التشيّع الغطاء الإيراني لتقسيم المجتمع في غرب أفريقيا

هل تكرر طهران تجربة حزب الله النيجيري؟

الرئيس النيجيري محمد بخاري مستقبلا السفير الإيراني في نيجيريا بمقر الحكومة في أيوجا (غيتي)
الرئيس النيجيري محمد بخاري مستقبلا السفير الإيراني في نيجيريا بمقر الحكومة في أيوجا (غيتي)
TT

التشيّع الغطاء الإيراني لتقسيم المجتمع في غرب أفريقيا

الرئيس النيجيري محمد بخاري مستقبلا السفير الإيراني في نيجيريا بمقر الحكومة في أيوجا (غيتي)
الرئيس النيجيري محمد بخاري مستقبلا السفير الإيراني في نيجيريا بمقر الحكومة في أيوجا (غيتي)

جمعت إيران في 12 مايو (أيار) 2016 طلابًا من 30 دولة أفريقية في مؤتمر تحت شعار «الأطروحة المهدَوية وواقع أتباع أهل البيت عليهم السلام في أفريقيا»؛ وهو ما يؤكد الاستراتيجية الجديدة لطهران تجاه أفريقيا والتي تعتمد على بناء النفوذ المدني والسياسي قبل تحويل ذلك النفوذ لقوة عسكرية تدور في فلك المصالح العليا الإيرانية وبالرجوع للمؤتمر وأهدافه، نجد أن الجهات الرسمية الإيرانية تعتبره أكبر مشروع قومي لنشر التشيع والتعريف بالإمام المهدي ورسالة المهدي في ثلاثين دولة أفريقية.
يعرف المتخصصون في الشأن الأفريقي أن الجانب الديني الطائفي يلعب دورًا كبيرًا في الاستراتيجية الإيرانية طويلة الأمد في أفريقيا، التي انطلقت بداية ثمانينات القرن العشرين. ففي ظل الصراعات الدولية على خيرات «القارة السمراء» عملت طهران على بناء نفوذ تتفرد به عن تلك القوى المتنازعة خاصة بدول غرب أفريقيا. ووفقًا لعدد من الباحثين في الشأن الأفريقي فإن إيران استطاعت تحقيق إنجازات نوعية في هذا المجال، وأخذت توسّع من مصالحها عبر بناء نظام مؤسساتي شيعي أفريقي تابع لمرشد الجمهورية الولي الفقيه.
يأتي ذلك تتويجًا لجهود شبكة منظمة من القادة والدعاة الشيعة الموالين لإيران والعاملين على تنفيذ الخطة المشار إليها أعلاه. وهكذا استطاعت طهران اليوم تشبيك مجالات نشاطها المتنوع، والذي يشمل النفوذ السياسي والاقتصادي، ليصل إلى بناء نفوذ اجتماعي طائفي منظم وعسكري ميليشياوي، كما هو الشأن بالنسبة لـ«حزب الله النيجيري» الذي يتزعمه الزكزاكي.
* استغلال هشاشة الوضع
كانت إيران منذ بداية تغلغلها بغرب أفريقيا، واعية بأنها تشتغل في وسط هشّ وصراعي، متنوع دينيا وعرقيا ويفوق عدد سكانه 250 مليون نسمة؛ ويضم كلا من جمهوريات: موريتانيا ومالي والنيجر وبوركينا فاسو والسنغال وساحل العاج والغابون وجامبيا وغينيا بيساو وغينيا وغانا ونيجيريا وبنين وتوغو وليبيريا وسيراليون والرأس الأخضر.
من الناحية الدينية الإسلامية تتبع هذه المنطقة في عمومها المذهب السنّي المالكي، وترتبط بشكل وثيق بالتديّن المغربي الوسطي المعتدل، ولا توجد فيها من الناحية التاريخية سوابق للمذهب الجعفري، أو ما شابهه من الفرق الشيعية. ولكن رغم ذلك استطاعت إيران في العقدين الماضيين تحقيق اختراقات مهمة للنسيج الديني والاجتماعي في غرب أفريقيا من خلال المنظمات الخيريَّة الشيعية الحكومية والأهلية، وتلك المرتبطة بكل من المراكز التَّعليمية والثَّقافية، والمشاريع الاقتصاديَّة الاستثماريَّة. وهو ما أخذ ينتج بعض الحواضن الاجتماعية لعقيدة الشِّيعة الاثنا عشريَّة في غرب القارة، خاصة في نيجيريا والسنغال وساحل العاج. وقاد عملية التوسّع من الناحية الدينية «المجمع العالمي لأهل البيت»، ومن الناحية العسكرية الحرس الثوري الإيراني الذي لا تقتصر مهامه على تدريب الطلاب الوافدين من القارة، بل يصل عمله إلى الإشراف على بعض المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية. وإذا كانت حدود عمل الحرس الثوري غير واضحة ولا يتم كشفها بالكامل إلا بين الفينة والأخرى، كما وقع عام 2010 حين اعترضت نيجيريا في البحر شحنة أسلحة إيرانية؛ فإن عواقبه أدت لقطع جامبيا لعلاقاتها مع إيران وكذلك إلغاء مشاريع وبرامج التعاون معها. وأظهرت النشاط العسكري والاستخباراتي في هذه العملية، حيث تبين أن شخصيتين من «فيلق القدس» التابع للحرس الثوري، هما سيد أكبر طهماسبي وعظيمي أغاجاني، أشرفا على العملية ولجآ إلى السفارة الإيرانية في العاصمة أبوجا بعد كشف أمريهما.
ورغم التأثير السلبي لمثل هذا الحدث العسكري، تبقى المجهودات «الدعوية والثقافية» التي يقودها من المركز «المجمع العالمي لأهل البيت»، بإشراف من المرشد الأعلى للثورة الإيرانية في تزايد مستمر؛ من ناحية الكيف والنوع، خاصة بعد التمدد المؤسساتي الشيعي في غرب القارة الأفريقية.
* تشبيك مؤسساتي للتشيّع
ومن المبادرات الجديدة في هذا الصدد تأسيس «رابطة عموم أفريقيا لآل البيت» يوم الأربعاء 10 أغسطس (آب) 2016؛ وإعلان زعماء الحوزات الشيعية في أفريقيا بدء نشاطها بعد خمسة أيام من التأسيس في ندوة صحافية في العاصمة السنغالية داكار التي تعتبر مقرًا للرابطة. وقد أكد أبو جعفر، الأمين العام للرابطة، للصحافة أن «الرابطة أصبحت الإطار الجامع للشيعة الأفارقة وستعمل من أجل تعليمهم وتربيتهم وترسيخ قيم السلم الاجتماعي في مجتمعات القارة كافة، وأن الرابطة انتخبت مكتبًا مؤقتًا سيدير نشاطها إلى أن ينعقد المؤتمر العام للشيعة الأفارقة قريبًا لانتخاب قيادة دائمة».
وعندما نعود لتركيبة هذه المؤسسة الجديدة، نجد أن الاستراتيجية الإيرانية الجديدة، أخذت تولي اهتماما بالغا لغرب القارة، وتكوين جيوب دينية واجتماعية، تعزيزا للمجهودات الاقتصادية والاستخباراتية لطهران بالمنطقة. فقد اعتمدت في تأسيس الرابطة على شخصيات دينية لها وجاهة اجتماعية في مناطق بدولة غرب أفريقيا. وفي هذا السياق يمكن فهم اختيار بكار ولد بكار القيادي الشيعي الموريتاني رئيسًا للرابطة، فيما انتخبت الشيخ السنغالي شريف أمبالو أبو جعفر أمينًا عامًا. والإثيوبي الشيخ محمد علي يوسف الجروتي نائبًا للرئيس مكلفًا بالمنطقة الشمالية، فيما اختير الشيخ آدامو قاسيسو (من موزمبيق) نائبًا للرئيس مكلفا بالمنطقة الشرقية، والشيخ عبد الله عادل أنتولولو (من الكونغو برازافيل) نائبا للرئيس مكلفًا بالمنطقة الوسطى، في حين كلّف الشيخ محمد تاحايبو (من جنوب أفريقيا) نائبًا للرئيس بالمنطقة الجنوبية. ومن ساحل العاج اختير إمام عبدول الناظر دمبا نائبا للرئيس مكلفا بالمنطقة الغربية، وكلف جواد شيبو (من النيجر) أمينا بالمالية.
ويكشف البيان التأسيسي للرابطة، جزءا من الأهداف الأساسية لإيران بالمنطقة، حيث يعتبر «أن تأسيس الرابطة ينبع من منطلقات عدة، بينها اقتناع المؤسسين بأن عدد أتباع آل البيت في أفريقيا يزداد حيث إنه تجاوز الملايين، وإيمانهم كذلك بأن أفريقيا هي القارة التي لا تزال تعاني من آثار الاستعمار ومن التغيير التعسفي للأنظمة، ومن الفقر والبطالة.. ومن دواعي تأسيس رابطة عموم أفريقيا لآل البيت كذلك، حرص المؤسسين على ضمان أمن وسلامة ورفاه الشعوب الأفريقية بعامة وأتباع آل البيت بخاصة.. وتهيئة الظروف المواتية لظهور الإمام الحجة عليه السلام».
* «البروبغاندا» والمؤسسات الشيعية
ورغم أن بعض الإحصائيات تشير إلى أن عدد الشيعة في غرب أفريقيا يقدر بنحو 7 ملايين شخص، فإن هناك صعوبة بالغة في إثبات هذا الزعم الذي تروّج له أساسا المؤسسات الشيعية الإيرانية خاصة المجمع العالمي لآل البيت، والمؤسسات التابعة له بأفريقيا. ومن ذلك ما صرح به إمام عبدول الناظر دمبا، زعيم شيعة ساحل العاج لصحيفة «كل الأخبار» العراقية بأن التشيّع في بلاده يجري بخطط منتظمة ووفق دراسة زمنية تجري متابعتها من قبل الجمهورية الإسلامية في إيران». وادعى أن «التشيّع يسير بخطى ثابتة، وأن هذا السير سيمكن من إعلان دولة ساحل العاج للمذهب الجعفري مذهبا رسميا في أفق السنوات العشر المقبلة». وفي نفس منحى «البروبغاندا» الإيرانية زعم أحد قادة المبشّرين الشيعة، وهو محمد دار الحكمة، إن «التوجه نحو الانسلاخ عن مذهب أهل السنة والجماعة واعتماد المذهب الشيعي في تنام مطّرد بدول غرب أفريقيا».
في المقابل، إذا كان الواقع المعيش بغرب أفريقيا يثبت خطورة التغلغل الشيعي ويجعل من ولائه لإيران حقيقة لا غبار عليها؛ فإن هذا الواقع يثبت كذلك أن ظاهرة التشيع تواجه تحديات جمّة شعبيًا، مما يجعلها محصورة في مناطق أغلبها معزول وليس لها لحد الآن تأثير مقدّر من الناحيتين السياسية والاجتماعية، إذا ما استثنينا نيجيريا وإلى حد ما السنغال وساحل العاج. وفي إثيوبيا يبدو أن التشيع محصور بالعاصمة أديس أبابا وفي إقليم نغلي بورنا، وفي إريتريا تبدو الظاهرة محدودة في مدينتي أسمرا ومصوّع.
* دور المغتربين اللبنانيين
للشيعة في ساحل العاج مراكز ومؤسسات عربية وفرنكفونية كثيرة، منها على سبيل المثال: المركز الإسلامي العربي الأفريقي، والجمعية الإسلامية الثقافية للدعوة والإرشاد في أبيدجان ومجمّع الزهراء الثقافي، وهو مجمّع ثقافي ودعوي، ومقر هذه المؤسسات بالعاصمة. وهناك المركز الشيعي الجعفري في غران باسام، والمركز اللبناني في بلدية ماركوري ومؤسسة الإمام الصادق في أمباتو. أما أبرز مؤسسة شيعية فرنسية فتتمثل بـ«جمعية الإمام الصادق الفرنكفونية» ومركزها في أبيدجان وهي تسعى للتواصل مع النخب وتوسيع دائرة تداول الأفكار الشيعية، ويلاحظ أن المغتربين اللبنانيين يلعبون دور «الدينامو» في هذه المؤسسة، خاصة في أوساط الشباب الذين درسوا في الخارج، وكذلك النخب التجارية.
وفي السنغال يتمتع الشيعة بنوع من الحرية في الحركة، ولهم تمويل قوي بعضه من إيران وجزء منه من الشخصيات التجارية الشيعية العراقية واللبنانية، ويتزعم الشيعة في السنغال محمد علي شريف، وهو من أصول موريتانية، وينشط في المجال التجاري بين والسنغال وموريتانيا وتلقى تعليمه بفرنسا وله إصدارات باللغتين الفرنسية والعربية. ويظهر الوجود الشيعي أساسًا في العاصمة داكار ومناطق كازامانس وكولدا وانغاسان ودار الهجرة في مدينة غوناس وكولاخ وكار مدارو في إقليم تياس ودارا جلوف.
أما عن موريتانيا فإن التشيع فيها محصور في منطقة نائية تابعة اجتماعيا للزعيم الشيعي الموريتاني بكار بن بكار الذي يرتبط بالمرجعية «السيستانية»، وذلك بعدما اعتنق المذهب الشيعي منذ 2006م، ولقد احتفل بعض أتباعه بطريقة رمزية عام 2011 بذكرى عاشوراء لأول مرة.
عموما يبقى موضوع التشيع بغرب أفريقيا محط كثير من الإشاعات التي تروّجها إيران وبعض المؤسسات التابعة لأجندتها، خصوصا ما يتعلق بعدد المتشيّعين وانتشار المذهب ومؤسساته. غير أن هذا لا ينفي الخطورة التي أخد يكتسبها الاختراق الإيراني الطائفي للنسيج الاجتماعي السني بغرب أفريقيا، حيث تركز إيران على مناطق انتشار المذهب السنّي المالكي، مع غياب كامل في المناطق المسيحية والوثنية. واستطاعت فعلاً بناء نفوذ أفقي مقدر داخل بعض النخب المؤثرة.
من جهة أخرى، تعمل إيران على ربط التشيّع المحلي بالسياسة الدولية لإيران وأهدافها القومية، مما يهدد غرب أفريقيا بمزيد من التوترات والحروب الداخلية، خاصة مع تنامي الصراع الدولي على أفريقيا، والتي تدخلت فيها إيران بتكوين وتجهيز، «حزب الله النيجيري» الذي تجاوز تأثيره نيجيريا ليمسّ عموم منطقة غرب أفريقيا.



2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.