مهرجان ثيسالونيكي اليوناني في عامه الـ57

أفلامه تعكس أزمات اقتصادية عاصفة

رحلة بحث عن الذات في مدينة المرأة الميتة.. وفي الاطار لقطة من {أميركان سكوير}
رحلة بحث عن الذات في مدينة المرأة الميتة.. وفي الاطار لقطة من {أميركان سكوير}
TT

مهرجان ثيسالونيكي اليوناني في عامه الـ57

رحلة بحث عن الذات في مدينة المرأة الميتة.. وفي الاطار لقطة من {أميركان سكوير}
رحلة بحث عن الذات في مدينة المرأة الميتة.. وفي الاطار لقطة من {أميركان سكوير}

في الدقيقة الأولى من فيلم «ثلاثة أقدار»، يطلب منا المخرج تيوكروس ساكلاروبولوس أن ننسى الصوت. يضع ثلاثة أسطر في وسط الشاشة تقول: «ليس هناك صوت. استمع فقط لهمسات روحك».
الدعوة يصاحبها أكثر من تعليق مطبوع على الصور التي يطالعنا بها الفيلم لشخصياته ومواقعه. إحدى الشخصيات الأولى رجل يمشي تتبعه الكاميرا على جدار مبنى في قرية ما. إنه يتحدث إلى نفسه والبطاقة المصاحبة تعلن: «يريد تغيير قدره. لم يعد يستطيع التحمل. لقد اكتفى مما هو محيط به. من الناس حوله… من حياته هو».
تقودنا المقدمة هذه إلى عمل تجريبي بالأبيض والأسود. صامت من أي حوار أو مناجاة وبل من أي مؤثرات صوتية. لا رياح ولا أصوات خطوات على الطريق ولا أصوات أدوات الحياة المختلفة.
«ثلاثة أقدار»، الذي كتبه وأنتجه وصوّره وقام بمونتاجه المخرج نفسه هو من بين الأفلام التي سيعرضها مهرجان ثيسالونيكي اليوناني ما بين الثالث والثالث عشر من الشهر القادم. دورته الجديدة ستحتوي على عشرات الأفلام القادمة من الشرق والغرب ومن كل مكان ساعية للتجمع في تظاهراته المختلفة: العروض الرسمية الموزعة في تسع دوائر من بينها الفيلم القصير والأفلام التي لم تعرض من قبل والأفلام اليونانية التي نالت جوائز ما هذا العام في مناسبات أو مهرجانات أخرى. هناك أيضًا قسم يشهد رواجا اسمه «تقرير البلقان» وثالث عن «سينما الشباب» ورابع ينتخب فيه النقاد اليونانيون أفلاما أعجبتهم.
عمر المهرجان اليوم 57 سنة، وهذا يجعله من الجيل المخضرم من المهرجانات الأوروبية كحال سان سابستيان ولوكارنو وفينيسيا وكان. وهو أفضل منصّـة لتقديم السينما اليونانية للحاضرين الذين يلتمّـون من حوله قادمين من مختلف أرجاء العالم خصوصًا من الدول البلقانية والشرق متوسطية والبحر الأبيض المتوسط كما من مختلف الدول الأوروبية.

لمحات كوميدية

الرجل في حياة اليوم موضوع يستأثر بعدد من الأفلام التي سيتم عرضها في هذا المهرجان والتي سنحت لي فرصة مشاهدة بعضها مسبقًا، رغم أنها لم تعرض بعد في مهرجانات أخرى. إنها حالة إنسانية معظمها يقع في إطار الحياة اليونانية الراهنة التي تبدو، إذا ما تابعناها من فيلم يوناني إلى آخر، وقد توقفت عن الاتجاه وإن لا تزال ماضية. تسير كما اعتادت أن تفعل لكنها تراوح مكانها تبعًا لأوضاع وظروف البلاد الاقتصادية والاجتماعية.
ها هو بطل فيلم «أفترلف» لا يجد سوى استعادة الماضي كسبيل للمواصلة. يتصل بصديقته التي تركته قبل نحو سنة ليدعوها لزيارته في قريته الجميلة. يذكرها بأنهما خلال فترح حياتهما معًا لم يقدما على تمضية عطلة ما لأنهما لا يملكان المال للتحوّل إلى سائحين. الآن هو يعلم أنها تعيش في غرفة تحت مستوى الأرض ويجدها فرصة لأن يعرض عليها العودة إلى الماضي ولو لأسبوع.
في فيلم سترغيوس باخوس لمحات كوميدية أكيدة يعالج بها موضوعه العاطفي - الاجتماعي، وهذا أيضًا حال فيلم يانيس ساكاريديس «أميركا سكواير» فهو معالجة ساخرة لموضوع يتعامل والوضع الاقتصادي والعائلي والسياسي في اليونان اليوم وكل ذلك من خلال حبكة محورها الوطن والمحيط المتشابك. بطله يانيس ستانكوغلو يقرر في مطلع الفيلم أنه كان يؤمن سابقًا بالحدود كفواصل بين بلد وآخر. الآن، وقد أصبح اليونان وسواه مختلطًا خصوصًا بعد أزمة المهاجرين القادمين من أفريقيا ومن الدول العربية، بات يؤمن بأن الحدود تجارة يستطيع استثمارها لأن بضاعتها هي الناس أنفسهم.
بعيدًا عن ذلك كله يتقدّم يانيس سترافولاموس، عبر فيلمه الأول «يقظة»، بعمل مختلف حول صبي كان يشعر بالخجل كون والدته مصابة بداء يجعلها عينها اليمنى تبدو جاحظة. يترعرع في هذا الشعور بأنه كان محط سخرية التلاميذ. الأيام وحدها تجعله قادرا على التغلب على ذلك الشعور خصوصًا بعد مقتل والديه في حادثة سيارة. بعد سنوات سيكتشف سرًا سيعمق من فهمه لما حدث لعين والدته.
المنحى الذي يقدم المخرج عليه هنا ينتمي إلى مزيج بصري من الروحانيات والميتافيزيقيات. امرأة تتحول إلى نار. رجل يمشي فوق سطح البحر، عوالم متداخلة. وفي الصميم أيضًا هناك مزيج من المسائل المطروحة حول الدين والطفولة والعائلة والشعور بالندم. بعض ما نراه يشبه أفكار المخرج الفرنسي ليو كاراكاس، لكن الفيلم، كوحدة خاصة، لديه دربه المنفصل في ذلك العالم الجامع بين الحقيقة والخيال.
فيلم آخر من الخيالات الممتزجة هو «عواطف» لكوستاس نيكولوبولوس وهو أيضًا مخرج جديد يميل، كحال «ثلاثة أقدار» أعلاه إلى التجريب وبل يزيد عليه. عبر الموسيقى وأنواع الألحان المتماوجة والمعبرة عن أكثر من ثقافة وأكثر من تاريخ، يحاول المخرج دفع بطله إلى الخروج من عالمه، زمانًا ومكانًا، ليدخل عالما يعتبره الفيلم أرحب بكثير وهو عالم الموسيقى غير المحدد لا بالمكان ولا بالزمان. والموسيقى لها مكان مهم في «مدينة المرأة الميتة» للمخرجة أنجيلا إسماعيلوس بطلتها مغنية أوبرا سابقة تلتقي براهب وبمصارع ثيران والثلاثة يقررون التحوّل من السلب إلى الإيجاب فيما يتعلق ببحثهم حول منعطف للحياة الجديدة. الرحلة هي بحث آخر عن الهوية المفقودة بين شخصيات اليوم والمآزق النفسية التي يمر بها شخوص هذا البحث.
وهو الضياع نفسه، إنما على مستوى شبابي، الذي يعصف بشخصيات فيلم «بارك» الذي سبق له أن عرض في مهرجان سان سابستيان قبل أسابيع وخرج بجائزته الخاصة بالمخرجين الجدد (عرضه أيضًا مهرجان تورونتو).
ضمن هذا التيار الباحث هناك فيلمان عن رجلين خسر كل منهما وظيفته بسبب الأزمة الاقتصادية العاصفة. في «المدينة الفاضلة» لنيكوس كورو نجد أخيليس وقد قرر، وبعض أصحابه، عدم الاستسلام للأمر الواقع والقيام بما من شأنه مقاومة الجشع والفساد الذي يعلم أنهما مسؤولان عن هذا الوضع أساسًا.
أما الموظف المطرود من عمله من جراء الوضع الاقتصادي ذاته في فيلم كليو فانوراكي «أكزامو» فيلجأ إلى العزلة أولاً ثم إلى القيام برحلة بحث تعيده إلى الريف اليوناني لربما وجد فيه الأصالة المفقودة.
لكن هناك ما هو بعيد عن كل تلك الاهتمامات مثل فيلم سوتيريس تزافولياس «أنا الآخر» الذي يدور حول عالم جرائم يعيش في أثينا اليوم يستعين به البوليس للكشف عن مرتكب خمس جرائم قتل. على الأقل هناك ما يلبي رغبة البعض في أفلام لا ترتبط كثيرًا مع الواقع وإن فعلت تحاول إخفاء ذلك تحت جثث ضحاياها.



هوليوود ترغب في صحافيين أقل بالمهرجانات

جوني دَب خلال تصوير فيلمه الجديد (مودي بيكتشرز)
جوني دَب خلال تصوير فيلمه الجديد (مودي بيكتشرز)
TT

هوليوود ترغب في صحافيين أقل بالمهرجانات

جوني دَب خلال تصوير فيلمه الجديد (مودي بيكتشرز)
جوني دَب خلال تصوير فيلمه الجديد (مودي بيكتشرز)

عاش نقادُ وصحافيو السينما المنتمون «لجمعية هوليوود للصحافة الأجنبية» (كنت من بينهم لقرابة 20 سنة) نعمة دامت لأكثر من 40 عاماً، منذ تأسيسها تحديداً في السنوات الممتدة من التسعينات وحتى بُعيد منتصف العشرية الثانية من العقد الحالي؛ خلال هذه الفترة تمتع المنتمون إليها بمزايا لم تتوفّر لأي جمعية أو مؤسسة صحافية أخرى.

لقاءات صحافية مع الممثلين والمنتجين والمخرجين طوال العام (بمعدل 3-4 مقابلات في الأسبوع).

هذه المقابلات كانت تتم بسهولة يُحسد عليها الأعضاء: شركات التوزيع والإنتاج تدعو المنتسبين إلى القيام بها. ما على الأعضاء الراغبين سوى الموافقة وتسجيل حضورهم إلكترونياً.

هذا إلى جانب دعوات لحضور تصوير الأفلام الكبيرة التي كانت متاحة أيضاً، كذلك حضور الجمعية الحفلات في أفضل وأغلى الفنادق، وحضور عروض الأفلام التي بدورها كانت توازي عدد اللقاءات.

عبر خطّة وُضعت ونُفّذت بنجاح، أُغلقت هذه الفوائد الجمّة وحُوّلت الجائزة السنوية التي كانت الجمعية تمنحها باسم «غولدن غلوبز» لمؤسسة تجارية لها مصالح مختلفة. اليوم لا تمثّل «جمعية هوليوود للصحافة الأجنبية» إلّا قدراً محدوداً من نشاطاتها السابقة بعدما فُكّكت وخلعت أضراسها.

نيكول كيدمان في لقطة من «بايبي غيرل» (24A)

مفاجأة هوليوودية

ما حدث للجمعية يبدو اليوم تمهيداً لقطع العلاقة الفعلية بين السينمائيين والإعلام على نحو شائع. بعضنا نجا من حالة اللامبالاة لتوفير المقابلات بسبب معرفة سابقة ووطيدة مع المؤسسات الإعلامية المكلّفة بإدارة هذه المقابلات، لكن معظم الآخرين باتوا يشهدون تقليداً جديداً انطلق من مهرجان «ڤينيسيا» العام الحالي وامتد ليشمل مهرجانات أخرى.

فخلال إقامة مهرجان «ڤينيسيا» في الشهر التاسع من العام الحالي، فُوجئ عدد كبير من الصحافيين برفض مَنحِهم المقابلات التي اعتادوا القيام بها في رحاب هذه المناسبة. أُبلغوا باللجوء إلى المؤتمرات الصحافية الرّسمية علماً بأن هذه لا تمنح الصحافيين أي ميزة شخصية ولا تمنح الصحافي ميزة مهنية ما. هذا ما ترك الصحافيين في حالة غضب وإحباط.

تبلور هذا الموقف عندما حضرت أنجلينا جولي المهرجان الإيطالي تبعاً لعرض أحد فيلمين جديدين لها العام الحالي، هو «ماريا» والآخر هو («Without Blood» الذي أخرجته وأنتجته وشهد عرضه الأول في مهرجان «تورونتو» هذه السنة). غالبية طلبات الصحافة لمقابلاتها رُفضت بالمطلق ومن دون الكشف عن سبب حقيقي واحد (قيل لبعضهم إن الممثلة ممتنعة لكن لاحقاً تبيّن أن ذلك ليس صحيحاً).

دانيال غريغ في «كوير» (24A)

الأمر نفسه حدث مع دانيال كريغ الذي طار من مهرجان لآخر هذا العام دعماً لفيلمه الجديد «Queer». بدءاً بـ«ڤينيسيا»، حيث أقيم العرض العالمي الأول لهذا الفيلم. وجد الراغبون في مقابلة كريغ الباب موصداً أمامهم من دون سبب مقبول. كما تكرر الوضع نفسه عند عرض فيلم «Babygirl» من بطولة نيكول كيدمان حيث اضطر معظم الصحافيين للاكتفاء بنقل ما صرّحت به في الندوة التي أقيمت لها.

لكن الحقيقة في هذه المسألة هي أن شركات الإنتاج والتوزيع هي التي طلبت من مندوبيها المسؤولين عن تنظيم العلاقة مع الإعلاميين ورفض منح غالبية الصحافيين أي مقابلات مع نجوم أفلامهم في موقف غير واضح بعد، ولو أن مسألة تحديد النفقات قد تكون أحد الأسباب.

نتيجة ذلك وجّه نحو 50 صحافياً رسالة احتجاج لمدير مهرجان «ڤينيسيا» ألبرتو باربيرا الذي أصدر بياناً قال فيه إنه على اتصال مع شركات هوليوود لحلّ هذه الأزمة. وكذلك كانت ردّة فعل عدد آخر من مديري المهرجانات الأوروبية الذين يَرون أن حصول الصحافيين على المقابلات حقٌ مكتسب وضروري للمهرجان نفسه.

لا تمثّل «جمعية هوليوود للصحافة الأجنبية» إلّا قدراً محدوداً من نشاطاتها السابقة

امتعاض

ما بدأ في «ڤينيسيا» تكرّر، بعد نحو شهر، في مهرجان «سان سيباستيان» عندما حضر الممثل جوني دَب المهرجان الإسباني لترويج فيلمه الجديد (Modi‪:‬ Three Days on the Wings of Madness) «مودي: ثلاثة أيام على جناح الجنون»، حيث حُدّد عدد الصحافيين الذين يستطيعون إجراء مقابلات منفردة، كما قُلّصت مدّة المقابلة بحدود 10 دقائق كحد أقصى هي بالكاد تكفي للخروج بحديث يستحق النشر.

نتيجة القرار هذه دفعت عدداً من الصحافيين للخروج من قاعة المؤتمرات الصحافية حال دخول جوني دَب في رسالة واضحة للشركة المنتجة. بعض الأنباء التي وردت من هناك أن الممثل تساءل ممتعضاً عن السبب في وقت هو في حاجة ماسة لترويج فيلمه الذي أخرجه.

مديرو المهرجانات يَنفون مسؤولياتهم عن هذا الوضع ويتواصلون حالياً مع هوليوود لحل المسألة. الاختبار المقبل هو مهرجان «برلين» الذي سيُقام في الشهر الثاني من 2025.

المديرة الجديدة للمهرجان، تريشيا تاتل تؤيد الصحافيين في موقفهم. تقول في اتصال مع مجلة «سكرين» البريطانية: «الصحافيون مهمّون جداً لمهرجان برلين. هم عادة شغوفو سينما يغطون عدداً كبيراً من الأفلام».

يحدث كل ذلك في وقت تعرّضت فيه الصحافة الورقية شرقاً وغرباً، التي كانت المساحة المفضّلة للنشاطات الثقافية كافة، إلى حالة غريبة مفادها كثرة المواقع الإلكترونية وقلّة عدد تلك ذات الاهتمامات الثقافية ومن يعمل على تغطيتها. في السابق، على سبيل المثال، كان الصحافيون السّاعون لإجراء المقابلات أقل عدداً من صحافيي المواقع السريعة الحاليين الذين يجرون وراء المقابلات نفسها في مواقع أغلبها ليس ذا قيمة.

الحل المناسب، كما يرى بعض مسؤولي هوليوود اليوم، هو في تحديد عدد الصحافيين المشتركين في المهرجانات. أمر لن ترضى به تلك المهرجانات لاعتمادها عليهم لترويج نشاطاتها المختلفة.