تيماء.. كنز الآثار وموطن الحضارات شمال السعودية

تولي الفرق المتخصصة بالآثار أهمية كبيرة لمحافظة تيماء الواقعة في منطقة تبوك، شمال السعودية، إذ تضم هذه المحافظة الجميلة كنزًا من الآثار المهمة في قيمتها التاريخية، حتى أصبحت من أهم المناطق في السعودية، من حيث مكانتها التاريخية ومواقعها الأثرية المتعددة.
وقد أسهمت الاكتشافات الأثرية الأخيرة في شهرة «تيماء» ليس على مستوى المنطقة، بل على مستوى العالم، وذلك حين أعلنت الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني، على لسان رئيسها الأمير سلطان بن سلمان بن عبد العزيز، في الأكاديمية الفرنسية للنقوش والفنون الجميلة، عن اكتشاف عظم بشري يعود تاريخه إلى 90 ألف سنة، ويعد أقدم عظم بشري وجد حتى الآن في المنطقة، وتناقلت وسائل الإعلام العالمية هذا الكشف وقتها، وحظي باهتمام الأوساط والمراكز المتخصصة في العالم. وفي محافظة تيماء، عثر باحثو الآثار على أحفورة (ناب الفيل) ضمن مجموعة كبيرة من الأحافير لحيوانات كثيرة كانت تعيش قرب بحيرة قديمة يزيد عمرها على خمسمائة ألف سنة.
وفيها أعلنت بعثات سعودية ودولية مشتركة عن اكتشاف آثار مهمة، منها نقوش فرعونية في مواقع أخرى ارتبطت بوجود الإنسان خلال فترة ما قبل التاريخ، إضافة إلى ما تزخر بها من قصور أثرية باقية حتى الآن.
بدوره، أكد الدكتور علي إبراهيم الغبان، نائب رئيس الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني، المشرف على برنامج خادم الحرمين للعناية بالتراث الحضاري، أن محافظة تيماء كنز لا ينضب من الآثار، مشيرًا إلى وجود عدد من البعثات السعودية الدولية المشتركة التي تجري أعمالاً للتنقيب في عدد من المواقع في المحافظة.
وعن العظم البشري الذي تم اكتشافه أخيرًا، والذي يمثل أقدم عظم بشري في المنطقة، قال الغبان: «هذا العظم الذي وجد على ضفة بحيرة جافة في منطقة النفوذ قرب محافظة تيماء، في منطقة تبوك، هو إحدى نتائج مشروع علمي تنفذه الهيئة مع جامعة أكسفورد البريطانية وعدد من الجهات العلمية المختصة في المملكة، من بينها شركة «أرامكو»، ومدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية، وهيئة المساحة الجيولوجية، وجامعة الملك سعود، وجامعة حائل، تحت عنوان «مشروع الجزيرة العربية الخضراء»، وهو مشروع سعودي بريطاني للمسح والتنقيب بدأ في عام 2012 بإجراء دراسات أثرية بيئية معمقة لكثير من المواقع الأثرية بالمملكة، شملت مواقع البحيرات القديمة في صحراء النفود وصحراء الربع الخالي، إلى جانب مواقع أخرى ارتبطت بوجود الإنسان خلال فترة ما قبل التاريخ، وكان الهدف هو دراسة احتمالات توسع وانحسار أو انقراض المجموعات البشرية والحيوانية، والتقصي عن كيفية ارتباط هذه الأحداث مع تعاقب فترات الرطوبة والجفاف في العصرين البليستوسيني والهولوسيني حتى وقتنا الحاضر، وكيفية تكيف تلك المجموعات البشرية والحيوانية مع مجمل هذه التغيرات، ونجح المشروع في وضع تواريخ زمنية متسلسلة لمواقع أثرية وأحفورية تعود إلى 500 ألف سنة قبل الوقت الحاضر، في حين لا تزال هناك مؤشرات ترجح أن تاريخ هذه المواقع قد يزيد على مليون سنة.
وأضاف أن فريق المشروع أجرى كثيرًا من أعمال المسح والتنقيب في كثير من المواقع، وتمكن من اكتشاف كميات كبيرة من الأدوات الحجرية التي تعود للعصر الحجري القديم الأوسط والعصر الحجري الحديث، وحظي موقع «طعس الغضاة»، قرب محافظة تيماء بمنطقة تبوك، بموسمين من التنقيبات، بالتعاون مع هيئة المساحة الجيولوجية السعودية، وتبين أن تاريخ استيطان الموقع يعود إلى نحو 325 ألف سنة، بينما تشير الأبحاث الحالية إلى أن تاريخ الترسبات المتحجرة للبحيرة نفسها قد يعود إلى ما قبل 500 ألف سنة. كما أسفرت أعمال التنقيب في هذا الموقع عن العثور على متحجرات لحيوانات، مثل: الفيل، والمها، والحصان، والثعلب، والفهد، والطائر الغواص، والأسماك، وكذلك الزواحف، كما عثر في بحيرة أخرى على عظام متحجرة لنوع منقرض من الجواميس الضخمة. ومن المتوقع العثور على المزيد من الأحافير خلال المرحلة المقبلة من مشروع المسح الأثري. ويعد اكتشاف كل هذه الحيوانات، بما فيها نوع من الأفيال المنقرضة كأحد أبرز الثدييات في صحراء النفود، مثالاً بارزًا على وفرة النباتات وموارد المياه العذبة، خصوصًا أن هذه الأنواع من الحيوانات تستهلك كميات كبيرة من الغذاء والمياه، ولعل وجود حيوانات كبيرة آكلة للحوم، مثل الفهد الأوراسي، يشير إلى أن أعداد الثدييات كانت كافية لجذب الحيوانات المفترسة الباحثة عن الطرائد خلال تجولها عبر صحراء النفود.
وأشار الغبان إلى أنه تم الكشف أخيرًا في تيماء عن أول آثار فرعونية في الجزيرة العربية تعود للقرن الثاني عشر قبل الميلاد، وهو نقش هيروغليفي على صخرة ثابتة قرب واحة تيماء، يحمل توقيعًا ملكيًا (خرطوش مزدوج) للملك رمسيس الثالث، أحد ملوك مصر الفرعونية الذي حكم مصر بين (1192 – 1160) قبل الميلاد.
وأضاف أن علماء الآثار السعوديين أجروا بحثًا ميدانيًا ومكتبيًا توصلوا من خلاله إلى وجود طريق تجاري مباشر يربط وادي النيل بتيماء، وكان يستخدم في عهد الفرعون رمسيس الثالث في القرن الثاني عشر قبل الميلاد، وتسير عليه القوافل المصرية للتزود من تيماء بالبضائع الثمينة التي اشتهرت بها أرض مدين، مثل البخور والنحاس والذهب والفضة.
وأشار إلى أن الطريق الذي يربط وادي النيل بتيماء محدد بتواقيع ملكية (خراطيش) للملك رمسيس الثالث وضعت على مناهل في شبه جزيرة سيناء والجزيرة العربية.
وحول مسار الطريق، قال الدكتور الغبان: «يمر هذا الطريق بعد وادي النيل بميناء القلزم، ثم مدينة السويس، حيث يوجد معبد للملك رمسيس الثالث، ثم يسير بحرًا إلى سرابيط الخادم، بالقرب من ميناء أبو زنيمة على خليج السويس، حيث عثر هناك على نقوش للملك رمسيس الثالث أيضًا، ثم يعبر شبه جزيرة سيناء بشكل عرضي ويمر على منهل وادي أبو غضا، بالقرب من واحة نخل، حيث عثر فيه أيضًا على خرطوش مزدوج مماثل لخرطوش تيماء يحمل اسم الملك رمسيس الثالث».
ولفت إلى أن الطريق يتجه بعدها إلى رأس خليج العقبة، ويمر على موقع نهل، ثم موقع تمنية، وعثر في كل منهما على خرطوش مزدوج للملك رمسيس الثالث يماثل خرطوش تيماء، كما توجد إشارة في بردية للملك رمسيس الثالث إلى إرساله أناس لجلب النحاس من بلد مجاور.
وفي مدينة تيماء القديمة، أشارت المكتشفات الأثرية إلى أن الحياة بدأت فيها منذ العصر الحجري الحديث، وفي العصر الذي يليه، المعروف بالعصر البرونزي، حيث عثر على كثير من المكتشفات الأثرية، ومنها أوان فخارية مزخرفة تمت دراستها من قبل علماء الآثار الذين أشاروا إلى أنها تماثل ما عثر عليه في المواقع المؤابية والآدومية التي تعود في تاريخها إلى أواخر العصر البرونزي وأوائل العصر الحديدي الذي يمتد من 3300 إلى 1200 قبل الميلاد. كما تم اكتشاف السور الذي كان يحيط بالمدينة على امتداد 11 كيلومترًا، والذي يرجع تاريخه إلى 1200 سنة قبل الميلاد، وتضم هذه المدينة العريقة كثيرًا من آثار ما قبل التاريخ، إلى جانب كثير من القطع الأثرية التي تعود إلى عصور المديانيين والأدوميين في نهاية الألفية الثانية وبداية الألفية الأولى قبل الميلاد، وكانت تيماء في القرن السادس قبل الميلاد العاصمة التشغيلية للمملكة البابلية في أثناء حكم الملك نابونيد، وتوجد فيها أيضًا قطع أثرية من العصر الإسلامي المبكر، ومن أهم المعالم الأثرية فيها قصر الحمراء، وبئر هداج، وقصر الرضم، وقصر البجيدي.
وعلى بعد 95 كم جنوب شرقي تيماء، في الأطراف الغربية من صحراء النفود، عثر على أحفورة «ناب الفيل» ضمن مجموعة كبيرة من الأحافير لحيوانات كثيرة، شملت الغزلان بما فيها المها العربي والأبقار والجواميس البرية والخيل والذئاب وأفراس النهر والنمور والطيور والفيلة، والموقع يمثل بحيرة قديمة تشير الدلائل الأثرية والجيولوجية فيها إلى أن عمرها يزيد على خمسمائة ألف سنة مضت، في حين أرَّخت الأحافير التي وجدت بنحو 335 ألف سنة قبل الوقت الحاضر، ويبلغ طول ناب الفيل الذي عُثر عليه (مترين و25 سم)، والأرجح أنه من فصيلة الأفيال الأفريقية، ووجوده في هذه المنطقة كان خلال الفترة المطيرة التي تتزامن مع منتصف عصر البليستوسين، وهي الفترة التي توفرت خلالها النباتات والمياه بكميات وفيرة سمحت لهذه الحيوانات بالعيش، فوجود نوع من الثدييات، كالفيل مثلا، يدل على وفرة الغذاء، خصوصًا إذا كان هذا الحيوان يستهلك كمية من النباتات يتراوح وزنها بين 130 إلى 150 كجم يوميًا، بينما يحتاج إلى ما يقارب 350 لتر ماء يوميًا، وعاشت هذه الحيوانات في ظل وجود مجموعات بشرية خلال الفترة التي كانت فيها أغلب المناطق الصحراوية خضراء، وهي ما نطلق عليها مرحلة الجزيرة العربية الخضراء التي كشفت الدراسات عن أدلة على وجود مئات البحيرات، والأنهار، والغابات، والكائنات في أنحائها، والتي نشأت حولها كثير من الحضارات المتعاقبة، وساعدها في ذلك المناخ المعتدل لشبه الجزيرة العربية في ذلك الوقت.
* حضارة ضاربة في التاريخ.. وقصور أثرية
* يعد موقع «تيماء» من أهم المواقع الأثرية في شمال السعودية، وقد شهدت حضارات متعددة، وهناك ترابط بينها وبين الشام ومصر وبلاد ما بين النهرين، فيما تزخر المدينة بعدد من المباني الأثرية التي ما زالت محتفظة بأجزاء كبيرة منها، ومن أشهر هذه المواقع «السور الأثري الكبير»، وهو يحيط بمدينة تيماء القديمة.
وأكد الدكتور ريكاردو إيشمان، رئيس قسم الدراسات الشرقية في المعهد الألماني للآثار، الذي شارك في أعمال التنقيب الأثري في تيماء مع الفريق السعودي الألماني، أن موقع تيماء يعد من أهم المواقع الأثرية الواقعة في شمال السعودية التي شهدت حضارات متعددة، حيث كشفت نتائج الدراسات الميدانية عن وجود علاقة بين تيماء والشام ومصر وبلاد ما بين النهرين، كما تشير الدلائل إلى وجود استيطان مبكر في المنطقة يعود للألف الثالث قبل الميلاد.
وأضاف الدكتور ريكاردو أن من أهم الأعمال التي ستقوم بها البعثة الألمانية خلال السنوات الخمس المقبلة، البحث عن أسباب تغيير مناطق الاستيطان في تيماء خلال الفترات المختلفة، ودراسة الأحوال الاقتصادية والاجتماعية التي كانت سائدة في تيماء، ومعرفة العلاقة الخارجية بين تيماء والمناطق الأخرى، إضافة إلى تهيئة الموقع للزوار وفق رؤية الهيئة. في حين تزخر تيماء بعدد من المباني الأثرية التي ما زالت محتفظة بأجزاء كبيرة منها، ومن أشهر هذه المواقع «السور الأثري الكبير»، وهو يحيط بمدينة تيماء القديمة، ويبلغ طوله أكثر من 10 كيلومترات، وارتفاعه في بعض الأجزاء أكثر من 10 أمتار، وعرض جداره ما بين المتر والمترين، وتعود فترة بنائه إلى القرن السادس قبل الميلاد، و«قصر الحمراء»، وهو قصر مشيد من الحجارة، به ثلاثة أقسام، ويعود تاريخ بنائه إلى منتصف القرن السادس قبل الميلاد، إضافة إلى «بئر هداج» الذي يعد أعظم وأشهر وأقدم بئر في الجزيرة العربية، ويعرف بـ«شيخ الجوية»، أي كبير الآبار، وكثيرًا ما يطلق على الرجل الكريم «هداج تيماء»، إذ إن البئر يسقي عليها سبعة وسبعين جملاً في وقت الصيف القائظ في آن واحد، و«قصر الرضم» الذي يعود تاريخه إلى منتصف الألف الأول قبل الميلاد، في السادس قبل الميلاد تقريبًا، و«قصر الأبلق» الذي استمد شهرته مما قيل فيه من أشعار تتحدث عن حصانته وعظمته وروعة أسلوب بنائه، والذي قال فيه الأعشى:
بالأبلق الفرد من تيماء منزله
حصن حصين وجار غير غدار
كما يوجد في تيماء «قصر البجيدي»، وهو أول قصر إسلامي يكشف عنه في تيماء، ويعود للعصر العباسي، مربع الشكل، وفي أركانه أبراج، ومسلة تيماء الشهيرة، وهي عبارة عن صخرة تمت الكتابة عليها عن طريق النحت، وتحوي معلومات تاريخية مهمة عن تيماء، وتم نقل هذه المسلة عام 1884م إلى متحف «اللوفر» في باريس، وتحدث عنها علاّمة الجزيرة العربية الشيخ حمد الجاسر - رحمه الله - في كتابه «في شمال غرب الجزيرة».
يشار إلى أن مناطق السعودية شهدت في الفترة الأخيرة عددًا من الكشوفات الأثرية المهمة التي أظهرتها أعمال البحث والتنقيب لـ30 بعثة وفريقًا علميًا متخصصًا تشرف عليها الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني، وتضم إلى جانب العلماء السعوديين علماء متخصصون في آثار وعلوم الجزيرة العربية من عدد من الدول، منها: فرنسا، وإيطاليا، وأميركا، وبريطانيا، وألمانيا، واليابان، وبلجيكا، وبولندا، وفنلندا، وهولندا، والنمسا.