تأثير الأصولية المسيحية في انتخابات الرئاسة الأميركية

كاثوليك ضد كلينتون وبروتستانت لا يؤيدون ترامب

بحث الأسباب الكثيرة للموقف الإنجيلي من كلينتون يحتاج إلى حفر عميق في الجذور اللاهوتية للولايات المتحدة (أ.ب)
بحث الأسباب الكثيرة للموقف الإنجيلي من كلينتون يحتاج إلى حفر عميق في الجذور اللاهوتية للولايات المتحدة (أ.ب)
TT

تأثير الأصولية المسيحية في انتخابات الرئاسة الأميركية

بحث الأسباب الكثيرة للموقف الإنجيلي من كلينتون يحتاج إلى حفر عميق في الجذور اللاهوتية للولايات المتحدة (أ.ب)
بحث الأسباب الكثيرة للموقف الإنجيلي من كلينتون يحتاج إلى حفر عميق في الجذور اللاهوتية للولايات المتحدة (أ.ب)

منذ وقت بعيد، جرى العرف أن يميل التيار الأصولي المسيحي في الولايات المتحدة لتأييد الحزب الجمهوري بنوع خاص، في حين أن الديمقراطيين وأنصارهم عادة ما يكونون أقرب إلى اليسار، ولا تشغلهم كثيرًا مسألة الهوية الدينية للمرشح للرئاسة، بقدر انشغالهم برؤاه السياسية، وطروحاته الاقتصادية للبلاد. وثمة من يقول إن التيارات الإنجيلية هذه المرة لا تميل لدعم المرشح الجمهوري دونالد ترامب، لا سيما أن الرجل «مجرد من الأخلاقيات التي تسبق الإيمانيات أو العقائد»، وحتى إن وجدت نسبة منهم تدعمه، فإن مرد ذلك، كما يقول غريغ سميث، مساعد مدير معهد بيو للأبحاث في واشنطن، إلى «رفض التصويت لمنافسته الديمقراطية هيلاري كلينتون». ولعل بحث الأسباب الكثيرة لهذا الموقف الإنجيلي من كلينتون يحتاج إلى حفر عميق في الجذور اللاهوتية للولايات المتحدة التي تشهد هذه الأيام ثورة من القيم الكاثوليكية والأرثوذكسية ضد القيم البروتستانتية الكالفينية - نسبة إلى جون كالفين، أو جان كالفان، (1509 - 1564) المصلح اللاهوتي السويسري - المتجسدة في عموم مذاهب البروتستانت، وخصوصًا لدى طائفة المعمدانيين (Baptists)، ناهيك بتجليها في جماعة النظاميين (Methodists) الذين تنتمي إليهم هيلاري كلينتون.
العداء الأصولي الديني للكاثوليك والأرثوذكس في الولايات للتيارات البروتستانتية يرجع إلى النظام الطائفي الذي نشأ من وحي أفكار كالفان في الماضي، الذي ارتكب مجازر جماعية بحق الآيرلنديين الكاثوليك في أوروبا. والشاهد أن الحضور الكاثوليكي في الولايات المتحدة الأميركية اليوم، الذي يقارب 25 في المائة من سكان البلاد - أي ما يزيد على 75 مليون نسمة - يبدو حائرًا إزاء من سيصوت هذه المرة، وخصوصًا بعد حالة الاضطراب والعداء الديني الذي بات يقسم الولايات المتحدة في الأعوام الأخيرة. ولقد جاءت الضربة القاسية والموجعة للتيارات المسيحية الأصولية - بالمعنى الإيجابي وليس السلبي، أي الكنائس ذات الأصول والمرجعيات التي تعود إلى زمن الحواريين، مثل الكنيسة الكاثوليكية والكنيسة الأرثوذكسية - عبر وثائق «ويكيليكس» التي تحدثت عن «مخططات» لجماعة هيلاري تحمل عداوة واضحة للمؤسسة الكاثوليكية. والرسالة الخطيرة التي نشرها موقع «ويكيليكس» في هذا الصدد كانت عبارة عن طرح فكري من ساندي نيومان، مؤسس ما يعرف بـ«صوت التقدم» على جون بوديستا، رئيس الحملة الانتخابية لهيلاري كلينتون، يقول فيها «إن الجدل الذي يطرحه الأساقفة الكاثوليك حول وسائل منع الحمل، جعلني أفكر أن هناك حاجة ملحة لـ(ربيع كاثوليكي) يطالب من خلاله الكاثوليك بوضع حد، بل إنهاء ديكتاتورية العصور الوسطى وبداية عصر يحفظ بعض الديمقراطية والمساواة بين الجنسين في الكنيسة الكاثوليكية».
ولاحقًا احتدمت المعركة بين جبهات أصولية مسيحية في الداخل الأميركي. فعلى سبيل المثال سخر جون هالبين، العضو في «مركز التقدم الأميركي» من الذهنية المحافظة في الكنيسة الكاثوليكية، وذلك عن طريق رسالة إلكترونية. وذهب هالبين إلى حد القول إنه «لا بد أن هؤلاء ينجذبون إلى الفكر الممنهج والرجعي فيما يخصّ العلاقات ما بين الجنسين، لا بد أنهم غائبون تمامًا عن الديمقراطية المسيحية».. وفي هذه إشارة لا تخطئها العين للسياسات المحافظة للأصوليين الكاثوليك، ورفض الليبراليين الأميركيين الذين يدعمون الحزب الديمقراطي ومرشحته التوافق معها والقبول بها.
ولكن، هل جاءت وثيقة «ويكيليكس» المشار إليها لتغير من اتجاهات الرياح ما بين المرشحين؟ سلفًا أشرنا إلى أن ترامب - غير الكاثوليكي بالمرة - لا يحوز ثقة شريحة كبيرة من المسيحيين الراديكاليين، وفي مقدمتهم نحو 30 مليون كاثوليكي يخضعون روحيًا لرؤية البابا الكاثوليكي فرانسيس الأول، في الفاتيكان، الذي كان قد شكك في هوية ترامب المسيحية من الأصل، بسبب رغبته في إقامة جسر عازل مع المكسيك. وقال البابا إبان زيارته الأخيرة للولايات المتحدة إن «من يريد تدمير الجسور وإقامة الجدران بين الناس ليس مسيحيًا».
* مشكلة كلينتون والكاثوليك
وحتى ظهور وثيقة «ويكيليكس»، كانت نتائج استطلاع الرأي الذي أجراه مركز بيو الموثوق في واشنطن أواخر أغسطس (آب) الماضي تشير إلى أن 52 في المائة من كاثوليك أميركا سيصوّتون لصالح هيلاري كلينتون، غير أن المشهد وقبل ساعات يبدو أنه يتغير، وأن لم يعنِ بالضرورة أن التحولات والتبديلات ستصب في صالح ترامب.
مع هذا، أشعلت وثيقة «ويكيليكس» نار الأصولية الطائفية ضد المرشحة الديمقراطية، إذ استنكر بول رايان، رئيس مجلس النواب الأميركي، والكاثوليكي المتدين، ما اعتبره «تشويهًا لسمعه الكنيسة الكاثوليكية»، ورأى أن نظرة فريق حملة كلينتون إلى ثلاثين مليون كاثوليكي أميركي على أنهم رجعيون إهانة تكشف مقدار الموقف العدائي لليبراليين الديمقراطيين «تجاه الشعب الأميركي والمؤمنين بشكل خاص»! ولم يتوقف رايان عند حد الإدانة أو الشجب، إذ أضاف في كلمات ما يتصل اتصالاً مباشرًا بعملية الاقتراع... «يجب على المؤمنين الأميركيين أخذ هذا الموضوع بعين الاعتبار وبشكل جدي، والاختيار ما إذا كانت هذه هي القيم التي يريدونها في رئيسنا المقبل أم لا».
المثير جدًا أن رايان لم يكن من قبل يدعم ترامب، رغم أنه من الجمهوريين، بل قياداتهم المتقدمة وهو رئيس مجلس النواب، كما أن البعض طرح اسمه مرشحًا بديلاً في حال انسحب ترامب أو أجبرته كوادر الحزب على الانسحاب، وهذا لم يحدث بالطبع.
ما نراه، إذن، يعني أن المسألة الأصولية الدينية صارت فاعلاً في الانتخابات. وإن لم تكن بالضرورة تدعم أيًا من المرشحين، وقد تنتظر الجواد الأخلاقي لقيادة أميركا في انتخابات 2020 أو 2024، لا سيما أن لدى الجمهوريين ما يراهم اليمين المحافظ جوادين رابحين، بهما من الشباب والحيوية، ويتوافران على المعايير التي يضعها للأخلاقية والمصداقية، هما السيناتوران اليمينيان تيد كروز (من ولاية تكساس) ومارك روبيو (من ولاية فلوريدا)، اللذان جربا حظيهما في الانتخابات الترشيحية للحزب الجمهوري قبل أن يخسرا أمام ترامب..
والحقيقة، أن الأيام الأخيرة من سباق الانتخابات الرئاسة الأميركية لم تخلُ من إعادة إحياء لقصص مغرقة في الأصولية المسيحية، حاول من خلالها الديمقراطيون «مغازلة» التيارات المسيحية البروتستانتية التي تشكل النسبة الغالبة من البيض الأنغلو ساكسون.
من هذه مواجهة هرمجدون (أرماجدون).. أو الصراع الحربي العالمي من منطلق ديني، ويمثل آخر المواجهات بين أمم العالم من جهة، واليهود في إسرائيل من جهة ثانية. هذه المعركة آمن بها رؤساء أميركا الأصوليون وأصحاب الفكر اليميني المسيحي المتشدد، بل والمتطرف في واقع الأمر، لا سيما رونالد ريغان، وجورج بوش الابن. وهما على رغم مسيحيتهما الظاهرة، أوليا الكتابات اليهودية أهمية أكبر من الإنجيل وروح التسامح والمحبة الموجودة فيه، وتمسّكوا بحرفية الناموس الموسوي إلى درجة تقديس ألواح موسى.
أنصار هذه المعركة يرون أنه يومًا ما سيأتي ملايين من دول الشمال «أقوام يأجوج ومأجوج» لمحاصرة المدينة المقدسة أورشليم (القدس) في وادي هرمجدون - التي هي سهل مجدّو في فلسطين - غير أن النار والبرد سينزلان من السماء ليتكفلا بالقضاء على تلك الملايين.
هذا المفهوم المحرف والمجتزأ لفهم التوراة قد أصبح قناعة مطلقة عند ساكن البيت الأبيض وأصحاب المجمع الصناعي العسكري الأميركي، الأمر الذي دفع الكاتبة الأميركية غرايس هالسل لأن تصف في أحد كتبها النبوءة المسيسة هذه بأنها تجلٍ لتغلغل روح الصهيونية في البيت الأبيض، مما يدفع الأصوليين المسيحيين الأميركيين لأن يكونوا على أتم الاستعداد، بل يكونون راغبين بكل قواهم في إشعال نيران حرب نووية.
وقبل عشرة أيام تحديدًا من يوم الاقتراع الرئاسي، امتلأت وسائل الإعلام الأميركية بآراء أحد أولئك الأصوليين، هو القس كارل جالوبس، الذي زعم أن التحالف الروسي - الصيني - التركي، والدور الذي يقوم به هذا المثلث القوي في الشرق الأوسط، هو تحقيق للتنبؤات التي تتحدث عن معركة هرمجدون، لا سيما أن المعركة مشروطة بوجود مائتي مليون جندي يحيطون بأورشليم، وأنه ما من جيش حول العالم لديه إمكانية حشد هائلة لذلك العدد إلا الصين. هذه التصريحات وجدت لها آذانًا صاغية عند الناخبين الديمقراطيين ومرشحتهم التي لها موقف سلبي معروف من فلاديمير بوتين وروسيا، وترفض ما تراه «ديكتاتورية روسية». ثم، لعل من يتابع تحركات الأسطول الروسي خلال الأيام الأخيرة لجهة البحر المتوسط يدرك أن موسكو لم يعد يوقفها شيء للتدخل وبقوة في المنطقة، حتى أن البعض يتحدث عن سيناريو عسكري ساحق ماحق يتصل بمعركة حلب في سوريا.
غير أن هذا ليس بيت القصيد، فيما التنسيق المثير يأتي من الأصوات الأصولية اليهودية داخل إسرائيل التي باتت تعتبر «روسيا عدوة»، لا سيما أن إسرائيل لم تعد قادرة على السيطرة على منطقة الشرق الأوسط، بسبب وجود أنظمة صواريخ ووسائل مراقبة روسية في المنطقة، والأصوات داخل إسرائيل تتحدث عن زيادة احتمالات وقوع الصدام بين القوات الروسية والإسرائيلية في السماء أو في البحر..
ختامًا، ربما لا تلعب الأصوليات الدينية في انتخابات الرئاسة الأميركية 2016 دورًا مثيرًا وحاسمًا، مثل تلك التي رأيناها من قبل أوائل هذا القرن، إلا أنها ستبقى فاعلة في كل الأحوال. ذلك أن الحراك الديني الأميركي ينطلق مثل البركان من تفاعلات داخلية من جهة، ويجد اليوم محفزات «هرمجدونية» وروسية خارجية من جهة ثانية. وهذا مشهد حكمًا لن يتوقف عند هذه الانتخابات، بل هو كذلك مرشح لمزيد من التصاعد في الآتي من الأيام.



يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
TT

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني فرض الأحكام العرفية، وتعليق الحكم المدني، وإرساله قوة عسكرية مدعومة بالهيلوكوبترات إلى البرلمان. ثم اضطراره للتراجع عن قراره في وجه معارضة عارمة. بيد أن تراجع الرئيس خلال ساعات قليلة من هذه المغامرة لم يزد المعارضة إلا إصراراً على إطاحته، في أزمة سياسية غير مسبوقة منذ التحوّل الديمقراطي في البلاد عام 1980 بعد فترة من الحكم التسلطي. ولقد تطوّرت الأوضاع خلال الأيام والساعات الأخيرة من الاحتجاجات في الشوارع إلى تصويت برلماني على عزل يون. وبعدما أقر البرلمان عزل الرئيس ردّ الأخير بتأكيد عزمه على المقاومة والبقاء... في أزمة مفتوحة لا تخلو من خطورة على تجربة البلاد الديمقراطية الطريّة العود.

دبلوماسي مخضرم خدم في كوريا الجنوبية قال، قبل بضعة أيام، معلقاً على الأزمة المتصاعدة: «إذا تم تمرير اقتراح العزل، يمكن وقف (الرئيس) يون (سوك - يول) عن مباشرة مهام منصبه لمدة تصل إلى 180 يوماً، بينما تنظر المحكمة الدستورية في القضية. وفي هذا (السيناريو)، يتولى رئيس الوزراء هان دوك سو منصب الرئيس المؤقت، وتُجرى انتخابات جديدة في غضون 60 يوماً».

وبالفعل، دعا هان دونغ - هون، زعيم حزب «قوة الشعب»، الحاكم، إلى تعليق سريع لسلطات الرئيس مستنداً - كما قال - إلى توافر «أدلة موثوقة» على أن يون سعى إلى اعتقال القادة السياسيين بعد إعلانه الأحكام العرفية الذي لم يدُم طويلاً. ومما أورده هان - الذي كان في وقت سابق معارضاً للمساعي الرامية إلى عزل يون - إن «الحقائق الناشئة حديثاً قلبت الموازين ضد يون، بالتالي، ومن أجل حماية كوريا الجنوبية وشعبنا، أعتقد أنه من الضروري منع الرئيس يون من ممارسة سلطاته رئيساً للجمهورية على الفور». وتابع زعيم الحزب الحاكم أن الرئيس لم يعترف بأن إعلانه فرض الأحكام العرفية إجراء غير قانوني وخاطئ، وكان ثمة «خطر كبير» من إمكانية اتخاذ قرار متطرف مماثل مرة أخرى إذا ظل في منصبه.

بالتوازي، ذكرت تقارير إعلامية كورية أن يون يخضع حالياً للتحقيق بتهمة الخيانة إلى جانب وزير الدفاع المستقيل كيم يونغ - هيون، (الذي ذُكر أنه حاول الانتحار)، ورئيس أركان الجيش الجنرال بارك آن - سو، ووزير الداخلية لي سانغ - مين. وحقاً، تمثل الدعوة التي وجهها هان، وهو وزير العدل وأحد أبرز منافسي يون في حزب «قوة الشعب»، تحولاً حاسماً في استجابة الحزب الحاكم للأزمة.

خلفية الأزمة

تولى يون سوك - يول منصبه كرجل دولة جديد على السلطة، واعداً بنهج عصري مختلف في حكم البلاد. إلا أنه في منتصف فترة ولايته الرئاسية الوحيدة التي تمتد لخمس سنوات، شهد حكمه احتكاكات شبه دائمة مع البرلمان الذي تسيطر عليه المعارضة، وتهديدات «بالإبادة» من كوريا الشمالية، ناهيك من سلسلة من الفضائح التي اتهم وعائلته بالتورّط فيها.

وعندما حاول يون في خطابه التلفزيوني تبرير فرض الأحكام العرفية، قال: «أنا أعلن حالة الطوارئ من أجل حماية النظام الدستوري القائم على الحرية، وللقضاء على الجماعات المشينة المناصرة لنظام كوريا الشمالية، التي تسرق الحرية والسعادة من شعبنا»، في إشارة واضحة إلى الحزب الديمقراطي المعارض، مع أنه لم يقدم أي دليل على ادعائه.

إلا أن محللين سياسيين رأوا في الأيام الأخيرة أن الرئيس خطّط على الأرجح لإصدار مرسوم «الأحكام العرفية الخرقاء» أملاً بحرف انتباه الرأي العام بعيداً عن الفضائح المختلفة والإخفاق في معالجة العديد من القضايا المحلية. ولذا اعتبروا أن عليه ألا يطيل أمد حكمه الفاقد الشعبية، بل يبادر من تلقاء نفسه إلى الاستقالة من دون انتظار إجراءات العزل، ومن ثم، السماح للبلاد بانتخاب رئيس جديد.

بطاقة هوية

ولد يون سوك - يول، البالغ من العمر 64 سنة، عام 1960 في العاصمة سيول لعائلة من الأكاديميين اللامعين. إذ كان أبوه يون كي - جونغ أستاذاً للاقتصاد في جامعة يونساي، وأمه تشوي سيونغ - جا محاضرة في جامعة إيوها للنساء قبل زواجها. وحصل يون على شهادته الثانوية عام 1979، وكان يريد في الأصل أن يدرس الاقتصاد ليغدو أستاذاً، كأبيه، ولكن بناءً على نصيحة الأخير درس الحقوق، وحصل على شهادتي الإجازة ثم الماجستير في الحقوق من جامعة سيول الوطنية - التي هي إحدى «جامعات النخبة الثلاث» في كوريا مع جامعتي يونساي وكوريا - وأصبح مدّعياً عاماً بارزاً قاد حملة ناجحة لمكافحة الفساد لمدة 27 سنة.

ووفق وسائل الإعلام الكورية، كانت إحدى محطات حياته عندما كان طالب حقوق عندما لعب دور القاضي في محاكمة صورية للديكتاتور (آنذاك) تشون دو - هوان، الذي نفذ انقلاباً عسكرياً وحُكم عليه بالسجن مدى الحياة. وفي أعقاب ذلك، اضطر يون إلى الفرار إلى الريف مع تمديد جيش تشون الأحكام العرفية ونشر القوات والمدرّعات في الجامعة.

بعدها، عاد يون إلى العاصمة، وصار في نهاية المطاف مدعياً عاماً، وواصل ترقيه الوظيفي ما يقرب من ثلاثة عقود، بانياً صورة له بأنه حازم وصارم لا يتسامح ولا يقدّم تنازلات.

مسيرته القانونية... ثم الرئاسة

قبل تولي يون سوك - يول رئاسة الجمهورية، كان رئيس مكتب الادعاء العام في المنطقة المركزية في سيول، وأتاح له ذلك محاكمة أسلافه من الرؤساء. إذ لعب دوراً فعالاً في إدانة الرئيسة السابقة بارك غيون - هاي التي أُدينت بسوء استخدام السلطة، وعُزلت وأودعت السجن عام 2016. كذلك، وجه الاتهام إلى مون جاي - إن، أحد كبار مساعدي خليفة الرئيسة بارك، في قضية احتيال ورشوة.

أما على الصعيد السياسي، فقد انخرط يون في السياسة الحزبية قبل سنة واحدة فقط من فوزه بالرئاسة، وذلك عندما كان حزب «قوة الشعب» المحافظ - وكان حزب المعارضة يومذاك - معجباً بما رأوه منه كمدّعٍ عام حاكم كبار الشخصيات، وأقنع يون، من ثم، ليصبح مرشح الحزب لمنصب رئاسة الجمهورية.

وفي الانتخابات الرئاسية عام 2022 تغلّب يون على منافسه الليبرالي لي جاي - ميونغ، مرشح الحزب الديمقراطي، بفارق ضئيل بلغ 0.76 في المائة... وهو أدنى فارق على الإطلاق في تاريخ الانتخابات في البلاد.

الواقع أن الحملة الانتخابية لعام 2022 كانت واحدةً من الحملات الانتخابية القاسية في تاريخ البلاد الحديث. إذ شبّه يون غريمه لي بـ«هتلر» و«موسوليني». ووصف حلفاء لي الديمقراطيون، يون، بأنه «وحش» و«ديكتاتور»، وسخروا من جراحة التجميل المزعومة لزوجته.

إضافة إلى ذلك، شنّ يون حملته الانتخابية بناء على إلغاء القيود المالية والموقف المناهض للمرأة. لكنه عندما وصل إلى السلطة، ألغى وزارة المساواة بين الجنسين والأسرة، قائلاً إنها «مجرد مقولة قديمة بأن النساء يُعاملن بشكل غير متساوٍ والرجال يُعاملون بشكل أفضل». وللعلم، تعد الفجوة في الأجور بين الجنسين في كوريا الجنوبية الأسوأ حالياً في أي بلد عضو في «منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية».

أيضاً، أدى استخدام يون «الفيتو» تكراراً إلى ركود في العمل الحكومي، بينما أدت تهم الفساد الموجهة إلى زوجته لتفاقم السخط العام ضد حكومته.

تراجع شعبيته

بالتالي، تحت ضغط الفضائح والخلافات، انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أجرته مؤسسة «غالوب كوريا» أن شعبيته انخفضت إلى 19 في المائة فقط. وتعد «كارثة» الأحكام العرفية الحلقة الأخيرة في سلسلة من الممارسات التي حددت رئاسة يون وأخطائها.

إذ ألقي باللوم على إدارة يون في التضخم الغذائي، وتباطؤ الاقتصاد، والتضييق المتزايد على حرية التعبير. وفي أواخر 2022، بعدما أسفر تدافع حشود في احتفال «الهالوين» (البربارة) في سيول عن سقوط 159 قتيلاً، تعرضت طريقة تعامل الحكومة مع المأساة لانتقادات واسعة.

زوجته في قلب مشاكله!

من جهة ثانية، كانت كيم كيون - هي، زوجة الرئيس منذ عام 2012، سبباً آخر للسخط والانتقادات في وسائل الإعلام الكورية الجنوبية. فقد اتهمت «السيدة الأولى» بالتهرب الضريبي، والحصول على عمولات لاستضافة معارض فنية عن طريق عملها. كذلك واجهت اتهامات بالانتحال الأدبي في أطروحتها لنيل درجة الدكتوراه وغيرها من الأعمال الأكاديمية.

لكن أكبر فضيحة على الإطلاق تورّطت فيها كيم، كانت قبولها عام 2023 هدية هي حقيبة يد بقيمة 1800 جنيه إسترليني سراً من قسيس، الأمر الذي أدى إلى مزاعم بالتصرف غير اللائق وإثارة الغضب العام، لكون الثمن تجاوز الحد الأقصى لما يمكن أن يقبله الساسة في كوريا الجنوبية وشركاؤهم قانونياً لهدية. لكن الرئيس يون ومؤيديه رفضوا هذه المزاعم وعدوها جزءاً من حملة تشويه سياسية.

أيضاً أثيرت تساؤلات حول العديد من القطع الثمينة من المجوهرات التي تملكها «السيدة الأولى»، والتي لم يعلَن عنها كجزء من الأصول الرئاسية الخاصة. وبالمناسبة، عندما فُتح التحقيق في الأمر قبل ست سنوات، كان زوجها رئيس النيابة العامة. أما عن حماته، تشوي يون - سون، فإنها أمضت بالفعل حكماً بالسجن لمدة سنة إثر إدانتها بتزوير وثائق مالية في صفقة عقارية.

يُضاف إلى كل ما سبق، تعرّض الرئيس يون لانتقادات تتعلق باستخدام «الفيتو» الرئاسي في قضايا منها رفض مشروع قانون يمهد الطريق لتحقيق خاص في التلاعب المزعوم بالأسهم من قبل زوجته كيم كيون - هي لصالح شركة «دويتشه موتورز». وأيضاً استخدام «الفيتو» ضد مشروع قانون يفوّض مستشاراً خاصاً بالتحقيق في مزاعم بأن مسؤولين عسكريين ومكتب الرئاسة قد تدخلوا في تحقيق داخلي يتعلق بوفاة جندي بمشاة البحرية الكورية عام 2023.

وهكذا، بعد سنتين ونصف السنة من أداء يون اليمين الدستورية عام 2022، وعلى أثر انتخابات رئاسية مثيرة للانقسام الشديد، انقلبت الأمور ضد الرئيس. وفي خضم ارتباك الأحداث السياسية وتزايد المخاوف الدولية يرزح اقتصاد كوريا الجنوبية تحت ضغوط مقلقة.

أمام هذا المشهد الغامض، تعيش «الحالة الديمقراطية» في كوريا الجنوبية أحد أهم التحديات التي تهددها منذ ظهورها في أواخر القرن العشرين.