من التاريخ: أزمة السيادة البحرية العثمانية

خير الدين بربروسا
خير الدين بربروسا
TT

من التاريخ: أزمة السيادة البحرية العثمانية

خير الدين بربروسا
خير الدين بربروسا

ما زلت متأثرًا تأثرًا شديدًا بكتاب ألفريد ثاير ماهان «تأثير القوة البحرية على التاريخ» The influence of sea power upon history الذي كتبه في عام 1890، وأكد من خلاله أن القوة البحرية هي العنصر الحاسم للهيمنة السياسية عند أي دولة تأمل في لعب دور على المستوى الدولي. واستند في ذلك إلى دراسة متعمقة لدور البحرية في حركة التاريخ، إذ اعتبرها المفتاح الحقيقي لحسم الصراع على هيمنة أي قوة على النظام الإقليمي أو الدولي، ولعل مثال الدولة العثمانية في القرن السادس عشر يأتي تأكيدًا لأطروحة هذا الكتاب الاستراتيجي. ذلك أنه رغم كون الدولة العثمانية القوة البرّية الأولى في أوروبا قولاً واحدًا، فإنها لم تستطع أن تفرض هيمنتها على القارة الأوروبية، بل اكتفت بدورها الملحوظ في وسط أوروبا وجنوب شرقيها، وحول المدن الساحلية الجنوبية لأوروبا في أوقات متقطعة. والعنصر الأساسي في تقديري وراء خسوف القوة السياسية العثمانية، إلى جانب الخلفاء الضعفاء للسلطان سليمان «القانوني»، كان ضعف بحريتها، بينما كانت الأساطيل الأوروبية قد تطورت وتقدمت، بل وتفوقت. والحق أن الدولة العثمانية لم تشذ في ذلك عن التقليد الموروث للخلافات والدول الإسلامية المتعاقبة التي مثلت قوى قارية Continental كبرى، لكنها لم تتمتع أبدًا بالقوة البحرية الحاسمة والمهيمنة على المناطق المتاخمة للأراضي التي كانت تحت سيادتها. ولعل في هذا تبرير جزئي غير مانع للسبب وراء إخفاق أي دولة أو خلافة إسلامية في الهيمنة على النظام الدولي، إذ لم تشهد السياسة الدولية أحادية قطبية إسلامية عبر التاريخ لهذا السبب.
واقع الأمر أن كثيرين من السلاطين العثمانيين اهتموا اهتمامًا ملحوظًا بتطوير البحرية العثمانية، خصوصًا بعد عصر الاكتشافات الجغرافية، بل حتى من قبلها، لا سيما محمد «الفاتح». ولكن الدفعة التي ولدتها شخصية خير الدين بربروسا (أو بربروس)، قائد الأسطول العثماني، بالتعاون مع السلطان سليمان «القانوني»، في منتصف القرن السادس عشر، لم تدم أو تتكرر.
كان بربروسا - واسمه الأصلي خضر بن يعقوب، وأما لقب «بربروسا» فيعني بالإيطالية «اللحية الحمراء» - من رجال الإنكشارية، وقد استوطن الجزائر مع أخيه عروج، وظل يحارب الإسبان بحريًا، ويغير على شواطئهم وفي المتوسط، حتى فتح السلطان سليمان «القانوني» معه حوارًا لضمه إلى البحرية العثمانية، وهو ما قبله مع أخيه، إذ أصبح واليه على الجزائر. ومن ثم، عيّن «قبطان باشا»، أي قائد البحرية ومسؤولاً عن صناعة السفن والأساطيل، وكفل له كل التمويل والأيدي العاملة. وهذا ما منح الدولة العثمانية الفرصة كي تصبح القوة البحرية الأولى في المتوسط، مع منافسة دويلتي البندقية (فينتيزيا) وجنوى التجاريتين اللتين طورتا أسطوليهما لتأمين تجارتهما الدولية. ولقد لعبت سياسية توازن القوى دورها في البحر المتوسط، تمامًا كما فعلت في المسرح الأرضي في جنوب شرقي أوروبا، وكانت انعكاسًا للتطورات في هذا المسرح على النحو الذي تابعناه في الأسبوع الماضي.
وإبان فترة قيادته، استطاع بربروسا أن يستولى على تونس، ويضمها إلى الباب العالي، إلى جانب الجزائر التي كانت بحوزته. ولكن في عام 1535، جمع الإمبراطور الأوروبي، بالتحالف مع البابا وعدد من الدول الأوروبية (منها إسبانيا)، أسطولاً بحريًا كبيرًا استطاع أن يستعيد تونس، لكنه فشل في محاولة قتل بربروسا الذي كان قد وجه جزءًا لا بأس به من أسطوله إلى الجزائر متفاديًا هزيمة واضحة، ثم عاد من جديد لمزاولة نشاطه البحري، بالإغارة على الشواطئ الأوروبية. وبعد ذلك، رجع إلى إسطنبول للإشراف على بناء أسطول أقوى عام 1537، ولاحقًا استأنف فرض سطوته على المتوسط، إلى أن أقام الأوروبيون تحالفًا جديدًا، عرف باسم «عصبة فينتزيا»، وأعدوا أسطولاً قويًا تحت قيادة بحار محنّك من جنوى، هو آندريا دوريا.
وفي ضوء هذا التطور، صار وضع الأسطول العثماني حرجًا، رغم تحالف فرنسا معه، خصوصًا عندما سارت الأمور نحو معركة بحرية حاسمة، مثل معركة أكتيوم البحرية التي شهدها شرق المتوسط إبان الحرب الأهلية الرومانية في عام 31 ق.م، والتي كانت ستحسم السيادة على المتوسط مرة أخرى لصالح الغرب على حساب الشرق. لكن كفاءة بربروسا وتكتيكاته كانت مجددًا العنصر المرجح، إذ إنه تفادى الدخول في معركة مفتوحة مع أسطول أقوى من أسطوله، وظل يتبع سياسة الاستنزاف والكرّ والفرّ، مانحًا نفسه الوقت لتفتيت التحالف ضده بمرور الزمن، وهو ما نجح فيه في عام 1538. وهكذا، تركت حكمة بربروسا البحر المتوسط تحت السيادة النسبية للدولة العثمانية، بعد تفكك التحالف المنافس، واستطاع هذا الرجل الفذ أن يُغير على المدن الإيطالية والإسبانية، وإن كان لم يفلح بحسم السيادة على المتوسط قبل مماته في عام 1556.
حقيقة الأمر أن الدولة العثمانية كانت تعاني من مشكلة رئيسة، هي وجود جبهتين بحريتين مفتوحتين في آن واحد: الأولى في المتوسط، والثانية كثيرًا ما يتناساها المفكرون والمؤرخون، وهي مسرح الحروب في الخليج العربي والشاطئ الهندي. فمنذ هزيمة الأسطول المشترك للدولة العثمانية والمماليك أمام البرتغاليين في معركة ديو البحرية، أمام ساحل الهند عام 1509، استطاع الأوروبيون تحويل طرق التجارة عبر رأس الرجاء الصالح موجهين ضربة قاسية للدولتين الإسلاميتين. ولم ينس العثمانيون هذا المسرح الحربي، غير أن المتوسط ظل الأولوية خلال الحقب الأولى من القرن السادس عشر. كذلك فإن الظروف الحربية ووضعية البحرية لم تكن تسمح لهم بذلك إلا بعد مرور ثلاث حقب، حين حاول الأسطول المنقول للدولة العثمانية من المتوسط عبر السويس الاستيلاء على ميناء ديو مرة أخرى، بغية تحويل طرق التجارة الدولية عبر الأراضي العثمانية إلى الشرق. لكن هذه المحاولة باءت بالفشل، ولم تسفر إلا عن الاستيلاء على اليمن. ثم كرّر العثمانيون المحاولة في عام 1551، تحت قيادة القائد العثماني بيري، عندما وجه سليمان «القانوني» جهده للاستيلاء على الخليج العربي ومضيق هرمز في مواجهة البرتغاليين. بيد أنه رغم استيلائه على عُمان ودخوله الخليج العربي، لم يتمكن من التغلب على الأسطول البرتغالي، ولقد فرّ القائد وهرب بثلاث سفن محملة بالأموال والجواهر، وعاد إلى القاهرة، لكن السلطان قطع رأسه ثمنًا لجبنه أو خيانته ليكون عبرة لمن يأت بعده. ومن ثم، جهز أسطولاً جديدًا خرج من البصرة لمساندة الأسطول العثماني في الخليج، ومع أن هذا الأخير نجح في كسر حصار البرتغاليين، فإنه لم ينج من الإعصار الذي ضرب الأسطول وفتك به. وهكذا، استسلم العثمانيون لسيادة البرتغاليين على الطرق التجارية، واكتفوا مرة أخرى بأن يكونوا القوة القارية البرية على الساحتين العربية والأوروبية.
أما في المتوسط، فقد انتقلت قيادة الأسطول العثماني تباعًا لمن لم يكن لهم حنكة العبقري بربروسا، وبالتالي بدأت الدول الأوروبية تستعيد نفوذها تدريجيًا. ورغم بعض الانتصارات المهمة، مثل استعادة طرابلس الغرب في العام التالي لموته، فشل العثمانيون عام 1558 في الاستيلاء على جزيرة مالطة، كما فعل السلطان سليمان في جزيرة رودس عام 1522 في مطلع حكمه، وهذا ما ترك جزءًا مهمًا من المتوسط في أيدي القوات المناوئة للدولة العثمانية. واستمر الصراع البحري حتى حسم في عام 1571 في معركة ليبانتو Lepanto البحرية الشهيرة التي وصف البعض نتائجها وآثارها على أنها تكرار لمعركة بلاط الشهداء (بواتييه) Poitier البرية في عام 732م التي أوقفت الزحف العربي على أوروبا الغربية.
حقيقة الأمر، ومن خلال متابعة المسرحين البحريين للدولة العثمانية، يتحتم علينا الوصول إلى نتيجة لا مفر منها، وهي أن الدولة العثمانية لو كانت قد استطاعت حسم المسرحين الحربيين في المتوسط والخليج، وإعادة التجارة الدولية عبر طرقها القديمة المارة بها، والسيطرة على حركة الاستكشافات الجغرافية في الشرق، فإن أحوال الدولة العثمانية كانت ستتحسن بكل تأكيد، ولأصبحت الفرصة مواتية لفرض الهيمنة العثمانية الجزئية على المنظومة السياسية الدولية والأوروبية. وإذا ما أضفنا إلى ذلك هزيمة ليبانتو، فإن النتيجة الحتمية كانت بداية تحلل النفوذ السياسي والعسكري العثماني في المتوسط، ومن بعده العالم الخارجي. ذلك أن التفوق الأوروبي الذي استتبع ذلك، سواء لبريطانيا أو فرنسا أو روسيا، حسم الأمر لصالح تقليص دور الدولة العثمانية بحريًا بلا رجعة، خصوصًا مع ظهور البحرية الروسية التي أسّسها بطرس الكبير.
وفعلاً لعبت هذه البحرية دورًا حاسمًا في تفتت الجبهة الشرقية للدولة العثمانية، إلى أن اضطرت إسطنبول في مرحلة تاريخية محددة إلى الاستعانة بروسيا عام 1833 لحمايتها من القوات المصرية التي كانت تتأهب لوراثة الدولة العثمانية بقوتها البرية والبحرية الفتية. وهكذا، فإن أطروحة ثاير ماهان صدقت بشكل قاطع مع الدولة العثمانية، ورغم المقولة الشهيرة «إن المشاة هم سادة المسرح العسكري»، يمكن القول إن تسيد البحار هو المفتاح الهام للهيمنة السياسية والعسكرية على المحيط الدولي.



خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)
TT

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار والطروحات «التخريبية» التي حملها برنامجه وباشر بتطبيقها منذ توليه المنصب في مثل هذه الأيام من العام الفائت. حالة لم يتح لها الوقت الكافي بعد كي تفجّر كل «مواهبها» ومفاجآتها التي لا يوفّر ميلي مناسبة ليتوعّد بها، خاصة بعد نيله «بركة» مثاله الأعلى، دونالد ترمب، الذي يستعد للعودة قريباً إلى البيت الأبيض.

في مقابلة أجرتها معه مجلة «الإيكونوميست» نهاية الشهر الماضي، قال ميلي إنه يشعر بازدراء لا نهاية له تجاه الدولة، مؤكداً أنه سيفعل كل ما بوسعه للقضاء على تدخل الدولة في شؤون المواطنين وتنظيم حياتهم «لأن ذلك يشكّل أسرع الطرق إلى الاشتراكية». لكن اللافت أن «الإيكونوميست»، الموصوفة برصانتها، تعتبر أن ما يقوم به هذا «المخرّب الأكبر» - كما يحلو له أن يطلق على نفسه – يجب أن يكون قدوة للولايات المتحدة وحكومتها الجديدة التي يبدو أنها مستعدة لتحذو حذو الرئيس الأرجنتيني وتكليف هذه المهمة إلى الملياردير إيلون ماسك.

تدلّ كل المؤشرات على أن الهدف الأساسي من وصول ميلي إلى الحكم، أواخر العام الفائت، هو «تدمير» الدولة من الداخل. ألغى 13 وزارة، وسرّح ما يزيد على ثلاثين ألفاً من الموظفين العموميين، وخفّض بنسب وصلت إلى 74% مخصصات الرواتب التقاعدية والتعليم والصحة والعلوم والثقافة والتنمية الاجتماعية. وعلى هذه الخلفية، سارعت أسواق المال للاحتفاء بالفائض المالي وتراجع التضخم الذي ليس سوى ثمرة واحدة من أكبر الجراحات المالية في التاريخ. لكن الوجه الآخر لهذه العملة البرّاقة كان انضمام 5 ملايين أرجنتيني إلى قافلة الفقراء الذين يعيش معظمهم على المعونة الغذائية في واحد من أغنى البلدان الزراعية والغذائية في العالم، وانكماشا اقتصاديا... من غير أن تتراجع شعبية ميلي الذي يفاخر بأنه الرئيس الأوسع شعبية على وجه الكرة الأرضية.

لا يكفّ ميلي عن مخاطبة مواطنيه عبر وسائط التواصل التي لعبت دوراً أساسياً في وصوله إلى الرئاسة، ويقول إن «القوى السماوية» التي تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى».

رئيسة الأرجنتين السابقة كريستينا كيرشنر (أ.ب)

لا يعترف الرئيس الأرجنتيني بالتغيّر المناخي، ولا بالمساواة بين الرجل والمرأة، أو بالعدالة الاجتماعية، وينكر الذاكرة التاريخية لأنظمة الاستبداد التي تعاقبت على بلاده، ويعتبر أن كل ذلك ليس سوى بدع يسارية يتوعّد بالقضاء عليها في «حرب ثقافية» يتبّلها بكل أنواع الشتائم التي توقد الحماسة في صفوف أنصاره وتزرع الحيرة في أوساط المعارضة المشتتة.

الأغرب في كل ذلك هو أن ميلي لا تؤيده سوى أقلية في مجلسي الشيوخ والنواب، فضلاً عن أن جميع حكّام الولايات الذين يتمتعون بصلاحيات واسعة، ليسوا من حزبه «الحرية تتقدم». كما أنه اضطر للإبقاء على العديد من كبار موظفي الحكومة اليسارية السابقة في مناصبهم لعدم وجود كوادر مؤهلة كافية في حزبه. لكن رغم هذا العجر الهائل، تمكّن ميلي من إقرار حزمة قوانين يعتبرها أساسية لمشروع تفكيك الدولة ورفع القيود عن العجلة الاقتصادية، من غير أن يتضّح بعد إذا كانت هذه السنة الأولى من ولايته مدخلاً لإحكام سيطرته على الدولة، أو هي تمهيد لهيمنة اليمين المتطرف على المشهد السياسي.

يعتمد ميلي على التأييد الشعبي الواسع الذي ما زال يلقاه، وعلى حاجة حكّام الولايات لموارد الدولة، وبشكل خاص على الحلف التشريعي الذي أقامه مع اليمين المعتدل ممثلاً بالحزب الذي يقوده رئيس الجمهورية الأسبق ماوريسيو ماكري. ومنذ نزوله المعترك السياسي، بعد أن كان ينشر أفكاره وطروحاته عبر البرامج التلفزيونية التي كان يقدمها، استمد شعبيته وقوته ضد ما يسميه «السلالة»، أي الطبقة السياسية التقليدية. أما الاتفاقات أو الائتلافات التي سعى إليها، فهي لم تكن سوى تكتيكية، ولم يفاوض على برنامجه مع الأحزاب أو القوى التي تحالف معها، بل بقي تحالفه الأساسي مع القاعدة الشعبية التي ما زالت تدعمه، والتي يرجّح أن تكون هي أيضاً نقطة ضعفه الرئيسية التي ستؤدي إلى سقوطه عندما تتوقف عن دعمه بعد أن تفقد الأمل الضئيل الذي ما زال يحدوها في أن تتحسن الأوضاع المعيشية.

وصفة ميلي تحقق نتائجها

يقول المقربون من ميلي إن سر استمرار شعبيته التي توقع كثيرون أنها إلى زوال سريع، هو أنه ينفّذ كل الوعود التي قطعها في حملته الانتخابية، فيما بدأ بعض منتقديه يعترفون بأن «وصفته» تحقق النتائج التي وعد بها.

وقد شهدت الأشهر الأخيرة انشقاق بعض رموز الحزب البيروني واصطفافهم إلى جانب ميلي، مثل العضو البارز في مجلس الشيوخ كارلوس باغوتو، وهو قريب من الرئيس الأسبق كارلوس منعم. وقال باغوتو: «إن ميلي هو الشخص الذي تحتاجه الأرجنتين للتخلص من الموجة الشعبوية الاشتراكية التي حكمتها طيلة العقدين المنصرمين... كنا في حال من التحلل الاجتماعي الذي بلغ مستويات يصعب تصورها. وبعد أن أصبحت الدولة تتدخل في جميع مسالك الحياة، عاجزة عن توفير الحد الأدنى من الخدمات الأساسية لشريحة واسعة من المواطنين، وبعد أن أخفقت جميع المحاولات لضبط التضخم الهائل، أدركت الطبقات المتواضعة أن الخلاص لا يمكن أن يأتي من غير تضحيات... وكان ميلي».

"يقول ميلي إن «القوى السماوية» تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى»."

خدمة مصالح رجال الأعمال

لكن قراءة المعارضة للمشهد الاجتماعي تختلف كلياً، إذ يرى وزير الداخلية السابق إدواردو دي بيدرو المقرّب من الرئيسة السابقة كريستينا كيرشنر، أن ميلي قضى على حقوق وخدمات أساسية، مثل الصحة والتعليم والحماية الاجتماعية، بينما خدم، في المقابل، مصالح رجال الأعمال والمراكز المالية. ويضيف: «إن قرارات مثل قطع الأدوية عن مرضى السرطان في المراحل الأخيرة، أو الكف عن توفير التغطية العلاجية للمتقاعدين، أو إقفال المطاعم الشعبية التي كانت تؤمن وجبات أساسية لحوالي 19% من السكان يعيشون على المعونة الغذائية، هي دليل ساطع على قسوة هذه الحكومة وعدم إحساسها».

يردّ ميلي على هذه الانتقادات بوصفها من أفعال الشيوعيين المناهضين للحرية، ويكرر أنه يقود «أفضل حكومة في التاريخ»، مقتنعاً بأنه مكلّف مهمة سماوية، ويقترح حرباً نضالية عالمية تحت راية «اليمين الدولي» من أجل القضاء نهائياً على اليسار، يجوز فيها استخدام كل الوسائل، بما في ذلك العنف. كما أكّد مؤخراً في أحد المهرجانات السياسية: «لست في وارد اللياقة أو الوفاق. لن أتراجع أبداً، وسأواصل السير نحو النار، لأن الهجوم هو أفضل وسيلة للدفاع. لسنا ملزمين بتبرير أفعالنا، وإذا فعلنا فسوف يعتبرون ذلك من باب الضعف. كلما تعرضنا لضربة من خصومنا، سنردّ الواحدة بثلاث».

تكيف وبراغماتية

الهجوم الدائم هو العلامة الفارقة في أسلوب الرئيس الأرجنتيني، لكن ميلي أظهر قدرة لافتة على التكيّف والبراغماتية التفاوضية كلّما وجد نفسه بحاجة إلى أصوات المعارضة، في مجلسي الشيوخ والنواب وبين حكام الولايات، خاصة عندما طرح «قانون الأساسات» الذي يتضمّن مئات المواد التي تعتبرها الحكومة ضرورية لتنفيذ برنامجها. يفعل ذلك وهو يدرك جيداً أن الأحزاب التقليدية فقدت شعبيتها، وهي في حال من الانهيار السريع الذي يمكن لحزبه أن يستفيد منه في الانتخابات العامة المرحلية في خريف العام المقبل ليقلب المعادلة البرلمانية الحالية التي تشكّل عائقاً كبيراً أمام مشروعه «التخريبي».

ستكون انتخابات العام المقبل حاسمة بالنسبة لميلي ليقلب المعادلة البرلمانية ويضمن الأغلبية التي تحرره من التفاوض مع المعارضة كلما أقدم على خطوة اشتراعية لتنفيذ برنامجه، خاصة أن التأييد الشعبي ليس مضموناً في المدى الطويل.

ويخشى معاونوه من أن جنوحه الشديد نحو التعصب والصدام العنيف مع خصومه السياسيين قد يبعده عن تحقيق هدفه الأساسي الذي كان وراء فوزه في الانتخابات الرئاسية، وهو معالجة الأزمة الاقتصادية المزمنة التي تتخبط فيها البلاد منذ عقود. وينصحه المقربون بعدم التمادي في «الحروب الثقافية» مع حلفائه الغربيين الذين حصرهم منذ اليوم الأول بالولايات المتحدة وإسرائيل والدول «الحرة»، وسمّى الاشتراكيين واليساريين خصومه إلى الأبد.

لكن رغم خطابه الناري والتهديدي الذي لا يخلو أبداً من الألفاظ البذيئة، والذي بدأ مستشاروه يواجهون صعوبة في تبريره بالقول إن هذا هو أسلوبه والناس تعرف ذلك، بدأ ميلي يعطي مؤشرات على أنه ليس غريباً كلياً عن البراغماتية والواقعية. وهو اعترف قبل أيام أنه تعلّم الكثير في السياسة خلال هذه السنة الأولى من ولايته. وقال إنه لم يعد لديه أعداء سياسيون في الأرجنتين، بل خصوم يريدون الخير للبلاد. وبعد أن كان صرّح مراراً خلال الحملة الانتخابية بأن الصين هي في معسكر الأعداء وبأنه لن يتعامل مع «القتلة»، قال مؤخراً: «إن الصين شريك رائع لا يطلب شيئاً سوى التبادل التجاري الهادئ» وإن الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، الذي كان وصفه غير مرة بأنه «يساري فاسد»، لن يصبح صديقه، لكن مسؤوليته الدستورية تقتضي منه التعامل معه.

الأرقام الاقتصادية في نهاية العام الأول من ولاية ميلي تظهر أن الشركات الكبرى في قطاع المحروقات، وكبار المستثمرين في أسواق المال والمصارف، هم الذين حققوا أرباحاً استثنائية خلال هذه السنة، وأن الجائزة الكبرى كانت من نصيب المتهربين من دفع الضرائب الذين استفادوا من خطة «التبييض» التي وضعها، بما يزيد على 20 مليار دولار، أي نصف القرض الذي حصلت عليه الأرجنتين منذ سنوات من صندوق النقد الدولي لوقف الانهيار الاقتصادي التام وما زالت حتى اليوم عاجزة عن سداده أو حتى عن جدولته. أما في الجهة المقابلة فكان المتقاعدون والموظفون العموميون وأصحاب المؤسسات الصغيرة والمتوسطة هم الأكثر تضرراً من النموذج الذي خفّض الإنفاق العام وألغى القيود على الواردات بهدف احتواء التضخم الجامح الذي يقضّ مضاجع ملايين الأسر منذ سنوات، فضلاً عن الفقراء (19% من السكان حسب الإحصاء الأخير) الذين حُرموا فجأة من المعونة الغذائية التي كانت تقدمها الدولة.

أرباح الشركات الكبرى في قطاع الطاقة بلغت أرقاماً قياسية هذا العام بفضل زيادة الإنتاج وتحرير الأسعار والتدابير الضريبية والجمركية والقانونية التي أعلنها ميلي الذي يريد لهذا القطاع أن يكون المحرك الأساسي لاقتصاد الأرجنتين في العقود الثلاثة المقبلة، انطلاقاً من منطقة «باتاغونيا» الشاسعة في أقصى الجنوب التي تختزن، بحسب تقديرات، ثاني أكبر احتياطي من الغاز ورابع احتياطي من النفط في العالم. وفي نهاية الشهر الماضي كانت أسعار أسهم شركة النفط الرسمية قد ارتفعت بنسبة 140% عن العام الفائت، فيما ارتفعت أسعار أسهم الشركات الخاصة 75%.

تمديد الإنفاق

في موازاة ذلك قرر ميلي تجميد الإنفاق على المشاريع العامة، بينما كان الاستهلاك يتراجع إلى أدنى مستوياته والصناعة الأرجنتينية تعاني على جبهات ثلاث: انخفاض المبيعات، وتدفق السلع المستوردة بأسعار تصعب منافستها، وتراجع الصادرات بسبب ارتفاع سعر البيزو مقابل الدولار الأميركي. إلى جانب ذلك، سحب ميلي جميع إجراءات الدعم التي كانت اتخذتها الحكومات السابقة لمساعدة الطبقات الفقيرة، ما أدّى إلى ارتفاع أسعار النقل العام بنسبة 1000% وفواتير الغاز والكهرباء والتأمين الطبي والتعليم الخاص بنسب تزيد على 500%. وكانت الأشهر الستة الأولى من ولاية ميلي هي الأكثر صعوبة، إذ تزامنت مع نسبة تضخم قاربت 30% شهرياً بحيث تجاوزت نسبة المصنفين فقراء بين السكان 53%.

ستكون الأشهر الأولى من العام الثاني لولاية ميلي، حاسمة في تقدير عدد من المراقبين، لأنها ستبيّن مدى صمود شعبيته أمام انهيار الخدمات الأساسية والمساعدات التي تعيش نسبة عالية من السكان عليها، فيما يصرّ هو على رهانه بأن الفشل الذريع الذي تتخبط فيه القوى السياسية الأرجنتينية منذ عقود سيكون الخزان الذي سيغرف منه لترسيخ شعبيته حتى نهاية الولاية.