتكوين شريحة من المؤيدين؛ الأمر الذي حدا بأعضاء وقيادات «القاعدة» إلى استنكار ما يشاهدونه من فظائع بشعة وتوحش ينفذها «داعش»، وبالأخص في استهدافه أعداء آخرين غير أميركا وحلفائها. وللعلم، يكفّر تنظيم داعش كل من يخالفه من السنة، إضافة إلى الشيعة والأكراد والإيزيديين، ولا يتوانى عن استهداف المساجد وأماكن تجمع المسلمين.
أما عن سياسة «القاعدة» الساعية إلى اكتساب «القلوب والعقول» في اليمن، فتتمثل في إلغاء الضرائب التي كانت مفروضة على الدخل، على اعتبار أنها ليست تطبيقًا شرعيًا. كذلك حرص التنظيم في اليمن على نشر صور ومقاطع بث مرئي تحوي تقديمه الخدمات الطبية، ورصف الطرق المحلية، وغير ذلك من أعمال تظهر حرصهم على بناء اليمن وليس فقط إثارة الرعب.
ملحوظة أخيرة: بشكل عام يظهر «القاعدة» مضمونًا آيديولوجيًا أعمق من عشوائية «داعش»، وقياداته أكثر نضجًا وتحسبًا في اتخاذ القرارات؛ إذ تكوين «خلافة إسلامية» يعد عند «القاعدة» هدفًا، ولكن على المدى البعيد. وحتى عند اللجوء إلى العنف، فإن أسلوب «القاعدة» المفضل هو المحاولات التدريجية الحذرة في طريق العودة إلى الساحة عبر هجمات عشوائية تجعل من الصعب استهدافه. في حين اندفع تنظيم داعش للسيطرة على الأراضي بسرعة وبتوسع؛ ما تسبب في تعرضه للهجمات وتدمير ألويته.



تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟