هل يتحوّل «داعش» إلى كتل انتحارية لتعويض خسائره؟

دفع عناصره إلى «قُرعة» عملياتية.. ونشر إحصائيات عن عملياته التفجيرية

يرى مراقبون خبراء أن معركة الموصل تمثل حقًا اختبارًا جديًا لمدى قدرة التنظيم على استخدام أدوات دعائية
يرى مراقبون خبراء أن معركة الموصل تمثل حقًا اختبارًا جديًا لمدى قدرة التنظيم على استخدام أدوات دعائية
TT

هل يتحوّل «داعش» إلى كتل انتحارية لتعويض خسائره؟

يرى مراقبون خبراء أن معركة الموصل تمثل حقًا اختبارًا جديًا لمدى قدرة التنظيم على استخدام أدوات دعائية
يرى مراقبون خبراء أن معركة الموصل تمثل حقًا اختبارًا جديًا لمدى قدرة التنظيم على استخدام أدوات دعائية

«هل يتحول تنظيم داعش الإرهابي إلى كتل انتحارية لتعويض خسائره في سوريا والعراق؟».. سؤال يتبادر بقوة في أذهان الخبراء والباحثين المهتمين بشؤون الحركات الإسلامية، عقب إقدام التنظيم أخيرًا على بث فيديو مصور خاص بإجراء «قرعة» بين اثنين من مقاتليه على تنفيذ عملية انتحارية، تحت مسمى «قرعة الانتحار»، ونشر إحصائيات عن العمليات الانتحارية التي نفذتها عناصره خلال الأشهر الأخيرة، كنوع من التشجيع على تنفيذ عمليات جديدة. ولقد التقت «الشرق الأوسط» خبراء مصريين رأوا أن «داعش» إنما يسعى إلى رفع الروح المعنوية لعناصره، كي يوضح للجميع أنه ما زال موجودًا، رغم الهزائم التي مُنى بها في سوريا والعراق أخيرًا. وحسب الخبراء، فإن «خيار الإرهاب والعمليات الانتحارية موجود ومتوفر ويحظى بشعبية جارفة لدى أعضاء التنظيم، رغم الخسائر»، لافتين إلى أن ما بثه التنظيم خلال الفترة الأخيرة يؤكد أن الحرب ما زالت مستمرة، وأن على عناصره تبني خيار الصبر والاستمرار في أرض المعركة حتى النهاية، وأن أغلب مقاتلي التنظيم مستعدون للانتحار من أجل تحقيق الهدف العام، أي «الخلافة المزعومة».
يقول مراقبون وخبراء إن تنظيم داعش تبنى خلال الفترة الأخيرة آليات مختلفة للترويج لعملياته وأنشطته داخل المناطق التي ما زال يسيطر عليها في كل من العراق وسوريا، وذلك بالتزامن مع تصاعد حدة المواجهات المسلحة في مدينة الموصل التي تمثل أهمية خاصة بالنسبة له. ويرى هؤلاء أن نتائجها ستحدد بدرجة ما، ليس فقط مدى قدرة التنظيم على الاحتفاظ بالمناطق الأخرى التي يسيطر عليها، وإنما أيضًا المسارات المحتملة التي قد يلجأ إليها إذا ما استمرت خسائره البشرية والمادية بسبب الضغوط التي يتعرض لها نتيجة العمليات العسكرية الهادفة إلى تحرير تلك المناطق. ففي الآونة الأخيرة، بث التنظيم الإرهابي المتطرف شريط فيديو يظهر إجراء قرعة بين اثنين من مقاتليه لتنفيذ عملية انتحارية، وهو الشريط الذي حظي باهتمام خاص من جانب وسائل الإعلام، وأثار جدلاً واسعًا على مواقع التواصل الاجتماعي.
كذلك، روّج «داعش» بالتوازي مع ذلك لرفع أعداد المتقدمين لتنفيذ عمليات انتحارية من مقاتليه، ونشرت مجلة «أعماق» الشهرية التي يصدرها التنظيم أن عدد العمليات الانتحارية التي تقوم بها عناصر من التنظيم تراوحت بين 50 إلى 60 عملية شهريًا حتى نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2015، إلا أنها ارتفعت خلال الشهور التالية، فوصلت إلى ما بين 80 إلى 100 عملية شهريًا، بمعدل عمليتين أو ثلاث يوميًا، وفقًا لتقديرات يومية صدرت عن مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة.
وأشارت هذه التقديرات إلى أن هدف التنظيم من تسليط الضوء على شريط الفيديو هذا يتمثل في الترويج لأفكاره، ودعوة بعض الشباب المتعاطفين معه للانضمام إليه، بهدف تعويض الخسائر البشرية المتصاعدة التي منى بها بسبب توالي العمليات العسكرية ضد عناصره ومواقعه في العراق وسوريا.
* خسائر الرقّة والموصل
في هذه الأثناء، تواصل الفصائل المشاركة في عملية «درع الفرات»، بشمال سوريا، معركة تحرير بلدة دابق الواقعة في ريف محافظة حلب الشمالي، ذات الرمزية الدينية والعقائدية والدعائية المهمة لـ«داعش». وحسب دارسي شؤون التنظيم، فإن دعاية «داعش» الآيديولوجية والفكرية تعتمد على مركزية بلدة دابق، بوصفها مكان «الملحمة الكبرى في نهاية الزمان» بين جيوش المسلمين وخصومهم. وبهذا الفكر سيطر التنظيم عليها في أغسطس (آب) عام 2014، وأطلق اسمها على مجلته الصادرة باللغة الإنجليزية. ويقول هؤلاء إن سيطرة «الجيش السوري الحرّ» على دابق يعد بمثابة هزيمة معنوية وآيديولوجية كبيرة لمشروع «داعش» في سوريا، وتصدع لمشروع «خلافته المزعومة». وللعلم، تأتي هزيمة «داعش» في دابق ومحيطها عقب هزائمه في جبهة الموصل بشمال العراق، حيث تشير التقارير إلى تقدم القوات العراقية إلى مسافة بضعة كيلومترات من المدينة التي غدت آخر معاقل التنظيم في العراق، في حين تتزايد أعداد النازحين الفارين من ضواحي الموصل هربًا من المعارك.
* مرحلة فاصلة
حسب المراقبين والخبراء، فإن مقطع الفيديو الخاص بـ«قرعة الانتحار» يكتسب أهميته من توقيت بثه، إذ يشير بشكل واضح إلى أن التنظيم بات يرى أنه يمر بمرحلة فاصلة، لاعتبارين: الأول، هو أن الخسائر التي منى بها منذ بداية معركة الموصل كانت كبيرة، إذ فقد أعدادًا غير قليلة من مقاتليه، كما خسر بعض القرى والمناطق التي كان يسيطر عليها خلال الفترة الماضية. والثاني، هو أن معركتي الموصل والرقّة ستمهدان المجال أمام شن عملية عسكرية جديدة في مرحلة تالية، وهو ما يمكن أن يفرض تداعيات وخيمة على تماسك التنظيم خلال الفترة المقبلة.
الدكتور خالد الزعفراني، الخبير في شؤون الحركات الإسلامية بمصر، يرى أن هزائم «داعش» الأخيرة «أثبتت أنه كان يقيم بالفعل (شبه دولة) في الأراضي التي كانت خاضعة لسيطرته في العراق وسوريا، خصوصًا أنه لم يستطع الصمود أمام قوات التحالف الدولي التي سيطرت على قرى بأكملها أخيرًا، عكس ما كان يزعمه لعناصره، من أنه تنظيم قوي، وأنه أكثر التنظيمات تأثيرًا في العالم».
وأضاف الزعفراني، في لقاء مع «الشرق الأوسط»: «لذلك كان عليه البحث عن طرق جديدة لرفع الروح المعنوية لعناصره، والتأكيد على امتلاكه لأسلحة أكثر قوة، وأن عناصره تندفع بقوة لتنفيذ أي عمليات انتحارية، ليوضح للجميع أنه ما زال موجودًا».
أما الخبير الإعلامي الدكتور أحمد سمير، فأعرب عن اعتقاده أن ما قام به «داعش» يهدف إلى «تبني سياسة جديدة يسعى من خلالها إلى تدشين عملية تعبئة معنوية لمقاتليه، وتعكس خشيته من أن يساهم تصاعد حدة الضغوط التي يتعرض لها خلال الفترة الحالية، في ظل العمليات العسكرية المتتالية التي يشنها التحالف الدولي وبعض الأطراف المحلية والإقليمية، في توسيع نطاق الانشقاقات الداخلية بصفوفه التي يمكن أن تتسبب في إضعافه بشكل كبير، وتقليص قدرته على مواجهة تلك العمليات العسكرية».
وهنا، يلفت آخرون إلى تعمد التنظيم الإرهابي المتطرف أيضًا تسليط الضوء على عمليات الإعدام التي يقوم بتنفيذها ضد بعض العناصر التي تسعى للانشقاق عنه، وبثه مقاطع من أشرطة فيديو خاصة بها، ويرون أن الغاية من كل ذلك ردع العناصر الأخرى ومنعها من التفكير في الإقدام على تلك الخطوة، خصوصًا بعد هروب كثير من عناصره عقب اكتشافهم زيف مزاعم التنظيم.
* دول جديدة مستهدفة
وعن تأثير فيديو «قرعة الانتحار» في جذب موالين جدد للانضمام لـ«داعش»، قال الزعفراني: «لا أعتقد ذلك، فخسائر التنظيم خلال الأشهر الأخيرة تدعو من ينضم إليه للتفكير ألف مرة قبل أن يفعل»، لكن الخبير المصري أبدى تخوفه من أن «داعش» سيصبح أكثر شراسة من أي وقت مضى، وسينقل نشاطه الإجرامي إلى دول أخرى، خصوصًا في شمال أفريقيا. ومن ثم، سوف يدعو أنصاره للانتشار في دول أخرى مختلفة، بدلاً من التمركز في مكان واحد.
وقد نشرت وكالة الأنباء «حق»، إحدى الأذرع الإعلامية لـ«داعش»، كلمة لأحد عناصره، ويدعى إبراهيم بن عواد، حدّد فيها استراتيجية التنظيم خلال الفترة المقبلة في التوسع في فروع التنظيم التي وصلت إلى 14 فرعًا في دول العالم - على حد زعمه - ثم قال: «هذه الأفرع تدل على أن السياسة التوسعية لـ(دولة الخلافة) - المزعومة - لن تتأثر، وهي قابلة للزيادة في أي وقت».
وحول تخلي «داعش» عن فكرة إقامة «الخلافة المزعومة» في مكان واحد مثل العراق وسوريا، والاتجاه لدعوة عناصره للانتشار في دول أخرى، قال الدكتور الزعفراني إن «الخلافة كانت مجرد حلم لـ(داعش)، وهذه ليست أول مرة يدعو فيها (خوارج العصر) لإقامة الدولة ويفشلون، فـ(داعش) لم يؤسس إلا شبه دولة (...) وأن التنظيم وما يبثه من أرقام عن عملياته الانتحارية، لهو مؤشر على أنه سيتحول إلى (كتلة انتحارية) لتعويض خسائره».
من ناحية أخرى، وفيما يخص تداعيات معركة الموصل التي تدور رحاها في الفترة الحالية، يرى مراقبون خبراء أن المعركة تمثل حقًا اختبارًا جديًا لمدى قدرة التنظيم على استخدام أدوات دعائية، سواء للترويج لعملياته ونشاطاته في سوريا والعراق وبعض الدول الأخرى، أو لتجنيد مزيد من المقاتلين في صفوفه لتعويض الخسائر البشرية التي يتعرض لها في أكثر من منطقة. ويعتبر هؤلاء أنه بصرف النظر عن الجدل الذي أثارته هذه الحملة الدعائية التي يشنها التنظيم، خصوصًا حول مصداقيتها، يمكن القول إن هناك عوامل كثيرة يمكن أن تدفع التنظيم بالفعل إلى محاولة رفع عدد مقاتليه الذين يمكن أن يقوموا بتنفيذ عمليات انتحارية.
وبين هذه العوامل المشار إليها ثلاثة؛ يتمثل أولها في التحضّر للانسحاب المحتمل من الموصل بسبب الضغوط القوية التي يتعرض لها التنظيم في الفترة الحالية، وهو الذي سيدفعه غالبًا إلى الإبقاء على بعض عناصره للقيام بعمليات انتحارية داخل المناطق التي سينسحب منها خلال المرحلة المقبلة، على غرار ما فعله بعد العمليات العسكرية التي وقعت في الفترة الماضية. والعامل الثاني احتواء تداعيات اختلال توازن القوى لصالح الأطراف المشاركة في العمليات العسكرية ضده، من خلال العمل على تنفيذ عمليات انتحارية نوعية تستطيع إلحاق خسائر نوعية بتلك الأطراف. والعامل الثالث تقليص حدة الضغوط المتوقعة على التنظيم في مناطق أخرى، لا سيما في سوريا، حيث قد تدفع معركة الموصل بعض الأطراف في سوريا إلى تصعيد عملياتها العسكرية ضد التنظيم.
وهنا يقول أحمد سمير، في حواره مع «الشرق الأوسط»، إنه من المؤكد أن «استخدام (داعش) لوسائل الإعلام عبر بث مقاطع الفيديو المصوّرة، يعد أحد أهم الأسلحة التي يتبناها التنظيم، والتي تتسم على المستوى الفني بالاحترافية الشديدة، والقدرة على تكثيف الأثر الناتج عن التعرض لمثل هذه المواد. إلا أن مسار الإعلام يدعم الواقع الموجود في سوريا والعراق، لكنه لا يغيره. فمجرد الإعلان عن مثل هذه المواد المرئية لا يمكنه تغيير الواقع المتمثل في هزائمه في سوريا والعراق، لكنه يسهل الحفاظ على استراتيجية موحدة للمقاتلين».
وأضاف سمير، شارحًا: «ما استخدمه (داعش) في شريط الفيديو نموذج واضح، لكنه مكرّر في أساليب الدعاية والحرب النفسية، وهو يهدف من وراء ذلك إلى أمرين: الأول، الردع والتخويف لأعداء التنظيم بأنه تنتظرهم أمور لا يتوقعونها أو لا يضعونها في الحسبان، لأن أعداء (داعش) - من وجهة نظر عناصر التنظيم - إذا كانوا استطاعوا تحقيق انتصارات عسكرية محددة على الأرض ضد (داعش)، فإن خيار العمليات الانتحارية موجود، وهو يحظى بشعبية جارفة لدى الدواعش، فضلاً عن التطمين والحفاظ على تماسك قواعد التنظيم. فلا شك أن الهزائم العسكرية التي لحقت بـ(داعش) تخلق قدرًا من الانفصال بين القيادات والقواعد. وبالتالي، فإن القواعد تكون في الغالب مشتتة عاجزة عن اتخاذ قرارات منفردة».
وتابع سمير قوله: «وبالتالي، فإن وصول هذه المواد (أي الفيديو وإحصائيات العمليات الانتحارية) للدواعش يؤكد لهم أن الحرب لا تزال مستمرة، وأن عليهم تبني خيار الصبر والاستمرار حتى النهاية، وأن أغلب زملائهم مستعدون للانتحار من أجل تحقيق الهدف العام للتنظيم في هذه الحرب».
* انشقاقات محتملة
أخيرًا، ثمة من يقرأ في ما هو حاصل أن «داعش» بصدد توجيه رسالة إلى مقاتلي التنظيم بعجزه عن الاحتفاظ بالمناطق التي سيطر عليها خلال العامين الماضيين، أي منذ انتشاره في شمال العراق في منتصف عام 2014، لا سيما مدينة الموصل التي تمثل أهمية خاصة بالنسبة للتنظيم لاعتبارات اقتصادية واستراتيجية كثيرة.
وفي سياق هذه القراءة، ستتقلص قدرة التنظيم المتطرف على دعم تماسكه الداخلي، وتجنيد مزيد من المقاتلين في صفوفه، لأن انسحاباته المتتالية من المناطق التي سبق له أن سيطر عليها، وتراجع قدرته على الدفاع عنها، يعنيان ازدياد احتمالات انشقاق عدد غير قليل من عناصره بشكل قد يؤدي إلى تراجع قدرته على تنفيذ عمليات إرهابية نوعية خلال المرحلة المقبلة. وفضلا عن ذلك، فإن المشكلات الداخلية الكثيرة التي يعاني منها «داعش» لا بد أن تعرقل مساعيه لرفع عدد المتقدمين لتنفيذ عمليات انتحارية، في ظل التمييز العرقي الذي يعاني منه، والذي أدى إلى وقوع اشتباكات ومواجهات مسلحة بين بعض كوادره وعناصره خلال المرحلة الماضية.
ومعروف أن التنظيم عانى خلال الأشهر الماضية من هروب كثير من مقاتليه بسبب اكتشافهم زيف مزاعم التنظيم، وأكذوبة «أرض الخلافة» المزعومة، وادعاءات العيش الرغد والرواتب الكبيرة التي حلموا بها. لذا لجأ إلى إعدام كثير من عناصره، وتصوير هذه المشاهد وبثها كنوع من التخويف والردع، بحيث لا تجرؤ العناصر الأخرى على الهروب.



فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.