التشيّع الغطاء الإيراني لتقسيم المجتمع في غرب أفريقيا

هل تكرر طهران تجربة حزب الله النيجيري؟

الرئيس النيجيري محمد بخاري مستقبلا السفير الإيراني في نيجيريا بمقر الحكومة في أيوجا (غيتي)
الرئيس النيجيري محمد بخاري مستقبلا السفير الإيراني في نيجيريا بمقر الحكومة في أيوجا (غيتي)
TT

التشيّع الغطاء الإيراني لتقسيم المجتمع في غرب أفريقيا

الرئيس النيجيري محمد بخاري مستقبلا السفير الإيراني في نيجيريا بمقر الحكومة في أيوجا (غيتي)
الرئيس النيجيري محمد بخاري مستقبلا السفير الإيراني في نيجيريا بمقر الحكومة في أيوجا (غيتي)

جمعت إيران في 12 مايو (أيار) 2016 طلابًا من 30 دولة أفريقية في مؤتمر تحت شعار «الأطروحة المهدَوية وواقع أتباع أهل البيت عليهم السلام في أفريقيا»؛ وهو ما يؤكد الاستراتيجية الجديدة لطهران تجاه أفريقيا والتي تعتمد على بناء النفوذ المدني والسياسي قبل تحويل ذلك النفوذ لقوة عسكرية تدور في فلك المصالح العليا الإيرانية وبالرجوع للمؤتمر وأهدافه، نجد أن الجهات الرسمية الإيرانية تعتبره أكبر مشروع قومي لنشر التشيع والتعريف بالإمام المهدي ورسالة المهدي في ثلاثين دولة أفريقية.
يعرف المتخصصون في الشأن الأفريقي أن الجانب الديني الطائفي يلعب دورًا كبيرًا في الاستراتيجية الإيرانية طويلة الأمد في أفريقيا، التي انطلقت بداية ثمانينات القرن العشرين. ففي ظل الصراعات الدولية على خيرات «القارة السمراء» عملت طهران على بناء نفوذ تتفرد به عن تلك القوى المتنازعة خاصة بدول غرب أفريقيا. ووفقًا لعدد من الباحثين في الشأن الأفريقي فإن إيران استطاعت تحقيق إنجازات نوعية في هذا المجال، وأخذت توسّع من مصالحها عبر بناء نظام مؤسساتي شيعي أفريقي تابع لمرشد الجمهورية الولي الفقيه.
يأتي ذلك تتويجًا لجهود شبكة منظمة من القادة والدعاة الشيعة الموالين لإيران والعاملين على تنفيذ الخطة المشار إليها أعلاه. وهكذا استطاعت طهران اليوم تشبيك مجالات نشاطها المتنوع، والذي يشمل النفوذ السياسي والاقتصادي، ليصل إلى بناء نفوذ اجتماعي طائفي منظم وعسكري ميليشياوي، كما هو الشأن بالنسبة لـ«حزب الله النيجيري» الذي يتزعمه الزكزاكي.
* استغلال هشاشة الوضع
كانت إيران منذ بداية تغلغلها بغرب أفريقيا، واعية بأنها تشتغل في وسط هشّ وصراعي، متنوع دينيا وعرقيا ويفوق عدد سكانه 250 مليون نسمة؛ ويضم كلا من جمهوريات: موريتانيا ومالي والنيجر وبوركينا فاسو والسنغال وساحل العاج والغابون وجامبيا وغينيا بيساو وغينيا وغانا ونيجيريا وبنين وتوغو وليبيريا وسيراليون والرأس الأخضر.
من الناحية الدينية الإسلامية تتبع هذه المنطقة في عمومها المذهب السنّي المالكي، وترتبط بشكل وثيق بالتديّن المغربي الوسطي المعتدل، ولا توجد فيها من الناحية التاريخية سوابق للمذهب الجعفري، أو ما شابهه من الفرق الشيعية. ولكن رغم ذلك استطاعت إيران في العقدين الماضيين تحقيق اختراقات مهمة للنسيج الديني والاجتماعي في غرب أفريقيا من خلال المنظمات الخيريَّة الشيعية الحكومية والأهلية، وتلك المرتبطة بكل من المراكز التَّعليمية والثَّقافية، والمشاريع الاقتصاديَّة الاستثماريَّة. وهو ما أخذ ينتج بعض الحواضن الاجتماعية لعقيدة الشِّيعة الاثنا عشريَّة في غرب القارة، خاصة في نيجيريا والسنغال وساحل العاج. وقاد عملية التوسّع من الناحية الدينية «المجمع العالمي لأهل البيت»، ومن الناحية العسكرية الحرس الثوري الإيراني الذي لا تقتصر مهامه على تدريب الطلاب الوافدين من القارة، بل يصل عمله إلى الإشراف على بعض المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية. وإذا كانت حدود عمل الحرس الثوري غير واضحة ولا يتم كشفها بالكامل إلا بين الفينة والأخرى، كما وقع عام 2010 حين اعترضت نيجيريا في البحر شحنة أسلحة إيرانية؛ فإن عواقبه أدت لقطع جامبيا لعلاقاتها مع إيران وكذلك إلغاء مشاريع وبرامج التعاون معها. وأظهرت النشاط العسكري والاستخباراتي في هذه العملية، حيث تبين أن شخصيتين من «فيلق القدس» التابع للحرس الثوري، هما سيد أكبر طهماسبي وعظيمي أغاجاني، أشرفا على العملية ولجآ إلى السفارة الإيرانية في العاصمة أبوجا بعد كشف أمريهما.
ورغم التأثير السلبي لمثل هذا الحدث العسكري، تبقى المجهودات «الدعوية والثقافية» التي يقودها من المركز «المجمع العالمي لأهل البيت»، بإشراف من المرشد الأعلى للثورة الإيرانية في تزايد مستمر؛ من ناحية الكيف والنوع، خاصة بعد التمدد المؤسساتي الشيعي في غرب القارة الأفريقية.
* تشبيك مؤسساتي للتشيّع
ومن المبادرات الجديدة في هذا الصدد تأسيس «رابطة عموم أفريقيا لآل البيت» يوم الأربعاء 10 أغسطس (آب) 2016؛ وإعلان زعماء الحوزات الشيعية في أفريقيا بدء نشاطها بعد خمسة أيام من التأسيس في ندوة صحافية في العاصمة السنغالية داكار التي تعتبر مقرًا للرابطة. وقد أكد أبو جعفر، الأمين العام للرابطة، للصحافة أن «الرابطة أصبحت الإطار الجامع للشيعة الأفارقة وستعمل من أجل تعليمهم وتربيتهم وترسيخ قيم السلم الاجتماعي في مجتمعات القارة كافة، وأن الرابطة انتخبت مكتبًا مؤقتًا سيدير نشاطها إلى أن ينعقد المؤتمر العام للشيعة الأفارقة قريبًا لانتخاب قيادة دائمة».
وعندما نعود لتركيبة هذه المؤسسة الجديدة، نجد أن الاستراتيجية الإيرانية الجديدة، أخذت تولي اهتماما بالغا لغرب القارة، وتكوين جيوب دينية واجتماعية، تعزيزا للمجهودات الاقتصادية والاستخباراتية لطهران بالمنطقة. فقد اعتمدت في تأسيس الرابطة على شخصيات دينية لها وجاهة اجتماعية في مناطق بدولة غرب أفريقيا. وفي هذا السياق يمكن فهم اختيار بكار ولد بكار القيادي الشيعي الموريتاني رئيسًا للرابطة، فيما انتخبت الشيخ السنغالي شريف أمبالو أبو جعفر أمينًا عامًا. والإثيوبي الشيخ محمد علي يوسف الجروتي نائبًا للرئيس مكلفًا بالمنطقة الشمالية، فيما اختير الشيخ آدامو قاسيسو (من موزمبيق) نائبًا للرئيس مكلفا بالمنطقة الشرقية، والشيخ عبد الله عادل أنتولولو (من الكونغو برازافيل) نائبا للرئيس مكلفًا بالمنطقة الوسطى، في حين كلّف الشيخ محمد تاحايبو (من جنوب أفريقيا) نائبًا للرئيس بالمنطقة الجنوبية. ومن ساحل العاج اختير إمام عبدول الناظر دمبا نائبا للرئيس مكلفا بالمنطقة الغربية، وكلف جواد شيبو (من النيجر) أمينا بالمالية.
ويكشف البيان التأسيسي للرابطة، جزءا من الأهداف الأساسية لإيران بالمنطقة، حيث يعتبر «أن تأسيس الرابطة ينبع من منطلقات عدة، بينها اقتناع المؤسسين بأن عدد أتباع آل البيت في أفريقيا يزداد حيث إنه تجاوز الملايين، وإيمانهم كذلك بأن أفريقيا هي القارة التي لا تزال تعاني من آثار الاستعمار ومن التغيير التعسفي للأنظمة، ومن الفقر والبطالة.. ومن دواعي تأسيس رابطة عموم أفريقيا لآل البيت كذلك، حرص المؤسسين على ضمان أمن وسلامة ورفاه الشعوب الأفريقية بعامة وأتباع آل البيت بخاصة.. وتهيئة الظروف المواتية لظهور الإمام الحجة عليه السلام».
* «البروبغاندا» والمؤسسات الشيعية
ورغم أن بعض الإحصائيات تشير إلى أن عدد الشيعة في غرب أفريقيا يقدر بنحو 7 ملايين شخص، فإن هناك صعوبة بالغة في إثبات هذا الزعم الذي تروّج له أساسا المؤسسات الشيعية الإيرانية خاصة المجمع العالمي لآل البيت، والمؤسسات التابعة له بأفريقيا. ومن ذلك ما صرح به إمام عبدول الناظر دمبا، زعيم شيعة ساحل العاج لصحيفة «كل الأخبار» العراقية بأن التشيّع في بلاده يجري بخطط منتظمة ووفق دراسة زمنية تجري متابعتها من قبل الجمهورية الإسلامية في إيران». وادعى أن «التشيّع يسير بخطى ثابتة، وأن هذا السير سيمكن من إعلان دولة ساحل العاج للمذهب الجعفري مذهبا رسميا في أفق السنوات العشر المقبلة». وفي نفس منحى «البروبغاندا» الإيرانية زعم أحد قادة المبشّرين الشيعة، وهو محمد دار الحكمة، إن «التوجه نحو الانسلاخ عن مذهب أهل السنة والجماعة واعتماد المذهب الشيعي في تنام مطّرد بدول غرب أفريقيا».
في المقابل، إذا كان الواقع المعيش بغرب أفريقيا يثبت خطورة التغلغل الشيعي ويجعل من ولائه لإيران حقيقة لا غبار عليها؛ فإن هذا الواقع يثبت كذلك أن ظاهرة التشيع تواجه تحديات جمّة شعبيًا، مما يجعلها محصورة في مناطق أغلبها معزول وليس لها لحد الآن تأثير مقدّر من الناحيتين السياسية والاجتماعية، إذا ما استثنينا نيجيريا وإلى حد ما السنغال وساحل العاج. وفي إثيوبيا يبدو أن التشيع محصور بالعاصمة أديس أبابا وفي إقليم نغلي بورنا، وفي إريتريا تبدو الظاهرة محدودة في مدينتي أسمرا ومصوّع.
* دور المغتربين اللبنانيين
للشيعة في ساحل العاج مراكز ومؤسسات عربية وفرنكفونية كثيرة، منها على سبيل المثال: المركز الإسلامي العربي الأفريقي، والجمعية الإسلامية الثقافية للدعوة والإرشاد في أبيدجان ومجمّع الزهراء الثقافي، وهو مجمّع ثقافي ودعوي، ومقر هذه المؤسسات بالعاصمة. وهناك المركز الشيعي الجعفري في غران باسام، والمركز اللبناني في بلدية ماركوري ومؤسسة الإمام الصادق في أمباتو. أما أبرز مؤسسة شيعية فرنسية فتتمثل بـ«جمعية الإمام الصادق الفرنكفونية» ومركزها في أبيدجان وهي تسعى للتواصل مع النخب وتوسيع دائرة تداول الأفكار الشيعية، ويلاحظ أن المغتربين اللبنانيين يلعبون دور «الدينامو» في هذه المؤسسة، خاصة في أوساط الشباب الذين درسوا في الخارج، وكذلك النخب التجارية.
وفي السنغال يتمتع الشيعة بنوع من الحرية في الحركة، ولهم تمويل قوي بعضه من إيران وجزء منه من الشخصيات التجارية الشيعية العراقية واللبنانية، ويتزعم الشيعة في السنغال محمد علي شريف، وهو من أصول موريتانية، وينشط في المجال التجاري بين والسنغال وموريتانيا وتلقى تعليمه بفرنسا وله إصدارات باللغتين الفرنسية والعربية. ويظهر الوجود الشيعي أساسًا في العاصمة داكار ومناطق كازامانس وكولدا وانغاسان ودار الهجرة في مدينة غوناس وكولاخ وكار مدارو في إقليم تياس ودارا جلوف.
أما عن موريتانيا فإن التشيع فيها محصور في منطقة نائية تابعة اجتماعيا للزعيم الشيعي الموريتاني بكار بن بكار الذي يرتبط بالمرجعية «السيستانية»، وذلك بعدما اعتنق المذهب الشيعي منذ 2006م، ولقد احتفل بعض أتباعه بطريقة رمزية عام 2011 بذكرى عاشوراء لأول مرة.
عموما يبقى موضوع التشيع بغرب أفريقيا محط كثير من الإشاعات التي تروّجها إيران وبعض المؤسسات التابعة لأجندتها، خصوصا ما يتعلق بعدد المتشيّعين وانتشار المذهب ومؤسساته. غير أن هذا لا ينفي الخطورة التي أخد يكتسبها الاختراق الإيراني الطائفي للنسيج الاجتماعي السني بغرب أفريقيا، حيث تركز إيران على مناطق انتشار المذهب السنّي المالكي، مع غياب كامل في المناطق المسيحية والوثنية. واستطاعت فعلاً بناء نفوذ أفقي مقدر داخل بعض النخب المؤثرة.
من جهة أخرى، تعمل إيران على ربط التشيّع المحلي بالسياسة الدولية لإيران وأهدافها القومية، مما يهدد غرب أفريقيا بمزيد من التوترات والحروب الداخلية، خاصة مع تنامي الصراع الدولي على أفريقيا، والتي تدخلت فيها إيران بتكوين وتجهيز، «حزب الله النيجيري» الذي تجاوز تأثيره نيجيريا ليمسّ عموم منطقة غرب أفريقيا.



فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.