التشيّع الغطاء الإيراني لتقسيم المجتمع في غرب أفريقيا

هل تكرر طهران تجربة حزب الله النيجيري؟

الرئيس النيجيري محمد بخاري مستقبلا السفير الإيراني في نيجيريا بمقر الحكومة في أيوجا (غيتي)
الرئيس النيجيري محمد بخاري مستقبلا السفير الإيراني في نيجيريا بمقر الحكومة في أيوجا (غيتي)
TT

التشيّع الغطاء الإيراني لتقسيم المجتمع في غرب أفريقيا

الرئيس النيجيري محمد بخاري مستقبلا السفير الإيراني في نيجيريا بمقر الحكومة في أيوجا (غيتي)
الرئيس النيجيري محمد بخاري مستقبلا السفير الإيراني في نيجيريا بمقر الحكومة في أيوجا (غيتي)

جمعت إيران في 12 مايو (أيار) 2016 طلابًا من 30 دولة أفريقية في مؤتمر تحت شعار «الأطروحة المهدَوية وواقع أتباع أهل البيت عليهم السلام في أفريقيا»؛ وهو ما يؤكد الاستراتيجية الجديدة لطهران تجاه أفريقيا والتي تعتمد على بناء النفوذ المدني والسياسي قبل تحويل ذلك النفوذ لقوة عسكرية تدور في فلك المصالح العليا الإيرانية وبالرجوع للمؤتمر وأهدافه، نجد أن الجهات الرسمية الإيرانية تعتبره أكبر مشروع قومي لنشر التشيع والتعريف بالإمام المهدي ورسالة المهدي في ثلاثين دولة أفريقية.
يعرف المتخصصون في الشأن الأفريقي أن الجانب الديني الطائفي يلعب دورًا كبيرًا في الاستراتيجية الإيرانية طويلة الأمد في أفريقيا، التي انطلقت بداية ثمانينات القرن العشرين. ففي ظل الصراعات الدولية على خيرات «القارة السمراء» عملت طهران على بناء نفوذ تتفرد به عن تلك القوى المتنازعة خاصة بدول غرب أفريقيا. ووفقًا لعدد من الباحثين في الشأن الأفريقي فإن إيران استطاعت تحقيق إنجازات نوعية في هذا المجال، وأخذت توسّع من مصالحها عبر بناء نظام مؤسساتي شيعي أفريقي تابع لمرشد الجمهورية الولي الفقيه.
يأتي ذلك تتويجًا لجهود شبكة منظمة من القادة والدعاة الشيعة الموالين لإيران والعاملين على تنفيذ الخطة المشار إليها أعلاه. وهكذا استطاعت طهران اليوم تشبيك مجالات نشاطها المتنوع، والذي يشمل النفوذ السياسي والاقتصادي، ليصل إلى بناء نفوذ اجتماعي طائفي منظم وعسكري ميليشياوي، كما هو الشأن بالنسبة لـ«حزب الله النيجيري» الذي يتزعمه الزكزاكي.
* استغلال هشاشة الوضع
كانت إيران منذ بداية تغلغلها بغرب أفريقيا، واعية بأنها تشتغل في وسط هشّ وصراعي، متنوع دينيا وعرقيا ويفوق عدد سكانه 250 مليون نسمة؛ ويضم كلا من جمهوريات: موريتانيا ومالي والنيجر وبوركينا فاسو والسنغال وساحل العاج والغابون وجامبيا وغينيا بيساو وغينيا وغانا ونيجيريا وبنين وتوغو وليبيريا وسيراليون والرأس الأخضر.
من الناحية الدينية الإسلامية تتبع هذه المنطقة في عمومها المذهب السنّي المالكي، وترتبط بشكل وثيق بالتديّن المغربي الوسطي المعتدل، ولا توجد فيها من الناحية التاريخية سوابق للمذهب الجعفري، أو ما شابهه من الفرق الشيعية. ولكن رغم ذلك استطاعت إيران في العقدين الماضيين تحقيق اختراقات مهمة للنسيج الديني والاجتماعي في غرب أفريقيا من خلال المنظمات الخيريَّة الشيعية الحكومية والأهلية، وتلك المرتبطة بكل من المراكز التَّعليمية والثَّقافية، والمشاريع الاقتصاديَّة الاستثماريَّة. وهو ما أخذ ينتج بعض الحواضن الاجتماعية لعقيدة الشِّيعة الاثنا عشريَّة في غرب القارة، خاصة في نيجيريا والسنغال وساحل العاج. وقاد عملية التوسّع من الناحية الدينية «المجمع العالمي لأهل البيت»، ومن الناحية العسكرية الحرس الثوري الإيراني الذي لا تقتصر مهامه على تدريب الطلاب الوافدين من القارة، بل يصل عمله إلى الإشراف على بعض المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية. وإذا كانت حدود عمل الحرس الثوري غير واضحة ولا يتم كشفها بالكامل إلا بين الفينة والأخرى، كما وقع عام 2010 حين اعترضت نيجيريا في البحر شحنة أسلحة إيرانية؛ فإن عواقبه أدت لقطع جامبيا لعلاقاتها مع إيران وكذلك إلغاء مشاريع وبرامج التعاون معها. وأظهرت النشاط العسكري والاستخباراتي في هذه العملية، حيث تبين أن شخصيتين من «فيلق القدس» التابع للحرس الثوري، هما سيد أكبر طهماسبي وعظيمي أغاجاني، أشرفا على العملية ولجآ إلى السفارة الإيرانية في العاصمة أبوجا بعد كشف أمريهما.
ورغم التأثير السلبي لمثل هذا الحدث العسكري، تبقى المجهودات «الدعوية والثقافية» التي يقودها من المركز «المجمع العالمي لأهل البيت»، بإشراف من المرشد الأعلى للثورة الإيرانية في تزايد مستمر؛ من ناحية الكيف والنوع، خاصة بعد التمدد المؤسساتي الشيعي في غرب القارة الأفريقية.
* تشبيك مؤسساتي للتشيّع
ومن المبادرات الجديدة في هذا الصدد تأسيس «رابطة عموم أفريقيا لآل البيت» يوم الأربعاء 10 أغسطس (آب) 2016؛ وإعلان زعماء الحوزات الشيعية في أفريقيا بدء نشاطها بعد خمسة أيام من التأسيس في ندوة صحافية في العاصمة السنغالية داكار التي تعتبر مقرًا للرابطة. وقد أكد أبو جعفر، الأمين العام للرابطة، للصحافة أن «الرابطة أصبحت الإطار الجامع للشيعة الأفارقة وستعمل من أجل تعليمهم وتربيتهم وترسيخ قيم السلم الاجتماعي في مجتمعات القارة كافة، وأن الرابطة انتخبت مكتبًا مؤقتًا سيدير نشاطها إلى أن ينعقد المؤتمر العام للشيعة الأفارقة قريبًا لانتخاب قيادة دائمة».
وعندما نعود لتركيبة هذه المؤسسة الجديدة، نجد أن الاستراتيجية الإيرانية الجديدة، أخذت تولي اهتماما بالغا لغرب القارة، وتكوين جيوب دينية واجتماعية، تعزيزا للمجهودات الاقتصادية والاستخباراتية لطهران بالمنطقة. فقد اعتمدت في تأسيس الرابطة على شخصيات دينية لها وجاهة اجتماعية في مناطق بدولة غرب أفريقيا. وفي هذا السياق يمكن فهم اختيار بكار ولد بكار القيادي الشيعي الموريتاني رئيسًا للرابطة، فيما انتخبت الشيخ السنغالي شريف أمبالو أبو جعفر أمينًا عامًا. والإثيوبي الشيخ محمد علي يوسف الجروتي نائبًا للرئيس مكلفًا بالمنطقة الشمالية، فيما اختير الشيخ آدامو قاسيسو (من موزمبيق) نائبًا للرئيس مكلفا بالمنطقة الشرقية، والشيخ عبد الله عادل أنتولولو (من الكونغو برازافيل) نائبا للرئيس مكلفًا بالمنطقة الوسطى، في حين كلّف الشيخ محمد تاحايبو (من جنوب أفريقيا) نائبًا للرئيس بالمنطقة الجنوبية. ومن ساحل العاج اختير إمام عبدول الناظر دمبا نائبا للرئيس مكلفا بالمنطقة الغربية، وكلف جواد شيبو (من النيجر) أمينا بالمالية.
ويكشف البيان التأسيسي للرابطة، جزءا من الأهداف الأساسية لإيران بالمنطقة، حيث يعتبر «أن تأسيس الرابطة ينبع من منطلقات عدة، بينها اقتناع المؤسسين بأن عدد أتباع آل البيت في أفريقيا يزداد حيث إنه تجاوز الملايين، وإيمانهم كذلك بأن أفريقيا هي القارة التي لا تزال تعاني من آثار الاستعمار ومن التغيير التعسفي للأنظمة، ومن الفقر والبطالة.. ومن دواعي تأسيس رابطة عموم أفريقيا لآل البيت كذلك، حرص المؤسسين على ضمان أمن وسلامة ورفاه الشعوب الأفريقية بعامة وأتباع آل البيت بخاصة.. وتهيئة الظروف المواتية لظهور الإمام الحجة عليه السلام».
* «البروبغاندا» والمؤسسات الشيعية
ورغم أن بعض الإحصائيات تشير إلى أن عدد الشيعة في غرب أفريقيا يقدر بنحو 7 ملايين شخص، فإن هناك صعوبة بالغة في إثبات هذا الزعم الذي تروّج له أساسا المؤسسات الشيعية الإيرانية خاصة المجمع العالمي لآل البيت، والمؤسسات التابعة له بأفريقيا. ومن ذلك ما صرح به إمام عبدول الناظر دمبا، زعيم شيعة ساحل العاج لصحيفة «كل الأخبار» العراقية بأن التشيّع في بلاده يجري بخطط منتظمة ووفق دراسة زمنية تجري متابعتها من قبل الجمهورية الإسلامية في إيران». وادعى أن «التشيّع يسير بخطى ثابتة، وأن هذا السير سيمكن من إعلان دولة ساحل العاج للمذهب الجعفري مذهبا رسميا في أفق السنوات العشر المقبلة». وفي نفس منحى «البروبغاندا» الإيرانية زعم أحد قادة المبشّرين الشيعة، وهو محمد دار الحكمة، إن «التوجه نحو الانسلاخ عن مذهب أهل السنة والجماعة واعتماد المذهب الشيعي في تنام مطّرد بدول غرب أفريقيا».
في المقابل، إذا كان الواقع المعيش بغرب أفريقيا يثبت خطورة التغلغل الشيعي ويجعل من ولائه لإيران حقيقة لا غبار عليها؛ فإن هذا الواقع يثبت كذلك أن ظاهرة التشيع تواجه تحديات جمّة شعبيًا، مما يجعلها محصورة في مناطق أغلبها معزول وليس لها لحد الآن تأثير مقدّر من الناحيتين السياسية والاجتماعية، إذا ما استثنينا نيجيريا وإلى حد ما السنغال وساحل العاج. وفي إثيوبيا يبدو أن التشيع محصور بالعاصمة أديس أبابا وفي إقليم نغلي بورنا، وفي إريتريا تبدو الظاهرة محدودة في مدينتي أسمرا ومصوّع.
* دور المغتربين اللبنانيين
للشيعة في ساحل العاج مراكز ومؤسسات عربية وفرنكفونية كثيرة، منها على سبيل المثال: المركز الإسلامي العربي الأفريقي، والجمعية الإسلامية الثقافية للدعوة والإرشاد في أبيدجان ومجمّع الزهراء الثقافي، وهو مجمّع ثقافي ودعوي، ومقر هذه المؤسسات بالعاصمة. وهناك المركز الشيعي الجعفري في غران باسام، والمركز اللبناني في بلدية ماركوري ومؤسسة الإمام الصادق في أمباتو. أما أبرز مؤسسة شيعية فرنسية فتتمثل بـ«جمعية الإمام الصادق الفرنكفونية» ومركزها في أبيدجان وهي تسعى للتواصل مع النخب وتوسيع دائرة تداول الأفكار الشيعية، ويلاحظ أن المغتربين اللبنانيين يلعبون دور «الدينامو» في هذه المؤسسة، خاصة في أوساط الشباب الذين درسوا في الخارج، وكذلك النخب التجارية.
وفي السنغال يتمتع الشيعة بنوع من الحرية في الحركة، ولهم تمويل قوي بعضه من إيران وجزء منه من الشخصيات التجارية الشيعية العراقية واللبنانية، ويتزعم الشيعة في السنغال محمد علي شريف، وهو من أصول موريتانية، وينشط في المجال التجاري بين والسنغال وموريتانيا وتلقى تعليمه بفرنسا وله إصدارات باللغتين الفرنسية والعربية. ويظهر الوجود الشيعي أساسًا في العاصمة داكار ومناطق كازامانس وكولدا وانغاسان ودار الهجرة في مدينة غوناس وكولاخ وكار مدارو في إقليم تياس ودارا جلوف.
أما عن موريتانيا فإن التشيع فيها محصور في منطقة نائية تابعة اجتماعيا للزعيم الشيعي الموريتاني بكار بن بكار الذي يرتبط بالمرجعية «السيستانية»، وذلك بعدما اعتنق المذهب الشيعي منذ 2006م، ولقد احتفل بعض أتباعه بطريقة رمزية عام 2011 بذكرى عاشوراء لأول مرة.
عموما يبقى موضوع التشيع بغرب أفريقيا محط كثير من الإشاعات التي تروّجها إيران وبعض المؤسسات التابعة لأجندتها، خصوصا ما يتعلق بعدد المتشيّعين وانتشار المذهب ومؤسساته. غير أن هذا لا ينفي الخطورة التي أخد يكتسبها الاختراق الإيراني الطائفي للنسيج الاجتماعي السني بغرب أفريقيا، حيث تركز إيران على مناطق انتشار المذهب السنّي المالكي، مع غياب كامل في المناطق المسيحية والوثنية. واستطاعت فعلاً بناء نفوذ أفقي مقدر داخل بعض النخب المؤثرة.
من جهة أخرى، تعمل إيران على ربط التشيّع المحلي بالسياسة الدولية لإيران وأهدافها القومية، مما يهدد غرب أفريقيا بمزيد من التوترات والحروب الداخلية، خاصة مع تنامي الصراع الدولي على أفريقيا، والتي تدخلت فيها إيران بتكوين وتجهيز، «حزب الله النيجيري» الذي تجاوز تأثيره نيجيريا ليمسّ عموم منطقة غرب أفريقيا.



تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
TT

تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)

من يقود تنظيم داعش الإرهابي الآن؟ وما سر عدم ظهور إبراهيم الهاشمي القرشي، زعيم «داعش» الجديد، حتى اللحظة؟ ولماذا تعمد التنظيم إخفاء هوية «القرشي» منذ تنصيبه قبل شهرين؟ وهل هناك تغير في شكل التنظيم خلال الفترة المقبلة، عبر استراتيجية إخفاء هوية قادته، خوفاً عليهم من الرصد الأمني بعد مقتل أبو بكر البغدادي؟ تساؤلات كثيرة تشغل الخبراء والمختصين، بعدما خيم الغموض على شخصية زعيم «داعش» الجديد طوال الفترة الماضية. خبراء في الحركات الأصولية أكدوا لـ«الشرق الأوسط» أن «التنظيم يعاني الآن من غياب المركزية في صناعة القرار».
ويرجح خبراء التنظيمات المتطرفة أن «يكون (داعش) قد قرر إخفاء هوية (القرشي) تماماً، في محاولة لحمايته، وأن إعلان (القرشي) زعيماً من قبل كان شكلاً من أشكال التمويه فقط، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم». كما شكك الخبراء في «وجود شخصية (القرشي) من الأساس».
وأعلن «داعش»، في تسجيل صوتي بثه موقع «الفرقان»، الذراع الإعلامية للتنظيم، في نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تنصيب «القرشي» خلفاً للبغدادي الذي قتل في أعقاب غارة أميركية، وتعيين أبو حمزة القرشي متحدثاً باسم التنظيم، خلفاً لأبو الحسن المهاجر الذي قتل مع البغدادي. وكان الرئيس الأميركي دونالد ترمب قد أعلن «مقتل البغدادي في عملية عسكرية أميركية شمال غربي سوريا».
ورغم أن مراقبين أكدوا أن «(القرشي) هو القاضي الأول في التنظيم، وكان يرأس اللجنة الشرعية»، فإن مصادر أميركية ذكرت في وقت سابق أن «(القرشي) عُرف بلقب الحاج عبد الله، وعُرف أيضاً باسم محمد سعيد عبد الرحمن المولى، وكان أحد قادة تنظيم القاعدة في العراق، وقاتل ضد الأميركيين». لكن عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر «شكك في وجود (القرشي) من الأساس»، قائلاً: إن «(القرشي) شخصية غير حقيقية، وهناك أكثر من إدارة تدير (داعش) الآن».
وأكد أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أنه «بطبيعة الحال، لا يمكن أن نحدد من يقود (داعش) الآن، حتى هذا الإعلان (أي تنصيب القرشي) قد يكون شكلاً من أشكال التمويه، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم»، مضيفاً: «نحن أمام عدد من الاحتمالات: الاحتمال الأول هو أن تكون شخصية (القرشي) حقيقية لكن يتم إخفاءها، وعدم ظهوره إلى الآن هو من أجل تأمين حياته، وعدم مطاردته من قبل أجهزة الدول. والاحتمال الثاني أننا أمام شخصية (وهمية)، والتنظيم لا يزال منقسماً حول فكرة اختيار خليفة للبغدادي. أما الاحتمال الثالث فأننا أمام صراع حقيقي داخل التنظيم حول خلافة (البغدادي)».
وتحدث المراقبون عن سبب آخر لإخفاء «داعش» هوية «القرشي»، وهو «الخوف من الانشقاقات التي تضرب التنظيم من قبل مقتل البغدادي، بسبب الهزائم التي مُني بها في سوريا والعراق، خاصة أن نهج إخفاء المعلومات والتفاصيل التي تتعلق بقادة (داعش) استخدمه التنظيم من قبل، حين تم تعيين أبو حمزة المهاجر وزيراً للحرب (على حد تعبير التنظيم) في عهد البغدادي، وتم الكشف عن اسمه في وقت لاحق».
وكان البغدادي قد استغل فرصة الاضطرابات التي حدثت في سوريا، وأسس فرعاً لتنظيمه هناك، كما استغل بعض الأحداث السياسية في العراق، وقدم نفسه وتنظيمه على أنهم المدافعون عن الإسلام (على حد زعمه)، فاكتسب في البداية بيئة حاضنة ساعدته على احتلال المزيد من الأراضي العراقية التي أسس عليها «دولته المزعومة». وفي عام 2014، أعلن البغدادي نفسه «خليفة مزعوماً» من على منبر مسجد النوري الكبير، في مدينة الموصل، ثم اختفى بعدها لمدة 5 سنوات، ولم يظهر إلا في أبريل (نيسان) الماضي، في مقطع فيديو مصور مدته 18 دقيقة، ليعلن «انتهاء السيطرة المكانية لـ(دولته المزعومة)، وسقوط آخر معاقلها في الباغوز السورية». وقال المراقبون إنه «رغم أن ظهور البغدادي كان قليلاً في السنوات الأخيرة قبل مقتله، فإن أخباره كانت دائمة الانتشار، كما عمد مع بداية الإعلان عن (دولته المزعومة) إلى الظهور المتكرر، وهو ما لم يفعله (القرشي)».
وأكد عبد المنعم أن «هوية (القرشي) كانت لا بد أن تختفي تماماً لحمايته»، مدللاً على ذلك بأنه «في ثمانينات القرن الماضي، كانت التنظيمات الإرهابية تعلن عن أكثر من اسم للقيادة، حتى تحميه من التتبع الأمني»، موضحاً: «يبدو أن هوية (القرشي) الحقيقة بالنسبة لعناصر التنظيم ليست بالأهمية ذاتها، لأن ما يهمهم هو وجود الزعيم على هرم التنظيم، ضمن إطار وإرث ديني... وهذا أهم بكثير للعناصر من الإعلان عن هوية الرجل (أي القرشي)»، مدللاً على ذلك بأنه «في الأيام التي أعقبت إعلان تعيين (القرشي)، تساءلت مجموعة صغيرة من عناصر التنظيم على موقع التواصل (تليغرام) عن هوية الزعيم الجديد. وبعد أيام من تساؤلاتهم، وعندما طلب منهم مبايعة (القرشي)، قلت التساؤلات. ولهذا، من الواضح أن هوية الرجل بدت غير مهمة لهم، بل المهم هو أنه زعيم (داعش)، ويحتاج إلى دعمهم».
وحث أبو حمزة القرشي، متحدث «داعش» الجديد، أتباعه في رسالته الصوتية الأخيرة على «الالتزام بما أصدره البغدادي في رسالته في سبتمبر (أيلول) الماضي، التي طالب فيها بتحرير أنصار التنظيم من السجون، وتجنيد أتباع جدد لاستكمال المهمة، وتأكيد مواصلة التنظيم تمدده في الشرق الأوسط وخارجه».
ومن جهته، أضاف عبد المنعم أن «التنظيم دشن قبل أيام كتيبة أطلق عليها (الثأر للبغدادي والمهاجر)، بهدف الانتقام لمقتل البغدادي والمهاجر، كما جرى سجن عدد من قيادات التنظيم، مُرجح أنها تورطت في تسريب معلومات بطريقة غير مباشرة لعناصر في تنظيم (حراس الدين)»، موضحاً أن «المركز الإعلامي للتنظيم يعاني حالياً من عدم وجود اتصال مع باقي المراكز التابعة للتنظيم، ويعاني من حالة ارتباك شديدة».
وهدد المتحدث باسم التنظيم الجديد الولايات المتحدة، قائلاً: «لا تفرحوا بمقتل الشيخ البغدادي». وقال عبد المنعم: «يبدو أن (داعش) قرر عدم التعامل بالشكل التقليدي في التسجيلات والظهور المباشر لـ(القرشي)، مثلما كان يحدث مع البغدادي»، لافتاً إلى أن «عمليات (داعش) منذ تولي (القرشي) لم تشهد أي حراك، على عكس شهري أبريل وسبتمبر الماضيين، اللذين شهدا حراكاً، عقب بث تسجيلين: واحد مصور والآخر صوتي للبغدادي».
وكان أبو بكر البغدادي قد ذكر في سبتمبر (أيلول) الماضي أن «تنظيمه لا يزال موجوداً، رغم توسعه في البداية، ومن ثم الانكماش»، وأن ذلك يعد (اختباراً من الله)»، على حد زعمه.
وقال عمرو عبد المنعم إن «قنوات (داعش) واصلت بث أخبارها كالمعتاد، وأبرز ما نقلته هذه القنوات أخيراً إصدار مرئي جديد على شاكلة (صليل الصوارم)، بعنوان (لن يضروكم إلا أذى)، مدته 11 دقيقة، وفيه متحدث رئيسي مُقنع يتوعد بالثأر من عملية (التراب الأسود) التي أطلقتها القوات العراقية ضد (داعش) في سبتمبر (أيلول) الماضي. وفي نهاية الإصدار، ظهر مقاتلون ملثمون يبايعون الخليفة الجديد».
وبايع فرع «داعش» في الصومال «القرشي» في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، حيث نشر فرع التنظيم صوراً على موقع التواصل الاجتماعي «إنستغرام» لنحو 12 عنصراً يقفون بين الأشجار، وعليها تعليق يقول: «إنهم يعلنون مبايعة (القرشي)». كما بايع «ولاية سيناء»، الموالي لـ«داعش» في مصر، «القرشي»، ونشر في إصدار مرئي صوراً لمجموعة قال إنهم من العناصر التي بايعت «القرشي». ويشار إلى أنه ما زالت بعض أفرع تنظيم داعش حول العالم لم تعلن مبايعتها لـ«القرشي» حتى الآن، وفي مقدمتها «ولاية خراسان» في أفغانستان، و«ولاية غرب أفريقيا» (بوكو حرام سابقاً) في نيجيريا.
وحول وجود تغير في استراتيجية «داعش» في الفترة المقبلة، بالاعتماد على إخفاء شخصيات قادته، أكد الخبير الأصولي أحمد بان أن «هذه المرحلة ليست مرحلة الإمساك بالأرض من جديد، والسيطرة عليها، أو ما يسمى (الخلافة)، لكن مرحلة ترميم مجموعات التنظيم، وإعادة التموضع في ساحات جديدة، ومحاولة كسب ولاءات جماعات أخرى، قبل أن نصل إلى عنوان جديد، ربما يعكس ظهور تنظيم جديد، قد يكون أخطر من تنظيم (داعش). لكن في كل الأحوال، هيكلية (داعش) تغيرت، من مرحلة الدولة (المزعومة) إلى مرحلة (حروب النكاية) إلى مرحلة إعادة التنظيم والتموضع؛ وكل مرحلة تطرح الشكل المناسب لها. وفي هذه المرحلة (أي الآن)، أتصور أن التنظيم قد تشظى إلى مجموعات صغيرة، وأن هناك محاولة لكسب ولاء مجموعات جديدة في دول متعددة».
أما عمرو عبد المنعم، فقد لفت إلى أن «(داعش) فقد مركزية صناعة القرار الآن، وهناك عملية (انشطار) في المرحلة المقبلة للتنظيم، ولن يكرر التنظيم فكرة القيادة المركزية من جديد، لذلك لم يظهر (القرشي) على الإطلاق حتى الآن، لو كان له وجود حقيقي، وهذا على عكس ما كان يظهر به البغدادي، ويحث العناصر دائماً على الثبات والصبر»، محذراً في الوقت ذاته من «خطوة (حرب العصابات) التي قد يشنها التنظيم، وقتال الشوارع واستنزاف القوى الكبرى، وهي الاستراتيجية القديمة نفسها للتنظيم، مع زيادة العنصر (الانفرادي) الذي يعرف بـ(الذئاب المنفردة)».
وقال المراقبون إن «التنظيم تحول منذ سقوط بلدة الباغوز في مارس (آذار) الماضي، ونهاية (الخلافة المزعومة) بعد عدة سنوات من إرسائها، نحو اعتماد (نهج العصابات). وقاد البغدادي (داعش) بعد استيلائه على مناطق شاسعة في العراق وسوريا، قبل أن يتهاوى التنظيم خلال الأشهر الماضية نتيجة خسائره، وفرار عدد كبير من عناصره».