فرنسوا فيون.. المتأهب لاجتياح الإليزيه

هل يكون المفاجأة الفرنسية الرئاسية.. على طريقة ترامب؟

فرنسوا فيون.. المتأهب لاجتياح الإليزيه
TT

فرنسوا فيون.. المتأهب لاجتياح الإليزيه

فرنسوا فيون.. المتأهب لاجتياح الإليزيه

«اللا أحد» - «Nobody» - هو اللقب الذي كان يطلق على فرنسوا فيون، هذا السياسي الذي يرجح أن يصبح مساء غد مرشحا عن اليمين والوسط لخوض المنافسة الرئاسية في شهر مايو (أيار) من العام المقبل. فالجولة الثانية (الأخيرة) من الانتخابات التمهيدية لحزب «الجمهوريون» اليميني ومجموعات يمين الوسط ستحصل الأحد بحلول الساعة الثامنة والنصف مساء سيخرج اسم الفائز من صناديق الاقتراع. وهذا الاسم سيكون رئيس الحكومة السابق فيون إلا إذا حصلت «معجزة» ما، وهي صعبة الحصول بالنظر للفرق الشاسع في نتيجة في الدورة الأولى حيث حصل فيون على أكثر من 44 في المائة من أصوات الأربعة ملايين ناخب الذين ذهبوا إلى مكاتب الاقتراع بينما حصل منافسه الأقرب آلان جوبيه على 28 في المائة. أما المرشح الثالث، الرئيس السابق نيكولا ساركوزي، الذي كان مقدرا له أن يتأهل للمنافسة في الجولة الثانية، فقد خرج من السباق. وهكذا، فإن «اللا أحد» سيصبح غدا حامل لواء اليمين ويرجح بشدة أن يكون في الربيع المقبل الرئيس الثامن للجمهورية الفرنسية الخامسة.
قبل شهر، لم يكن أحد يتوقع لفرنسوا فيون، الذي رأس الحكومة الفرنسية طيلة عهد الرئيس نيكولا ساركوزي (2007 - 2012)، أن يكون في الموقع الذي يشغله اليوم. الرجل الذي أعلن منذ سنتين ترشحه للفوز بتسمية حزبه للانتخابات الرئاسية كان يكافح لأن يكون الرجل الثالث في المنافسة التي ضمت سبعة مرشحين، من بين هؤلاء رئيس جمهورية سابق (ساركوزي) ورئيس حكومة سابق (آلان جوبيه) كان يصفه الرئيس الأسبق جاك شيراك بـ«الألمع بيننا». يضاف إليهما وزيران طموحان سابقان في حكومة فيون ما زالا في الأربعينات من عمرهما، هما وزير الزراعة برونو لومير، ووزيرة البيئة ناتالي كوسيوسكو موريزيه.
لومير كان يريد أن يكون الرجل الثالث في المنافسة السباعية. أما موريزيه، فقد راهنت على كونها المرأة الوحيدة في المنافسة، وأنها الأقرب إلى الشباب وحاملة راية التحديث والدفاع عن البيئة.
لكن فيون كذب كل استطلاعات الرأي وأخرج ساركوزي من السباق منتقما من سنوات التحقير والإهانة التي ألحقها به الأول خلال سنوات خمس. ولم ينس الفرنسيون أن ساركوزي وصف فيون يومًا بأنه «مساعده»، أي التابع له، وليس رئيس حكومة دولة كبرى تحتل مقعدا دائمًا في مجلس الأمن ولها موقع متقدم داخل الاتحاد الأوروبي ويحتل اقتصادها المرتبة الخامسة في العالم والثانية في أوروبا... ناهيك عن امتلاكها السلاح النووي وسبق أن كان لها إمبراطورية استعمارية في آسيا وأفريقيا وأميركا.
قيل وكتب كثير من التحليلات عن الأسباب التي أخرجت فيون من العتمة إلى الضوء وجعلته اليوم الرجل الذي يتراكض لكسب رضاه غالبية سياسيي اليمين والوسط. وبعدما كانت الوسائل الإعلامية على اختلافها تتجاهله، فهي اليوم تحني ركبتها أمامه، وتؤكد ما كانت تقول عكسه في الأمس القريب.
فمن هذا الرجل الذي يوصف بالكاثوليكي المحافظ على المستوى الاجتماعي والليبرالي على المستوى الاقتصادي كما أنه «صديق» الرئيس الروسي بوتين الذي تدخل «شخصيًا» في الحملة الرئاسية الفرنسية قبل ثلاثة أيام ليشيد به، وكلاهما كان رئيس حكومة ما بين عام 2007 و2012؟

بطاقة شخصية
فرنسوا شارل أرمان فيون ليس جديدا في عالم السياسة. فهذا الرجل الذي تنقل في كثير من المناصب السياسية، كان نائبا ووزيرا ورئيس بلدية ورئيس مجلس محلي ومناطقي وعضو مجلس شيوخ ورئيس حكومة... ولد قبل 62 سنة ونشأ في منطقة السارت بجنوب غربي فرنسا. والده ينتميان إلى البرجوازية المحلية التي تعتنق عادة مبادئ محافظة لن يشذ عنها - على الأرجح - رئيس الجمهورية القادم. ذلك أن السمة البارزة في طبع فيون، وفي برنامجه السياسي الذي يخوض على أساسه الحملة الانتخابية الرئاسية، هي أنه محافظ على المستوى الاجتماعي وليبرالي على المستوى الاقتصادي.
وهذا الرجل الكاثوليكي المتدين يرفع اليوم لواء العائلة. ومع أنه يمتنع عن انتقاد القانون الذي يتيح للنساء الإجهاض، الذي أقر في السبعينات، فإنه يغتنم كل فرصة ليؤكد أنه على «المستوى الشخصي» يرفض الإجهاض، كما أنه عازم على إعادة كتابة بعض فقرات القانون الخاص بإتاحة المجال للمثليين بـ«التبني الكامل» للأطفال.
يقترب فيون في هذه المواقف من مبادئ ومقاربة الكنيسة الكاثوليكية إلى درجة أن خصومه من اليمين واليسار يتهمونه بأنه يقود «ثورة محافظة». وهذه المسألة خاصة، كانت أحد محاور «المنازلة التلفزيونية» مساء الخميس بينه وبين منافسه اليميني آلان جوبيه الذي يقدم نفسه على أنه أكثر ليبرالية على المستوى الاجتماعي وأقل راديكالية على المستوى الاقتصادي. وفي حين يفتخر فيون بمقارنته بمارغريت تاتشر «المرأة الحديدية»، التي حطمت النقابات في بريطانيا وقادت برنامجا اقتصاديا بالغ الليبرالية عن طريق بيع حصص الحكومة في الصناعات والخدمات، فإن جوبيه يريد إصلاحات «ناعمة» لا تزيد من تهميش المهمشين أصلا ولا تنزل العمال والموظفين إلى الشوارع وتعطل الاقتصاد.
وفي أي حال، فإن الاثنين يريدان إصلاح قانون العمل وخفض أعداد الموظفين ورفع سن التقاعد وزيادة ساعات العمل الأسبوعي وإلغاء «ضريبة الثروة» وزيادة رسوم القيمة المضافة، ما يجعل الاثنين يندرجان في الخط السياسي اليميني بدرجات متفاوتة، «معتدلة» بالنسبة لجوبيه، و«راديكالية» بالنسبة لفيون.

رجل متقشف
الصورة الشخصية الرائجة لفرنسوا فيون لدى الجمهور الفرنسي هو أنه رجل «متقشف»، منطو على نفسه، يضبط أعصابه ولا يضحك إلا في المناسبات «الكبرى». وخلال الأشهر الأخيرة، سعى مستشارو فيون إلى تغيير صورته وصقلها. ومن الأمور التي لا يعرفها كثيرون عن فيون أنه رياضي مكتمل يهوى التسلق والرحلات الراجلة في الجبال وهي عادة كسبها منذ أن انضم إلى فرقة الكشافة في منطقته حيث أصبح أحد مسؤوليها وهو في السابعة عشرة من عمره. والأهم من ذلك، أنه يهوى السرعة ويشارك شخصيا في سباقات السيارات التي تجرى سنويا في مدينة لومان الواقعة في دائرته الانتخابية.
عائليًا، تزوج فيون من مواطنة بريطانية هي بينيلوب كلارك، التي التقاها عندما كان طالبًا، وأنجب منها خمسة أولاد... ما يكشف مدى تمسكه بالقيم العائلية والمكان الكبير الذي تحتله العائلة في فلسفته الشخصية والسياسية على السواء. وعلى عكس ساركوزي الذي طلّق مرتين، وجوبيه الذي طلق مرة واحدة، فإن فيون لم يطلق أبدا في حياته.
مع نهاية دراسته الجامعية حيث تخصص - كذلك زوجته المستقبلية - في القانون، كوالديه، حيث كانت والدته أستاذة جامعية ووالده كاتب عدل، سعى فيون للعمل في الميدان الإعلامي. والتحق في فترتين تدريبيتين بوكالة الصحافة الفرنسية «أ.ف.ب» في مدريد ثم في بروكسل. لكنه لم يكمل في هذا الطريق لأن السياسة غلبت ميوله الإعلامية. ومنذ شبابه الأول، كان فيون يكن إعجابا منقطع النظير للجنرال شارل ديغول مؤسس الجمهورية الخامسة وبطل تحرير فرنسا.

البداية السياسية
في عام 1976 بدأ فيون أولى خطواته السياسية ملتحقا بنائب المنطقة جويل لوتول، الذي ورث عنه لاحقا دائرته الانتخابية بعدما كان قد انضم إلى حزب التجمع من أجل الجمهورية الذي أسسه الرئيس السابق جاك شيراك وأراده «تجسيدا» للديغولية الحديثة. وبعد أن شغل مناصب مختلفة في الدوائر الوزارية، تنقل فيون بداية في مناصب محلية قبل أن ينتخب نائبا عام 1981 - أي عام وصول الاشتراكيين إلى السلطة مع الرئيس الأسبق فرنسوا ميتران - وبذلك أصبح فيون الذي دخل الجمعية الوطنية في سن السابعة والعشرين من العمر، أصغر نائب في الندوة البرلمانية في تلك الفترة.
كان فيون أحد الوجوه الواعدة في الجمعية الوطنية. وفي السنوات التالية، أعيد انتخابه نائبا من غير انقطاع وتولى رئاسة لجنة الدفاع، حيث أصبح خبيرا في المسائل العسكرية والدفاعية كما انتمى إلى مجموعة من «المجددين» الذين تحلقوا حول الوزير السابق فيليب سيغان. وهذا الأخير كان الشخصية التي تعلق بها فيون بسبب تركيزها على المسائل السيادية وتبينها ما يسمى «الديغولية الاجتماعية» أي سياسة اليميني التي تعير الشأن الاجتماعي أولوية في تناولها السياسة.
وشيئا فشيئا، تجذر وجود فيون في دائرته النيابية وفي مدينة سابليه سور سارت، حيث انتخب رئيسا لبلديتها من غير انقطاع، لا، بل إنه في عام 1988 وفي عام 1993 انتخب نائبا منذ الدورة الأولى. إلا أن صعوده السياسي توقف في عام 1990 عندما وقف بوجه بقاء شيراك رئيسا لحزب التجمع من أجل الجمهورية وبقاء آلان جوبيه أمينا عاما له. ومن ذلك التاريخ، يتواصل التنافس بين الرجلين اللذين تواجها في موضوع التصديق على «معاهدة ماستريخت» التي عارضها سيغان وفيون؛ لأنها تتعارض مع رؤيتهما للاتحاد الأوروبي ولرفضهما العملة الموحدة «اليورو».

العودة إلى الأضواء
لم يعد فيون إلى الواجهة إلا مع وصول اليمين إلى الحكم حين عينه إدوار بالادور، رئيس الحكومة وقتها، وزيرا للتعليم العالي والبحث العلمي. وعند انتخاب شيراك رئيسا للجمهورية عام 1995 وتعيين جوبيه رئيسا للحكومة، اختير فيون وزيرا للإعلام والاتصال رغم وقوفه إلى جانب منافس شيراك على الرئاسة. وأعيد تعيينه وزيرا في حكومة جوبيه الثانية وبقي وزيرا حتى عام 1997. ولاحقا شارك فيون في بلورة برنامج شيراك للانتخابات الرئاسية التي فاز بها للمرة الثانية في عام 2002.
وخلال الحكومتين المتعاقبتين لرئيس الوزراء جان بيار رافاران، شغل فيون مناصب وزراية متعاقبة إذ أصبح وزيرا للعمل والشؤون الاجتماعية حيث ترك قانونا يحمل اسمه، خاصا بتنظيم العمل وتليين قانون الـ35 ساعة (مدة العمل الأسبوعي القانونية) الذي صاغته الحكومة الاشتراكية السابقة. وعمد في عام 2003 إلى طرح مشروع قانون يرفع فيه سن التقاعد. لكنه في العام الذي تلاه أصيب بأول انتكاسة انتخابية.
وعندما عين دومينيك دو فيلبان رئيسا للحكومة، عمد الأخير بالتفاهم مع شيراك إلى إبعاد فيون عن الوزارة، ما خلق عداوة بين الرجلين ودفع فيون للالتحاق بنيكولا ساركوزي، حيث أصبح مديرا لحملته الانتخابية. وفي عام 2007، أصبح ساركوزي رئيسا للجمهورية وسارع إلى تعيين فيون رئيسا للحكومة. وبقي الأخير في منصبه طيلة خمس سنوات من غير انقطاع.

علاقته بساركوزي
على الرغم من طول رئاسة فيون للحكومة، فإنه لم يكن يشعر بالسعادة في عمله بسبب أطباع ساركوزي من جهة، وبسبب ميله للهيمنة على كل أعمال الحكومة وتدخله في كل شاردة وواردة. ومع هزيمته في انتخابات عام 2012، سعى فيون للتحرر من قبضته فحاول الوصول إلى رئاسة حزب الاتحاد من أجل حركة شعبية، الذي تحول لاحقا إلى حزب «الجمهوريون» لكنه فشل في مشروعه. ثم عمد إلى الانتقال من دائرته النيابية التقليدية إلى باريس حيث انتخب نائبا عن الدائرة السابعة التي تتميز ببرجوازيتها.
وشيئا فشيئا، أخذ يبني مشروعه الرئاسي وعمد إلى إعلان ترشحه للفوز بتأييد حزبه رغم وجود ساركوزي على رأسه. وطيلة أشهر لا تنتهي كان فيون الحاضر - الغائب. وخلال الحملة التمهيدية، فشل في فرض نفسه ومشروعه وبقي يجر موقعه خلف ساركوزيه وجوبيه إلى أن كانت مفاجأة الدورة الأولى من الانتخابات التمهيدية التي «سحق» فيها منافسيه الرئيسيين بحصوله على 44 في المائة من الأصوات، وها هو يتأهب لأن يكون المرشح الرسمي لليمين ويمين الوسط، لا بل إنه أصبح على أبواب قصر الإليزيه إلا إذا حصلت مفاجأة ما ليست اليوم في الحسبان.



كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.