استعادة الأب المفقود من خلال المكان

«الطريق إلى قونية» لخليل النعيمي

استعادة الأب المفقود  من خلال المكان
TT

استعادة الأب المفقود من خلال المكان

استعادة الأب المفقود  من خلال المكان

يمكن إدراج كتاب «‹الطريق إلى قونية» للدكتور خليل النعيمي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، في خانة أدب الرحلات، التي بدأت يوم أمرته أمه في صغره بالسفر بغية أن تكون لديه حكاية. قالت: «ما دمت مقيمًا لن تكون لك حكاية»
هكذا دفعت الأم بابنها لاستكشاف الأماكن التي ستضيء جوهر الوجود لديه. لكننا سنكتشف أثناء قراءتنا الكتاب أسبابا مهمة أخرى دفعته إلى السفر إلى قونية تحديدا، ومنها محاولة استعادة الأب المفقود من خلال المكان، وزيارة تكية مولانا جلال الدين الرومي لعيش التجربة الصوفية بكل أبعادها الروحية.
على غرار كل رحالة، يبدأ الكاتب رحلته بتصوير الأحداث التي صادفها، راسما من خلال مشاهداته الحية صورا جغرافية خلابة للأماكن، مقاربا بين مدينة وأخرى: «أنقرة مدينة (نصف صحراوية)، أو هضابية. إنها القاهرة بلا (نيل). فضاؤها في أول الليل معتم من كثرة الهضاب التي تسورها».
يحاول الكاتب أن يقدم صورة حية للقارئ فمن يعرف القاهرة سيسهل عليه تصور المكان. ونلاحظ أن لغته الشعرية وأسلوبه السلس الجميل في وصف الأمكنة يضيفان رقة تكسر الصلابة الجغرافية أو الزمنية، وكأنه يحفر سواقي مائية صغيرة بين الصخور، فنراه يشبه العيون، وهي باب الروح، بالبحر الهادئ الذي يبتلع وحشة الليل
«عيوني تتملى الليل المحيط بي كالبحر الهادئ».
وكعادة المستكشفين، لا تخلو رحلته من مراقبة دقيقة للأشخاص في الطرقات والمقاهي، وكأنه بمراقبته هذه يريد أن يعيد تركيب أعضاء الوجوه ويعطيها هويات واضحة:
«لهذه الفتاة أنف مغولي، وعينان عربيتان، وثغر روماني ولحمة آسيوية، ولها دلال إغريقي خالص. قارات كثيرة تجامعت لتخلق هذه الكائنات التي لا حدود لخصائصها». ويشبه في مكان آخر صمت «الأنقرويين» بصمت المغول ومشيتهم بالذئاب الجوعى، فضلاً عن معلومات تاريخية تثري القارئ، واضعة إياه في قلب الجغرافيا والتاريخ معًا..فنقرأ عن أنقرة أن ذكرها يرد في التاريخ منذ منتصف القرن الثاني ق.م. وكان اسمها «أنكواش» وكانت مركزًا أساسيا في قلب منطقة زراعية شديدة الخصوبة. استوطنها الحثييون والليديون والفرس وحتى المغول أو غالات، حيث سُميت المنطقة باسم إحدى قبائلهم: غلاسي..
قد يكون فقدانه أباه ومحاولة استرجاع لحظات مضت معه سببين آخرين لسفر الكاتب إلى قونية. كأنه أراد استحضار والده الذي يفتقده كثيرًا من خلال المكان الذي كان يعشقه ويخبره عنه دومًا رغم عدم زيارته له:
«أنا لست ذاهبًا من أجل (جلال الدين) ولكن مدفوعًا بصوتك القديم الأسمر».
كان صوت أبيه يناديه من قونية، وكأنه كان هناك بانتظاره... أراد العودة معه إلى الماضي والارتماء في حضنه الدافئ.. سافر إلى قونية ليبحث فيها في غياب الأب عن امتلاء لفراغه الإنساني: «إلى قونية يا أبي أنسيتها؟ أنسيت كيف كنت تحكي لي في صحرائك القديمة عن «قونية؟».
أكثر ما يشدنا في رحلة النعيمي إلى قونية زيارته تكية جلال الدين الرومي... إنه يسحب القارئ في رحلته الصوفية هذه فيعيش معه التجربة بأبعادها الروحية كافة.. تلك التجربة التي يرويها لنا بتفاصيلها الدقيقة رغم صعوبة الكتابة في لحظات الانخطاف:
«كانوا يغمضون عيونهم وكنت أفتح عيني. أفتحهما لأراقب وأكتب». إنه يشدنا بيدنا لنزور المكان ونعشقه حد الخشوع.. نرقص مع الدراويش..نبكي معه... ونغيب مع مولانا جلال الدين الرومي... فتشبع روحنا ونرتقي إلى مرتبة الحب الأعظم:
يقول:
«في هذه اللحظات تؤلمني رعشة أخرى: رعشة الدمع المنبجس من عيني بعفوية السيل. أصير أنا الآخر أبكي صراحًا...».
لا يمكن للقارئ أن يقرأ تجربة النعيمي دون الغوص معه في أعماق التجربة الصوفية والتماهي مع النص ليبدأ رحلة شوق جديدة بمجرد الانتهاء من قراءة الكتاب.



رحلة مع الشعر عبر الأزمنة والأمكنة

رحلة مع الشعر عبر الأزمنة والأمكنة
TT

رحلة مع الشعر عبر الأزمنة والأمكنة

رحلة مع الشعر عبر الأزمنة والأمكنة

ليس أكثر من قصائد الشعر بمختلف اللغات وفي شتى العصور، ولكن ما عسى الشعر أن يكون؟ يقول جون كاري (John Carey) أستاذ الأدب الإنجليزي بجامعة أوكسفورد في كتابه «الشعر: تاريخ وجيز» (A Little History of Poetry)، (مطبعة جامعة ييل، نيوهفن ولندن، 2020) إن «صلة الشعر باللغة كصلة الموسيقى بالضوضاء. فالشعر لغة مستخدمة على نحوٍ خاص، يجعلنا نتذكر كلماته ونثمنها». وكتاب كاري الذي نعرضه هنا موضوعه أشعار عاشت على الزمن منذ ملحمة جلجامش البابلية في الألفية الثالثة ق.م وملحمتي هوميروس «الإلياذة» و«الأوديسة» في القرن الثامن ق.م حتى شعراء عصرنا مثل الشاعر الآيرلندي شيمس هيني (تُوفي في 2013) والشاعرة الأفرو - أميركية مايا أنجيلو (توفيت في 2014) والشاعر الأسترالي لس مري (توفي في 2019).

ليس الشعر كما يظن كثيرون خيالاً منقطع الصلة بالواقع أو تهويماً في عالم أثيري عديم الجذور. إنه كما يوضح كاري مشتبك بالأسطورة والحرب والحب والعلم والدين والثورة والسياسة والأسفار. فالشعر ساحة لقاء بين الشرق والغرب، ومجال للبوح الاعترافي، ومراوحة بين قطبي الكلاسية والرومانسية، وأداة للنقد الاجتماعي، ومعالجة لقضايا الجنس والعرق والطبقة. إنه كلمات يختارها الشاعر من محيط اللغة الواسع ويرتبها في نسق معين يخاطب العقل والوجدان والحواس. فالشعراء كما تقول الشاعرة الأميركية ميريان مور يقدمون «حدائق خيالية بها ضفادع حقيقية».

وتعتبر الشاعرة اليونانية سافو (630 ق.م-570 ق.م) من جزيرة لسبوس أول شاعرة امرأة وصلت إلينا أشعارها في هيئة شذرات (القصيدة الوحيدة التي وصلت إلينا منها كاملة عنوانها «أنشودة إلى أفروديتي» ربة الحب). المحبوبة في قصائدها تفاحة حمراء ناضجة في شجرة عالية بعيدة المنال. أو هي زهرة جبلية يطأها الرعاة الأجلاف بأقدامهم فتترك أثراً أرجوانياً على الأرض. وفى قصيدتها المعروفة باسم «الشذرة 31» ترى صديقة لها تتحدث مع رجل وتضاحكه فتتولاها الغيرة ويثب قلبها في صدرها وتشعر كأن ناراً ترعى في بدنها فتعجز عن الكلام وتغيم عيناها وترتعد فرائصها (للدكتور عبد الغفار مكاوي كتاب صغير جميل عن «سافو شاعرة الحب والجمال عند اليونان»، دار المعارف، القاهرة).

والشعر مشتبك بالدين كما هو الحال في غزليات الشاعر الفارسي حافظ الشيرازي (من القرن الرابع عشر الميلادي) الذي لا نعرف الكثير عن حياته. نعرف فقط أنه حفظ القرآن الكريم في طفولته واشتغل خبازاً قبل أن يغدو من شعراء البلاط ودرس الصوفية على يدي أحد أقطابها. وهو يستخدم صور الحب والخمر كما يفعل المتصوفة رمزاً إلى الحب الإلهي والوجد الصوفي والنشوة الروحية المجاوزة للحواس. وقد غدت قصائده من كنوز اللغة الفارسية، ودخلت بعض أبياته الأمثال الشعبية والأقوال الحكمية، ولا يكاد بيت إيراني يخلو من ديوانه.

كذلك نجد أن الشعر يشتبك بكيمياء اللغة وقدرتها على الإيحاء ومجاوزة الواقع دون فقدان للصلة به. يتجلى هذا على أوضح الأنحاء في عمل الشاعر الرمزي الفرنسي أرتور رامبو من القرن التاسع عشر. فعن طريق تشويش الحواس والخلط بين معطياتها يغدو الشاعر رائياً يرى ما لا يراه غيره وسيتكشف آفاق المجهول. فعل رامبو هذا قبل أن يبلغ التاسعة عشرة من العمر، وذلك في قصائده «السفينة النشوى» (بترجمة ماهر البطوطي) و«فصل في الجحيم» (ترجمها الفنان التشكيلي رمسيس يونان) و«اللوحات الملونة» أو «الإشراقات» (ترجمها رفعت سلام). وبهذه القصائد غدا رامبو - ومعه لوتريامون صاحب ديوان «أغاني مالدورور» - أباً للسريالية في العقود الأولى من القرن العشرين.

والشعر مشتبك بالسياسة خاصة في عصرنا الذي شهد حربين عالميتين وحروباً محلية وصراعات آيديولوجية ما بين نازية وفاشية وشيوعية وليبرالية وديمقراطية وأصولية دينية، كما شهد المحرقة النازية وإلقاء أول قنبلتين ذريتين على هيروشيما وناجازاكي. وممن عاشوا أزمات هذا العصر الشاعر التشيكي ياروسلاف سيفرت (1986-1901) الحائز جائزة نوبل للأدب في 1984. إنه في ديوانه المسمى «إكليل من السوناتات» (1956) يخاطب مدينته براغ التي أحالتها الحرب العالمية الثانية إلى ركام معبراً عن حبه لها وولائه لوطنه. وشعر سيفرت يقوم على استخدام المجاز. وقد جاء في حيثيات منحه جائزة نوبل أن شعره الذي يمتاز بالوضوح والموسيقية والصور الحسية يجسد تماهيه العميق مع بلده وشعبه.

ومن خلال الترجمة يتمكن الشعر من عبور المسافات وإقامة الجسور وإلغاء البعد الزمني، وذلك متى توافر له المترجم الموهوب القادر على نقل روح القصيدة ونصها. هذا ما فعله المترجم الإنجليزي آرثر ويلي (توفي في 1966) الذي نقل إلى الإنجليزية كثيراً من الآثار الشعرية والروائية والمسرحية الصينية واليابانية.

ومن أمثلة ترجماته هذه القصيدة القصيرة من تأليف الإمبراطور الصيني وو-تي (القرن الأول ق.م) وفيها يرثي حبيبته الراحلة:

لقد توقف حفيف تنورتها الحريرية.

وعلى الرصيف الرخامي ينمو التراب.

غرفتها الخالية باردة ساكنة.

وأوراق الشجر الساقطة قد تكوّمت عند الأبواب.

وإذ أتوق إلى تلك السيدة الحلوة

كيف يتسنى لي أن أحمل قلبي المتوجع على السكينة؟

ويختم جون كاري هذه السياحة في آفاق الشعر العالمي، قديماً وحديثاً، شرقاً وغرباً، بقوله إن الإنسان هو الكائن الوحيد القادر على طرح الأسئلة على الكون، بغية إدراك معنى الوجود، أسئلة لا تجد إجابة في الغالب، ولكن هذا التساؤل - من جانب الفيلسوف والعالم والشاعر - يمثل مجد الإنسان ومأساته معاً.