صحافة «بنغازي» الورقية تعاود الصدور عقب طرد الجماعات المتطرفة

بدأت الصحافة الورقية تعاود الصدور في مدينة بنغازي الليبية عقب نجاح الجيش الوطني الذي يقوده المشير خليفة حفتر، في طرد الجماعات المتطرفة أخيرا من المدينة. وصدرت أول صحيفة ورقية في ليبيا عام 1866. وعرفت بنغازي أول مجلة مصورة في سنة 1935. وقبل ثورات الربيع العربي في 2011 أسست حركة «ليبيا الغد»، التي كان يقودها سيف الإسلام، نجل القذافي، صحيفتي «أويا» و«قورينا» ضمن مؤسسة إعلامية كبيرة، لكنها انهارت بسقوط النظام.
وأعقب هذا موجة جديدة من الإصدارات وسط أجواء من الانفتاح، منها صحف محلية وأخرى مركزية مثل «الوطن» المدعومة من الحكومة. لكن غالبية هذه التجارب تعرضت، منذ أواخر عام 2012، لانتكاسة سريعة بعد أن هيمنت الجماعات المتطرفة على المدن الكبرى خاصة طرابلس وبنغازي. وقتل منذ ذلك الوقت ما لا يقل عن 13 إعلاميا إلى جانب اعتقال وتعذيب العشرات وتراجع حرية التعبير، وإغلاق صحف وليدة.
ومن تحت نيران المعارك التي يخوضها الجيش لطرد بقايا المتطرفين من بنغازي بدأت كثير من الصحف الورقية في الصدور بأعداد جديدة وأسماء وعناوين مستوحاة من تاريخ المدينة التي تعد مركزا رئيسيا لانطلاق الحركات السياسية وموجات التغيير في ليبيا. لكن كثيرا من الصحافيين ما زالوا يعملون بعيدا عن الأضواء من خلال استخدام أسماء مستعارة خوفا من عمليات انتقامية من جانب خلايا المتطرفين النائمة في المدينة.
ويقول مسؤول في صحيفة «برنيق 1» إن الأوضاع الأمنية العامة في بنغازي أصبحت أفضل من السابق. وهذا انعكس على دورة العمل. وهو يشير إلى الخراب الذي حل بالمدينة منذ سيطر عليها المتطرفون طوال الأعوام الثلاثة الماضية.. «تعرضت عدة مطابع للدمار. وجرى حرق مقار صحف محلية واستهداف المحررين أثناء تنقلهم لتغطية الأحداث والانتقام ممن يعارضون المتطرفين».
ويعمل الإعلاميون الليبيون وهم يحملون في الذاكرة التاريخ الطويل للعمل الصحافي في بلادهم. ويقول الإعلامي الليبي والمحلل السياسي عبد العزيز الرواف، إن تاريخ الصحافة الليبية عموما يعود إلى منتصف القرن التاسع عشر، حيث صدرت عدة صحف منها صحيفة «طرابلس الغرب» عام 1866. وصحيفة «الترقي» عام 1897.
أما مع مطلع القرن الماضي، وأثناء فترة الاحتلال الإيطالي لليبيا فكانت هناك صحافة تتمتع بهامش من الحرية. وتدعم، إخباريا ومعنويا، جهود الليبيين في التخلص من الاستعمار، على الرغم من الرقابة التي كانت مفروضة عليها من قبل الإيطاليين. ويوضح قائلا: «كان منها على سبيل المثال مجلة (ليبيا المصورة) عام 1935 في بنغازي، وبعد الإيطاليين، أي في مرحلة الانتداب الإنجليزي على البلاد شهدت الصحافة الليبية حالات من الانتعاش والازدهار».
ويتذكر الإعلامي الليبي حال الصحافة في العهد الملكي الذي بدأ عقب إعلان الاستقلال في مطلع خمسينات القرن الماضي، قائلا إن «فترة استقرار الصحافة وانتعاشها بشكل واضح، جاءت مع بدء عهد المملكة الليبية، طوال 17 عامًا من حكم الملك إدريس السنوسي (من 1951 إلى 1969)، حيث غاب مقص الرقيب إلى حد بعيد، وازدهرت حرية الفكر والإبداع، ووصل عدد المطبوعات الإعلامية إلى أكثر من 35 صحيفة ومجلة يومية وأسبوعية».
ومن أشهر الصحف الحكومية التي كانت تصدر في ذلك الوقت «ليبيا الحديثة»، و«برقة الجديدة». أما الصحافة الأهلية ذات الشكل التجاري فكانت تتلقى دعمًا غير مباشر من حكومة المملكة حينذاك، في صورة إعلانات واشتراكات. ويقول الرواف: «بقدر ما كان ذلك يشكل دعمًا ماليًا، إلا أنه عُد بمثابة ضغط غير مباشر وربما قيدها أحيانًا عن التمتع بحرية كاملة»، إلا أنه يشير إلى أنها مع ذلك «ساهمت في إنضاج الرأي العام المحلي وتوعيته سياسيا». ومن هذه الصحف «البلاغ» و«الرقيب» وصحيفة «الحقيقة» ذات الطابع الساخر. وفي عام 1960 تسبب انتقاد الصحف لمشروع «طريق فزان» الذي كانت تشرف عليه الحكومة في ذلك الوقت، إلى إقالة هذه الحكومة عن طريق البرلمان.
ومع وصول القذافي للحكم عام 1969، تغير حال الصحافة، وأصبحت الدولة هي التي تصدر الصحف دون وجود منافسة تذكر مع القطاع الأهلي، باستثناء صحيفتي مؤسسة «ليبيا الغد» التي ظهرت على يد سيف الإسلام في 2005، ومن أشهر الصحف في عهد النظام السابق «الشمس» و«الزحف الأخضر».
وعقب إسقاط نظام القذافي، كان الليبيون يطمحون في التأسيس لعهد جديد تنشط فيه عجلة الصحافة وتعود لسيرتها القديمة من الانتعاش والحرية، مثلما كانت في العهد الملكي. وظهر نشاط محموم في إصدار مئات الصحف المحلية الخاصة في البلاد خلال عام 2012، ووقفت الحكومة وراء إصدار صحف مركزية، لكن سيطرة الجماعات المتشددة على البلاد، والاحتراب الأهلي، عصف بالتجربة الجديدة وهي في المهد.
واليوم تدور ماكينة المطابع من جديد. بعض هذه المطابع جرى شراؤها مما كان يعرف بدول الكتلة الشرقية، في عهد القذافي. واليوم يجري ترميمها وإصلاحها للاستفادة منها. بينما يقوم رجال أعمال بالبحث عن ماكينات طباعة جديدة مع ظهور فرص للاستثمار في هذا المجال، خصوصا أن غالبية الصحف الورقية التي تصدر ليس لها مواقع إلكترونية يمكن الوصول إليها عبر الإنترنت.
وبينما يخطط بعض القائمين على الإصدارات الورقية، إلى إتاحة نسخ منها على الإنترنت، يعارض آخرون هذا التوجه، ويرون الاكتفاء بموقع يحمل اسم الصحيفة وفيه الأخبار اليومية التي تبثها الوكالات، والاحتفاظ بالمادة الإعلامية الخاصة بالصحيفة في نسختها الورقية فقط، لأسباب تتعلق بالبيع وجلب الإعلانات والاشتراكات.
وانفتحت شهية العمل الصحافي في بنغازي منذ تقدم الجيش إلى قلب بنغازي وقيامه منذ الصيف الماضي بتحرير غالبية ضواحي المدينة شهرا بعد شهر. والتقى عشرات من الإعلاميين وصناع الصحافة في زوايا بنغازي لاستغلال الوقت وملء الفراغ. وزادت صحف مثل «أخبار بنغازي» من نسخها المطبوعة. ودخلت على الخط صحف منافسة أخرى.
وبالتزامن مع هذا تشهد بنغازي حركة دائبة لتطوير العمل الصحافي. وساهم قسم الصحافة والنشر في كلية الإعلام التابعة لجامعة قار يونس (جامعة بنغازي حاليا) في هذا الحراك بتنظيمه ورشات عمل متخصصة في العمل الصحافي لطلاب يعتزمون الانخراط في المهنة، منها محاضرة قام بها المدرب الإعلامي مجدي الفيتوري في قلب المدينة.
ورغم ظروفها الصعبة بسبب تلغيم المتطرفين مبناها، تؤازر جامعة بنغازي التجارب الصحافية الناشئة من خلال كلية الإعلام والعاملين في حقل الصحافة. وتضمنت ورقة من الأوراق التي بحثها أساتذة الكلية، والمشاركون من خارجها، قضية حرية الصحافة في البلاد. وتشارك كل من هيئة الإعلام والثقافة، وهيئة دعم وتشجيع الصحافة، وهيئة الإعلام الخارجي، في أنشطة مماثلة، منها تنظيم منافسة على جائزة باسم أحد «شهداء الصحافة» وهو مفتاح بوزيد، رئيس تحرير صحيفة «برنيق»، الذي اغتاله إرهابيون في وسط المدينة عام 2014.
ومن بين من فقدوا أرواحهم بسبب عملهم في مهنة الصحافة والإعلام، مفتاح القطراني، مدير شركة الأنوار للإنتاج الإعلامي في مدينة بنغازي، حيث قتل برصاصة في الرأس وهو جالس في مكتبه. كما قتل المذيع في راديو «ليبيا الوطن»، المعتصم بالله الورفلي، ومفتاح بوزيد رئيس تحرير صحيفة برنيق. إلى جانب صحافيين آخرين من بينهم نصيب كرنافة، وعبد الله بن نزهة، ورضوان الغرياني، وصالح حفيانة، وعز الدين قوصاد.