«أدب رخيص».. الذعر المرضي من الحياة

آخر عمل أدبي لبوكوفسكي

غلاف الرواية
غلاف الرواية
TT

«أدب رخيص».. الذعر المرضي من الحياة

غلاف الرواية
غلاف الرواية

«لم أكن ميتًا بعد، كنت فقط في حالة من التحلل السريع». من السهل استشفاف التأزم الوجودي الذي يعصف بتشارلز بوكوفسكي، من خلال هذه العبارة المقتبسة من آخر عمل روائي له قبل مماته: «أدب رخيص» في عام 1994. وقامت منشورات الجمل بنقلها إلى اللغة العربية في عام 2016، عبر ترجمة المصرية إيمان حرز الله.
وقد وصفت الشاعرة والمترجمة الفلسطينية ريم غنايم في تقديمها للعمل الروائي هذا بأنه «يحوي نكهة جديدة تنزاح عن الكتابة المشروطة لأدب التحري، وذلك عبر مزج أو تشويش أو ازدواج متعمد». في هذه الرواية برزت موهبة بوكوفسكي في صياغة السرد والحوارات المثيرة، ومساءلة ما هو ثابت ومتعارف عليه، خصوصًا كونه صاحب اهتمامات أدبية متشعبة من شعر ورواية وقصة قصيرة، نقل من خلالها حياة الطبقة المدقعة الأميركية، والأجواء الثقافية والاجتماعية في لوس أنجليس.
ولم تنقل أعمال بوكوفسكي إلى العربية إلا في عام 2015، ما عدا كتاب شعري بعنوان: «الحب كلب من الجحيم»، ترجمها إلى العربية سامر أبو هواش في عام 2009. وحدها منشورات الجمل نقلت أعمال هذا الكاتب، التي يعدها البعض إباحية، بالإضافة لكونها تحتوي مصطلحات وجمل أميركية شديدة العامية، من الصعب للقارئ العربي إدراكها باستثناء ربما من تشرب بالثقافة الأميركية.
في رواية «أدب رخيص»، تتكشف لنا عبثية وجودية عبر رحلة استكشافية للشخصية المحورية نيكي بيلان، وهو محقق خاص معتز بنفسه يظل يردد دائما: «أنا هوليوود، أو ما تبقى منها». وتتلخص تلك الرحلة في البحث عن أديب فرنسي يدعى سيلين يقع في حيرة حول حقيقة وفاته أم أنه فعلاً لا يزال على قيد الحياة. وفي خروج عن المألوف، يظهر أشبه بهذيان، يستحضر كائنات لا وجود لها، كالعصفور الأحمر ومقايضات من أجل إيجاده. ويتقاطع ذلك مع توهم بوجود كائن فضائي يطارده على شكل امرأة فاتنة تدعى جيني نيترو، والتوهم بكونها من الموجة الأولى من قوات احتلال مكوكية. وقد أهدى بوكوفسكي هذا العمل للكتابة السيئة، التي قد تكون حالة من التنفيس عن الانتقاد الذي تعرض له في السابق، بل حتى رفض أعماله، أو قد تشير إلى استخفافه الشخصي بأعماله، التي تبدو أشبه بمحاكاة لتجاربه الحياتية وتضخيمها بخيال خصب يجعلها تبدو بصورة مضحكة عبثية تنعدم فيها معايير كل شيء. فحتى الجنون يعد أمرًا نسبيًا، كذلك الحوار الوهمي الذي ينبعث صوته عبر الراديو بهدف توبيخه: «أيها الأحمق» و«أنت لا تحرز أي تقدم» أو كرجل «يقرأ جريدة بالمقلوب». منذ استهلال الرواية يبرز توجه الكاتب الشديد في وصف الأحداث، بصفة أقرب للتقريرية بعيدًا عن أي ارتباط عاطفي بأي شيء. هناك فقط حالة ذعر مستفحلة من كل شيء، من الحياة والموت والزمن والأمراض النفسية.
تتكرر التساؤلات العبثية في الرواية حول الموت. الموت ثيمة بارزة في كل أعماله، إلا أن إحساسه به قد يكون تعمق أكثر نتيجة مرضه في الفترة التي كتب فيها روايته الأخيرة، كاشفا بشكل أكثر جلاء ذلك الذعر الممعن من الموت وعدم إدراك لمعانيه: «يولد المرء ليموت، ما معنى هذا؟» الموت الذي يتجسد في الرواية عبر سيدة فاتنة تغوي الآخرين، تسمى «السيدة موت»، لكن هؤلاء الآخرين لا يشعرون بالخوف منها: «سيدتي، البشر لا يفعلون هذا، إما يتناسونه أو يتجاهلونه أو أنهم أغبياء جدًا إلى حد لا يفكرون فيه». هذا الهاجس لا يفتأ يستمر بين صفحات الرواية. «هذا تصوري حول قضاء وقت ممتع. الجلوس مسترخيًا تحت الضوء بينما يتثاءب القبر في انتظاري».
يتقاطع ذلك مع تدحرج الزمن لدى بوكوفسكي، بالأخص وقت انتظار الآخرين: «قتلت أربع ذبابات وأنا أنتظره». وإيحاءات متكررة لضياع الوقت: «يوم آخر ضاع سدى». أو الاستسلام لعواقب الزمن: «أتحول بمرور الوقت إلى غبي».
بتصورات ساحرة تنم عن خيال خصب وحس دعابة متضخم، يتعمق بوكوفسكي في تسخيف كل حدث، وتحويل كل شخص إلى شخصية هزلية، وربما كان خلف ذلك شعوره بالتأزم النفسي نتيجة معاملة والده القاسية له منذ الصغر، وسخرية الآخرين منه بسبب شكله، الأمر الذي دفعه لمعاقرة الكحول منذ عمر الثالثة عشرة وإدمانه عليها حتى انتهاء حياته.
انعكس ذلك في وصفه التهكمي المستمر للآخرين، كتشبيه البعض بالقرود، أو وصفه لشخصية المحقق بيلان: «كتلة ضخمة من اللاشيء مثيرة للشفقة وخطيرة». كل من حوله هو أحمق: «رحت أعد كل أحمق يمر بي. عددت خمسين أحمقًا في دقيقتين ونصف»، فيما تستمر حالة النقمة على الآخرين وتوقع الأسوأ. «هناك دائمًا شخص على استعداد أن يفسد عليك يومك، إن لم يكن حياتك»، أو «المرء يركب أرجوحة المرح مرة واحدة فقط. الحياة لمن يجرؤ». تعم رواية «أدب رخيص» حالة مستفحلة من الإحباط، «كون الحياة لعبة منهكة ومجرد انتعالك الحذاء صباحًا يعد انتصارًا. الحياة تنهك المرء، تبليه. تجاهلوا ما تبقى من ذاك النهار والليل، لا أحداث، لا شيء يستحق التحدث عنه».



جيناتنا العظيمة

عبد الله القصيمي
عبد الله القصيمي
TT

جيناتنا العظيمة

عبد الله القصيمي
عبد الله القصيمي

ثمة فرق بين النقد الثقافي الساعي لإصلاح حال أمة ما وتسليط الأضواء على الأخطاء التي تعيق التطور من جهة، وجلد الذات الذي يصبح إدماناً، من جهة أخرى. هذا ما خطر ببالي وأنا أعيد قراءة كتاب الفيلسوف السعودي عبد الله العلي القصيمي «العرب ظاهرة صوتية». من وجهة نظره، العرب مُصوّتون فقط في حين لا يكتفي الآخرون بإصدار الأصوات، بل يتكلمون ويفكرون ويخططون وهم أيضاً خلاقون قاموا بإبداع الحضارات والقوة والفكر وتجاوزوا الطبيعة وفهموها وقاموا بتفسيرها قراءة فهم وتغيير وبحث عن التخطي والتفوق.

مثل هذا النقد مدمر لأنه يبشر بسقوط يستحيل النهوض منه لأن المشكلة في الجينات، والجينات لا يمكن إصلاحها. «العرب ظاهرة صوتية»، شعار رفعه العديد من الكتاب وأصبحت «كليشة» مكرورة ومملة، ولا يمكن أن يكون هذا التوجه نافعاً لأنه لا يضع خطة عمل، بل يرمي العربي في حفرة من الإحباط. مع أن هناك الكثير مما نراه من إنجازات دولنا في الجوانب النهضوية وأفرادنا على الصعيد العلمي ما يدعو إلى التفاؤل، لا الإحباط.

ما الذي خرج به جلد الذات الذي يمارسه المثقفون العرب على أنفسهم وثقافتهم بعد كل هذه العقود المتتابعة؟ بطبيعة الحال، ليس هذا موقف الجميع، إلا أن الأصوات المتطرفة توصلت إلى أن العرب لديهم مشكلة جينية، تمنعهم من مواكبة قطار الحداثة وإصلاح مشكلاتهم والانتقال إلى نظام الحياة المدنية المتحضرة. لا خلاف على تطوير أنظمة الحياة وتطبيق فلسفة المنفعة العامة للمجتمع وإعلاء قيمة حقوق الإنسان والحرية، وإنما الخلاف هو في هذا الوهم الذي يُخيل لبعض المثقفين أن المشكلة ضربة لازب وأنه لا حل، وهذا ما يجعل خطابهم جزءاً من المشكلة لا الحل، لأن هذا الخطاب أسس لخطاب مضاد، لأغراض دفاعية، يتجاهل وجود المشكلة وينكرها.

لا فائدة على الإطلاق في أن ننقسم إلى فريقين، فريق التمجيد والتقديس للثقافة العربية وفريق مشكلة الجينات. وأصحاب الرؤية التقديسية هم أيضاً يشكلون جزءاً كبيراً من المشكلة، لأنهم لا يرغبون في تحريك شيء، وذلك لأنهم يؤمنون بأنه ليس في الإمكان أفضل مما كان، وإن دخلت معهم في نقاش فتحوا لك صفحة الماضي المجيد والانتصارات العسكرية وغزو العالم في العصر الوسيط يوم كان العرب حقاً متفوقين، وكان المثقف الأوروبي يتباهى على أقرانه بأنه يتحدث العربية ويفهم فلسفة ابن رشد.

يخطئ الإسلاميون، وهم من يرفع شعار التقديس، عندما يتخيلون أن تجربتهم هي التمثيل الأوحد للديانة الإسلامية، فالنص حمَّال أوجه وفي باطنه آلاف التفاسير، والناجح حقاً هو من يستطيع أن يتخلى عن قراءاته القديمة التي ثبت فشلها ولم تحل مشكلات الشعوب التي تتوق إلى الحياة الكريمة. يخطئ من يتصور أن بإمكانه أن يسحق الأقليات ويحكم بالحديد والنار، وها هي تجربة صدام حسين وبشار الأسد ماثلة أمام عيوننا.

لقد بدأت مشكلتنا منذ زمن قديم، فالأمة العربية الإسلامية أدارت ظهرها للعلم في لحظته المفصلية في قرون الثورة العلمية والاكتشافات، ولهذا تراجعت عن المكانة العظيمة التي كانت للحضارة العربية الإسلامية يوم كانت أقوى إمبراطورية على وجه الأرض. دخلت حقاً في عصور الانحطاط عندما رفضت مبدأ السببية الذي قام عليه كل العلم بقضه وقضيضه، وولجت في عوالم من الدروشة والتخلف، ليس فقط على صعيد العلوم المادية، بل على الصعيد الأخلاقي أيضاً، وأصبحت صورة العربي في الذاكرة الجمعية تشير إلى شخص لا يمكن أن يؤتمن ولا أن يصدّق فيما يقول. هذا ما يجعله ضيفاً ثقيلاً من وجهة نظر بعض المجتمعات الغربية التي لجأ إليها العرب للعيش فيها.

لقد عاش العربي في دول تقوم على فرق ومذاهب متباغضة متكارهة قامت على تهميش الأقليات التي تحولت بدورها إلى قنابل موقوتة. هذا المشهد تكرر في كل الأمم وليس خاصاً بالعرب، فنحن نعلم أن أوروبا عاشت حروباً دينية دموية اختلط فيها الديني بالسياسي وأزهقت بسببها مئات الآلاف من الأرواح، لكنهم بطريقة ما استطاعوا أن يداووا هذا الجرح، بسبب الجهود العظيمة لفلاسفة التنوير ودعاة التسامح والتمدن والتعامل الإنساني الحضاري، ولم يعد في أوروبا حروب دينية كالتي لا زالت تقع بين العرب المسلمين والأقليات التي تعيش في أكنافهم. العرب بحاجة إلى مثل هذا التجاوز الذي لا يمكن أن يحصل إلا في ضفاف تكاثر الدول المدنية في عالمنا، وأعني بالمدنية الدولة التي تعرف قيمة حقوق الإنسان، لا الدول التي ترفع شعار العلمانية ثم تعود وتضرب شعوبها بالأسلحة الكيماوية.

الدولة المدنية، دولة الحقوق والواجبات هي الحل، ومشكلة العرب ثقافية فكرية وليست جينية على الإطلاق. ثقافتنا التي تراكمت عبر العقود هي جهد بشري أسس لأنظمة أخلاقية وأنماط للحياة، وهذه الأنظمة والأنماط بحاجة إلى مراجعة مستمرة يديرها مشرط التصحيح والتقويم والنقد الصادق، لا لنصبح نسخة أخرى من الثقافة الغربية، وإنما لنحقق سعادة المواطن العربي وحفظ كرامته.