هل يتحوّل «داعش» إلى كتل انتحارية لتعويض خسائره؟

دفع عناصره إلى «قُرعة» عملياتية.. ونشر إحصائيات عن عملياته التفجيرية

يرى مراقبون خبراء أن معركة الموصل تمثل حقًا اختبارًا جديًا لمدى قدرة التنظيم على استخدام أدوات دعائية
يرى مراقبون خبراء أن معركة الموصل تمثل حقًا اختبارًا جديًا لمدى قدرة التنظيم على استخدام أدوات دعائية
TT

هل يتحوّل «داعش» إلى كتل انتحارية لتعويض خسائره؟

يرى مراقبون خبراء أن معركة الموصل تمثل حقًا اختبارًا جديًا لمدى قدرة التنظيم على استخدام أدوات دعائية
يرى مراقبون خبراء أن معركة الموصل تمثل حقًا اختبارًا جديًا لمدى قدرة التنظيم على استخدام أدوات دعائية

«هل يتحول تنظيم داعش الإرهابي إلى كتل انتحارية لتعويض خسائره في سوريا والعراق؟».. سؤال يتبادر بقوة في أذهان الخبراء والباحثين المهتمين بشؤون الحركات الإسلامية، عقب إقدام التنظيم أخيرًا على بث فيديو مصور خاص بإجراء «قرعة» بين اثنين من مقاتليه على تنفيذ عملية انتحارية، تحت مسمى «قرعة الانتحار»، ونشر إحصائيات عن العمليات الانتحارية التي نفذتها عناصره خلال الأشهر الأخيرة، كنوع من التشجيع على تنفيذ عمليات جديدة. ولقد التقت «الشرق الأوسط» خبراء مصريين رأوا أن «داعش» إنما يسعى إلى رفع الروح المعنوية لعناصره، كي يوضح للجميع أنه ما زال موجودًا، رغم الهزائم التي مُنى بها في سوريا والعراق أخيرًا. وحسب الخبراء، فإن «خيار الإرهاب والعمليات الانتحارية موجود ومتوفر ويحظى بشعبية جارفة لدى أعضاء التنظيم، رغم الخسائر»، لافتين إلى أن ما بثه التنظيم خلال الفترة الأخيرة يؤكد أن الحرب ما زالت مستمرة، وأن على عناصره تبني خيار الصبر والاستمرار في أرض المعركة حتى النهاية، وأن أغلب مقاتلي التنظيم مستعدون للانتحار من أجل تحقيق الهدف العام، أي «الخلافة المزعومة».
يقول مراقبون وخبراء إن تنظيم داعش تبنى خلال الفترة الأخيرة آليات مختلفة للترويج لعملياته وأنشطته داخل المناطق التي ما زال يسيطر عليها في كل من العراق وسوريا، وذلك بالتزامن مع تصاعد حدة المواجهات المسلحة في مدينة الموصل التي تمثل أهمية خاصة بالنسبة له. ويرى هؤلاء أن نتائجها ستحدد بدرجة ما، ليس فقط مدى قدرة التنظيم على الاحتفاظ بالمناطق الأخرى التي يسيطر عليها، وإنما أيضًا المسارات المحتملة التي قد يلجأ إليها إذا ما استمرت خسائره البشرية والمادية بسبب الضغوط التي يتعرض لها نتيجة العمليات العسكرية الهادفة إلى تحرير تلك المناطق. ففي الآونة الأخيرة، بث التنظيم الإرهابي المتطرف شريط فيديو يظهر إجراء قرعة بين اثنين من مقاتليه لتنفيذ عملية انتحارية، وهو الشريط الذي حظي باهتمام خاص من جانب وسائل الإعلام، وأثار جدلاً واسعًا على مواقع التواصل الاجتماعي.
كذلك، روّج «داعش» بالتوازي مع ذلك لرفع أعداد المتقدمين لتنفيذ عمليات انتحارية من مقاتليه، ونشرت مجلة «أعماق» الشهرية التي يصدرها التنظيم أن عدد العمليات الانتحارية التي تقوم بها عناصر من التنظيم تراوحت بين 50 إلى 60 عملية شهريًا حتى نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2015، إلا أنها ارتفعت خلال الشهور التالية، فوصلت إلى ما بين 80 إلى 100 عملية شهريًا، بمعدل عمليتين أو ثلاث يوميًا، وفقًا لتقديرات يومية صدرت عن مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة.
وأشارت هذه التقديرات إلى أن هدف التنظيم من تسليط الضوء على شريط الفيديو هذا يتمثل في الترويج لأفكاره، ودعوة بعض الشباب المتعاطفين معه للانضمام إليه، بهدف تعويض الخسائر البشرية المتصاعدة التي منى بها بسبب توالي العمليات العسكرية ضد عناصره ومواقعه في العراق وسوريا.
* خسائر الرقّة والموصل
في هذه الأثناء، تواصل الفصائل المشاركة في عملية «درع الفرات»، بشمال سوريا، معركة تحرير بلدة دابق الواقعة في ريف محافظة حلب الشمالي، ذات الرمزية الدينية والعقائدية والدعائية المهمة لـ«داعش». وحسب دارسي شؤون التنظيم، فإن دعاية «داعش» الآيديولوجية والفكرية تعتمد على مركزية بلدة دابق، بوصفها مكان «الملحمة الكبرى في نهاية الزمان» بين جيوش المسلمين وخصومهم. وبهذا الفكر سيطر التنظيم عليها في أغسطس (آب) عام 2014، وأطلق اسمها على مجلته الصادرة باللغة الإنجليزية. ويقول هؤلاء إن سيطرة «الجيش السوري الحرّ» على دابق يعد بمثابة هزيمة معنوية وآيديولوجية كبيرة لمشروع «داعش» في سوريا، وتصدع لمشروع «خلافته المزعومة». وللعلم، تأتي هزيمة «داعش» في دابق ومحيطها عقب هزائمه في جبهة الموصل بشمال العراق، حيث تشير التقارير إلى تقدم القوات العراقية إلى مسافة بضعة كيلومترات من المدينة التي غدت آخر معاقل التنظيم في العراق، في حين تتزايد أعداد النازحين الفارين من ضواحي الموصل هربًا من المعارك.
* مرحلة فاصلة
حسب المراقبين والخبراء، فإن مقطع الفيديو الخاص بـ«قرعة الانتحار» يكتسب أهميته من توقيت بثه، إذ يشير بشكل واضح إلى أن التنظيم بات يرى أنه يمر بمرحلة فاصلة، لاعتبارين: الأول، هو أن الخسائر التي منى بها منذ بداية معركة الموصل كانت كبيرة، إذ فقد أعدادًا غير قليلة من مقاتليه، كما خسر بعض القرى والمناطق التي كان يسيطر عليها خلال الفترة الماضية. والثاني، هو أن معركتي الموصل والرقّة ستمهدان المجال أمام شن عملية عسكرية جديدة في مرحلة تالية، وهو ما يمكن أن يفرض تداعيات وخيمة على تماسك التنظيم خلال الفترة المقبلة.
الدكتور خالد الزعفراني، الخبير في شؤون الحركات الإسلامية بمصر، يرى أن هزائم «داعش» الأخيرة «أثبتت أنه كان يقيم بالفعل (شبه دولة) في الأراضي التي كانت خاضعة لسيطرته في العراق وسوريا، خصوصًا أنه لم يستطع الصمود أمام قوات التحالف الدولي التي سيطرت على قرى بأكملها أخيرًا، عكس ما كان يزعمه لعناصره، من أنه تنظيم قوي، وأنه أكثر التنظيمات تأثيرًا في العالم».
وأضاف الزعفراني، في لقاء مع «الشرق الأوسط»: «لذلك كان عليه البحث عن طرق جديدة لرفع الروح المعنوية لعناصره، والتأكيد على امتلاكه لأسلحة أكثر قوة، وأن عناصره تندفع بقوة لتنفيذ أي عمليات انتحارية، ليوضح للجميع أنه ما زال موجودًا».
أما الخبير الإعلامي الدكتور أحمد سمير، فأعرب عن اعتقاده أن ما قام به «داعش» يهدف إلى «تبني سياسة جديدة يسعى من خلالها إلى تدشين عملية تعبئة معنوية لمقاتليه، وتعكس خشيته من أن يساهم تصاعد حدة الضغوط التي يتعرض لها خلال الفترة الحالية، في ظل العمليات العسكرية المتتالية التي يشنها التحالف الدولي وبعض الأطراف المحلية والإقليمية، في توسيع نطاق الانشقاقات الداخلية بصفوفه التي يمكن أن تتسبب في إضعافه بشكل كبير، وتقليص قدرته على مواجهة تلك العمليات العسكرية».
وهنا، يلفت آخرون إلى تعمد التنظيم الإرهابي المتطرف أيضًا تسليط الضوء على عمليات الإعدام التي يقوم بتنفيذها ضد بعض العناصر التي تسعى للانشقاق عنه، وبثه مقاطع من أشرطة فيديو خاصة بها، ويرون أن الغاية من كل ذلك ردع العناصر الأخرى ومنعها من التفكير في الإقدام على تلك الخطوة، خصوصًا بعد هروب كثير من عناصره عقب اكتشافهم زيف مزاعم التنظيم.
* دول جديدة مستهدفة
وعن تأثير فيديو «قرعة الانتحار» في جذب موالين جدد للانضمام لـ«داعش»، قال الزعفراني: «لا أعتقد ذلك، فخسائر التنظيم خلال الأشهر الأخيرة تدعو من ينضم إليه للتفكير ألف مرة قبل أن يفعل»، لكن الخبير المصري أبدى تخوفه من أن «داعش» سيصبح أكثر شراسة من أي وقت مضى، وسينقل نشاطه الإجرامي إلى دول أخرى، خصوصًا في شمال أفريقيا. ومن ثم، سوف يدعو أنصاره للانتشار في دول أخرى مختلفة، بدلاً من التمركز في مكان واحد.
وقد نشرت وكالة الأنباء «حق»، إحدى الأذرع الإعلامية لـ«داعش»، كلمة لأحد عناصره، ويدعى إبراهيم بن عواد، حدّد فيها استراتيجية التنظيم خلال الفترة المقبلة في التوسع في فروع التنظيم التي وصلت إلى 14 فرعًا في دول العالم - على حد زعمه - ثم قال: «هذه الأفرع تدل على أن السياسة التوسعية لـ(دولة الخلافة) - المزعومة - لن تتأثر، وهي قابلة للزيادة في أي وقت».
وحول تخلي «داعش» عن فكرة إقامة «الخلافة المزعومة» في مكان واحد مثل العراق وسوريا، والاتجاه لدعوة عناصره للانتشار في دول أخرى، قال الدكتور الزعفراني إن «الخلافة كانت مجرد حلم لـ(داعش)، وهذه ليست أول مرة يدعو فيها (خوارج العصر) لإقامة الدولة ويفشلون، فـ(داعش) لم يؤسس إلا شبه دولة (...) وأن التنظيم وما يبثه من أرقام عن عملياته الانتحارية، لهو مؤشر على أنه سيتحول إلى (كتلة انتحارية) لتعويض خسائره».
من ناحية أخرى، وفيما يخص تداعيات معركة الموصل التي تدور رحاها في الفترة الحالية، يرى مراقبون خبراء أن المعركة تمثل حقًا اختبارًا جديًا لمدى قدرة التنظيم على استخدام أدوات دعائية، سواء للترويج لعملياته ونشاطاته في سوريا والعراق وبعض الدول الأخرى، أو لتجنيد مزيد من المقاتلين في صفوفه لتعويض الخسائر البشرية التي يتعرض لها في أكثر من منطقة. ويعتبر هؤلاء أنه بصرف النظر عن الجدل الذي أثارته هذه الحملة الدعائية التي يشنها التنظيم، خصوصًا حول مصداقيتها، يمكن القول إن هناك عوامل كثيرة يمكن أن تدفع التنظيم بالفعل إلى محاولة رفع عدد مقاتليه الذين يمكن أن يقوموا بتنفيذ عمليات انتحارية.
وبين هذه العوامل المشار إليها ثلاثة؛ يتمثل أولها في التحضّر للانسحاب المحتمل من الموصل بسبب الضغوط القوية التي يتعرض لها التنظيم في الفترة الحالية، وهو الذي سيدفعه غالبًا إلى الإبقاء على بعض عناصره للقيام بعمليات انتحارية داخل المناطق التي سينسحب منها خلال المرحلة المقبلة، على غرار ما فعله بعد العمليات العسكرية التي وقعت في الفترة الماضية. والعامل الثاني احتواء تداعيات اختلال توازن القوى لصالح الأطراف المشاركة في العمليات العسكرية ضده، من خلال العمل على تنفيذ عمليات انتحارية نوعية تستطيع إلحاق خسائر نوعية بتلك الأطراف. والعامل الثالث تقليص حدة الضغوط المتوقعة على التنظيم في مناطق أخرى، لا سيما في سوريا، حيث قد تدفع معركة الموصل بعض الأطراف في سوريا إلى تصعيد عملياتها العسكرية ضد التنظيم.
وهنا يقول أحمد سمير، في حواره مع «الشرق الأوسط»، إنه من المؤكد أن «استخدام (داعش) لوسائل الإعلام عبر بث مقاطع الفيديو المصوّرة، يعد أحد أهم الأسلحة التي يتبناها التنظيم، والتي تتسم على المستوى الفني بالاحترافية الشديدة، والقدرة على تكثيف الأثر الناتج عن التعرض لمثل هذه المواد. إلا أن مسار الإعلام يدعم الواقع الموجود في سوريا والعراق، لكنه لا يغيره. فمجرد الإعلان عن مثل هذه المواد المرئية لا يمكنه تغيير الواقع المتمثل في هزائمه في سوريا والعراق، لكنه يسهل الحفاظ على استراتيجية موحدة للمقاتلين».
وأضاف سمير، شارحًا: «ما استخدمه (داعش) في شريط الفيديو نموذج واضح، لكنه مكرّر في أساليب الدعاية والحرب النفسية، وهو يهدف من وراء ذلك إلى أمرين: الأول، الردع والتخويف لأعداء التنظيم بأنه تنتظرهم أمور لا يتوقعونها أو لا يضعونها في الحسبان، لأن أعداء (داعش) - من وجهة نظر عناصر التنظيم - إذا كانوا استطاعوا تحقيق انتصارات عسكرية محددة على الأرض ضد (داعش)، فإن خيار العمليات الانتحارية موجود، وهو يحظى بشعبية جارفة لدى الدواعش، فضلاً عن التطمين والحفاظ على تماسك قواعد التنظيم. فلا شك أن الهزائم العسكرية التي لحقت بـ(داعش) تخلق قدرًا من الانفصال بين القيادات والقواعد. وبالتالي، فإن القواعد تكون في الغالب مشتتة عاجزة عن اتخاذ قرارات منفردة».
وتابع سمير قوله: «وبالتالي، فإن وصول هذه المواد (أي الفيديو وإحصائيات العمليات الانتحارية) للدواعش يؤكد لهم أن الحرب لا تزال مستمرة، وأن عليهم تبني خيار الصبر والاستمرار حتى النهاية، وأن أغلب زملائهم مستعدون للانتحار من أجل تحقيق الهدف العام للتنظيم في هذه الحرب».
* انشقاقات محتملة
أخيرًا، ثمة من يقرأ في ما هو حاصل أن «داعش» بصدد توجيه رسالة إلى مقاتلي التنظيم بعجزه عن الاحتفاظ بالمناطق التي سيطر عليها خلال العامين الماضيين، أي منذ انتشاره في شمال العراق في منتصف عام 2014، لا سيما مدينة الموصل التي تمثل أهمية خاصة بالنسبة للتنظيم لاعتبارات اقتصادية واستراتيجية كثيرة.
وفي سياق هذه القراءة، ستتقلص قدرة التنظيم المتطرف على دعم تماسكه الداخلي، وتجنيد مزيد من المقاتلين في صفوفه، لأن انسحاباته المتتالية من المناطق التي سبق له أن سيطر عليها، وتراجع قدرته على الدفاع عنها، يعنيان ازدياد احتمالات انشقاق عدد غير قليل من عناصره بشكل قد يؤدي إلى تراجع قدرته على تنفيذ عمليات إرهابية نوعية خلال المرحلة المقبلة. وفضلا عن ذلك، فإن المشكلات الداخلية الكثيرة التي يعاني منها «داعش» لا بد أن تعرقل مساعيه لرفع عدد المتقدمين لتنفيذ عمليات انتحارية، في ظل التمييز العرقي الذي يعاني منه، والذي أدى إلى وقوع اشتباكات ومواجهات مسلحة بين بعض كوادره وعناصره خلال المرحلة الماضية.
ومعروف أن التنظيم عانى خلال الأشهر الماضية من هروب كثير من مقاتليه بسبب اكتشافهم زيف مزاعم التنظيم، وأكذوبة «أرض الخلافة» المزعومة، وادعاءات العيش الرغد والرواتب الكبيرة التي حلموا بها. لذا لجأ إلى إعدام كثير من عناصره، وتصوير هذه المشاهد وبثها كنوع من التخويف والردع، بحيث لا تجرؤ العناصر الأخرى على الهروب.



تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
TT

تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)

من يقود تنظيم داعش الإرهابي الآن؟ وما سر عدم ظهور إبراهيم الهاشمي القرشي، زعيم «داعش» الجديد، حتى اللحظة؟ ولماذا تعمد التنظيم إخفاء هوية «القرشي» منذ تنصيبه قبل شهرين؟ وهل هناك تغير في شكل التنظيم خلال الفترة المقبلة، عبر استراتيجية إخفاء هوية قادته، خوفاً عليهم من الرصد الأمني بعد مقتل أبو بكر البغدادي؟ تساؤلات كثيرة تشغل الخبراء والمختصين، بعدما خيم الغموض على شخصية زعيم «داعش» الجديد طوال الفترة الماضية. خبراء في الحركات الأصولية أكدوا لـ«الشرق الأوسط» أن «التنظيم يعاني الآن من غياب المركزية في صناعة القرار».
ويرجح خبراء التنظيمات المتطرفة أن «يكون (داعش) قد قرر إخفاء هوية (القرشي) تماماً، في محاولة لحمايته، وأن إعلان (القرشي) زعيماً من قبل كان شكلاً من أشكال التمويه فقط، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم». كما شكك الخبراء في «وجود شخصية (القرشي) من الأساس».
وأعلن «داعش»، في تسجيل صوتي بثه موقع «الفرقان»، الذراع الإعلامية للتنظيم، في نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تنصيب «القرشي» خلفاً للبغدادي الذي قتل في أعقاب غارة أميركية، وتعيين أبو حمزة القرشي متحدثاً باسم التنظيم، خلفاً لأبو الحسن المهاجر الذي قتل مع البغدادي. وكان الرئيس الأميركي دونالد ترمب قد أعلن «مقتل البغدادي في عملية عسكرية أميركية شمال غربي سوريا».
ورغم أن مراقبين أكدوا أن «(القرشي) هو القاضي الأول في التنظيم، وكان يرأس اللجنة الشرعية»، فإن مصادر أميركية ذكرت في وقت سابق أن «(القرشي) عُرف بلقب الحاج عبد الله، وعُرف أيضاً باسم محمد سعيد عبد الرحمن المولى، وكان أحد قادة تنظيم القاعدة في العراق، وقاتل ضد الأميركيين». لكن عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر «شكك في وجود (القرشي) من الأساس»، قائلاً: إن «(القرشي) شخصية غير حقيقية، وهناك أكثر من إدارة تدير (داعش) الآن».
وأكد أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أنه «بطبيعة الحال، لا يمكن أن نحدد من يقود (داعش) الآن، حتى هذا الإعلان (أي تنصيب القرشي) قد يكون شكلاً من أشكال التمويه، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم»، مضيفاً: «نحن أمام عدد من الاحتمالات: الاحتمال الأول هو أن تكون شخصية (القرشي) حقيقية لكن يتم إخفاءها، وعدم ظهوره إلى الآن هو من أجل تأمين حياته، وعدم مطاردته من قبل أجهزة الدول. والاحتمال الثاني أننا أمام شخصية (وهمية)، والتنظيم لا يزال منقسماً حول فكرة اختيار خليفة للبغدادي. أما الاحتمال الثالث فأننا أمام صراع حقيقي داخل التنظيم حول خلافة (البغدادي)».
وتحدث المراقبون عن سبب آخر لإخفاء «داعش» هوية «القرشي»، وهو «الخوف من الانشقاقات التي تضرب التنظيم من قبل مقتل البغدادي، بسبب الهزائم التي مُني بها في سوريا والعراق، خاصة أن نهج إخفاء المعلومات والتفاصيل التي تتعلق بقادة (داعش) استخدمه التنظيم من قبل، حين تم تعيين أبو حمزة المهاجر وزيراً للحرب (على حد تعبير التنظيم) في عهد البغدادي، وتم الكشف عن اسمه في وقت لاحق».
وكان البغدادي قد استغل فرصة الاضطرابات التي حدثت في سوريا، وأسس فرعاً لتنظيمه هناك، كما استغل بعض الأحداث السياسية في العراق، وقدم نفسه وتنظيمه على أنهم المدافعون عن الإسلام (على حد زعمه)، فاكتسب في البداية بيئة حاضنة ساعدته على احتلال المزيد من الأراضي العراقية التي أسس عليها «دولته المزعومة». وفي عام 2014، أعلن البغدادي نفسه «خليفة مزعوماً» من على منبر مسجد النوري الكبير، في مدينة الموصل، ثم اختفى بعدها لمدة 5 سنوات، ولم يظهر إلا في أبريل (نيسان) الماضي، في مقطع فيديو مصور مدته 18 دقيقة، ليعلن «انتهاء السيطرة المكانية لـ(دولته المزعومة)، وسقوط آخر معاقلها في الباغوز السورية». وقال المراقبون إنه «رغم أن ظهور البغدادي كان قليلاً في السنوات الأخيرة قبل مقتله، فإن أخباره كانت دائمة الانتشار، كما عمد مع بداية الإعلان عن (دولته المزعومة) إلى الظهور المتكرر، وهو ما لم يفعله (القرشي)».
وأكد عبد المنعم أن «هوية (القرشي) كانت لا بد أن تختفي تماماً لحمايته»، مدللاً على ذلك بأنه «في ثمانينات القرن الماضي، كانت التنظيمات الإرهابية تعلن عن أكثر من اسم للقيادة، حتى تحميه من التتبع الأمني»، موضحاً: «يبدو أن هوية (القرشي) الحقيقة بالنسبة لعناصر التنظيم ليست بالأهمية ذاتها، لأن ما يهمهم هو وجود الزعيم على هرم التنظيم، ضمن إطار وإرث ديني... وهذا أهم بكثير للعناصر من الإعلان عن هوية الرجل (أي القرشي)»، مدللاً على ذلك بأنه «في الأيام التي أعقبت إعلان تعيين (القرشي)، تساءلت مجموعة صغيرة من عناصر التنظيم على موقع التواصل (تليغرام) عن هوية الزعيم الجديد. وبعد أيام من تساؤلاتهم، وعندما طلب منهم مبايعة (القرشي)، قلت التساؤلات. ولهذا، من الواضح أن هوية الرجل بدت غير مهمة لهم، بل المهم هو أنه زعيم (داعش)، ويحتاج إلى دعمهم».
وحث أبو حمزة القرشي، متحدث «داعش» الجديد، أتباعه في رسالته الصوتية الأخيرة على «الالتزام بما أصدره البغدادي في رسالته في سبتمبر (أيلول) الماضي، التي طالب فيها بتحرير أنصار التنظيم من السجون، وتجنيد أتباع جدد لاستكمال المهمة، وتأكيد مواصلة التنظيم تمدده في الشرق الأوسط وخارجه».
ومن جهته، أضاف عبد المنعم أن «التنظيم دشن قبل أيام كتيبة أطلق عليها (الثأر للبغدادي والمهاجر)، بهدف الانتقام لمقتل البغدادي والمهاجر، كما جرى سجن عدد من قيادات التنظيم، مُرجح أنها تورطت في تسريب معلومات بطريقة غير مباشرة لعناصر في تنظيم (حراس الدين)»، موضحاً أن «المركز الإعلامي للتنظيم يعاني حالياً من عدم وجود اتصال مع باقي المراكز التابعة للتنظيم، ويعاني من حالة ارتباك شديدة».
وهدد المتحدث باسم التنظيم الجديد الولايات المتحدة، قائلاً: «لا تفرحوا بمقتل الشيخ البغدادي». وقال عبد المنعم: «يبدو أن (داعش) قرر عدم التعامل بالشكل التقليدي في التسجيلات والظهور المباشر لـ(القرشي)، مثلما كان يحدث مع البغدادي»، لافتاً إلى أن «عمليات (داعش) منذ تولي (القرشي) لم تشهد أي حراك، على عكس شهري أبريل وسبتمبر الماضيين، اللذين شهدا حراكاً، عقب بث تسجيلين: واحد مصور والآخر صوتي للبغدادي».
وكان أبو بكر البغدادي قد ذكر في سبتمبر (أيلول) الماضي أن «تنظيمه لا يزال موجوداً، رغم توسعه في البداية، ومن ثم الانكماش»، وأن ذلك يعد (اختباراً من الله)»، على حد زعمه.
وقال عمرو عبد المنعم إن «قنوات (داعش) واصلت بث أخبارها كالمعتاد، وأبرز ما نقلته هذه القنوات أخيراً إصدار مرئي جديد على شاكلة (صليل الصوارم)، بعنوان (لن يضروكم إلا أذى)، مدته 11 دقيقة، وفيه متحدث رئيسي مُقنع يتوعد بالثأر من عملية (التراب الأسود) التي أطلقتها القوات العراقية ضد (داعش) في سبتمبر (أيلول) الماضي. وفي نهاية الإصدار، ظهر مقاتلون ملثمون يبايعون الخليفة الجديد».
وبايع فرع «داعش» في الصومال «القرشي» في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، حيث نشر فرع التنظيم صوراً على موقع التواصل الاجتماعي «إنستغرام» لنحو 12 عنصراً يقفون بين الأشجار، وعليها تعليق يقول: «إنهم يعلنون مبايعة (القرشي)». كما بايع «ولاية سيناء»، الموالي لـ«داعش» في مصر، «القرشي»، ونشر في إصدار مرئي صوراً لمجموعة قال إنهم من العناصر التي بايعت «القرشي». ويشار إلى أنه ما زالت بعض أفرع تنظيم داعش حول العالم لم تعلن مبايعتها لـ«القرشي» حتى الآن، وفي مقدمتها «ولاية خراسان» في أفغانستان، و«ولاية غرب أفريقيا» (بوكو حرام سابقاً) في نيجيريا.
وحول وجود تغير في استراتيجية «داعش» في الفترة المقبلة، بالاعتماد على إخفاء شخصيات قادته، أكد الخبير الأصولي أحمد بان أن «هذه المرحلة ليست مرحلة الإمساك بالأرض من جديد، والسيطرة عليها، أو ما يسمى (الخلافة)، لكن مرحلة ترميم مجموعات التنظيم، وإعادة التموضع في ساحات جديدة، ومحاولة كسب ولاءات جماعات أخرى، قبل أن نصل إلى عنوان جديد، ربما يعكس ظهور تنظيم جديد، قد يكون أخطر من تنظيم (داعش). لكن في كل الأحوال، هيكلية (داعش) تغيرت، من مرحلة الدولة (المزعومة) إلى مرحلة (حروب النكاية) إلى مرحلة إعادة التنظيم والتموضع؛ وكل مرحلة تطرح الشكل المناسب لها. وفي هذه المرحلة (أي الآن)، أتصور أن التنظيم قد تشظى إلى مجموعات صغيرة، وأن هناك محاولة لكسب ولاء مجموعات جديدة في دول متعددة».
أما عمرو عبد المنعم، فقد لفت إلى أن «(داعش) فقد مركزية صناعة القرار الآن، وهناك عملية (انشطار) في المرحلة المقبلة للتنظيم، ولن يكرر التنظيم فكرة القيادة المركزية من جديد، لذلك لم يظهر (القرشي) على الإطلاق حتى الآن، لو كان له وجود حقيقي، وهذا على عكس ما كان يظهر به البغدادي، ويحث العناصر دائماً على الثبات والصبر»، محذراً في الوقت ذاته من «خطوة (حرب العصابات) التي قد يشنها التنظيم، وقتال الشوارع واستنزاف القوى الكبرى، وهي الاستراتيجية القديمة نفسها للتنظيم، مع زيادة العنصر (الانفرادي) الذي يعرف بـ(الذئاب المنفردة)».
وقال المراقبون إن «التنظيم تحول منذ سقوط بلدة الباغوز في مارس (آذار) الماضي، ونهاية (الخلافة المزعومة) بعد عدة سنوات من إرسائها، نحو اعتماد (نهج العصابات). وقاد البغدادي (داعش) بعد استيلائه على مناطق شاسعة في العراق وسوريا، قبل أن يتهاوى التنظيم خلال الأشهر الماضية نتيجة خسائره، وفرار عدد كبير من عناصره».