من التاريخ: أزمة السيادة البحرية العثمانية

خير الدين بربروسا
خير الدين بربروسا
TT

من التاريخ: أزمة السيادة البحرية العثمانية

خير الدين بربروسا
خير الدين بربروسا

ما زلت متأثرًا تأثرًا شديدًا بكتاب ألفريد ثاير ماهان «تأثير القوة البحرية على التاريخ» The influence of sea power upon history الذي كتبه في عام 1890، وأكد من خلاله أن القوة البحرية هي العنصر الحاسم للهيمنة السياسية عند أي دولة تأمل في لعب دور على المستوى الدولي. واستند في ذلك إلى دراسة متعمقة لدور البحرية في حركة التاريخ، إذ اعتبرها المفتاح الحقيقي لحسم الصراع على هيمنة أي قوة على النظام الإقليمي أو الدولي، ولعل مثال الدولة العثمانية في القرن السادس عشر يأتي تأكيدًا لأطروحة هذا الكتاب الاستراتيجي. ذلك أنه رغم كون الدولة العثمانية القوة البرّية الأولى في أوروبا قولاً واحدًا، فإنها لم تستطع أن تفرض هيمنتها على القارة الأوروبية، بل اكتفت بدورها الملحوظ في وسط أوروبا وجنوب شرقيها، وحول المدن الساحلية الجنوبية لأوروبا في أوقات متقطعة. والعنصر الأساسي في تقديري وراء خسوف القوة السياسية العثمانية، إلى جانب الخلفاء الضعفاء للسلطان سليمان «القانوني»، كان ضعف بحريتها، بينما كانت الأساطيل الأوروبية قد تطورت وتقدمت، بل وتفوقت. والحق أن الدولة العثمانية لم تشذ في ذلك عن التقليد الموروث للخلافات والدول الإسلامية المتعاقبة التي مثلت قوى قارية Continental كبرى، لكنها لم تتمتع أبدًا بالقوة البحرية الحاسمة والمهيمنة على المناطق المتاخمة للأراضي التي كانت تحت سيادتها. ولعل في هذا تبرير جزئي غير مانع للسبب وراء إخفاق أي دولة أو خلافة إسلامية في الهيمنة على النظام الدولي، إذ لم تشهد السياسة الدولية أحادية قطبية إسلامية عبر التاريخ لهذا السبب.
واقع الأمر أن كثيرين من السلاطين العثمانيين اهتموا اهتمامًا ملحوظًا بتطوير البحرية العثمانية، خصوصًا بعد عصر الاكتشافات الجغرافية، بل حتى من قبلها، لا سيما محمد «الفاتح». ولكن الدفعة التي ولدتها شخصية خير الدين بربروسا (أو بربروس)، قائد الأسطول العثماني، بالتعاون مع السلطان سليمان «القانوني»، في منتصف القرن السادس عشر، لم تدم أو تتكرر.
كان بربروسا - واسمه الأصلي خضر بن يعقوب، وأما لقب «بربروسا» فيعني بالإيطالية «اللحية الحمراء» - من رجال الإنكشارية، وقد استوطن الجزائر مع أخيه عروج، وظل يحارب الإسبان بحريًا، ويغير على شواطئهم وفي المتوسط، حتى فتح السلطان سليمان «القانوني» معه حوارًا لضمه إلى البحرية العثمانية، وهو ما قبله مع أخيه، إذ أصبح واليه على الجزائر. ومن ثم، عيّن «قبطان باشا»، أي قائد البحرية ومسؤولاً عن صناعة السفن والأساطيل، وكفل له كل التمويل والأيدي العاملة. وهذا ما منح الدولة العثمانية الفرصة كي تصبح القوة البحرية الأولى في المتوسط، مع منافسة دويلتي البندقية (فينتيزيا) وجنوى التجاريتين اللتين طورتا أسطوليهما لتأمين تجارتهما الدولية. ولقد لعبت سياسية توازن القوى دورها في البحر المتوسط، تمامًا كما فعلت في المسرح الأرضي في جنوب شرقي أوروبا، وكانت انعكاسًا للتطورات في هذا المسرح على النحو الذي تابعناه في الأسبوع الماضي.
وإبان فترة قيادته، استطاع بربروسا أن يستولى على تونس، ويضمها إلى الباب العالي، إلى جانب الجزائر التي كانت بحوزته. ولكن في عام 1535، جمع الإمبراطور الأوروبي، بالتحالف مع البابا وعدد من الدول الأوروبية (منها إسبانيا)، أسطولاً بحريًا كبيرًا استطاع أن يستعيد تونس، لكنه فشل في محاولة قتل بربروسا الذي كان قد وجه جزءًا لا بأس به من أسطوله إلى الجزائر متفاديًا هزيمة واضحة، ثم عاد من جديد لمزاولة نشاطه البحري، بالإغارة على الشواطئ الأوروبية. وبعد ذلك، رجع إلى إسطنبول للإشراف على بناء أسطول أقوى عام 1537، ولاحقًا استأنف فرض سطوته على المتوسط، إلى أن أقام الأوروبيون تحالفًا جديدًا، عرف باسم «عصبة فينتزيا»، وأعدوا أسطولاً قويًا تحت قيادة بحار محنّك من جنوى، هو آندريا دوريا.
وفي ضوء هذا التطور، صار وضع الأسطول العثماني حرجًا، رغم تحالف فرنسا معه، خصوصًا عندما سارت الأمور نحو معركة بحرية حاسمة، مثل معركة أكتيوم البحرية التي شهدها شرق المتوسط إبان الحرب الأهلية الرومانية في عام 31 ق.م، والتي كانت ستحسم السيادة على المتوسط مرة أخرى لصالح الغرب على حساب الشرق. لكن كفاءة بربروسا وتكتيكاته كانت مجددًا العنصر المرجح، إذ إنه تفادى الدخول في معركة مفتوحة مع أسطول أقوى من أسطوله، وظل يتبع سياسة الاستنزاف والكرّ والفرّ، مانحًا نفسه الوقت لتفتيت التحالف ضده بمرور الزمن، وهو ما نجح فيه في عام 1538. وهكذا، تركت حكمة بربروسا البحر المتوسط تحت السيادة النسبية للدولة العثمانية، بعد تفكك التحالف المنافس، واستطاع هذا الرجل الفذ أن يُغير على المدن الإيطالية والإسبانية، وإن كان لم يفلح بحسم السيادة على المتوسط قبل مماته في عام 1556.
حقيقة الأمر أن الدولة العثمانية كانت تعاني من مشكلة رئيسة، هي وجود جبهتين بحريتين مفتوحتين في آن واحد: الأولى في المتوسط، والثانية كثيرًا ما يتناساها المفكرون والمؤرخون، وهي مسرح الحروب في الخليج العربي والشاطئ الهندي. فمنذ هزيمة الأسطول المشترك للدولة العثمانية والمماليك أمام البرتغاليين في معركة ديو البحرية، أمام ساحل الهند عام 1509، استطاع الأوروبيون تحويل طرق التجارة عبر رأس الرجاء الصالح موجهين ضربة قاسية للدولتين الإسلاميتين. ولم ينس العثمانيون هذا المسرح الحربي، غير أن المتوسط ظل الأولوية خلال الحقب الأولى من القرن السادس عشر. كذلك فإن الظروف الحربية ووضعية البحرية لم تكن تسمح لهم بذلك إلا بعد مرور ثلاث حقب، حين حاول الأسطول المنقول للدولة العثمانية من المتوسط عبر السويس الاستيلاء على ميناء ديو مرة أخرى، بغية تحويل طرق التجارة الدولية عبر الأراضي العثمانية إلى الشرق. لكن هذه المحاولة باءت بالفشل، ولم تسفر إلا عن الاستيلاء على اليمن. ثم كرّر العثمانيون المحاولة في عام 1551، تحت قيادة القائد العثماني بيري، عندما وجه سليمان «القانوني» جهده للاستيلاء على الخليج العربي ومضيق هرمز في مواجهة البرتغاليين. بيد أنه رغم استيلائه على عُمان ودخوله الخليج العربي، لم يتمكن من التغلب على الأسطول البرتغالي، ولقد فرّ القائد وهرب بثلاث سفن محملة بالأموال والجواهر، وعاد إلى القاهرة، لكن السلطان قطع رأسه ثمنًا لجبنه أو خيانته ليكون عبرة لمن يأت بعده. ومن ثم، جهز أسطولاً جديدًا خرج من البصرة لمساندة الأسطول العثماني في الخليج، ومع أن هذا الأخير نجح في كسر حصار البرتغاليين، فإنه لم ينج من الإعصار الذي ضرب الأسطول وفتك به. وهكذا، استسلم العثمانيون لسيادة البرتغاليين على الطرق التجارية، واكتفوا مرة أخرى بأن يكونوا القوة القارية البرية على الساحتين العربية والأوروبية.
أما في المتوسط، فقد انتقلت قيادة الأسطول العثماني تباعًا لمن لم يكن لهم حنكة العبقري بربروسا، وبالتالي بدأت الدول الأوروبية تستعيد نفوذها تدريجيًا. ورغم بعض الانتصارات المهمة، مثل استعادة طرابلس الغرب في العام التالي لموته، فشل العثمانيون عام 1558 في الاستيلاء على جزيرة مالطة، كما فعل السلطان سليمان في جزيرة رودس عام 1522 في مطلع حكمه، وهذا ما ترك جزءًا مهمًا من المتوسط في أيدي القوات المناوئة للدولة العثمانية. واستمر الصراع البحري حتى حسم في عام 1571 في معركة ليبانتو Lepanto البحرية الشهيرة التي وصف البعض نتائجها وآثارها على أنها تكرار لمعركة بلاط الشهداء (بواتييه) Poitier البرية في عام 732م التي أوقفت الزحف العربي على أوروبا الغربية.
حقيقة الأمر، ومن خلال متابعة المسرحين البحريين للدولة العثمانية، يتحتم علينا الوصول إلى نتيجة لا مفر منها، وهي أن الدولة العثمانية لو كانت قد استطاعت حسم المسرحين الحربيين في المتوسط والخليج، وإعادة التجارة الدولية عبر طرقها القديمة المارة بها، والسيطرة على حركة الاستكشافات الجغرافية في الشرق، فإن أحوال الدولة العثمانية كانت ستتحسن بكل تأكيد، ولأصبحت الفرصة مواتية لفرض الهيمنة العثمانية الجزئية على المنظومة السياسية الدولية والأوروبية. وإذا ما أضفنا إلى ذلك هزيمة ليبانتو، فإن النتيجة الحتمية كانت بداية تحلل النفوذ السياسي والعسكري العثماني في المتوسط، ومن بعده العالم الخارجي. ذلك أن التفوق الأوروبي الذي استتبع ذلك، سواء لبريطانيا أو فرنسا أو روسيا، حسم الأمر لصالح تقليص دور الدولة العثمانية بحريًا بلا رجعة، خصوصًا مع ظهور البحرية الروسية التي أسّسها بطرس الكبير.
وفعلاً لعبت هذه البحرية دورًا حاسمًا في تفتت الجبهة الشرقية للدولة العثمانية، إلى أن اضطرت إسطنبول في مرحلة تاريخية محددة إلى الاستعانة بروسيا عام 1833 لحمايتها من القوات المصرية التي كانت تتأهب لوراثة الدولة العثمانية بقوتها البرية والبحرية الفتية. وهكذا، فإن أطروحة ثاير ماهان صدقت بشكل قاطع مع الدولة العثمانية، ورغم المقولة الشهيرة «إن المشاة هم سادة المسرح العسكري»، يمكن القول إن تسيد البحار هو المفتاح الهام للهيمنة السياسية والعسكرية على المحيط الدولي.



يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
TT

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني فرض الأحكام العرفية، وتعليق الحكم المدني، وإرساله قوة عسكرية مدعومة بالهيلوكوبترات إلى البرلمان. ثم اضطراره للتراجع عن قراره في وجه معارضة عارمة. بيد أن تراجع الرئيس خلال ساعات قليلة من هذه المغامرة لم يزد المعارضة إلا إصراراً على إطاحته، في أزمة سياسية غير مسبوقة منذ التحوّل الديمقراطي في البلاد عام 1980 بعد فترة من الحكم التسلطي. ولقد تطوّرت الأوضاع خلال الأيام والساعات الأخيرة من الاحتجاجات في الشوارع إلى تصويت برلماني على عزل يون. وبعدما أقر البرلمان عزل الرئيس ردّ الأخير بتأكيد عزمه على المقاومة والبقاء... في أزمة مفتوحة لا تخلو من خطورة على تجربة البلاد الديمقراطية الطريّة العود.

دبلوماسي مخضرم خدم في كوريا الجنوبية قال، قبل بضعة أيام، معلقاً على الأزمة المتصاعدة: «إذا تم تمرير اقتراح العزل، يمكن وقف (الرئيس) يون (سوك - يول) عن مباشرة مهام منصبه لمدة تصل إلى 180 يوماً، بينما تنظر المحكمة الدستورية في القضية. وفي هذا (السيناريو)، يتولى رئيس الوزراء هان دوك سو منصب الرئيس المؤقت، وتُجرى انتخابات جديدة في غضون 60 يوماً».

وبالفعل، دعا هان دونغ - هون، زعيم حزب «قوة الشعب»، الحاكم، إلى تعليق سريع لسلطات الرئيس مستنداً - كما قال - إلى توافر «أدلة موثوقة» على أن يون سعى إلى اعتقال القادة السياسيين بعد إعلانه الأحكام العرفية الذي لم يدُم طويلاً. ومما أورده هان - الذي كان في وقت سابق معارضاً للمساعي الرامية إلى عزل يون - إن «الحقائق الناشئة حديثاً قلبت الموازين ضد يون، بالتالي، ومن أجل حماية كوريا الجنوبية وشعبنا، أعتقد أنه من الضروري منع الرئيس يون من ممارسة سلطاته رئيساً للجمهورية على الفور». وتابع زعيم الحزب الحاكم أن الرئيس لم يعترف بأن إعلانه فرض الأحكام العرفية إجراء غير قانوني وخاطئ، وكان ثمة «خطر كبير» من إمكانية اتخاذ قرار متطرف مماثل مرة أخرى إذا ظل في منصبه.

بالتوازي، ذكرت تقارير إعلامية كورية أن يون يخضع حالياً للتحقيق بتهمة الخيانة إلى جانب وزير الدفاع المستقيل كيم يونغ - هيون، (الذي ذُكر أنه حاول الانتحار)، ورئيس أركان الجيش الجنرال بارك آن - سو، ووزير الداخلية لي سانغ - مين. وحقاً، تمثل الدعوة التي وجهها هان، وهو وزير العدل وأحد أبرز منافسي يون في حزب «قوة الشعب»، تحولاً حاسماً في استجابة الحزب الحاكم للأزمة.

خلفية الأزمة

تولى يون سوك - يول منصبه كرجل دولة جديد على السلطة، واعداً بنهج عصري مختلف في حكم البلاد. إلا أنه في منتصف فترة ولايته الرئاسية الوحيدة التي تمتد لخمس سنوات، شهد حكمه احتكاكات شبه دائمة مع البرلمان الذي تسيطر عليه المعارضة، وتهديدات «بالإبادة» من كوريا الشمالية، ناهيك من سلسلة من الفضائح التي اتهم وعائلته بالتورّط فيها.

وعندما حاول يون في خطابه التلفزيوني تبرير فرض الأحكام العرفية، قال: «أنا أعلن حالة الطوارئ من أجل حماية النظام الدستوري القائم على الحرية، وللقضاء على الجماعات المشينة المناصرة لنظام كوريا الشمالية، التي تسرق الحرية والسعادة من شعبنا»، في إشارة واضحة إلى الحزب الديمقراطي المعارض، مع أنه لم يقدم أي دليل على ادعائه.

إلا أن محللين سياسيين رأوا في الأيام الأخيرة أن الرئيس خطّط على الأرجح لإصدار مرسوم «الأحكام العرفية الخرقاء» أملاً بحرف انتباه الرأي العام بعيداً عن الفضائح المختلفة والإخفاق في معالجة العديد من القضايا المحلية. ولذا اعتبروا أن عليه ألا يطيل أمد حكمه الفاقد الشعبية، بل يبادر من تلقاء نفسه إلى الاستقالة من دون انتظار إجراءات العزل، ومن ثم، السماح للبلاد بانتخاب رئيس جديد.

بطاقة هوية

ولد يون سوك - يول، البالغ من العمر 64 سنة، عام 1960 في العاصمة سيول لعائلة من الأكاديميين اللامعين. إذ كان أبوه يون كي - جونغ أستاذاً للاقتصاد في جامعة يونساي، وأمه تشوي سيونغ - جا محاضرة في جامعة إيوها للنساء قبل زواجها. وحصل يون على شهادته الثانوية عام 1979، وكان يريد في الأصل أن يدرس الاقتصاد ليغدو أستاذاً، كأبيه، ولكن بناءً على نصيحة الأخير درس الحقوق، وحصل على شهادتي الإجازة ثم الماجستير في الحقوق من جامعة سيول الوطنية - التي هي إحدى «جامعات النخبة الثلاث» في كوريا مع جامعتي يونساي وكوريا - وأصبح مدّعياً عاماً بارزاً قاد حملة ناجحة لمكافحة الفساد لمدة 27 سنة.

ووفق وسائل الإعلام الكورية، كانت إحدى محطات حياته عندما كان طالب حقوق عندما لعب دور القاضي في محاكمة صورية للديكتاتور (آنذاك) تشون دو - هوان، الذي نفذ انقلاباً عسكرياً وحُكم عليه بالسجن مدى الحياة. وفي أعقاب ذلك، اضطر يون إلى الفرار إلى الريف مع تمديد جيش تشون الأحكام العرفية ونشر القوات والمدرّعات في الجامعة.

بعدها، عاد يون إلى العاصمة، وصار في نهاية المطاف مدعياً عاماً، وواصل ترقيه الوظيفي ما يقرب من ثلاثة عقود، بانياً صورة له بأنه حازم وصارم لا يتسامح ولا يقدّم تنازلات.

مسيرته القانونية... ثم الرئاسة

قبل تولي يون سوك - يول رئاسة الجمهورية، كان رئيس مكتب الادعاء العام في المنطقة المركزية في سيول، وأتاح له ذلك محاكمة أسلافه من الرؤساء. إذ لعب دوراً فعالاً في إدانة الرئيسة السابقة بارك غيون - هاي التي أُدينت بسوء استخدام السلطة، وعُزلت وأودعت السجن عام 2016. كذلك، وجه الاتهام إلى مون جاي - إن، أحد كبار مساعدي خليفة الرئيسة بارك، في قضية احتيال ورشوة.

أما على الصعيد السياسي، فقد انخرط يون في السياسة الحزبية قبل سنة واحدة فقط من فوزه بالرئاسة، وذلك عندما كان حزب «قوة الشعب» المحافظ - وكان حزب المعارضة يومذاك - معجباً بما رأوه منه كمدّعٍ عام حاكم كبار الشخصيات، وأقنع يون، من ثم، ليصبح مرشح الحزب لمنصب رئاسة الجمهورية.

وفي الانتخابات الرئاسية عام 2022 تغلّب يون على منافسه الليبرالي لي جاي - ميونغ، مرشح الحزب الديمقراطي، بفارق ضئيل بلغ 0.76 في المائة... وهو أدنى فارق على الإطلاق في تاريخ الانتخابات في البلاد.

الواقع أن الحملة الانتخابية لعام 2022 كانت واحدةً من الحملات الانتخابية القاسية في تاريخ البلاد الحديث. إذ شبّه يون غريمه لي بـ«هتلر» و«موسوليني». ووصف حلفاء لي الديمقراطيون، يون، بأنه «وحش» و«ديكتاتور»، وسخروا من جراحة التجميل المزعومة لزوجته.

إضافة إلى ذلك، شنّ يون حملته الانتخابية بناء على إلغاء القيود المالية والموقف المناهض للمرأة. لكنه عندما وصل إلى السلطة، ألغى وزارة المساواة بين الجنسين والأسرة، قائلاً إنها «مجرد مقولة قديمة بأن النساء يُعاملن بشكل غير متساوٍ والرجال يُعاملون بشكل أفضل». وللعلم، تعد الفجوة في الأجور بين الجنسين في كوريا الجنوبية الأسوأ حالياً في أي بلد عضو في «منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية».

أيضاً، أدى استخدام يون «الفيتو» تكراراً إلى ركود في العمل الحكومي، بينما أدت تهم الفساد الموجهة إلى زوجته لتفاقم السخط العام ضد حكومته.

تراجع شعبيته

بالتالي، تحت ضغط الفضائح والخلافات، انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أجرته مؤسسة «غالوب كوريا» أن شعبيته انخفضت إلى 19 في المائة فقط. وتعد «كارثة» الأحكام العرفية الحلقة الأخيرة في سلسلة من الممارسات التي حددت رئاسة يون وأخطائها.

إذ ألقي باللوم على إدارة يون في التضخم الغذائي، وتباطؤ الاقتصاد، والتضييق المتزايد على حرية التعبير. وفي أواخر 2022، بعدما أسفر تدافع حشود في احتفال «الهالوين» (البربارة) في سيول عن سقوط 159 قتيلاً، تعرضت طريقة تعامل الحكومة مع المأساة لانتقادات واسعة.

زوجته في قلب مشاكله!

من جهة ثانية، كانت كيم كيون - هي، زوجة الرئيس منذ عام 2012، سبباً آخر للسخط والانتقادات في وسائل الإعلام الكورية الجنوبية. فقد اتهمت «السيدة الأولى» بالتهرب الضريبي، والحصول على عمولات لاستضافة معارض فنية عن طريق عملها. كذلك واجهت اتهامات بالانتحال الأدبي في أطروحتها لنيل درجة الدكتوراه وغيرها من الأعمال الأكاديمية.

لكن أكبر فضيحة على الإطلاق تورّطت فيها كيم، كانت قبولها عام 2023 هدية هي حقيبة يد بقيمة 1800 جنيه إسترليني سراً من قسيس، الأمر الذي أدى إلى مزاعم بالتصرف غير اللائق وإثارة الغضب العام، لكون الثمن تجاوز الحد الأقصى لما يمكن أن يقبله الساسة في كوريا الجنوبية وشركاؤهم قانونياً لهدية. لكن الرئيس يون ومؤيديه رفضوا هذه المزاعم وعدوها جزءاً من حملة تشويه سياسية.

أيضاً أثيرت تساؤلات حول العديد من القطع الثمينة من المجوهرات التي تملكها «السيدة الأولى»، والتي لم يعلَن عنها كجزء من الأصول الرئاسية الخاصة. وبالمناسبة، عندما فُتح التحقيق في الأمر قبل ست سنوات، كان زوجها رئيس النيابة العامة. أما عن حماته، تشوي يون - سون، فإنها أمضت بالفعل حكماً بالسجن لمدة سنة إثر إدانتها بتزوير وثائق مالية في صفقة عقارية.

يُضاف إلى كل ما سبق، تعرّض الرئيس يون لانتقادات تتعلق باستخدام «الفيتو» الرئاسي في قضايا منها رفض مشروع قانون يمهد الطريق لتحقيق خاص في التلاعب المزعوم بالأسهم من قبل زوجته كيم كيون - هي لصالح شركة «دويتشه موتورز». وأيضاً استخدام «الفيتو» ضد مشروع قانون يفوّض مستشاراً خاصاً بالتحقيق في مزاعم بأن مسؤولين عسكريين ومكتب الرئاسة قد تدخلوا في تحقيق داخلي يتعلق بوفاة جندي بمشاة البحرية الكورية عام 2023.

وهكذا، بعد سنتين ونصف السنة من أداء يون اليمين الدستورية عام 2022، وعلى أثر انتخابات رئاسية مثيرة للانقسام الشديد، انقلبت الأمور ضد الرئيس. وفي خضم ارتباك الأحداث السياسية وتزايد المخاوف الدولية يرزح اقتصاد كوريا الجنوبية تحت ضغوط مقلقة.

أمام هذا المشهد الغامض، تعيش «الحالة الديمقراطية» في كوريا الجنوبية أحد أهم التحديات التي تهددها منذ ظهورها في أواخر القرن العشرين.