من التاريخ: أزمة السيادة البحرية العثمانية

خير الدين بربروسا
خير الدين بربروسا
TT

من التاريخ: أزمة السيادة البحرية العثمانية

خير الدين بربروسا
خير الدين بربروسا

ما زلت متأثرًا تأثرًا شديدًا بكتاب ألفريد ثاير ماهان «تأثير القوة البحرية على التاريخ» The influence of sea power upon history الذي كتبه في عام 1890، وأكد من خلاله أن القوة البحرية هي العنصر الحاسم للهيمنة السياسية عند أي دولة تأمل في لعب دور على المستوى الدولي. واستند في ذلك إلى دراسة متعمقة لدور البحرية في حركة التاريخ، إذ اعتبرها المفتاح الحقيقي لحسم الصراع على هيمنة أي قوة على النظام الإقليمي أو الدولي، ولعل مثال الدولة العثمانية في القرن السادس عشر يأتي تأكيدًا لأطروحة هذا الكتاب الاستراتيجي. ذلك أنه رغم كون الدولة العثمانية القوة البرّية الأولى في أوروبا قولاً واحدًا، فإنها لم تستطع أن تفرض هيمنتها على القارة الأوروبية، بل اكتفت بدورها الملحوظ في وسط أوروبا وجنوب شرقيها، وحول المدن الساحلية الجنوبية لأوروبا في أوقات متقطعة. والعنصر الأساسي في تقديري وراء خسوف القوة السياسية العثمانية، إلى جانب الخلفاء الضعفاء للسلطان سليمان «القانوني»، كان ضعف بحريتها، بينما كانت الأساطيل الأوروبية قد تطورت وتقدمت، بل وتفوقت. والحق أن الدولة العثمانية لم تشذ في ذلك عن التقليد الموروث للخلافات والدول الإسلامية المتعاقبة التي مثلت قوى قارية Continental كبرى، لكنها لم تتمتع أبدًا بالقوة البحرية الحاسمة والمهيمنة على المناطق المتاخمة للأراضي التي كانت تحت سيادتها. ولعل في هذا تبرير جزئي غير مانع للسبب وراء إخفاق أي دولة أو خلافة إسلامية في الهيمنة على النظام الدولي، إذ لم تشهد السياسة الدولية أحادية قطبية إسلامية عبر التاريخ لهذا السبب.
واقع الأمر أن كثيرين من السلاطين العثمانيين اهتموا اهتمامًا ملحوظًا بتطوير البحرية العثمانية، خصوصًا بعد عصر الاكتشافات الجغرافية، بل حتى من قبلها، لا سيما محمد «الفاتح». ولكن الدفعة التي ولدتها شخصية خير الدين بربروسا (أو بربروس)، قائد الأسطول العثماني، بالتعاون مع السلطان سليمان «القانوني»، في منتصف القرن السادس عشر، لم تدم أو تتكرر.
كان بربروسا - واسمه الأصلي خضر بن يعقوب، وأما لقب «بربروسا» فيعني بالإيطالية «اللحية الحمراء» - من رجال الإنكشارية، وقد استوطن الجزائر مع أخيه عروج، وظل يحارب الإسبان بحريًا، ويغير على شواطئهم وفي المتوسط، حتى فتح السلطان سليمان «القانوني» معه حوارًا لضمه إلى البحرية العثمانية، وهو ما قبله مع أخيه، إذ أصبح واليه على الجزائر. ومن ثم، عيّن «قبطان باشا»، أي قائد البحرية ومسؤولاً عن صناعة السفن والأساطيل، وكفل له كل التمويل والأيدي العاملة. وهذا ما منح الدولة العثمانية الفرصة كي تصبح القوة البحرية الأولى في المتوسط، مع منافسة دويلتي البندقية (فينتيزيا) وجنوى التجاريتين اللتين طورتا أسطوليهما لتأمين تجارتهما الدولية. ولقد لعبت سياسية توازن القوى دورها في البحر المتوسط، تمامًا كما فعلت في المسرح الأرضي في جنوب شرقي أوروبا، وكانت انعكاسًا للتطورات في هذا المسرح على النحو الذي تابعناه في الأسبوع الماضي.
وإبان فترة قيادته، استطاع بربروسا أن يستولى على تونس، ويضمها إلى الباب العالي، إلى جانب الجزائر التي كانت بحوزته. ولكن في عام 1535، جمع الإمبراطور الأوروبي، بالتحالف مع البابا وعدد من الدول الأوروبية (منها إسبانيا)، أسطولاً بحريًا كبيرًا استطاع أن يستعيد تونس، لكنه فشل في محاولة قتل بربروسا الذي كان قد وجه جزءًا لا بأس به من أسطوله إلى الجزائر متفاديًا هزيمة واضحة، ثم عاد من جديد لمزاولة نشاطه البحري، بالإغارة على الشواطئ الأوروبية. وبعد ذلك، رجع إلى إسطنبول للإشراف على بناء أسطول أقوى عام 1537، ولاحقًا استأنف فرض سطوته على المتوسط، إلى أن أقام الأوروبيون تحالفًا جديدًا، عرف باسم «عصبة فينتزيا»، وأعدوا أسطولاً قويًا تحت قيادة بحار محنّك من جنوى، هو آندريا دوريا.
وفي ضوء هذا التطور، صار وضع الأسطول العثماني حرجًا، رغم تحالف فرنسا معه، خصوصًا عندما سارت الأمور نحو معركة بحرية حاسمة، مثل معركة أكتيوم البحرية التي شهدها شرق المتوسط إبان الحرب الأهلية الرومانية في عام 31 ق.م، والتي كانت ستحسم السيادة على المتوسط مرة أخرى لصالح الغرب على حساب الشرق. لكن كفاءة بربروسا وتكتيكاته كانت مجددًا العنصر المرجح، إذ إنه تفادى الدخول في معركة مفتوحة مع أسطول أقوى من أسطوله، وظل يتبع سياسة الاستنزاف والكرّ والفرّ، مانحًا نفسه الوقت لتفتيت التحالف ضده بمرور الزمن، وهو ما نجح فيه في عام 1538. وهكذا، تركت حكمة بربروسا البحر المتوسط تحت السيادة النسبية للدولة العثمانية، بعد تفكك التحالف المنافس، واستطاع هذا الرجل الفذ أن يُغير على المدن الإيطالية والإسبانية، وإن كان لم يفلح بحسم السيادة على المتوسط قبل مماته في عام 1556.
حقيقة الأمر أن الدولة العثمانية كانت تعاني من مشكلة رئيسة، هي وجود جبهتين بحريتين مفتوحتين في آن واحد: الأولى في المتوسط، والثانية كثيرًا ما يتناساها المفكرون والمؤرخون، وهي مسرح الحروب في الخليج العربي والشاطئ الهندي. فمنذ هزيمة الأسطول المشترك للدولة العثمانية والمماليك أمام البرتغاليين في معركة ديو البحرية، أمام ساحل الهند عام 1509، استطاع الأوروبيون تحويل طرق التجارة عبر رأس الرجاء الصالح موجهين ضربة قاسية للدولتين الإسلاميتين. ولم ينس العثمانيون هذا المسرح الحربي، غير أن المتوسط ظل الأولوية خلال الحقب الأولى من القرن السادس عشر. كذلك فإن الظروف الحربية ووضعية البحرية لم تكن تسمح لهم بذلك إلا بعد مرور ثلاث حقب، حين حاول الأسطول المنقول للدولة العثمانية من المتوسط عبر السويس الاستيلاء على ميناء ديو مرة أخرى، بغية تحويل طرق التجارة الدولية عبر الأراضي العثمانية إلى الشرق. لكن هذه المحاولة باءت بالفشل، ولم تسفر إلا عن الاستيلاء على اليمن. ثم كرّر العثمانيون المحاولة في عام 1551، تحت قيادة القائد العثماني بيري، عندما وجه سليمان «القانوني» جهده للاستيلاء على الخليج العربي ومضيق هرمز في مواجهة البرتغاليين. بيد أنه رغم استيلائه على عُمان ودخوله الخليج العربي، لم يتمكن من التغلب على الأسطول البرتغالي، ولقد فرّ القائد وهرب بثلاث سفن محملة بالأموال والجواهر، وعاد إلى القاهرة، لكن السلطان قطع رأسه ثمنًا لجبنه أو خيانته ليكون عبرة لمن يأت بعده. ومن ثم، جهز أسطولاً جديدًا خرج من البصرة لمساندة الأسطول العثماني في الخليج، ومع أن هذا الأخير نجح في كسر حصار البرتغاليين، فإنه لم ينج من الإعصار الذي ضرب الأسطول وفتك به. وهكذا، استسلم العثمانيون لسيادة البرتغاليين على الطرق التجارية، واكتفوا مرة أخرى بأن يكونوا القوة القارية البرية على الساحتين العربية والأوروبية.
أما في المتوسط، فقد انتقلت قيادة الأسطول العثماني تباعًا لمن لم يكن لهم حنكة العبقري بربروسا، وبالتالي بدأت الدول الأوروبية تستعيد نفوذها تدريجيًا. ورغم بعض الانتصارات المهمة، مثل استعادة طرابلس الغرب في العام التالي لموته، فشل العثمانيون عام 1558 في الاستيلاء على جزيرة مالطة، كما فعل السلطان سليمان في جزيرة رودس عام 1522 في مطلع حكمه، وهذا ما ترك جزءًا مهمًا من المتوسط في أيدي القوات المناوئة للدولة العثمانية. واستمر الصراع البحري حتى حسم في عام 1571 في معركة ليبانتو Lepanto البحرية الشهيرة التي وصف البعض نتائجها وآثارها على أنها تكرار لمعركة بلاط الشهداء (بواتييه) Poitier البرية في عام 732م التي أوقفت الزحف العربي على أوروبا الغربية.
حقيقة الأمر، ومن خلال متابعة المسرحين البحريين للدولة العثمانية، يتحتم علينا الوصول إلى نتيجة لا مفر منها، وهي أن الدولة العثمانية لو كانت قد استطاعت حسم المسرحين الحربيين في المتوسط والخليج، وإعادة التجارة الدولية عبر طرقها القديمة المارة بها، والسيطرة على حركة الاستكشافات الجغرافية في الشرق، فإن أحوال الدولة العثمانية كانت ستتحسن بكل تأكيد، ولأصبحت الفرصة مواتية لفرض الهيمنة العثمانية الجزئية على المنظومة السياسية الدولية والأوروبية. وإذا ما أضفنا إلى ذلك هزيمة ليبانتو، فإن النتيجة الحتمية كانت بداية تحلل النفوذ السياسي والعسكري العثماني في المتوسط، ومن بعده العالم الخارجي. ذلك أن التفوق الأوروبي الذي استتبع ذلك، سواء لبريطانيا أو فرنسا أو روسيا، حسم الأمر لصالح تقليص دور الدولة العثمانية بحريًا بلا رجعة، خصوصًا مع ظهور البحرية الروسية التي أسّسها بطرس الكبير.
وفعلاً لعبت هذه البحرية دورًا حاسمًا في تفتت الجبهة الشرقية للدولة العثمانية، إلى أن اضطرت إسطنبول في مرحلة تاريخية محددة إلى الاستعانة بروسيا عام 1833 لحمايتها من القوات المصرية التي كانت تتأهب لوراثة الدولة العثمانية بقوتها البرية والبحرية الفتية. وهكذا، فإن أطروحة ثاير ماهان صدقت بشكل قاطع مع الدولة العثمانية، ورغم المقولة الشهيرة «إن المشاة هم سادة المسرح العسكري»، يمكن القول إن تسيد البحار هو المفتاح الهام للهيمنة السياسية والعسكرية على المحيط الدولي.



منطقة الساحل... ساحة صراع بين الغرب وروسيا

طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
TT

منطقة الساحل... ساحة صراع بين الغرب وروسيا

طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)

يسدلُ الستارُ على آخر مشاهد عام 2024 في منطقة الساحل الأفريقي، ورغم أن هذه الصحراء الشاسعة ظلت رتيبة لعقود طويلة، فإن المشهد الأخير جاء ليكسر رتابتها، فلم يكن أحد يتوقع أن ينتهي العام والمنطقة خالية من القوات الفرنسية، وأن يحل محلها مئات المسلحين الروس، وأنّ موسكو ستكون أقربَ من باريس لكثير من أنظمة الحكم في العديد من بلدان القارة السمراء.ورغم أن الفرنسيين كانوا ينشرون في الساحل أكثر من 5 آلاف جندي لمحاربة الإرهاب، بينما أرسل الروس بدورهم مرتزقة شركة «فاغنر» للمساعدة في المهمة نفسها، التي فشل فيها الفرنسيون، فإن الإرهاب ما زال يتمدد، بل إنه ضرب في قلب دول الساحل هذا العام، كما لم يفعل من قبل.

لم يكن الإرهاب حجةً للتدخل العسكري الأجنبي فقط، وإنما كان حجة جيوش دول الساحل للهيمنة على الحكم في انقلابات عسكرية أدخلت الدول الثلاث، مالي، النيجر وبوركينا فاسو، في أزمة حادة مع جيرانها في المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، انتهت بالقطيعة التامة وانسحاب الدول الثلاث من المنظمة الإقليمية التي كانت حتى وقت قريب تمثّلُ حلماً جميلاً بالاندماج والتكامل الاقتصادي.

بالإضافة إلى تصاعد الإرهاب والعزلة الإقليمية، حمل عام 2024 معه لدول الساحل تداعيات مدمرة للتغيّر المناخي، فضرب الجفاف كثيراً من المحاصيل الزراعية، وجاءت بعد ذلك فيضانات دمّرت ما بقي من حقول وقرى متناثرة في السافانا، وتسببت في موت الآلاف، وتشريد الملايين في النيجر وتشاد ومالي وبوركينا فاسو.

صورة وزعها الجيش الفرنسي لمقاتلين من المرتزقة الروس خلال صعودهم إلى مروحية في شمال مالي في أبريل 2022 (الجيش الفرنسي - أ.ب)

الخروج الفرنسي

الساحل الذي يصنّف واحدة من أفقر مناطق العالم وأكثرها هشاشة، كان يمثّلُ الجبهة الثانية للحرب الروسية - الأوكرانية، فكان مسرحاً للصراع بين الغرب وروسيا، وقد تصاعد هذا الصراع في عام 2024، وتجاوز النفوذ السياسي والاستراتيجي، إلى ما يشبه المواجهة المباشرة من أجل الهيمنة على مناجم الذهب واليورانيوم وحقول النفط، والموارد الهائلة المدفونة في قلب صحراء يقطنها قرابة 100 مليون إنسان، أغلبهم يعيشون في فقر مدقع.

يمكن القول إن عام 2024 محطة فاصلة في تاريخ الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل، خصوصاً أن الفرنسيين دخلوا المنطقة مطلع القرن التاسع عشر، تحت غطاء تجاري واقتصادي، ولكن سرعان ما تحوّل إلى استعمار عسكري وسياسي، هيمن بموجبه الفرنسيون على المنطقة لأكثر من قرن من الزمان، وبعد استقلال هذه الدول، ظلت فرنسا موجودة عسكرياً بموجب اتفاقات للتعاون العسكري والأمني.

ازداد الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل بشكل واضح، عام 2013، بعد أن توجّه تنظيم «القاعدة» إلى منطقة الساحل الأفريقي، ليتخذ منها مركزاً لأنشطته بعد الضربات التي تلقاها في أفغانستان والعراق، ومستغلاً في الوقت ذاته الفوضى التي عمّت المنطقة عقب سقوط نظام العقيد الليبي معمر القذافي عام 2011. حينها أصبح الفرنسيون يقودون «الحرب العالمية على الإرهاب» في الساحل، وأطلقوا عملية «سيرفال» العسكرية في يناير (كانون الثاني) 2013، التي تحوّلت عام 2014 إلى عملية «برخان» العسكرية التي كان ينفق عليها الفرنسيون سنوياً مليار يورو، وينشرون فيها أكثر من 5 آلاف جندي في دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو وتشاد.

على وقع هذه الحرب الطاحنة بين الفرنسيين وتنظيم «القاعدة»، وانتشار الجنود الفرنسيين بشكل لافت في شوارع المدن الأفريقية، تصاعد الشعور المعادي لفرنسا في الأوساط الشعبية، ما قاد إلى انهيار الأنظمة السياسية الموالية لباريس، وسيطر عسكريون شباب على الحكم في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، وكان أول قرار اتخذوه هو «مراجعة» العلاقة مع فرنسا، وهي مراجعة انتهت بالقطيعة التامة.

حزمت القوات الفرنسية أمتعتها وغادرت مالي، ثم بوركينا فاسو والنيجر، ولكن المفاجأة الأكبر جاءت يوم 28 نوفمبر (تشرين الثاني) 2024 حين قررت تشاد إنهاء اتفاقية التعاون العسكري مع فرنسا، وهي التي ظلت دوماً توصف بأنها «حليف استراتيجي» للفرنسيين والغرب في المنطقة.

وبالفعل بدأ الفرنسيون حزم أمتعتهم ومغادرة تشاد دون أي تأخير، وغادرت مقاتلات «ميراج» الفرنسية قاعدة عسكرية في عاصمة تشاد، إنجامينا، يوم الثلاثاء 10 ديسمبر (كانون الأول) الحالي، في حين بدأ الحديث عن خطة زمنية لخروج أكثر من ألف جندي فرنسي كانوا يتمركزون في تشاد.

ربما كان تطور الأحداث خلال السنوات الأخيرة يوحي بأن الفرنسيين في طريقهم إلى فقدان نفوذهم التقليدي في منطقة الساحل، ولكن ما يمكن تأكيده هو أن عام 2024 شكّل «لحظة الإدراك» التي بدأ بعدها الفرنسيون يحاولون التحكم في صيغة «الخروج» من الساحل.

صورة جماعية لقادة دول "الإيكواس" خلال قمتهم في أبوجا بنيجيريا يوم 15 ديسمبر 2024 (أ.ف.ب)

لقد قرَّر الفرنسيون التأقلم مع الوضع الجديد في أفريقيا، حين أدركوا حجم الجهد الضائع في محاولة المواجهة والضغط على الأنظمة العسكرية المتحالفة مع روسيا، فهذه الأنظمة لا تتوقف عن «إذلال» القوة الاستعمارية السابقة بقرارات «استفزازية» على غرار اعتقال 4 موظفين بالسفارة الفرنسية في بوركينا فاسو، واتهامهم بالتجسس، وبعد عام من السجن، أُفرج عنهم بوساطة قادها العاهل المغربي الملك محمد السادس يوم 19 ديسمبر 2024.

وفي النيجر، قرَّر المجلس العسكري الحاكم، في يونيو (حزيران) 2024، إلغاء رخصة شركة فرنسية كانت تستغل منجماً لليورانيوم شمال البلاد، وسبق أن قرَّرت النيجر، على غرار مالي وبوركينا فاسو، منع وسائل الإعلام الفرنسية من البث في البلاد بعد أن اتهمتها بنشر «أخبار كاذبة».

يدخل مثل هذه القرارات ضمن مسار يؤكد أن «النقمة» تجاه الفرنسيين في دول الساحل تحوّلت إلى قرار نهائي بالقطيعة والخروج من عباءة المستعمِر السابق. وفي ظل مخاوف من اتساع رقعة هذه القطيعة لتشمل دولاً أفريقية أخرى ما زالت قريبةً من باريس، وضع الفرنسيون خطةً لإعادة هيكلة وجودهم العسكري في أفريقيا، من خلال تخفيض قواتهم المتمركزة في السنغال، وكوت ديفوار، والغابون، وجيبوتي.

أسند الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مهمة إعداد هذه الخطة إلى جان-ماري بوكل، حين عيّنه في شهر فبراير (شباط) 2024 مبعوثاً خاصاً إلى أفريقيا، وهي المهمة التي انتهت في نحو 10 أشهر، قدّم بعدها تقريراً خاصاً سلّمه إلى ماكرون، يوم 27 نوفمبر الماضي، ينصح فيه بتقليص عدد القوات الفرنسية المتمركزة إلى الحد الأدنى، وتَحوُّل القواعد العسكرية إلى «مراكز» أكثر مرونة وخفة، هدفها التركيز على التدريب العسكري، وجمع المعلومات الاستخباراتية، وتعزيز الشراكات الاستراتيجية.

الأميركيون أيضاً

حين كان الجميعُ يتحدَّث خلال العقدين الأخيرين عن الانتشار العسكري الفرنسي، والنفوذ الذي تتمتع به باريس في منطقة الساحل وغرب أفريقيا، كان الأميركيون حاضرين ولكن بصمت، ينشرون مئات الجنود من قواتهم الخاصة في النيجر؛ لمساعدة هذا البلد في حربه ضد جماعات مثل «القاعدة»، و«بوكو حرام»، و«داعش». واستخدم الأميركيون في عملياتهم قاعدة جوية في منطقة «أغاديز» خاصة بالطائرات المسيّرة التي تمكِّنهم من مراقبة الصحراء الكبرى وتحركات «القاعدة» من جنوب ليبيا وصولاً إلى شمال مالي.

ولا يزال الأميركيون أوفياء لاستراتيجية الحضور العسكري الصامت في أفريقيا، على العكس من حلفائهم الفرنسيين وخصومهم الروس، ولكن التحولات الأخيرة في منطقة الساحل أرغمتهم على الخروج إلى العلن، خصوصاً حين بدأت مجموعة «فاغنر» تتمتع بالنفوذ في النيجر. حينها أبلغ الأميركيون نظام الحكم في نيامي بأنه لا مجال لدخول «فاغنر» إلى بلد هم موجودون فيه.

وحين اختارت النيجر التوجه نحو روسيا و«فاغنر»، قرَّر الأميركيون في شهر أغسطس (آب) 2024 سحب قواتهم من النيجر، وإغلاق قاعدتهم العسكرية الجوية الموجودة في شمال البلاد.

وأعلن الأميركيون خطةً لإعادة تموضع قواتهم في غرب أفريقيا، فتوجَّهت واشنطن نحو غانا وكوت ديفوار وبنين، وهي دول رفعت من مستوى تعاونها العسكري مع الولايات المتحدة، وتسلّمت مساعدات عسكرية كانت موجهة إلى النيجر، عبارة عن مدرعات وآليات حربية.

دبابة فرنسية على مقربة من نهر النيجر عند مدخل مدينة غاو بشمال مالي يوم 31 يناير 2013 (أ.ب)

البديل الروسي

لقد كانت روسيا جاهزة لاستغلال تراجع النفوذ الغربي في منطقة الساحل، وهي المتمركزة منذ سنوات في ليبيا وجمهورية أفريقيا الوسطى، فنشرت المئات من مقاتلي «فاغنر» في مالي أولاً، ثم في بوركينا فاسو والنيجر، كما عقدت صفقات سلاح كبيرة مع هذه الدول.

لكن موسكو حاولت في العام الماضي أن ترفع من مستوى تحالفها مع دول الساحل إلى مستويات جديدة. فبالإضافة إلى الشراكة الأمنية والعسكرية، كان الروس يطمحون إلى شراكة اقتصادية وتجارية.

ولعل الحدث الأبرز في هذا الاتجاه كان جولة قام بها وفد روسي بقيادة نائب رئيس الوزراء ألكسندر نوفاك، نهاية نوفمبر الماضي، وقادته إلى دول الساحل الثلاث: مالي وبوركينا فاسو والنيجر.

كان الهدف من الجولة هو «تعزيز الشراكة الاقتصادية»، مع تركيز روسي واضح على مجال «الطاقة». فقد ضم الوفد الروسي رجال أعمال وفاعلين في قطاع الطاقة، وسط حديث عن اتفاقات لإقامة محطات لإنتاج الطاقة الشمسية، تتولى شركات روسية تنفيذها في الدول الثلاث.

وفي شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، وقَّع رؤساء مالي وبوركينا فاسو والنيجر اتفاقاً مع وكالة الفضاء الروسية، ستقدم بموجبه الوكالة الروسية لهذه الدول «صور الأقمار الاصطناعية»؛ من أجل تعزيز مراقبة الحدود وتحسين الاتصالات، أي أن روسيا أصبحت العين الرقيبة على دول الساحل بعد أن أُغمضت العين الفرنسية. هذا عدا عن نجاح روسيا في اللعب بورقة الأمن الغذائي، فكان القمح الروسي أهم سفير لموسكو لدى دول الساحل، وفي العام الماضي أصبحت موسكو أكبر مورِّد للحبوب لهذه الدول التي تواجه مشكلات كبيرة في توفير حاجياتها من الغذاء، فأصبح القمح الروسي يسيطر على سوق حجمها 100 مليون نسمة.

رغم المكاسب التي حققتها روسيا في منطقة الساحل الأفريقي، فإن عام 2024 حمل معه أول هزيمة تتعرَّض لها مجموعة «فاغنر» الخاصة، منذ أن بدأت القتال إلى جانب الجيش المالي، قبل سنوات عدة.

جاء ذلك حين تصاعدت وتيرة المعارك بين الجيش المالي والمتمردين الطوارق، إثر انسحاب مالي من اتفاقية الجزائر المُوقَّعة بين الطرفين عام 2015، ودخل الطرفان في هدنة بموجبها امتدت لقرابة 10 سنوات. لكن الهدنة انتهت حين قرر الماليون الزحف العسكري نحو الشمال حيث يتمركز المتمردون.

استطاع الجيش المالي، المدعوم من «فاغنر»، أن يسيطر سريعاً على كبريات مدن الشمال، حتى لم تتبقَّ في قبضة المتمردين سوى قرية صغيرة، اسمها تينزواتين، على الحدود مع الجزائر، وعلى مشارفها وقعت معركة نهاية يوليو (تموز) 2024، قُتل فيها العشرات من الجيش المالي و«فاغنر»، ووقع عدد منهم في الأسر.

كانت هزيمة مفاجئة ومذلة، خصوصاً حين نشر المتمردون مقاطع فيديو لعشرات الجثث المتفحمة، بعضها يعود لمقاتلين من «فاغنر»، كان من بينهم قائد الفرقة التي تقدّم الدعم للجيش المالي من أجل استعادة السيطرة على شمال البلاد.

طائرة ميراج فرنسية تُقلع من قاعدة في إنجامينا... (أ.ف.ب)

المفاجأة الأوكرانية

اللافت بعد هزيمة «فاغنر» والجيش المالي في «معركة تينزواتين» هو اكتشاف دور لعبته أوكرانيا في دعم المتمردين من أجل كسر كبرياء روسيا، من خلال إذلال «فاغنر»، وهو ما أكدته مصادر أمنية وعسكرية أوكرانية.

تحدَّثت مصادر عدة عن حصول المتمردين في شمال مالي على تدريب خاص في أوكرانيا، واستفادتهم من طائرات مسيّرة حصلوا عليها من كييف مكّنتهم من حسم المعركة بسرعة، بالإضافة إلى معلومات استخباراتية وفّرتها لهم المخابرات الأوكرانية وكان لها الأثر الكبير في الهزيمة التي لحقت بقوات «فاغنر» وجيش مالي.

لم يكن لأوكرانيا، في الواقع، أي نفوذ في منطقة الساحل الأفريقي، ولا يتجاوز حضورها سفارات شبه نائمة، لكنها وبشكل مفاجئ ألحقت بروسيا أول هزيمة على صحراء مالي، وأصبحت تطمح لما هو أكثر من ذلك. ولكن مالي أعلنت بعد مرور أسبوع على «معركة تينزواتين»، قطع علاقاتها الدبلوماسية مع أوكرانيا، وتبعتها في ذلك النيجر وبوركينا فاسو، كما تقدَّمت مالي بشكوى إلى مجلس الأمن الدولي تتهم فيها أوكرانيا بدعم «الإرهاب» في منطقة الساحل الأفريقي.

رغم مكاسب روسيا في الساحل، إلا إن عام 2024 حمل معه أول هزيمة لمجموعة «فاغنر» منذ أن بدأت القتال إلى جانب جيش مالي

قادة مالي الكولونيل أسيمي غويتا، والنيجر الجنرال عبدالرحمن تياني، وبوركينا فاسو النقيب إبراهيم تراوري خلال لقاء لـ "تحالف دول الساحل" في نيامي، عاصمة النيجر، يوم 6 يوليو الماضي (رويترز)

خطر الإرهاب

في 2024 كثّفت جيوش دول الساحل حربها ضد التنظيمات الإرهابية، ونجحت في تحقيق مكاسب مهمة، وقضت على مئات المقاتلين من تنظيمي «القاعدة» و«داعش»، وقد ساعدت على ذلك الشراكة مع روسيا، حيث حصلت جيوش الساحل على أسلحة روسية متطورة، كما كان هناك عامل حاسم تَمثَّل في مسيّرات «بيرقدار» التركية التي قضت على مئات المقاتلين.

لكن الخطوة الأهم في الحرب، جاءت يوم 6 مارس (آذار) 2024، حين أعلن قادة جيوش دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو إنشاء «قوة عسكرية مشتركة»؛ لمواجهة الجماعات الإرهابية التي تنشط في المنطقة، خصوصاً في المناطق الحدودية، ما قلّص من قدرة التنظيمات الإرهابية على التنقل عبر الحدود.

في هذه الأثناء قرَّرت دول الساحل رفع مستوى هذا التعاون مطلع يوليو 2024، من خلال تشكيل «تحالف دول الساحل»؛ بهدف توحيد جهودها في مجال محاربة الإرهاب، ولكن أيضاً مواقفها السياسية والاقتصادية والاستراتيجية، قبل أن تتجه نحو تشكيل عملة موحدة وجواز سفر موحد.

في غضون ذلك، لم تتوقف التنظيمات الإرهابية عن شنِّ هجماتها في الدول الثلاث، ولعل الهجوم الأهم في العام الماضي ذاك الذي نفَّذه تنظيم «القاعدة» يوم 17 سبتمبر الماضي ضد مطار عسكري ومدرسة للدرك في العاصمة المالية باماكو. شكّل الهجوم الذي خلّف أكثر من 70 قتيلاً، اختراقاً أمنياً خطيراً، أثبت من خلاله التنظيم الإرهابي قدرته على الوصول إلى واحدة من أكثر المناطق العسكرية حساسية في قلب دولة مالي.

في يوم 28 يناير 2024 أعلنت الأنظمة العسكرية الحاكمة، في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، الانسحاب من المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، التي فرضت عقوبات ضد دول الساحل إثر الانقلابات العسكرية التي وقعت فيها، وفي يوليو عادت لتُشكِّل «تحالف دول الساحل».

يؤكد التحالف الجديد رغبة هذه الدول في الانسحاب من المنظمة بشكل نهائي، ولكنه في المقابل يرسم ملامح الصراع الدولي في المنطقة. فتحالف دول الساحل يمثّل المحور الموالي لروسيا، أما منظمة «إيكواس» فهي الحليف التقليدي لفرنسا والغرب.

ورغم أن منظمة «إيكواس» في آخر قمة عقدتها خلال ديسمبر الحالي، تركت الباب مفتوحاً أمام تراجع دول الساحل عن القرار، ومنحتها مهلة 6 أشهر، إلا أن القادة العسكريين لدول الساحل ردوا على المنظمة بأن قرارهم «لا رجعة فيه».