خيارات ترامب

يواجه تحديات صعبة بسياسات غامضة.. وألحق أميركا بمعسكر «الفوضويين والقوميين»

خيارات ترامب
TT

خيارات ترامب

خيارات ترامب

على الرغم من مرور أيام على فوز دونالد ترامب بالرئاسة الأميركية، فإن «الزلزال السياسي» الذي صنعه الحدث لا يزال قويًا، وتداعياته تتفاعل داخل الولايات المتحدة وخارجها.
تعهد ترامب في خطاب الفوز بتوحيد الأميركيين ووعد بتجنب الصراعات مع العالم، ثم التقى في اليوم التالي الرئيس باراك أوباما مدشنًا المرحلة الانتقالية بكلام دبلوماسي «جديد»، لكن كل ذلك لم يمنع الأميركيين من الاستمرار في الخروج إلى الشوارع مرددين أن الرئيس المنتخب «لا يمثلني». وعلى غرار هذه المخاوف الداخلية، فإن القلق الدولي إزاء السياسات المحتمل انتهاجها من قبل ترامب لم يخمد. ويجمع كثير من المتابعين للشأن السياسي في الغرب، على أن ترامب، بفوزه بالرئاسة بعد حملة مثيرة للجدل تضمنت أفكارًا غريبة عن القيم الديمقراطية المألوفة، قد ألحق بلاده بمعسكر بلدان أوروبية أخرى تعرف أصوات «الفوضويين» و«القوميين» فيها تصاعدًا لافتًا، بما فيها بريطانيا التي صوتت العام الحالي لصالح الانسحاب من الاتحاد الأوروبي تحت تأثير الأفكار الفوضوية والقومية.
يحذر محللون من تحد أكبر يواجهه ترامب عندما يبدأ فترته الرئاسية في يناير (كانون الثاني) المقبل، هو كيفية حكم بلد مقسم إلى حد غير مسبوق بفعل الانتخابات الرئاسية. وقالت كسينيا ويكيت مديرة برنامج الولايات المتحدة والأميركتين بمعهد «تشاتهام هاوس» في لندن، إن ترامب «فاز بالرئاسة في بلد مقسم وبعملية اقتراعية مثيرة للارتياب، مما يجعل من الصعب عليه جدًا أن يحكم بفعالية». وتضيف إن ترامب «سيرث، عندما يبدأ الحكم في 20 يناير، عبئًا ثقيلاً، والتحديات المتشعبة التي ستواجهه سيكون من الصعب تجاوزها». وترى ويكيت أن ترامب سيكون «الآن مطالبًا باختيار طريقه؛ إما الحفاظ على رؤيته بعزل (خصومه) وحكم أقل من نصف المجتمع بقليل، أو محاولة ردم الهوة ويحكم الجميع».
وأمام هذا الوضع الداخلي الصعب، ربما يجد ترامب من الأنسب المضي قدمًا في الشعار الذي رفعه خلال حملته الانتخابية «أميركا تأتي أولاً»، وكان وجَّه عبره، فيما يبدو، رسالة إلى الخارج. وفي حال مضي ترامب في هذا الطريق (أميركا أولاً) فإن سياسته ستعصف بكثير من العواصم الأجنبية، بما فيها الدول الحليفة تقليديًا لواشنطن. من الصعب في الوقت الراهن، التكهن بملامح السياسة الخارجية لترامب، بالنظر لافتقاره للخبرة الكافية في هذا المجال. ولكن الرهان الأرجح الآن أنه حال توليه الرئاسة سوف يسعى للالتزام بما وعد به خلال حملته الرئاسية من التغيير الجذري في منهج الولايات المتحدة الحالي إزاء كل من روسيا، والشرق الأوسط، وأوروبا، وآسيا.
ويقول الكاتب الأميركي ديفيد إغناتيوس في هذا الصدد، إن «الصورة التي أخذها كبار المسؤولين في أكثر من 12 بلدًا تشي بأن ترامب رجل عديم الخبرة وغير موثوق فيه، وقد يندفع إلى تقويض التزامات وتحالفات الولايات المتحدة التقليدية». ويضيف إغناتيوس: «السياسة الخارجية لترامب، استنادا إلى تصريحاته المعلنة، سوف تجلب التركيز المكثف الواقعي على المصالح الوطنية الأميركية والرفض التام للتفاعلات الأميركية الخارجية المكلفة».
من خلال التصريحات التي أطلقها ترامب خلال حملته الانتخابية، يرجح خبراء كثيرون توجهه لانتهاج سياسة خارجية مختلفة عن إدارة الرئيس المنتهية ولايته باراك أوباما. وكل الأنظار الآن مركزة على ما سيقوم به الرئيس الأميركي إزاء الاتفاق النووي الذي أبرمه المجتمع الدولي مع إيران، علما بأن ترامب كان قد وعد في خطاب له أمام لجنة الشؤون العامة الأميركية - الإسرائيلية في مارس (آذار) الماضي، بأن أولويته الرئيسية ستكون «تفكيك الاتفاق الكارثي مع إيران»، إلا أن ذلك التهديد يتعارض مع تصريح آخر له قال فيه إن من الصعب تمزيق الاتفاق النووي من دون مساعدة أوروبية.
ويعتقد على نطاق واسع أن من التداعيات الكبرى لوصول ترامب إلى البيت الأبيض تغير السياسة الأميركية تجاه قضايا النزاع في منطقة الشرق الأوسط، وأهمها الآن الأزمة السورية. وكان ترامب قد ركز مرارًا على أن أولويته في هذا النزاع هو دحر تنظيم داعش، بما أوحى أن المضي في مسارات دبلوماسية وعسكرية لإنهاء الأزمة عبر مرحلة انتقالية تقود لتنحي الأسد، لن يكون من أولوياته. وتتقاطع رؤية ترامب لوضع محاربة «داعش» أولوية، مع تصريحاته بخصوص تحسين علاقات الولايات المتحدة مع روسيا، وهو أمر يلاقي قلقًا واسعًا لدى قادة أوروبا.
وإضافة إلى هذه التوجهات الجديدة، يتوقع الخبراء، بروز نزعة «انعزالية» لدى إدارة ترامب المرتقبة وربما تخليها عن التزاماتها مع حلفائها في الغرب. ويقول فابيان زوليغ من «مركز السياسة الأوروبية»، وهو معهد أبحاث في بروكسل، إن «إدارة ترامب ستعزز النزعات الانعزالية في الولايات المتحدة»، لافتًا إلى تراجع قوة واشنطن أصلا بسبب المنافسة من دول ناشئة على غرار الصين. ودليلاً على الصدمة، أدى الإعلان عن فوز ترامب، إلى سلسلة من ردود الفعل السريعة في أوروبا ضمنها تصريحات لرئيس مجلس الاتحاد الأوروبي دونالد توسك الذي قال، من باب التمني فيما يبدو، إن واشنطن «ليس لديها بكل بساطة أي خيار آخر» سوى مواصلة التعاون بشكل وثيق مع أوروبا. وأضاف توسك وهو رئيس وزراء بولندي سابق: «لا أعتقد أن بإمكان أي بلد يزعم بأنه قوي البقاء معزولاً».
لكن كلام توسك لم يُخفِ وجود قلق إزاء التزامات إدارة ترامب المرتقبة بأمن أوروبا وربما حتى بالتزاماتها مع حلف شمال الأطلسي. ووسط هذا الغموض، يفضل البعض في الاتحاد الأوروبي (بينهم 22 من 28 دولة في الأطلسي) أن يرى فرصة للمضي قدما في النقاش الدائر حول أمن أوروبي أكثر استقلالية في مجال الدفاع والأمن. وقال رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر الأربعاء، إن «الولايات المتحدة لن تتولى الاهتمام بأمننا، إنها مسؤولية أوروبا. نحن بحاجة إلى اتحاد أمني». وتعد برلين إحدى العواصم التي تجري نقاشًا بهذا الصدد مع باريس وروما ومدريد. ويشارك الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند في هذا الرأي بوضوح، إذ قال أمس: «من المهم جدًا أن يكون الأوروبيون، في هذه الظروف الجديدة، واضحين في الرغبة للعمل معًا» وخصوصا من أجل السيطرة على الحدود الخارجية للاتحاد الأوروبي ومكافحة الإرهاب. وبدوره، قال دبلوماسي أوروبي، إن النتيجة المفاجئة للانتخابات الأميركية من شأنها أن تعمل على تطوير موقف الأكثر ترددا، في شرق أوروبا، حيال فكرة الدفاع الأوروبي.
ومن الأمور المقلقة حقًا لبعض حلفاء الولايات المتحدة في العالم ما هدد به ترامب خلال حملته الانتخابية بعدم الدفاع عن هذه الدول الحليفة بشكل تلقائي. وتبدو دول البلطيق في مقدمة هذه الدول التي ينتابها القلق في حال تعرضت لهجوم روسي على غرار الضم الروسي لمنطقة القرم (غير البعيدة عنها) قبل عامين. وكان ترامب قد قال في تصريحات لصحيفة «نيويورك تايمز» في يوليو (تموز) الماضي إنه لن يكون ملزمًا في حال وصل إلى الرئاسة بمساعدة ليتوانيا ولاتفيا وإستونيا إلا إذا قدمت إسهامات مالية كافية لحلف شمال الأطلسي. وهدد ترامب أيضًا، بإغلاق كثير من القواعد العسكرية غير الضرورية، قائلاً إنه يطالب الدول التي تحتضن قواعد عسكرية أميركية أن تدفع أموالا مقابل حمايتها، مثل اليابان وألمانيا وكوريا الجنوبية. كما وعد ترامب بخفض الالتزام الأميركي في حلف شمال الأطلسي، وقال إنه سيطلب من الأوروبيين مضاعفة مساهماتهم في ميزانية الأطلسي.
ويبدي ترامب، من خلال تصريحاته خلال الحملة، سياسة عدوانية تجاه الصين، فهو يعتقد أن الصين هي عدو الولايات المتحدة الأول، وتسلب منها مليارات الدولارات وليس روسيا. كما أنه يطالب الصين بوضع حد لتهور الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون، بحكم الروابط القوية بين بكين وبيونغ يانغ.
وتبقى رؤية ترامب لمنظمة الأمم المتحدة، في صلب المخاوف الدولية من سياسات جديدة سيقدم عليها الساكن الجديد في البيت الأبيض، ويهدد بها النظام الدولي الحالي. وكان ترامب قد وصف، خلال كلمته الشهيرة في مارس الماضي، الأمم المتحدة، بأنها هيئة ضعيفة لا تتمتع بالكفاءة، واعتبر أن هذه المنظمة «ليست صديقة للديمقراطية ولا للحرية ولا حتى للولايات المتحدة الأميركية». وهدد حينها بالانسحاب من الاتفاق الدولي لمكافحة تغير المناخ، وهو حجر زاوية في إنجازات الأمين العام الحالي للأمم المتحدة بان كي مون. وعلق بان بعد فوز ترامب قائلاً، إن «الناس في كل مكان يتطلعون إلى الولايات المتحدة لاستخدام قوتها الكبيرة للإسهام في الرقي بالإنسانية والعمل من أجل الصالح العام». وقال دبلوماسي كبير في مجلس الأمن الدولي، طلب عدم نشر اسمه، إن سياسة ترامب الخارجية حتى الآن «ليست متماسكة» وإن انتصاره لا يبشر بالخير فيما يتعلق بكفاءة المجلس في المستقبل. وقال الدبلوماسي: «الافتراض هو أن (إدارة ترامب) ستكون أقل تواصلا مع الأمم المتحدة من إدارة (الرئيس باراك) أوباما والتي كانت أكثر التزاما بالعمل للتوصل لحلول جماعية من إدارات أميركية أخرى».
وتحدث عدد من دبلوماسيي الأمم المتحدة عن افتقار ترامب للوضوح بشأن سياسته الخارجية. وحذر مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان الأمير زيد بن رعد الحسين الشهر الماضي من أن العالم سيكون في خطر إذا انتُخب ترامب رئيسا. وقال المتحدث باسمه إن الأمير زيد سيواصل التحدث بصوت مرتفع بشأن أي سياسات أو ممارسات لترامب تقوض أو تنتهك حقوق الإنسان. ولخص دبلوماسي غربي، طلب عدم نشر اسمه، تأثير فوز ترامب على الأمم المتحدة بقوله: «أعتقد أن التأثير سيستمر لفترة طويلة».



فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟
TT

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

بعد 9 أيام من سقوط الحكومة الفرنسية، بقيادة ميشال بارنييه، في اقتراع لحجب الثقة، عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فرنسوا بايرو، زعيم رئيس حزب الوسط (الموديم)، على رأس الحكومة الجديدة. يأتي قرار التعيين في الوقت الذي تعيش فيه فرنسا أزمة برلمانية حادة بسبب غياب الأغلبية وهشاشة التحالفات، مما يضفي على الحياة السياسية جواً من عدم الاستقرار والفوضى. كان هذا القرار متوقَّعاً حيث إن رئيس الوزراء الجديد من الشخصيات المعروفة في المشهد السياسي الفرنسي، والأهم أنه كان عنصراً أساسياً في تحالف ماكرون الوسطي وحليف الرئيس منذ بداية عهدته في 2017. تساؤلات كثيرة رافقت إعلان خبر التعيين، أهمها حظوظ رئيس الوزراء الجديد في تحقيق «المصالحة» التي ستُخرِج البلاد من الأزمة البرلمانية، وقدرته على إنقاذ عهدة ماكرون الثانية.

أصول ريفية بسيطة

وُلِد فرنسوا بايرو في 25 مايو (أيار) عام 1951 في بلدة بوردار بالبرينيه الأطلسية، وهو من أصول بسيطة، حيث إنه ينحدر من عائلة مزارعين، أباً عن جدّ. كان يحب القراءة والأدب، وهو ما جعله يختار اختصاص الأدب الفرنسي في جامعة بوردو بشرق فرنسا. بعد تخرجه عمل في قطاع التعليم، وكان يساعد والدته في الوقت ذاته بالمزرعة العائلية بعد وفاة والده المفاجئ في حادث عمل. بدأ بايرو نشاطه السياسي وهو في سن الـ29 نائباً عن منطقة البرانس الأطلسي لسنوات، بعد أن انخرط في صفوف حزب الوسط، ثم رئيساً للمجلس العام للمنطقة ذاتها بين 1992 و2001. إضافة إلى ذلك، شغل بايرو منصب نائب أوروبي بين 1999 و2002. وهو منذ 2014 عمدة لمدينة بو، جنوب غربي فرنسا، ومفتّش سامٍ للتخطيط منذ 2020.

شغل بايرو مهام وزير التربية والتعليم بين 1993 و1997 في 3 حكومات يمينية متتالية. في 2017 أصبح أبرز حلفاء ماكرون، وكوفئ على ولائه بحقيبة العدل، لكنه اضطر إلى الاستقالة بعد 35 يوماً فقط، بسبب تورطه في تحقيق يتعلق بالاحتيال المالي. ومعروف عن فرنسوا بايرو طموحه السياسي، حيث ترشح للرئاسة 3 مرات، وكانت أفضل نتائجه عام 2007 عندما حصل على المركز الثالث بنسبة قاربت 19 في المائة.

مارين لوبان زعيمة اليمين المتطرف (إ.ب.أ)

شخصية قوية وعنيدة

في موضوع بعنوان «بايرو في ماتنيون: كيف ضغط رئيس (الموديم) على إيمانويل ماكرون»، كشفت صحيفة «لوموند» أن رئيس الوزراء الجديد قام تقريباً بليّ ذراع الرئيس من أجل تعيينه؛ حيث تشرح الصحيفة، بحسب مصادر قريبة من الإليزيه، أن بايرو واجه الرئيس ماكرون غاضباً، بعد أن أخبره بأنه يريد تعيين وزير الصناعة السابق رولان لوسكور بدلاً منه، واستطاع بقوة الضغط أن يقنعه بالرجوع عن قراره وتعيينه هو على رأس الحكومة.

الحادثة التي نُقلت من مصادر موثوق بها، أعادت إلى الواجهة صفات الجرأة والشجاعة التي يتحّلى بها فرنسوا بايرو، الذي يوصف أيضاً في الوسط السياسي بـ«العنيد» المثابر. ففي موضوع آخر نُشر بصحيفة «لوفيغارو» بعنوان: «فرنسوا بايرو التلميذ المصاب بالتأتأة يغزو ماتنيون»، ذكرت الصحيفة أن بايرو تحدَّى الأطباء الذين نصحوه بالتخلي عن السياسة والتعليم بسبب إصابته وهو في الثامنة بالتأتأة أو الصعوبة في النطق، لكنه نجح في التغلب على هذه المشكلة، بفضل عزيمة قوية، واستطاع أن ينجح في السياسة والتعليم.

يشرح غيوم روكيت من صحيفة «لوفيغارو» بأنه وراء مظهر الرجل الريفي الأصل البشوش، يوجد سياسي محنّك، شديد الطموح، بما أنه لم يُخفِ طموحاته الرئاسية، حيث ترشح للرئاسيات 3 مرات، و«لن نكون على خطأ إذا قلنا إنه استطاع أن يستمر في نشاطه السياسي كل هذه السنوات لأنه عرف كيف يتأقلم مع الأوضاع ويغيّر مواقفه حسب الحاجة»، مذكّراً بأن بايرو كان أول مَن هاجم ماكرون في 2016 باتهامه بالعمل لصالح أرباب العمل والرأسماليين الكبار، لكنه أيضاً أول مع تحالف معه حين تقدَّم في استطلاعات الرأي.

على الصعيد الشخصي، يُعتبر بايرو شخصية محافظة، فهو أب لـ6 أطفال وكاثوليكي ملتزم يعارض زواج المثليين وتأجير الأرحام، وهو مدافع شرس عن اللهجات المحلية، حيث يتقن لهجته الأصلية، وهي اللهجة البيرينية.

رجل الوفاق الوطني؟

عندما تسلّم مهامه رسمياً، أعلن فرنسوا بايرو أنه يضع مشروعه السياسي تحت شعار «المصالحة» ودعوة الجميع للمشاركة في النقاش. ويُقال إن نقاط قوته أنه شخصية سياسية قادرة على صنع التحالفات؛ حيث سبق لفرنسوا بايرو خلال الـ40 سنة خبرة في السياسة، التعاون مع حكومات ومساندة سياسات مختلفة من اليمين واليسار.

خلال مشواره السياسي، عمل مع اليمين في 1995، حيث كان وزيراً للتربية والتعليم في 3 حكومات، وهو بحكم توجهه الديمقراطي المسيحي محافظ وقريب من اليمين في قضايا المجتمع، وهو ملتزم اقتصادياً بالخطوط العريضة لليبيراليين، كمحاربة الديون وخفض الضرائب. وفي الوقت ذاته، كان فرنسوا بايرو أول زعيم وسطي يقترب من اليسار الاشتراكي؛ أولاً في 2007 حين التقى مرشحة اليسار سيغولين رويال بين الدورين الأول والثاني من الانتخابات الرئاسية للبحث في تحالف، ثم في 2012 حين صنع الحدث بدعوته إلى التصويت من أجل مرشح اليسار فرنسوا هولاند على حساب خصمه نيكولا ساركوزي، بينما جرى العرف أن تصوّت أحزاب الوسط في فرنسا لصالح اليمين.

ومعروف أيضاً عن رئيس الوزراء الجديد أنه الشخصية التي مدّت يد المساعدة إلى اليمين المتطرف، حيث إنه سمح لمارين لوبان بالحصول على الإمضاءات التي كانت تنقصها لدخول سباق الرئاسيات عام 2022، وهي المبادرة التي تركت أثراً طيباً عند زعيمة التجمع الوطني، التي صرحت آنذاك قائلة: «لن ننسى هذا الأمر»، كما وصفت العلاقة بينهما بـ«الطيبة». هذه المعطيات جعلت مراقبين يعتبرون أن بايرو هو الأقرب إلى تحقيق التوافق الوطني الذي افتقدته الحكومة السابقة، بفضل قدرته على التحدث مع مختلف الأطياف من اليمين إلى اليسار.

ما هي حظوظ بايرو في النجاح؟رغم استمرار الأزمة السياسية، فإن التقارير الأولية التي صدرت في الصحافة الفرنسية توحي بوجود بوادر مشجعة في طريق المهمة الجديدة لرئيس الوزراء. التغيير ظهر من خلال استقبال أحزاب المعارضة لنبأ التعيين، وعدم التلويح المباشر بفزاعة «حجب الثقة»، بعكس ما حدث مع سابقه، بارنييه.

الإشارة الإيجابية الأولى جاءت من الحزب الاشتراكي الذي عرض على رئيس الوزراء الجديد اتفاقاً بعدم حجب الثقة مقابل عدم اللجوء إلى المادة 3 - 49 من الدستور، وهي المادة التي تخوّل لرئيس الحكومة تمرير القوانين من دون المصادقة عليها. الاشتراكيون الذين بدأوا يُظهرون نيتهم في الانشقاق عن ائتلاف اليسار أو «جبهة اليسار الوطنية» قد يشكّلون سنداً جديداً لبايرو، إذا ما قدّم بعض التنازلات لهم.

وفي هذا الإطار، برَّر بوريس فالو، الناطق باسم الحزب، أسباب هذا التغيير، بالاختلاف بين الرجلين حيث كان بارنييه الذي لم يحقق حزبه أي نجاحات في الانتخابات الأخيرة يفتقد الشرعية لقيادة الحكومة، بينما الأمر مختلف نوعاً ما مع بايرو. كما أعلن حزب التجمع الوطني هو الآخر، وعلى لسان رئيسه جوردان بارديلا، أنه لن يكون هناك على الأرجح حجب للثقة، بشرط أن تحترم الحكومة الجديدة الخطوط الحمراء، وهي المساس بالضمان الصحّي، ونظام المعاشات أو إضعاف اقتصاد البلاد.

يكتب الصحافي أنطوان أوبردوف من جريدة «لوبنيون»: «هذه المرة سيمتنع التجمع الوطني عن استعمال حجب الثقة للحفاظ على صورة مقبولة لدى قاعدته الانتخابية المكونة أساساً من كهول ومتقاعدين قد ترى هذا الإجراء الدستوري نوعاً من الحثّ على الفوضى».

كما أعلن حزب اليمين الجمهوري، على لسان نائب الرئيس، فرنسوا كزافييه بيلامي، أن اليمين الجمهوري سيمنح رئيس الحكومة الجديد شيئاً من الوقت، موضحاً: «سننتظر لنرى المشروع السياسي للسيد بايرو، ثم نقرر». أما غابرييل أتال، رئيس الوزراء السابق عن حزب ماكرون، فأثنى على تعيين بايرو من أجل «الدفاع على المصلحة العامة في هذا الظرف الصعب».

أما أقصى اليسار، الممثَّل في تشكيلة «فرنسا الأبية»، إضافة إلى حزب الخضر، فهما يشكلان إلى غاية الآن الحجر الذي قد تتعثر عليه جهود الحكومة الجديدة؛ فقد لوَّحت فرنسا الأبية باللجوء إلى حجب الثقة مباشرة بعد خبر التعيين، معتبرة أن بايرو سيطبق سياسة ماكرون لأنهما وجهان لعملة واحدة.

فرانسوا بايرو يتحدث في الجمعة الوطنية الفرنسية (رويترز)

أهم الملفات التي تنتظر بايرو

أهم ملف ينتظر رئيس الوزراء الجديد الوصول إلى اتفاق عاجل فيما يخص ميزانية 2025؛ حيث كان النقاش في هذا الموضوع السبب وراء سقوط حكومة بارنييه. وكان من المفروض أن يتم الإعلان عن الميزانية الجديدة والمصادقة عليها قبل نهاية ديسمبر (كانون الأول) 2024، لولا سقوط الحكومة السابقة، علماً بأن الدستور الفرنسي يسمح بالمصادقة على «قانون خاص» يسمح بتغطية تكاليف مؤسسات الدولة وتحصيل الضرائب لتجنب الشلّل الإداري في انتظار المصادقة النهائية. أوجه الخلاف فيما يخّص القانون تتعلق بعجز الميزانية الذي يُقدَّر بـ60 مليار يورو، الذي طلبت الحكومة السابقة تعويضه بتطبيق سياسة تقشفية صارمة تعتمد على الاقتطاع من نفقات القطاع العمومي والضمان الاجتماعي، خاصة أن فرنسا تعاني من أزمة ديون خانقة حيث وصلت في 2023 إلى أكثر من 3200 مليار يورو. الرفض على المصادقة قد يأتي على الأرجح من اليسار الذي يطالب بإيجاد حل آخر لتغطية العجز، وهو رفع الضرائب على الشركات الكبرى والأثرياء. وكان فرنسوا بايرو من السياسيين الأكثر تنديداً بأزمة الديون، التي اعتبرها مشكلة «أخلاقية» قبل أن تكون اقتصادية؛ حيث قال إنه من غير اللائق أن «نحمّل أجيال الشباب أخطاء التدبير التي اقترفناها في الماضي».

الملف الثاني يخص نظام المعاشات، وهو ملف يقسم النواب بشّدة بين اليمين المرحّب بفكرة الإصلاح ورفع سن التقاعد من 62 إلى 64 سنة، إلى اليسار الذي يرفض رفع سنّ التقاعد، معتبراً القانون إجراءً غير عادل، وبالأخص بالنسبة لبعض الفئات، كذوي المهن الشاقة أو الأمهات.

وتجدر الإشارة إلى أن فرنسا كانت قد شهدت حركة احتجاجات شعبية عارمة نتيجة إقرار هذا القانون، وبالأخص بعد أن كشفت استطلاعات الرأي أن غالبية من الفرنسيين معارضة له. صحيفة «لكبرس»، في موضوع بعنوان «بايرو في ماتنيون ماذا كان يقول عن المعاشات» تذكّر بأن موقف رئيس الوزراء بخصوص هذا الموضوع كان متقلباً؛ فهو في البداية كان يطالب بتحديد 60 سنة كحّد أقصى للتقاعد، ثم تبنَّى موقف الحكومة بعد تحالفه مع ماكرون.

وعلى طاولة رئيس الوزراء الجديد أيضاً ملف «الهجرة»؛ حيث كان برونو ريتيلو، وزير الداخلية، قد أعلن عن نصّ جديد بشأن الهجرة في بداية عام 2025، الهدف منه تشديد إجراءات الهجرة، كتمديد الفترة القصوى لاحتجاز الأجانب الصادر بحقهم أمر بالترحيل أو إيقاف المساعدات الطبية للمهاجرين غير الشرعيين. سقوط حكومة بارنييه جعل مشروع الهجرة الجديد يتوقف، لكنه يبقى مطروحاً كخط أحمر من قِبَل التجمع الوطني الذي يطالب بتطبيقه، بعكس أحزاب اليسار التي هددت باللجوء إلى حجب الثقة في حال استمرت الحكومة الجديدة في المشروع. وهذه معادلة صعبة بالنسبة للحكومة الجديدة. لكن محللّين يعتقدون أن الحكومة الجديدة تستطيع أن تنجو من السقوط، إذا ما ضمنت أصوات النواب الاشتراكيين، بشرط أن تُظهر ليونة أكبر في ملفات كالهجرة ونظام المعاشات، وألا تتعامل مع كتلة اليمين المتطرف.

إليزابيث بورن (أ.ف.ب)

بومبيدو

دوفيلبان

حقائق

رؤساء الحكومة الفرنسيون... معظمهم من اليمين بينهم سيدتان فقط


منذ قيام الجمهورية الخامسة عام 1958، ترأَّس حكومات فرنسا 28 شخصية سياسية، ينتمي 8 منها لليسار الاشتراكي، بينما تتوزع الشخصيات الأخرى بين اليمين الجمهوري والوسط. ومن بين هؤلاء سيدتان فقط: هما إيديت كريسون، وإليزابيث بورن.هذه قائمة بأشهر الشخصيات:جورج بومبيدو: ترأَّس الحكومة بين 1962 و1968. معروف بانتمائه للتيار الوسطي. شغل وظائف سامية في مؤسسات الدولة، وكان رجل ثقة الجنرال شارل ديغول وأحد مقربيه. عيّنه هذا الأخير رئيساً للوزراء عام 1962 ومكث في منصبه 6 سنوات، وهو رقم قياسي بالنسبة لرؤساء حكومات الجمهورية الخامسة. لوران فابيوس: ترأَّس الحكومة بين 1984 و1986. ينتمي للحزب الاشتراكي. شغل منصب وزير المالية، ثم وزيراً للصناعة والبحث العلمي. حين عيّنه الرئيس الراحل فرنسوا ميتران كان أصغر رئيس وزراء فرنسي؛ حيث كان عمره آنذاك 37 سنة. شغل أيضاً منصب رئيس الجمعية الوطنية. تأثرت شعبيته بعد محاكمته بوصفه مسؤولاً عن الحكومة في قضية الدم الملوّث الذي راح ضحيته أكثر من 4 آلاف فرنسي. كما تكرر اسمه في مفاوضات الملف النووي الإيراني.جاك شيراك: إضافة لوظيفته الرئاسية المعروفة، ترأَّس جاك شيراك الحكومة الفرنسية مرتين: المرة الأولى حين اختاره الراحل فاليري جيسكار ديستان وكان ذلك بين 1974 و1976، ثم إبان عهدة الرئيس فرنسوا ميتران بين 1986 و1988. شغل مناصب سامية، وتقلّد مسؤوليات عدة في مؤسسات الدولة وأجهزتها، حيث كان عمدة لمدينة باريس، ورئيس حزب التجمع الجمهوري اليميني، ووزيراً للزراعة.دومينيك دوفيلبان: شغل وظيفة رئيس الحكومة في عهدة الرئيس جاك شيراك بين 2005 و2007، وكان أحد مقربي الرئيس شيراك. كما شغل أيضاً حقيبة الخارجية ونال شعبية كبيرة بعد خطابه المعارض لغزو العراق أمام اجتماع مجلس الأمن في عام 2003. حين كان رئيس الوزراء، أعلن حالة الطوارئ بعد أحداث العنف والاحتجاجات التي شهدتها الضواحي في فرنسا.فرنسوا فيون: عيّنه الرئيس السابق نيكولا ساركوزي في منصب رئيس الوزراء بين 2007 و2012، وهو بعد بومبيدو أكثر الشخصيات تعميراً في هذا المنصب. شغل مناصب وزارية أخرى حيث كُلّف حقائب التربية، والتعليم، والشؤون الاجتماعية، والعمل. أصبح رسمياً مرشح حزب الجمهوريون واليمين والوسط للانتخابات الرئاسية الفرنسية 2017، وأُثيرت حوله قضية الوظائف الوهمية التي أثّرت في حملته الانتخابية تأثيراً كبيراً، وانسحب بعدها من الحياة السياسية.