«مسك العالمي»: 22 موهوبًا عالميًا يرسمون لوحة ختام المنتدى بلغة المستقبل

وزير التجارة السعودي: قطعنا شوطًا واسعًا في تحسين بيئة العمل في الشركات الصغيرة والمتوسطة > وزيرة الشباب الإماراتية: المشاركة الجماعية للشباب تحقق الريادة في المجتمع

صورة جماعية لعدد من المتحدثين من مختلف دول العالم الذين شاركو في منتدى مسك العالمي الذي اختتم اعماله أمس (واس)
صورة جماعية لعدد من المتحدثين من مختلف دول العالم الذين شاركو في منتدى مسك العالمي الذي اختتم اعماله أمس (واس)
TT

«مسك العالمي»: 22 موهوبًا عالميًا يرسمون لوحة ختام المنتدى بلغة المستقبل

صورة جماعية لعدد من المتحدثين من مختلف دول العالم الذين شاركو في منتدى مسك العالمي الذي اختتم اعماله أمس (واس)
صورة جماعية لعدد من المتحدثين من مختلف دول العالم الذين شاركو في منتدى مسك العالمي الذي اختتم اعماله أمس (واس)

بلوحة استوحت ألوانها من أعلام 22 دولة حول العالم، لوّن منتدى مسك العالمي ختام جلساته أمس في الرياض، باستضافة 22 شابا وشابة من أصحاب المواهب والنجاحات الباهرة، على مسرح المنتدى، عبرّ كل منهم عن طموحاته مخاطبين الغد بلغة المستقبل.
وشدد مسوؤلون وخبراء عالميون خلال جلسات النقاش وورشات العمل في اليوم الثاني من فعاليات منتدى مسك العالمي أمس، على أهمية مواكبة التغيير والتطور التقني حول العالم، وتسليح الشباب بالعلوم والمعارف المفيدة التي تنعكس إيجابًا على مستقبلهم، وتنظيم البيئة الاستثمارية التي تمكّنهم من إطلاق مبادراتهم وتعزيز أعمالهم.
وامتلأت جنبات المنتدى الذي تنظمه مؤسسة محمد بن سلمان بن عبد العزيز «مسك الخيرية»، بأكثر من 1500 شاب وفتاة، نصفهم من المملكة العربية السعودية والنصف الآخر من مختلف دول العالم، و130 مختصًا وأكاديميًا من الوزراء والمسؤولين ورجال ورواد الأعمال في المجالات العلمية والتقنية والاقتصادية والثقافية والتجارية والرياضية من داخل المملكة وخارجها، تحدثوا عن نجاح مشاريعهم في قوالب مختلفة تحفّز الشباب والفتيات على مواصلة الابتكار والإبداع في مجالات الحياة وقيادة مسيرة التنمية.
من جانبه، تطرق إلفي راي سميث، مؤسس شركة Pixar المتخصصة في مجال إنتاج الرسوم المتحركة، إلى التغير الهائل الذي يحدث كل خمس سنوات في مجال التقنية وحجم وسعة تخزين الأجهزة، وهو ما ينعكس إيجابًا على المجتمع، مشيرًا إلى أنه واجه مجموعة من التحديات عندما بدأ العمل بشركته في سبعينات القرن الماضي، إذ بدأ العمل في مستودع، وكان هدفه إنتاج فيلم للرسوم المتحركة استنادًا لشغفه بالرسم منذ طفولته.
ولفت إلى أهمية الصبر والعمل الدؤوب لتحقيق الأحلام، مشيرًا إلى أن شركته بدأت إنتاج الرسوم المتحركة بطريقة يدوية، ولتحقيق حلمه في إنتاج فيلم كرتوني بواسطة وسائل التقنية احتاج إلى 20 عامًا، مضيفًا أن تكوين بيئة داعمة ومثرية في العمل لا فرق فيها بين مبدع تقنيا وفنيًا يحفز فريق العمل على الإبداع.

مواءمة التطور التكنولوجي

وفي جلسة عمل «الثورة الرقمية في مواجهة الوظائف في المستقبل»، تحدث سيبستيان ثرون، مؤسس شركة UDACITY، عن التغيرات الهائلة التي حدثت في مجال التقنية خلال العقود الأخيرة، التي غيرت العالم تمامًا، فقبل 400 عام كان الاعتماد على القوى الجسدية للعمل في الحقول، أما الآن فإن تقنية جديدة تولد كل يوم، وعلى الجميع التكيف مع التغيير، مشددًا على ضرورة أن تكون الشركات والمؤسسات جاهزة للتكنولوجيا التي ستغير كثيرًا من الأشياء في عالمنا خلال الأعوام المقبلة.
وأكد تميز «رؤية المملكة العربية السعودية 2030» التي ستحدث تغيرًا إيجابيًا في حياة سكان المملكة على حد وصفه. وقال ثرون: «سعيدون بأن نكون شركاء لمؤسسة الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز (مسك الخيرية) في برامج وخطط قادمة»، مبديًا تفاؤله بتجاوب السعودية مع التطور التقني الذي يزيد العوائد والفوائد.
ودعا إلى تسليح جيل الشباب بالمعرفة ليزيد لإنتاج، وهيكلة التعليم ليتكيف مع التطور التكنولوجي، وتغيير الطريقة القائمة على تلقين الطلبة، والاعتماد على طرق إبداعية ترتكز على التعليم بالتقنية وتعزيز المهارات.

فن القرارات
وتحدث أربعة خبراء عالميين في جلسة عمل «فن اتخاذ القرارات.. القيادة في قلب العاصفة»، عن أهمية تقييم أداء العمل باستمرار، واتخاذ القرارات المصيرية بناء على المعلومات والحقائق وليس العاطفة.
وشدد إيريك ترابر، المدير التنفيذي لشركة Dassault Aviation المتخصصة في صناعة الطائرات، على ضرورة وضع خطة بديلة للطوارئ، مشيرًا إلى أن قائد المؤسسة يتخذ القرار بناء على المعلومات التي تتوفر لديه، ولذلك فعليه أن يستند إلى فريق عمل مبدع يمنحه الثقة الكاملة بما يعينه على اتخاذ القرار بشكل صحيح.
أما جيم بريور، الرئيس التنفيذي لشركة Breyer Capital المتخصصة في الاستشارات، فركّز على وضع هيكلة للشركة تقوم على التخصص في العمل والاعتماد على الأكفاء، بما يساعد على بناء استراتيجية عمل واضحة يستند إليها متخذ القرار في الأمور الحاسمة.
ودعا كولا كارم، الرئيس التنفيذي لشركة SHORELINE العاملة في مجال التنقيب عن النفط، القياديين في الشركات إلى وضع العاطفة جانبا عند اتخاذ القرارات.
وذكر جوشوا ستنور، رئيس التجاري في Bloomberg، أن بعض القرارات يجب أن تكون حاسمة وسريعة، في حين أن قرارات أخرى تحتاج إلى التأني والاستشارة، لكنه نوّه بضرورة الاعتماد على فريق عمل مؤهل وتحديد غايات القرارات وعدم تضييع الوقت في المجاملات.

المزروعي: أطلقنا 19 مشروعًا واستراتيجية و20 مادة إعلامية للشباب
من جهتها، قالت وزيرة الدولة لشؤون الشباب بالإمارات العربية المتحدة شما بنت سهيل المزروعي، خلال جلسة عقدت على مسرح المنتدى تحت عنوان «أدوات تغيير العالم على أيدي الجيل الجديد من القادة»، إن قيادة الشباب لمبادرات مختلفة ليس حكرًا على جهة معينة، إذ إن بيد كل شاب أدوات مختلفة يمكن أن تسهم في تميزه وتدفعه للابتكار والإبداع.
وأشارت إلى أهمية الأفكار الجديدة في إطلاق مبادرات خلّاقة، فموقع «ويكيبيديا» لم يحتج إلى آلاف الموظفين لإدارة بياناته، وبرنامجا «أوبر» و«كريم» لم يحتاجا إلى توظيف آلاف سائقي السيارات كي يبدأوا العمل.
وركّزت على أن المشاركة الجماعية للشباب تحقق الريادة والتأثير الإيجابي في المجتمع. وتابعت: «في الإمارات العربية المتحدة بدأنا العمل مع 450 ألف شاب وشابة في الدولة، وأطلقنا 19 مشروعًا واستراتيجية و20 مادة إعلامية للشباب شاهدها ربع مليار شخص، والنتيجة أن عمل الشباب الإماراتي لا يقل أهمية وجودة عن أكبر المراكز الدولية المتخصصة».
ولفتت إلى أن الدولة أطلقت سياسة فريدة تقوم على تشكيل مجالس للشباب في كل إمارة وإدارة وفي المراكز الحكومية، وتضمين الشباب في كل استبيان لجهة حكومية، ليكون لهم دور قيادي واستشاري في التنمية والتأثير الإيجابي في كل القطاعات.
وقالت المزروعي: «في الإمارات المتحدة وفي المملكة نرى الشباب جزءا جديدا من السوق فهم يضيفون القيمة لسوق العمل ويدفعون الكثير فعلينا أن نحصد ذلك العطاء في منطقتنا والعالم كله، علينا أن نعمل يدا بيدا لكي نقوم بحصاد قوة أصواتنا معا فهذا ليس مهما فقط لازدهار المملكة أو الإمارات ولكن لجميع دول مجلس التعاون الخليجي».
وقالت: «بعد قضاء يوم ونصف في (مسك) وجدت أن هناك من ساعدني في تشكيل منظور جديد لأعمالنا المشتركة وهو الاستثمار والابتكار والمصداقية»، مضيفة أن هناك قوة إيجابية تدفع بمجتمعاتهم نحو الأمام، للوصول إلى موقع مهم في المستقبل والشباب من خلال القيادات الجديدة.

الشغف والطريق إلى النجاح
وفي جلسة «ابتكار علامة تجارية شخصية»، تحدث بدي فالاسترو نجم برنامج Cake Boss، عن شغفه بتزيين الحلوى منذ صغره الذي قاده إلى أن يصبح من أشهر طباخي العالم.
وأشار إلى أنه كان يذهب إلى مخبز والده منذ الصغر ويعشق تزيين الحلوى، إلى أن توفي والده عندما كان في السابعة عشرة من عمره، ما جعله يحمل مسؤولية إدارة المخبز ويواجه كثيرا من الصعوبات.
ولفت إلى أنه اضطر إلى ترك مقاعد الدراسة ليتفرغ للعمل، ونجح لأنه قرر عدم الفشل، إذ عمل على تطوير قدراته لإدارة المخبز وصناعة أنواع أخرى من الحلوى، وحقق نجاحات متتالية مقرونة بجهود مضنية، مؤكدًا أهمية أن يكون الشخص شغوفًا بعمله كي يحقق النجاح.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)