بول هازار: فكر الرحالة والطريق نحو الحداثة الأوروبية

ما الذي حدث قبل انطلاقها ومواجهتها تركة الماضي؟

غلاف ازمة الوعي الاوروبي
غلاف ازمة الوعي الاوروبي
TT

بول هازار: فكر الرحالة والطريق نحو الحداثة الأوروبية

غلاف ازمة الوعي الاوروبي
غلاف ازمة الوعي الاوروبي

كانت الحداثة الغربية منعطفًا حاسمًا في تاريخ الفكر الإنساني، حيث نقلت الإنسان الأوروبي من حال إلى أحوال أخرى، لما أحدثته من خلخلة في البنية التقليدية للعقل الغربي، عندما زجت به في مدماك النقد والتحليل والشك. فزلزلت عالمه العجائبي، وفرضت عليه القيام بنقد جذري نحو الإبقاء على ما يمكن الإبقاء عليه، وترك ما يتوجب تركه من طرق في التفكير ونظرة للذات والآخر والعالم. لكن السؤال الذي يطرح هو، ما الذي كان وراء ذلك؟ ماذا حدث في هذه المرحلة من التاريخ الأوروبي كي ينطلق إنسانه بكل هذه القوة؟
بصراحة، لا يمكن اختزال الحداثة في عامل واحد محدد. فضخامة الإنجاز تعني ضخامة العوامل المساعدة والميسرة لإحداثه. وكل عامل دفع بالإنسان الحديث لينحو نحو ما نحا إليه، من العلم إلى الأدب، والفن، والنقد الديني والسياسي والاقتصادي، إلى غير ذلك من العوامل التي ننظر إليها بمنظور التضافر والائتلاف.
يؤرخ الكاتب والأديب الفرنسي بول هازار (1878 - 1944)، في كتابه «أزمة الوعي الأوروبي 1680 - 1715» - الذي ترجمه إلى العربية يوسف عاصي، وأعادت المنظمة العربية للترجمة سنة 2009 إصداره لأزمة الوعي الأوروبي والتحولات العميقة التي طالت مستواه، في مرحلة قصيرة من التاريخ لا تتعدى 35 سنة. ويسلط هازار الضوء على أهم العوامل التي ساهمت في بعث العصر الحديث، ومن بينها التأثير البالغ الذي سيحدثه أدب الرحالة وفكرهم واكتشافاتهم، في تصدع بنية الوعي الأوروبي، وفي بعث الحداثة الغربية. وهو العامل الذي أحاول أن أسلط الضوء عليه في هذا المقال.
يكتب بول هازار، أن هذه المرحلة من التاريخ الأوروبي، عرفت جرأة أكبر على السفر واستكشاف الآفاق. فهذا العهد هو عهد انتصار الأسفار، إذ انطلق الرحالة الأوروبيون شرقًا وغربًا، بغية الاطلاع على متحف العالم. فغربة العالم وسحره أصبحا بقوة العقل والشك، ضربًا من السخافة، مما جعل كل شيء قابلاً للبحث والتقصي، وكل أرض صار بالإمكان السفر إليها، وكل بقعة أصبح من الضروري اكتشافها والبحث في لغزها. لقد صار الإنسان الأوروبي يحتقر الاكتفاء بالموجود، وخرق الهدنة وذهب بعيدًا للبحث عن الشكوك، خارجًا من قريته جوالاً مستكشفًا، ليطلع على طريقة عيش غيره من الناس وتفكيرهم.
لم يكن هؤلاء الرحالة مجرد مشاهدين منبهرين بالعوالم التي يكتشفونها. بل كانوا فنانين وشعراء وأدباء ومفكرين. كل رحالة هو في الوقت نفسه، ناقد وكاتب ومؤرخ ومحلل للعالم الذي يراه. يكتبون ما يرونه وما يسمعونه من قصص ومغامرات. يشكلون المعطيات الجديدة ويقارنونها بأفكارهم وأحكامهم، فيجدوا أن ما يمتلكونه مناقضًا جدًا لما يجري اكتشافه، فتتكون لديهم رؤية أخرى وتصور مغاير لما ألفوه. ما أكثر الروايات التي عاد بها الرحالة من الهند، وكذا من المستعمرات الغنية والمنشآت التجارية البعيدة، هناك حيث تعيش أقوام أخرى شديدة الاختلاف، مما يبعث على الحيرة ويجعل النفسية تضطرب مما تراه من عبادات جديدة وعادات مختلفة.
سيتعرف الإنسان الأوروبي في هذه الرحلات على الخاص والفردي والمتعذر تبسيطه في حياة الشعوب الأخرى وثقافاتها، ويتعلم درس النسبية. فالعادات التي كانت غريبة ومتوحشة، أصبح بالإمكان منطقتها. وكل أحكامنا تنشأ من الطفولة والمحيط. وهي ليست مقياسًا يمكن الاعتداد به. استعمال اليد اليمنى أو اليسرى، تطويل الشعر أو تكثيفه، كلها أمور نسبية. هنا سوف يقر الإنسان الأوروبي، بأنه لا بد من مراجعة الأحكام، والتسلح بالشك. فالشك بداية العلم، ومن لا يشك بشيء لا يمتحن شيئًا. ومن لا يمتحن شيئًا لا يكتشف شيئًا. ومن لا يكتشف شيئًا يكون أعمى ويبقى كذلك.
سيجوب الرحالة الآفاق بحثًا عن الغريب والسحري وغير المألوف. فيروي المبشرون المسيحيون في تونس والمغرب والجزائر، كيف اضطهدوا بسبب إيمانهم. ويروي البحارة عن جولاتهم الصينية بفخر وهم يخوضون طريق الهند؛ البلدان البربرية ودساتيرها وعاداتها وإمبراطورياتها، وسياسة الصين وأخلاقها، وبلاد التتار والعرب. من أكثر النماذج المؤثرة في ذلك التاريخ، كان الإنسان الأميركي. لقد كان مربكًا ضائعًا وحيدًا بين أقرانه، لا هو ابن سام ولا حام ولا يافت، أبناء من يكون الأميركيون إذن؟ من هم؟ ما سر إفلاتهم من الطوفان العام؟ إنهم عراة ومتوحشون، لكنهم مع ذلك صالحون طيبون وكرماء أكثر من الأوروبيين. جهلهم في حد ذاته امتياز. فالعلوم والفنون هي جوهر الفساد. وبما أنه يطيع الطبيعة، أمه الطيبة، فهو سعيد. إذن المتمدنون هم البرابرة الحقيقيون، الذين يجب أن يعلمهم المتوحشون كيف يستردون الكرامة والحرية الإنسانيتين، وهو المحروم من أخلاق الطبيعة. فالسعيد الحقيقي، هو الفظ المتوحش العادل. أما التعيس، فهو المتمدن المسكين، المنحط والمخبول أخلاقيًا، اللابس لقناع التحضر المزيف.
زار الرحالة الأوروبيون مصر، وأعجبوا بالمصري الحكيم الهادئ الذي أنجب الموسيقى وعلم الهندسة والعمارة. مصر التي في سمائها يقول بول هازار: «حددت، لأول مرة، أمكنة المجرات». لقد كانت مصر في نظرهم، أمة وقورة ورصينة، يأنف ذهنها الصلب والمثابر من الحداثة. هي لم تسنّ القوانين وحسب، بل كانت تراعيها أيضًا. لقد شيدت مصر الأهرام، وكونت فلسفة لا تمت بصلة إلى الفلسفة المسيحية. أما العربي المحمدي، فبعيد عن النعوت القدحية التي كانت سائدة عنه. فالنبي محمد وتابعوه لم يكونوا أدنى مرتبة من الأبطال ذائعي الصيت عند الشعوب الأخرى. ديانتهم جميلة جدًا ومتماسكة ونبيلة. فمن حافظ على حقوق الفكر والثقافة، بعد أن طغت البربرية على العالم؟ إنهم العرب.
أما فكرة أن الغرب يتغلب على الشرق، فسيعرفون أنها مجرد وهم، لأن الحياة في الشرق هي الأكثر سعادة. فالصينيون، على الرغم من عبادتهم الأصنام والأجداد، لا يعترفون بوجود نبلاء إلا بين الأدباء. ولا يحفظون ذكرى إلا لحكامهم العادلين والمسالمين. وهم قادرون على انتقاد حكامهم بكل حرية. إن الصينيين ملحدون، ليس إلحادًا سلبيًا مثل إلحاد متوحشي أميركا، إلا أنهم مع ذلك، ليسوا أقل حكمة. بل هم أتقياء واسبينوزيون. أما مستشارو البلاط وندماؤه، فكلهم من الفلاسفة، ينتقدون سيدهم بقدر كبير من الحرية، وإذا لم يفعلوا فإنهم يتعرضون لملامة الشعب وسخطه. أما بالنسبة للفلسفة، فقد مثلها كونفوشيوس قبل الغرب بقرون كثيرة، وصاغ مذهبًا يعبّر عن روح بلاده ويحمل أنفاسًا إلهية.
اللافت في هذه القصص، ليست الإثارة التي تحدثها أو سحرية العوالم التي تقاربها وعجائبيتها، بل تلك الإرادة المستمرة للهدم. فكل تقليد ومألوف، أو سلطة، إلا وجرى هدمه. لقد هدمت المؤسسات كلها، وانتقدت الأقوال بشكل كبير. وظهر مسنون حكماء يلقون المواعظ العلمانية، أشادوا بحكم القلة المتسامحة، وبالسلام الذي يجري الحصول عليه بالإقناع، والسعادة التي يعيشها الناس في هذه البلدان. لقد كانت حكايات الرحالة، هروبًا، وانتقالاً من ثبات العقل إلى الحركة، ليتعلم المرء عدم الإيمان، على حد تعبير بول هازار. وكان ذلك أحد الأسباب التي أدت إلى اضطراب وعي أوروبا القديمة.
أكاد أشبه التأثير الذي أحدثه هؤلاء الرحالة في ذلك العصر، بما أحدثه التطور التكنولوجي نفسه، وبثورة المعلومات في وعينا. فقد صرنا نعرف بقوة، الصورة جيدًا: الشرق، والغرب، والمجتمعات التي لا تماثل طريقتنا في الحياة والتفكير. ونعرف أعمق غابات الأمازون، وأقدم سكان أستراليا الأصليين. وتمتد معرفتنا من البوذية إلى عادات الصين والهند. مما يعني أنه لا بد من أن يحدث ذلك في أذهاننا رجة. وإذا كان العقل الأوروبي مستعدًا، مند قرون كثيرة، لتقبل ذلك، بسبب صدمة القرن السادس عشر، فإن ذهنيات باقي المجتمعات، لا بد أن تتأثر وتهتز لتسائل الذات، وتتمسك بسلاح الشك، والنقد طوعًا أو كرهًا، على الرغم من أن الشك يحتاج إلى عقل جريء مستعد لمواجهة العالم كما هو. وهذا ما قد يغيب، في بعض الأحيان، خصوصًا عند المجتمعات التي بنت لنفسها كهوفًا، كلما خرجت منها أعماها ضوء الشمس، فعادت لتختبئ من جديد، وترفض كل شيء. بل أكثر من ذلك، تواجه بالعنف كل من لا يسايرها الوهم نفسه.

* أستاذ فلسفة



أي دور للكتاب والمبدعين في زمن الحرب؟

سانت إكزوبيري
سانت إكزوبيري
TT

أي دور للكتاب والمبدعين في زمن الحرب؟

سانت إكزوبيري
سانت إكزوبيري

لم يكف البشر منذ وجودهم على هذه الأرض عن التقاتل والتذابح، وفرض سيطرة بعضهم على البعض الآخر، عبر أكثر الوسائل دمويةً وفتكاً. وسواء كانت الحروب عبر التاريخ تُشن بفعل الصراعات الإثنية والدينية والآيديولوجية والرغبة بالسيطرة والاستحواذ، أو اتخذت شكل الدفاع عن الحرية والمقاومة ضد الاحتلال، فإن نتائجها الوخيمة لم تقتصر على دمار المنازل والمباني والمعالم المادية للعيش، بل تعدت ذلك لتصيب الدواخل الإنسانية بالتصدع، ولتحدث انهياراً كاملاً في نظام القيم وقواعد السلوك، ولتضع علاقة الإنسان بنفسه وبالآخر في مهب الشكوك والتساؤلات.

همنغواي

على أن من المفارقات اللافتة أن تكون الحروب الضارية التي أصابت الاجتماع الإنساني بأكثر الكوارث فظاعةً وهولاً، هي نفسها التي أمدت الفلسفة والفكر والفن بالأسئلة الأكثر عمقاً عن طبيعة النفس البشرية، ودوافع الخير والشر، ونُظُم الاجتماع الأمثل، فضلاً عن دورها المهم في تغيير الحساسيات الأدبية والفنية، ودفعها باتجاه الحداثة والتجدد. وإذا كان السؤال حول الآثار التي تخلفها الحروب في مجالي الأدب والفن هو من بين الأسئلة التي لم يمل النقاد والمهتمون عن طرحها مع كل حرب جديدة، فإن الإشكالية التي يتم طرحها باستمرار تتعلق بدور الكتاب والمثقفين في زمن الحرب، وعما إذا كان هذا الدور يقتصر على إنتاج النصوص والأعمال الإبداعية، أم أن على الكتاب والفنانين أن يدافعوا بحكم انتمائهم الوطني والقومي والإنساني عن قضايا شعوبهم بشتى السبل والوسائل الممكنة.

وإذا كان هذا النوع من الأسئلة لا يجد له إجابات قاطعة، لأن كل شخص يرى من وجوه الحقيقة ما يلائم مواقفه وتوجهاته، فقد تمكّننا العودة إلى التاريخ من استجلاء بعض الحقائق المتعلقة بمواقف الشعراء والمبدعين من الحروب والنزاعات الأهلية، وبما قاموا به، خارج النصوص والأعمال الفنية، من أدوار وإسهامات. ولعل أول ما يحضرني في هذا السياق هو التجربة الرائدة للشاعر الجاهلي زهير بن أبي سلمى، خلال الحرب الدامية التي نشبت بين قبيلتي عبس وذبيان، التي عرفت عبر التاريخ بحرب داحس والغبراء. فقد حرص زهير على وصف الحرب بما يليق بها من نعوت، محذراً من نتائجها الكارثية عبر أبياته المعروفة:

وما الحرب إلا ما علمتمْ وذقتمُ

وما هو عنها بالحديث المرَجَّمِ

متى تبعثوها تبعثوها ذميمةً

تضْرَ إذا ضرَّيْتموها فتضرمِ

فتعرككمْ عرْك الرحى بثفالها

وتَلْقحْ كشافاً ثم تُنتجْ فتتئمِ

إلا أن زهيراً الذي رسم في معلقته إحدى أكثر اللوحات الفنية دلالة على فظاعة الحروب وهولها الكارثي، رأى أن من واجبه كإنسان وكفرد في جماعة، أن يحرض على نبذ العنف، ويدعو إلى تحرير النفوس من الأحقاد والضغائن. وهو إذ راح يمتدح كلاً من داعيتي الصلح، الحارث بن عوف وهرم بن سنان، فلم يفعل ذلك تملقاً أو طلباً للثروة والجاه، بل فعله انتصاراً لمواقفهما الأخلاقية النبيلة، ولما قدماه من تضحيات جسام بهدف إطفاء جذوة الحرب، وإحلال السلام بين المتنازعين.

تولستوي

ومع أن الحروب بأشكالها المختلفة قد شكلت الظهير الأهم للكثير من الأعمال الملحمية والروائية، فإن قيمة العمل المتولد عنها لا تحدده بالضرورة مشاركة الكاتب الشخصية في المعارك والمواجهات، بل موهبته العالية وتفاعله مع الحدث، وكيفية الانتقال به من خانة التوصيف السطحي والتسجيلي إلى خانة الدلالات الأكثر عمقاً للعدالة والحرية والصراع بين الخير والشر، وصولاً إلى الوجود الإنساني نفسه.

وإذا كان تاريخ الأدب بشقيه القديم والحديث حافلاً بالبراهين والأدلة التي تضيق الهوة بين الخيارين المتباينين، فيكفي أن نعود إلى هوميروس، الذي لم تحل إصابته بالعمى وعجزه عن المشاركة في الحروب، دون كتابته لملحمتي «الإلياذة» و«الأوديسة»، تحفتي الأدب الخالدتين. كما يمكن الاستدلال بتولستوي الذي لم تكن رائعته الروائية «الحرب والسلم» ثمرة مشاركته المباشرة في حرب نابليون على روسيا القيصرية، وهو الذي لم يكن أثناءها قد ولد بعد، بل ثمرة تفاعله الوجداني مع معاناة شعبه، ورؤيته النافذة إلى ما يحكم العلاقات الإنسانية من شروخ وتباينات. ومع أنه لم يجد بداً من الانخراط في الجندية في وقت لاحق، فإنه ما لبث أن تحول إلى داعية للمحبة ونبذ العنف، وتحقيق السلام بين البشر.

أما الجانب الآخر من الخيارات فتمثله تجارب كثيرة مغايرة، بينها تجربة الكاتب الأميركي آرنست همنغواي الذي قدم عبر حياته الحافلة، النموذج الأكثر سطوعاً عن العلاقة بين الكتابة والحياة، وهو الذي لم يكتف بوصف الحرب عن بعد، كما فعل كتاب كثيرون، بل عمد إلى الالتحام المباشر بميادينها المحفوفة بالمخاطر، الأمر الذي وفرته له مهنته كمراسل حربي للصحف التي عمل فيها. والواقع أن فائض القوة العضلي لهمنغواي، والتزامه الوطني والإنساني، لم يكونا الدافعين الوحيدين لمشاركته في الحروب التي خاضها، بل كان دافعه الأساسي متمثلاً في البحث عن أرض ملموسة لكتابة رواياته وقصصه المختلفة. وإذا كان انخراط الكاتب الفعال في الحرب العالمية الأولى هو الذي يقف وراء تجربته الروائية المبكرة «وداعاً أيها السلاح»، فإن مشاركته في الحرب الأهلية الإسبانية دفاعاً عن الجمهوريين، وجنباً إلى جنب مع كتاب العالم الكبار، هي التي ألهمته رائعته الروائية اللاحقة «لمن تُقرع الأجراس».

وفي السياق نفسه يمكن لنا أن نضع تجربة الكاتب الفرنسي أنطوان دو سانت إكزوبيري، الذي دفعه شغفه البالغ بالطيران إلى الالتحاق بقوات بلاده الجوية، ولم يثنه تحطم طائرته في إحدى الطلعات، عن الإمعان في مغامرة التحليق وصولاً إلى نهايته المأساوية عام 1944. غير أن ذلك التحليق بالذات هو الذي أتاح لسانت إكزوبيري أن يرسم عبر «الأمير الصغير» صورة لكوكب الأرض، بعيدة عن العنف ومترعة بالنقاء الطفولي.

قيمة العمل المتولد عن الحروب لا تحدده بالضرورة مشاركة الكاتب الشخصية فيها

ثمة بالطبع شواهد كثيرة، لا تتسع لها هذه المقالة، على الخيارات المتباينة التي اتخذها الكتاب والفنانون في أزمنة الحروب، والتي يتجدد السجال حولها مع كل حرب تقع، أو كل مواجهة تخوضها الشعوب مع غزاتها المحتلين. وإذا كان بعض المبدعين لا يرون علة لوجودهم سوى الإبداع، ولا يجدون ما يقدمونه لأوطانهم في لحظات محنتها، سوى القصيدة أو المعزوفة أو اللوحة أو سواها من ضروب التعبير، فإن بعضهم الآخر يرسمون لأنفسهم أدواراً مختلفة، تتراوح بين الدفاع عن الأرض، لمن استطاع إلى ذلك سبيلاً، وبين التظاهر وإصدار البيانات المنددة بارتكابات الاحتلال ومجازره وفظاعاته، وصولاً إلى إسهام الكاتب الشخصي في التخفيف من معاناة شعبه، ورفده بأسباب المقاومة والصمود.

على أن أي حديث عن دور الكتاب والفنانين في زمن الحرب، لن يكون له أن يستقيم، دون الإشارة إلى عشرات الإعلاميين والمصورين والمراسلين في فلسطين ولبنان، الذين أسهمت تقاريرهم الميدانية الجريئة في إظهار الطبيعة الوحشية للاحتلال، وفي فضح ادعاءاته الزائفة عن الالتزام بقواعد الحرب الأخلاقية والإنسانية. وإذا كان من المتعذر تماماً استعادة أسماء الإعلاميين والمراسلين الكثر، الذين أصروا على المواءمة بين الواجبين المهني والإنساني، حتى لو كانت حياتهم نفسها هي الثمن، فيكفي في هذا السياق أن نتذكر الكاتبة والإعلامية اللبنانية نجلاء أبو جهجه، التي قامت بالتقاط صور مختلفة لجثث الأطفال المدلاة من سيارة إسعاف بلدة «المنصوري»، أثناء الاجتياح الإسرائيلي للجنوب اللبناني عام 1996، فيما حرصت في الوقت ذاته على مد يد العون للجرحى المتبقين منهم على قيد الحياة. وفيما غادرت نجلاء هذا العالم، وقد أنهكها مرض عضال، قبل أيام معدودة، لن تكف العيون المطفأة للأطفال، عن ملازمة صوَرها المؤثرة، وتجديد عقدها مع الضوء، وتوزيع نظرات اتهامها الغاضبة بين عدالة العالم المفقودة ووجوه الجلادين.